شادية ورفيقاتها.. شهيدات فلسطين وجذوة نضاله
لم تكن لينا النابلسي الشهيدة الثانية بمدينة نابلس بعد شادية أبو غزالة فقط، بل الشهيدة الثانية بالضفة الغربية بعد 1967، حيث قتلت برصاص الاحتلال مباشرة بعد الشهيدة منتهى الحوراني من مدينة جنين.
ما أن دخلت ليلة 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1968 حتى ضرب "أبو إبراهيم" طلقات مدفعه الرمضاني السبع؛ معلنا بذلك ثبوت الليلة من شهر رمضان، كما جرى عرف مدينة نابلس آنذاك، وما هي إلا دقائق حتى خرجت "الطلقة" الثامنة، وكانت أشد وقعا وأعلى صوتا؛ فظن الناس أن أبو إبراهيم -الذي نُصِّب لهذه المهمة- قد أخطأ.
لم يخطئ أبو إبراهيم، وكذلك لم يخن الناسَ سمعُهم، فـ"الصوت الثامن" وقع فعلا وكان انفجارا هزَّ المدينة بأكملها، وأسقط أول شهيدة (شادية أبو غزالة) ليس في نابلس فحسب، بل في عموم فلسطين بعد احتلال الضفة الغربية عام 1967 (عام النكسة)، حيث انفجرت قنبلة كانت تُعدها لعمل عسكري بمدينة تل أبيب.
باستشهاد شادية، سطرت المرأة الفلسطينية مرحلة جديدة في النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي لم تخمد ناره أصلا، وإن خفتت بعض الشيء قبل ذلك، وأدخلت شادية التضحيات النسوية (العمل العسكري) من بابها الواسع.
آنذاك لم تمهل إسرائيل وجيشها المحتل لنابلس أهل شادية وأقاربها وقتا كافيا لإخراج أثاثهم والبحث عن ابنتهم بين الأنقاض، فداهم الجنود المدججون بالسلاح المنزل في حارة الغرب في البلدة القديمة، وهدموا ما تبقى منه على رأس العائلة وفوق أشلائها المترامية هنا وهناك.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمسيرة نضالية لأسيرة فلسطينية.. خالدة جرار مرشحة “نبض الشعب” من سجن إسرائيلي
حين تكون الصرخة أبلغ من الكلام.. فلسطينيات يصرخن: لماذا يقتلوننا؟
حققت أكثر من 10 ملايين مشاهدة.. ناشطة مصرية تروي قصة فلسطين في أغنية بدقيقة ونصف
شادية.. جذوة النضال
يستذكر محمود أبو غزالة (65 عاما) ابن عم شادية اللحظات الأولى للانفجار بعيد غروب شمس ذلك اليوم بقليل، وكيف أخرجوا على عجل ومن الأنقاض المتراكم أشلاء شادية وجمعوها ونقلوها إلى المشفى الوطني قبل الاحتلال الذي عمل على هدم بقية المنزل.
يقول أبو غزالة للجزيرة نت -التي زارت غرفة الشهيدة المهدمة- إنهم عرفوا شادية من خصلة من شعرها وجزء من ملابسها؛ "فقد تطايرت أشلاؤها بكل مكان، حتى وصلت مدرسة الفاطمية على بعد أمتار".
ولم يبق منزل ولا جدار تعلق عليه شهادتها الجامعية؛ وهي التي ردت على من حاول إقناعها من ذويها بالبقاء بالقاهرة لإكمال تعليمها قائلة "ما فائدة الشهادة الجامعية إذا لم يكن هناك جدار أعلقها عليه"، وعادت أدراجها إلى نابلس لتكمل تعليمها ونضالها معا.
وكان استشهاد شادية أبو غزالة شرارة أخرى قدحت في خزان وقود المظاهرات ضد الاحتلال، والتي شاركت فيها المرأة بقوة كما الحال في نابلس، فاعتقلت إسرائيل العشرات من النساء، وفرضت عليهن إقامة جبرية قبل إبعاد كثيرات منهن.
تقول فيحاء عبد الهادي الباحثة الفلسطينية والمؤرخة لدور المرأة ورفيقة الشهيدة أبو غزالة؛ إن شادية شكلت نقطة التحول في نضال المرأة الفلسطينية، والانتقال من العمل الاجتماعي والمقاومة الشعبية المتمثلة في المظاهرات والاعتصامات وكتابة المنشورات التوعوية والتحريضية ضد الاحتلال إلى العمل العسكري المباشر، خاصة أنها "كانت تدربت سرا على السلاح والمتفجرات".
ثم ما لبثت أن سارعت إسرائيل باعتقال "مجموعة شادية التنظيمية"، وكانت فيحاء واحدة منهم، فأبعدت مع والدتها و20 أخريات للأردن لنحو 3 عقود.
وتروي فيحاء للجزيرة نت أن الاحتلال اتهم والدتها -وكانت رئيسة الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية حينها- بإيواء الفدائيين وتهريبهم وجمع المال لهم، إضافة لتنظيمها اعتصام كنيسة القيامة بالقدس عام 1969، وبالتالي "لم تكن تهمتها سياسية".
