نشاط مهم لنموه وتطوره.. ما الذي يحدث داخل دماغ الطفل عندما يلعب؟
شاهدنا جميعا صور ومقاطع فيديو للأطفال وهم يلعبون في ظروف غريبة وغير متوقعة، مثل التعلق بحبل قديم والتأرجح في مخيم للاجئين، أو التسابق بدفع العجلات القديمة في مكب للنفايات، أو تعويم قوارب مصنوعة من الورق في مياه الفيضانات الموسمية.
فاللعب لا يؤدي إلى إلغاء الفروق والمسافات فقط، بل إنه يعلم الأطفال دروسا نفسية هامة. فما الذي يحدث داخل دماغ الطفل عندما يلعب؟ ولماذا يعد هذا النشاط مهما جدا لنموه وتطوره؟
تقول الكاتبة أنتونيا ويندسور في تقرير نشرته صحيفة ‘الغارديان" (theguardian) البريطانية، في كل المدارس وفي كل الثقافات حول العالم يمارس الأطفال اللعب، رغم الحروب والكوارث والأوبئة. وهم يلعبون لأن هذا ضروري لتطورهم، حتى إن منظمة الأمم المتحدة صنفت اللعب على أنه حق أساسي لكل أطفال العالم.
تجربة الأشياء
يقول بو ستيرن تومسون، رئيس مشروع التعلم عبر اللعب في مؤسسة ليغو "إن الطفل الصغير يولد بدماغ مليء بالخلايا العصبية. ويولد الأطفال ليتعلموا ويتطوروا، إلا أنهم يحتاجون لتجارب لتحقيق ذلك، يحتاجون للمس والإحساس وتجربة الأشياء، وفي كل مرة يعيشون فيها تجربة إيجابية ومحفزة لهم، تنمو شبكات الدماغ ويحرزون تقدما في تطورهم وتعلمهم".
وتشير الكاتبة إلى أن اللعب هو ما يمنح الأطفال هذه التجارب الضرورية. وسواء كانت اللعبة نشاطا جسديا مثل تسلق الشجرة، أو تتضمن استخدام أدوات مثل بناء برج، أو لعبة رمزية مثل الرسم، أو لعبة محاكاة مثل ارتداء ملابس الكبار، أو حتى لعبة تقليدية فيها شروط وقواعد، فإن كل أنواع الألعاب التي ينخرط فيها الأطفال هي فرصة لإنشاء الروابط العصبية داخل الدماغ، للمساعدة على النمو الاجتماعي والعاطفي والذهني والجسدي للطفل.
البحث عن المرح
يقول تومسون "يمكننا ملاحظة هذه الخصائص في مختلف الثقافات والشرائح الاجتماعية والاقتصادية. إذ إن الأطفال يبحثون عن المرح والتجارب الإيجابية، والفرص من أجل اختبار الأشياء واكتشافها، ويريدون أن يكونوا نشطين وليسوا خاملين، وأن تكون لهم القدرة على التصرف والاختيار".
مهارات حياتية
عندما يلعب الأطفال تتطور مهارة اتخاذ القرار والتنفيذ لديهم، ويمرون بعمليات ذهنية متطورة تمكنهم من أخذ المبادرة التخطيط ومتابعة تنفيذ المهام، والحفاظ على تركيزهم خلال المدة المطلوبة، ومتابعة الأداء، وإظهار قدر من الإصرار إلى حين تحقيق المطلوب. كل هذه المهارات الحياتية مهمة جدا لمستقبل الأطفال.
وتقول لينزي كونن، وهي أم طفلين يعيشان في شرق لندن قولها "لقد كنت قلقة على أطفالي الذين ظلوا يلعبون باستمرار خلال أشهر الحجر الصحي عوضا عن التعلم الرسمي في المدرسة. ولكن لاحظت منذ عودتهم للدراسة أنهم باتوا أكثر انخراطا واستعدادا للتعلم من ذي قبل، وهو ما يعني أنهم كانوا بصدد تطوير مهاراتهم عندما كانوا يلعبون".
