الشريفة مريم الميرغنية.. سيرة سودانية حصدت المحبة جيلا بعد جيل
للمرة الأولى منذ 70 عاما لن يتمكن أحباب ومريدو "الشريفة مريم الميرغنية" من إحياء ذكرى وفاتها -التي تحل هذه الأيام ذكراها السنوية- في مدينة سنكات شرق السودان حيث ضريحها الأشهر المحاط بمحبة عظيمة تكبر وتتمدد عاما بعد آخر. لكن من هي مريم التي حصدت كل هذه المحبة المتوارثة جيلا بعد جيل؟
من هي؟
تقول كتب التاريخ إنها مريم بنت السيد محمد هاشم الميرغنى ابن محمد عثمان الختم مؤسس الطريقة الختمية، إحدى أكبر الطرق الصوفية في البلاد.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالبريطانية التي أشهرت إسلامها أمام البابا.. الرحلة المدهشة لـ"الليدي زينب"
عملة ورقية لتكريم أول طبيبة تونسية.. توحيدة وأخواتها رائدات الطب عربيا
أول امرأة تحكم المسلمين في آسيا.. سيرة السلطانة "راضية"
ولدت سنة 1886 وتوفيت سنة 1952، وقرأت القرآن وعلوم الفقه في زاوية جدها السيد محمد عثمان الميرغني الختم، التي أنشأها خصيصا لتعليم النساء أمور دينهن.
واقترنت بابن عمها السيد محمد عثمان تاج السر الميرغني الذي ولد سنة 1849، وتوفي سنة 1903، ودفن بجوار مسجده الذي بناه في مدينة سواكن، ومنذ وفاة زوجها نهضت الشريفة مريم بأعباء الدعوة إلى الله وإرشاد المريدين في مناطق البحر الاحمر شرق البلاد، وكانت مهمومة إلى حد كبير بتعليم النساء.
ضريح الشريفة
يقول إبراهيم أبو فاطمة أحد أعيان مدينة سنكات حيث ضريح مريم -للجزيرة نت- إنها المرة الأولى منذ نحو 70 عاما التي ربما لا تستقبل المدينة (هذا العام) الحشد السنوي لإحياء ذكرى رحيل الشريفة، فجائحة "كوفيد-19" والاحتكاكات القبلية التي ميزت شرق السودان مؤخراً اضطرت محمد سر الختم (خليفة الشريفة الراحلة بالمدينة) لإصدار بيان طالب فيه المريدين بإحياء الحولية في مناطقهم دون تكبد المشاق للقدوم إلى سنكات.
تعليم النساء
فالشريفة مريم لم يكن يراها سوى المقربين منها جدا، لكن سواهم كانوا يرون كريم أعمالها وأفضالها على الآخرين أكثر من رؤيتها في شخصها، وهي التي اشتهرت بالكرم وإعانة المساكين وأولت التعليم اهتماماً لافتا خاصة الديني منه، فأقامت المساجد والخلاوي (زاويا مخصصة لتعليم النساء) في كل من هيا وسنكات وجبيت، وساهمت في دعم المدرسة الثانوية المصرية، وكانت تشرف عليها وتدفع رواتب بعض العاملين وشجعت على تعليم البنات.
من سيرتها اليومية
لم تكن الشريفة مريم تأكل أو تشرب أو تسكن أو تلبس إلا بما تشتريه من مالها الخاص، وهو نصيبها الذي ورثته من ممتلكات المراغنة في الحجاز، ولم تكن تشرب لبنا أو تأكل لحما إلا من غنمها التي كانت تحبسها وتجعل عليها حراسة حتى لا تتعدى على ممتلكات الغير.
وكان شرابها وطهورها من ماء بئر حفرتها بحُر مالها في "حي الشاطئ" بمدينة سواكن وجعلته وقفا لله تعإلى، وكانت تقيم شتاءً بسواكن، وترحل صيفاً إلى سنكات، ففي شهور الصيف كانوا يأتونها بالجمال محملة بالماء، يفرغونه ثم يعودون.
الميرغنية الزاهدة
ويقول الخليفة عبد الله محمد إبراهيم المطالب، في كتاب نادر جدا خصصه لسيرة الشريفة الميرغنية كان زهدها في الدنيا الفانية يتبدى في كل أحوالها وتصرفاتها، كما يروي المطالب، إذ لم يكن لباسها يتعدى ثوبا أبيض من الشاش، وكانت من عادتها حين تشتري ثوبا جديدا ألا تلبسه إلا بعد أن تقتص منه قطعتين وتعيد حياكتهما فيصبح (مرقوعا) وهو جديد، أما حليها فلم تكن إلا دبوسا صغيرا تضعه على أنفها، وما كانت مساكنها الخاصة إلا من الطين كعامة مساكن الناس حولها، ولم تكن تلك المظاهر التقشفية اضطرارية لكنها كانت اختيارا ذاتيا.
في سبيل الله
ومن نفقاتها في سبيل الله ما رواه الشريف محمد نور خطيب مسجد سنكات والعلامة في المذهب الشافي حين قال "استدعتني الشريفة مريم ذات مرة وطلبت مني البحث عن شخص مؤتمن له نية الذهاب إلى الحج لترسل معه مالا يشتري به منزلا باسمها يكون وقفا لله تعالى لزوار ومجاوري الرسول عليه السلام ولطلبة العلم في المدينة المنورة، على أن يكون نصفه الآخر مصلى".
ويقول الشريف نور إنه حمل الأمانة للحاج مسعود محمد من تجار بورتسودان ومن مقدمي الطريقة التيجانية، فأنجزها على خير وجه، وحضر إلى سنكات فذهبنا إلى الشريفة ووضعنا بين يديها الخرائط والوثائق، وبعد أن اطلعت عليها واطمأنت التفتت إلينا وقالت "هل يرانا أو يسمعنا غير المولى جل جلاله؟" قلت لها "لا". فمزقت الوثائق والمستندات وأضرمت فيها النار ثم قالت "لا تحكيا ذلك لأحد ما دمت على قيد الحياة".
تجاوزت الحدود
لم تقتصر محبة الشريفة على أهالي الشرق بل تعدتها إلى مصر، فحين نما إلى الحكومة هناك مرضها أرسل الملك فاروق باخرته "المحروسة" إلى بورتسودان مع طاقم طبي مقتدر، وبالفعل غادرت إلى مستشفى المواساة بالإسكندرية ومكثت هناك منذ أوائل أكتوبر/تشرين الأول 1951 حتى منتصف يناير/كانون الثاني 1952.
وتوافدت على زيارة الشريفة الميرغنية خلال تلك الفترة شخصيات مرموقة مصرية ووفود شعبية من داخل السودان ومصر.
حجرتها
وبعد فترة وجيزة من رجوعها، عاودتها العلة مرة أخرى واستدعى الأمر نقلها إلى بورتسودان، والاتصال بالجهات التي تولت علاجها في مصر فبادرت الحكومة المصرية بإرسال طاقم طبي معالج على متن طائرة حربية بذل كل ما لديه لإنقاذها دون جدوى، فكانت الأمور حينها تمضي إلى الأجل المحتوم. وطلبت ممن حولها أن يضعوا على وجهها الثوب ويتركوها لبعض الوقت وحيدة، ولما عادوا وجدوا أن روحها فاضت إلى خالقها.
وكان ذلك عام 1952. ونقل جثمانها إلى سنكات وفقا لوصيتها بأن تدفن جوار دائرتها، وفي بقعة كانت عينتها بنفسها داخل حجرتها التي كانت تختلي فيها، وباتت المزار السنوي للمريدين كل عام.