بالفيديو- 72 عاما بمخيمات انتظار العودة.. فلسطينيات يروين حكايات النكبة في تطريزة
14/5/2020
عاطف دغلس-نابلس
هي آخر قطعة في ثوب سيرى النور قريبا يفيض جمالا بألوانه الزاهية والهادئة، كانت أنامل ابتسام أبو جابر تداعبه بإبرة خاصة، وتضرب غرزه واحدة بعد أخرى، ليظهر معها الشكل الذي تريد منسجما ومتناسقا، ويحكي تعبا في العمل استمر أسابيع أو شهورا عدة.
يضيف الثوب الذي تعده ابتسام (54 عاما) في مخيم بلاطة للاجئين في مدينة نابلس (شمال الضفة الغربية) سطرا جديدا في حكاية اللجوء، ويربطها بواقع عاشه الأجداد بحلوه ومره قبل النكبة، وأصبح بتقادم السنوات قصصا تروى وهوية تزيدهم إصرارا على العودة.
في الطريق لمنزل ابتسام بحثنا بين أزقة المخيم المتشابهة ومنازله المتلاصقة لتدلنا عليه عبر كلمات خطت فوق جدران وصور معلقة للشهداء والأسرى تروي معاناة الوطن السليب.
تمسك ابتسام إبرة معبئة بخيط تطريز من نوع "دي أم سي" الأفضل كما تقول، ثم تحيك قُطَب (تطريزة) الثوب بتناسق مع بعضها، وتقول وحواسها مشدودة نحو العمل إنها دأبت على التطريز منذ نحو ربع قرن، وتتخذه مهنة ووسيلة للحفاظ على هويتها الفلسطينية.
سردية المكان واللون
وتعد ابتسام مشغولاتها بسردية المخيم وبحكايات اللجوء فيه، فكل عمل تنسج خيوطه مع قصة مكانه الأصلي في قرى فلسطين التاريخية ومدنها؛ فاللون الأحمر دلالة منطقة الساحل في يافا وحيفا وعكا، حيث شقائق النعمان تزهر، والبنفسجي فيه شموخ الجبال، وكذلك الأبيض المختلط بأزرق يعكس هدوء مدن اللد والرملة.
"من جدتي ومن نساء المخيم ممن عاصرن النكبة أنسج مطرزاتي من الأثواب أو التحف أو المعلقات وحتى بعض أثاث المنزل"، هكذا تقول ابتسام وهي تلاعب أصابعها بين الإبرة والخيط لتغرزه في قطعة القماش لتنتج قطعة تريدها.
وللتطريز "الفلاحي الفلسطيني" أشكال وألوان مختلفة تعود لموطنه الأصلي، وكذلك تتنوع القطبة (الغرزة) الواحدة بين "الضرب" و"المثمنة" و"المناجل" وغيرها.
أما شكلها فيعرف منه الوردي والطاووس والأقصى والشمس والعلم والفراشة والحصان؛ في صورة تعكس جمال الأرض الفلسطينية وتنوعها البيئي والحيوي، وهناك العروق التي تلف التطريزة طولا أو عرضا، "وهي أصعب شيء في العمل".
ومن البيت انطلقت أبو جابر في إنتاج التطريز فأعدت لنفسها ولبناتها الأثواب والأزياء والتحف والمعلقات وبعض الأثاث أيضا، ثم توسعت بفكرتها عبر مشاريع كبيرة نفذتها من خلال مؤسسات المخيم، ونقلت فيها التجربة لسيدات سوَّقت عملهن محليا وعالميا.
وتقول ابتسام إن عملها في التطريز جعلها منتجة في ظل وضع اقتصادي صعب تعانيه المخيمات، لا سيما النساء فيها، ورسَّخ قناعتها بأن العودة التي جسدتها في أعمالها قريبة، ولهذا تكتسي جدران منزلها -مثل منازل المخيم- بأشكال شتى من المطرزات بقديمها من زمن النكبة أو الحديثة منها والمصنع بعبق الماضي.
كما عمدت ابتسام إلى "ترميم" المطرزات القديمة التي جمعتها من هنا وهناك ومن كبار السن، لتقوم بإصلاحها كاملة كالأثواب أو بشكل جزئي لتحوِّلها لتحف ومعلقات تحفظ بها موطنها الأصلي، وتقول "لكل حارة في المخيم مطرزات تختلف لونا وشكلا حسب البلد الأصلي، كالجرامنة والسوالمة والعرايشية".
مطرزات لكل المناسبات
لمسنا هذا الماضي في ثوب الحاجة يسرا قلاب (أم شعبان) وهي تخطو نحونا لتخبرنا بثوبها القديم الذي صنعته قبل ستة عقود ولا زالت تحتفظ به برونقه وجماله الخلَّاب، وتقول أم شعبان (90 عاما) التي تقطن قرب ابتسام؛ إنها تدربت على التطريز في حوش منزلهم في قرية سلمة في الداخل المحتل، حيث كانت أمها وجدتها تطرزان الأثواب والأثاث المنزلي من الشراشف وأغطية النوم وغيرها.
ترد أم شعبان على سؤال إحدى جاراتها في زقاق المخيم حول سر لبسها الثوب في حضرة الصحافة؟ فتجيب العجوز ممازحة إن أحدا يريد خطبتها وطلب صورتها سلفا، وتستدرك حديثها أنها كانت في السابق ترتدي الثوب بشكل دائم، أما الآن فبات مقتصرا على الأعراس والمناسبات الوطنية والتراثية، "ولهذا صنعت ثوبا آخر بلون علم فلسطين".
ولجانب الحاجة ابتسام وأم شعبان تختص الشابة نور عودة بمطرزات الأعراس أكثر من غيرها، وتقول وهي تشير للوحة العرس الفلسطيني المعلقة في صدر منزلها وبجانبها الصواني المزينة بالخرز؛ إنها تعمل لجعل المطرزات تقليدا ولبسا دائما، "خاصة أنه يحمل بين طياته حكايات لا حصر لها".
حفظ الهوية
وفي مخيم بلاطة، مثل كل المخيمات، تلتقي سرديات التطريز بتفاصيلها الدقيقة لتشكل لوحة فسيفسائية متناسقة حفَّزت المؤسسات الأهلية فيه لاستغلال بطالة النساء هناك وخلق حلقة وصل مع بلدانهن الأصلية عبر أعمالهن.
وتقول سمر عميرة من لجنة خدمات مخيم بلاطة إنهم خصصوا زاوية كاملة في اللجنة للمطرزات، بهدف الحفاظ على هوية فلسطين التاريخية من ناحية، وتوفير فرصة عمل لنحو 10% من نساء المخيم فاقدات العمل، ولهذا فإن دورهم كمؤسسة يكمن في توفير العمل للسيدات وتسويق المنتج.
وفي محاولة منهم لتطويع المطرزات مع الحداثة وتشجيع الجيل على اقتنائها لتعزيز معرفته بتراثه وأهميته، تقول عميرة إنهم لجؤوا إلى "تطعيم" الملابس الحديثة، لا سيما القمصان، بالمطرزات بما يجملها ويحفظ هويتها الوطنية.
ويردد اللاجئون مقولة إن المخيم ليس إلا محطة عبور للعودة لمواطنهم الأصلية، وهو كذلك في نظر أم شعبان التي أوصت بثوبها المطرز لجارتها ابتسام لتحفظه كما حفظت غيره ليوم العودة إلى "البلاد" الذي هو قاب قوسين أو أدنى، كما تقول.