ويرى تومسون أن هذه القصة التي روتها الأم لينزي عن طفليها، بشأن العلاقة بين اللعب وتطور القدرات التعلمية لدى الأطفال بفضل اللعب لوقت طويل، ربما تدعمها أيضا الأبحاث العلمية في المستقبل، بشأن التأثيرات غير المحتملة لأزمة فيروس كورونا.
التخطيط والتنفيذ
يضيف تومسون "أثبت بشكل قاطع أن اللعب يحسن القدرة على التخطيط والتنفيذ. وعلى سبيل المثال عند بناء شكل بواسطة الألعاب، فأنت تختار وتصنف القطع الصغيرة وتضعها مع بعضها وتفكر إذا كان ذلك الشكل ثابتا ومتوازنا، وتحرص على تذكر دور ومكان كل قطعة، وعند القيام بهذه العمليات، فأنت تتعلم توجيه تركيزك والتحكم بنفسك، وهي كلها مهارات يحتاجها الطفل لاحقا في المدرسة".
هذا ما تؤكده أيضا أخصائية علم النفس التربوي ميليرني ماهو التي تقول "إن اللعب مهم للنمو العقلي من عدة نواح، إلا أن تعلم التحكم في الذات وكبح السلوكيات السيئة، والتحكم بالعواطف، من المهارات الأكثر أهمية لتحقيق النجاح لاحقا في البيئة التربوية الرسمية".
ففي كل مرة يحاول فيها الطفل بناء برج بواسطة القطع الصغيرة وينهار ذلك البرج، يقوم بتجميع القطع وتكرار المحاولة، فيكتسب المزيد من الإصرار والمرونة والاستعداد للتعلم من أخطائه، وهو ما يحسن قدرته على العمل ضمن الفريق والتعاون مع الآخرين.
وفي السياق نفسه تقول لينزي كونن "بالتأكيد لاحظت أن طفليّ باتا يتعاملان بشكل أفضل مع العواطف أثناء بقائهما بعيدين عن المدرسة، وكلما لعبا مع بعضهما، تطورت قدرتهما على إدارة الخلافات التي تنشب بينهما".
دروس حياتية
هذا الأمر تفسره ميليرني بأن الأطفال عندما يلعبون فإنهم يتدربون بشكل متكرر ويختبرون عدة عواطف من بينها خيبة الأمل والإحباط والإصرار والثقة والإنجاز، فيتعلمون كيفية تنظيم هذه العواطف. ومن خلال اللعب الحر يتعلم الأطفال دروسا حياتية مثل المرونة والحفاظ على العلاقات الاجتماعية والإصرار".
ومع نمو الأطفال وتطورهم، فإن ما يطلبونه من اللعب يتغير، فالرضع يحتاجون للتفاعلات المحفزة من طرف من يرعاهم، والكثير من الفرص لاكتشاف محيطهم عبر اللمس.
وفي عمر 6 سنوات إلى 9 يميل الأطفال إلى لعبة تقمص الأدوار، حيث يرتدون ملابس غيرهم، ويتظاهرون بأنهم أشخاص آخرون، وهو ما يمثل فرصة لهم لرؤية العالم من منظور آخر.
ومع تقدمهم بالعمر في بدايات المراهقة، فإنهم يميلون إلى الألعاب الرمزية والأكثر تعقيدا بما فيها من قواعد وضوابط.
بعد ذلك تصبح ميولهم في اللعب مختلفة قليلة، حيث إن المراهقين الأكبر سنا يفضلون استخدام الألعاب صغيرة الحجم التي تتضمن حل المشاكل والتدرب والتعلم.
في هذه الفترة يمكن دعمهم ليتعلموا كيفية الطبخ، أو التخطيط لقضاء أحد أيام العطلة، من خلال البحث عن الأماكن السياحية والأنشطة الممتعة.
الكبار بحاجة للعب أيضا
اللعب ليس مهما للأطفال فقط، بل حتى للأبوين ومقدمي الرعاية، والذين ينصحون بمشاركة الطفل ألعابه لتقوية الروابط معه وقضاء وقت مميز وتعليمه المصطلحات والنماذج اللغوية التي يحتاجها.
لذلك فإن الكبار يجب أن يتحلوا بروح مرحة، تماما كما هو الحال لدى الأطفال، خاصة في هذه الفترة الصعبة التي يعيش فيها العالم بأكمله أزمة حادة.