وتضيف فيحاء أن نضال المرأة كان منظما أيضا، حيث تولَّت نعمت كمال بعد استشهاد شادية قيادة تنظيم البنات.
وظلت حال المقاومة بين مد وجزر حتى عام 1976، حينها استشهدت الفتاة لينا النابلسي، بعدما خرجت بمظاهرة في 16 مايو/أيار تخليدا لذكرى النكبة، التي رفض الاحتلال إحياءها قبل يوم كما هو موعدها وحظر التجول على نابلس.
لينا.. الأسطورة الثانية
خرجت لينا (ابنة 15 ربيعا) من مدرستها العائشية متقدمة صفوف المئات من المتظاهرين وهتفت بصوتها العالي رفضا للاحتلال، الذي ما انفك يكدر صفو المدينة، فهاجم الجنود الجمع وفرقوه بقوة السلاح، "ولاحقها أحد الضباط داخل بناية في حارة الشيخ مسلم (شرقي نابلس القديمة) وأعدمها بدم بارد"، ولاحقها الجنود إلى مستشفى الوطني لاحتجاز جثمانها فتم تهريبها لمنزلها، ومن هناك تم دفنها بموكب جنائزي كبير في مقبرة المدينة الشرقية.
ولم تسجل لينا النابلسي كثاني شهيدة بمدينة نابلس بعد شادية أبو غزالة فقط، بل بوصفها ثاني شهيدة بالضفة الغربية بعد 1967 تقتل برصاص الاحتلال مباشرة بعد الشهيدة منتهى الحوراني من مدينة جنين، ولأجلها نفذ مقاومون عملية مسلحة باسم "لينا النابلسي" ضد معسكر لجيش الاحتلال في الجفتلك (الأغوار الوسطى).
وخلَّد فنانون وشعراء لينا برسوم معبرة وأبيات من قصيدة الشاعر حسن ظاهر "نبض الضفة"، غنَّاها الفنان اللبناني أحمد قعبور في اليوم التالي من استشهادها بعد أن ألهمته صورتها وهي مضرجة بدمائها:
"لينا كانت طفلة تصنع غدها
لينا سقطت، لكن دمها كان يغني..
يا نبض الضفة لا تهدأ أعلنها ثورة
حطم قيدك.. اجعل لحمك جسر العودة
فليمسي وطني حرا.. فليرحل محتلي فليرحل".
يستذكر زاهر الششتري -القيادي بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي كانت الشهيدتان أبو غزالة والنابلسي تنتميان لها- "يوم الغضب" عند استشهاد لينا وما تبعه من إضراب شامل شلّ مناحي الحياة ومواجهات استمرت أياما.
وكان استشهاد الفتاتين شادية ولينا -كما يقول الششتري للجزيرة نت- امتدادا لنضال وتضحية المرأة الفلسطينية عموما والنابلسية على وجه الخصوص.
وأسس لبثِّ "حالة الوعي" التي سبق أن أرست الشاعرة الراحلة فدوى طوقان قواعدها في عشرينيات القرن الماضي، إلى جانب رائدات العمل النضالي والاجتماعي؛ عندليب العمد ومريم هاشم.
وتشير إحصاءات جمعتها الجزيرة نت إلى أن 67 شهيدة فلسطينية سقطن خلال الحرب الأخيرة على غزة قبل أيام، بينهن 26 طفلة أعمارهن أقل من 18 عاما، وجميعهن من قطاع غزة، باستثناء الشهيدة وفاء برادعي من الخليل، وهن امتداد لمئات النساء اللواتي استشهدن منذ بداية انتفاضة الأقصى عام 2000.
زمن الاستشهاديات
كانت دارين أبو عيشة من قرية بيت وزن (غرب نابلس) واحدة من تلك الشهيدات عندما نفذت عملية استشهادية بحزام ناسف تخصَّرت به وفجرته في جنود الاحتلال عند حاجز عسكري قريب من مدينة القدس أواخر فبراير/شباط 2002.
تقول شقيقتها إكرام أبو عيشة إن دارين كانت أول استشهادية من نابلس وثاني استشهادية بعد الشهيدة وفاء إدريس بانتفاضة الأقصى، وقد غاظها قهر الاحتلال وبطشه بالفلسطينيين آنذاك وقتله زملاءها بالجامعة، فكان استشهادهم محركا فاعلا للطلبة حينها، لا سيما من هم مثل دارين التي كانت شعلة من النشاط في العمل "الطلابي والخيري".
وتضيف إكرام في حديثها للجزيرة نت أن دارين كانت في مرحلة دراستها الأخيرة بالجامعة، وتحتاج أياما فقط لتنال الشهادة الجامعية في الأدب الإنجليزي، "لكنها اختارت التخرج على طريقتها".
لم تكن دارين أبو عيشة آخر محطات مقاومة المرأة الفلسطينية ضد المحتل، مع توالي أحداث انتفاضة الأقصى وصولا إلى المقاومة الشعبية والهبات المختلفة على جرائم الاحتلال وانتهاكاته.
ثم تصاعد نضالها وانخرطت "في العمل الفردي"، لا سيما في السنوات الثلاث الماضية، فوقعت شهيدة ومبعدة ومعتقلة، وتعج سجون الاحتلال بنحو 40 أسيرة حتى الآن.