الأم الفلسطينية.. مدرسة الاحتضان وتنشئة "جيل المقاومة"

الأم الفلسطينية ارتقت شهيدة في كل مراحل المواجهة مع المحتل الإسرائيلي، وفي الحرب الأخيرة على غزة استشهد نحو 70 فلسطينية، وواجهت الإبعاد والاعتقال مع أطفالها، ووضعت حملها داخل المعتقل.

أم فلسطينية في يعبد قضاء جنين تشارك في تشييع نجلها بعد استشهاده داخل سجون الاحتلال (الجزيرة)

قيل "إن خلف كل رجل عظيم امرأة"، لكن في فلسطين تبدو المرأة عظيمة في كل مواقعها؛ فهي تقف خلف كل حكاية شهيد أو قصة أسير أو معنى للصبر والصمود؛ تحضر المرأة أسيرة وأمّا لأسير، وشهيدة، وأمّا لشهيد.

وقبل أن تكون شهيدة أو أسيرة، فالأم الفلسطينية مربية لأجيال دافعت ولا تزال عن فلسطين، وحملت على عاتقها تنشئة "جيل التحرير"، بما يتلاءم مع متطلبات كل مرحلة، وتحملت مشاق الحياة من تربية الأولاد ورعايتهم، خاصة إذا كان الزوج معتقلا في غياهب السجون أو شهيدا.

أسماء أبو الهيجا تحمل صورة زوجها الأسير المحكوم بالسجن المؤبد 9 مرات و20 عاما فوقها (الجزيرة)

الفلسطينية أم عبد السلام

وكثير من الفلسطينيات أو سوادهن عاش تجربة واحدة على الأقل بالفقد والأسر، وأحيانا كثيرة عشن الأمرين معا مع ذويهن أو أنفسهن، كما هي حال الأم الفلسطينية أسماء أبو الهيجا (أم عبد السلام) الأسيرة المحررة وزوجة الأسير الشيخ جمال أبو الهيجا وأم الشهيد والأسرى.

في مخيم جنين، حيث تقطن عائلة أبو الهيجا، لا يمكن وصف صبر أم عبد السلام (57 عاما) وهي تربي أبناءها وأحفادها، وتراهم يكبرون في ظل غياب الزوج، وتناست آلامها وأوجاعها سنوات، حتى أنها لم تعد تبصر بعينيها.

وجربت أم عبد السلام صنوف المعاناة في نفسها وأسرتها، فاعتقلها الاحتلال 9 أشهر، واعتقل جميع أبنائها عبد السلام وعصام وعماد، وحمزة قبل استشهاده عام 2014 اعتقل هو الآخر، وقُصف منزلهم وهم داخله، وأحرقه جنود الاحتلال أيضا عندما أخفقوا في اعتقال زوجها مرة.

الشيخ جمال أبو الهيجا وزوجته أسماء وأولادهم كلهم ذاقوا أذى الاحتلال وتربو على مواجهته (الجزيرة)

التنشئة والإعداد وصولا للتحرير

كل ذلك جعل منها صخرة صلبة تحطمت عليها آلام الحياة ومتاعبها كما تقول ابنتها بنان، وجعلها درعا حصينة لعائلتها، خاصة بعد اعتقال زوجها عام 2002 والحكم عليه بالسجن المؤبد 9 مرات و20 عاما فوقها.

وكونها أدركت مخاطر العيش مع زوج مطلوب للاحتلال، وبالتالي عرفت مصيره سلفا، إما الاعتقال أو الشهادة، سارت أم عبد السلام جنبا إلى جنب معه، ولهذا تعرضت للاعتقال، كما لم تسقط من أجندتها غرس محبة زوجها في نفوس أولاده.

بنان أسيرة وابنة أسيرة

وتروي ابنتها بنان التي اعتقلت هي الأخرى وتعرضت لتحقيق قاس؛ أن نهج والدتها اعتمد على الإعداد الجيد والتربية العقدية لأولادها، ومن ثم تسوية السلوك وصولا إلى التعبئة الوطنية والتحشيد، وتغليف ذلك تحت إطار "تحرير الوطن"، ولم تكن تكترث بالعواقب مهما كانت صعبة.

بنان (يمين) ابنة أسماء أبو الهيجا اعتقلت هي الأخرى وتعرضت لتحقيق قاس (الجزيرة)

وتقول إن والدتها حرصت على تقديم سلوك قويم لأبنائها، جعلها تتابع باهتمام بالغ حياتهم، وسعت منذ البداية لإلحاقهم بالمدارس والجامعات، ومن ثم تزويجهم وبناء أسرهم، غير آبهة باعتقالاتهم المتكررة فترات طويلة، وتحملها بذلك دور الراعي لأسرهم أيضا.

وتذكر بنان حادثة مع شقيقها الشهيد حمزة، عندما كان مطاردا من الاحتلال، وتسلل للمنزل لإخبارها بحبه للشهادة، فردت قائلة بعد أن رضيت عنه "هذه طريقك وأنت من اختارها".

حرية اختيار الطريق

ارتقت الأم الفلسطينية شهيدة في كل مراحل المواجهة مع المحتل الإسرائيلي، وفي الحرب الأخيرة على غزة استشهد نحو 70 فلسطينية، وواجهت الإبعاد والاعتقال أيضا مع أطفالها، ووضعت حملها داخل المعتقل، وتقبع الآن نحو 40 فلسطينية في الأسر.

واختيار الطريق تراه أيضا خنساء غزة نعيمة العابد (أم أحمد) في أبنائها وهي تربيهم على حب الوطن والتضحية لأجله، حتى أنها ودعت 3 من أبنائها شهداء، آخرهم "مصطفى" قبل أيام، الذي ارتقى في حرب إسرائيل الأخيرة على غزة (سيف القدس)، وودعت من سبقه شقيقه "محمود" لتنفيذ عملية استشهادية.

خنساء غزة أم أحمد

لم تكن نعيمة كما قالت للجزيرة نت لتقف أمام أي من أبنائها الذين اختاروا طريقة في الجهاد، وكان شعارها أن الموت قادم، وأن لكل واحد "اختيار طريقه إليه"، وفي الوقت نفسه كانت تحسن تربيتهم وسبيل عيشهم كأنهم مخلدون أبدا، فنهلوا العلم في المسجد والمدرسة والجامع.

توضح نعيمة أنه بينما كانت تستقبل المعزين في استشهاد ابنها، ورغم "إعدادها لأبنائها وتجييشهم سلوكا وتربية"، فإنها تحبهم وتحافظ عليهم وتبكي على فراقهم كحال أي أم، لكن شعارها عندما يستشهد أحد منهم فإن "قطعة مني سبقتني إلى الجنة"، وتقول "ما دام الموت في سبيل الله فكل شيء يهون".

ومما تذكره بنان ذات مرة أن مكبرات الصوت بمخيم جنين صدحت على "كل حر وشريف" للتظاهر ضد الاحتلال، فأوعزت أمي لأخي الشهيد حمزة للخروج قائلة بتعجب "ومن غيرنا؟!"، ودفع ضريبة ذلك باعتقاله 40 يوما عند الأمن الفلسطيني.

والصبر والمصابرة والمرابطة شعارات ترفعها الأمهات الفلسطينيات بعد استشهاد أو أسر ذويهن واقعا، فيكن عونا لعائلاتهن وأبنائهن وينشطن في الميدان دفاعا عنهم، فخضن إضرابات عن الطعام تضامنا مع أبنائهن الأسرى، وأخريات استشهدن نصرة لهم.

 

سند الرجل ودافعه للنضال

تقول منى منصور، وهي عضوة بالمجلس التشريعي السابق وناشطة نسوية، إن المرأة الفلسطينية "وزارتا داخلية في البيت وخارجية إذا لزم الأمر".

والأهم في وصف منى منصور للجزيرة نت أن المرأة -خاصة الأم- لم تكن مثبطا في مسيرة الرجل أو الابن النضالية، وهذا ظهر عبر تحملها مشاق الحياة بعده، وبالتالي أدرك الرجل أن هناك من يصبر ويتحمل، وتدير بيتها وأسرتها جيدا، وهذا يدفعه للعمل أكثر.

منى منصور (وسط) ناشطة نسوية وعضوة مجلس تشريعي سابق تتقدم مسيرة تضامنية مع الأسرى بنابلس (الجزيرة)

وتضيف منى منصور أنه لو كانت المرأة "سلبية أو تمسك العصا من النصف" ما كان للرجل أن يضحي ويقدم لأنه يفقد الظهر المساند حينها، ولهذا فالمرأة والأم الفلسطينية "نادرة" بين نساء العالم.

لم يبدأ مشوار الاحتضان والتنشئة عند الأم الفلسطينية لينتهي، فهذا ديدنها وحالها دوما، وهي تعرف طريقها منذ البداية؛ ولهذا تجدها تستقبل ابنها الأسير بزغرودة وتودع شهيدها بزغرودة أيضا.

المصدر : الجزيرة