عمرة التونسية تجدل "السمار" لإحياء التراث وابتكار منتجات جديدة
منيرة حجلاوي-سيدي بوزيد
في غرفة ضيقة متواضعة، تجلس عمرة غابري (بمدينة أصيلة في محافظة سيدي بوزيد بالوسط الغربي التونسي) غير مكترثة بالبرد القارس، ومحاطةً بنبات السمار من كل جانب، تُجدّله خصلة خصلة بين ثنايا خيوط الصبار الذهبية.
وتجد عمرة صعوبة في الحصول على ما يكفيها من مادة السمار لإيفاء حاجاتها طوال السنة؛ نتيجة عدم تمكينها من ترخيص لحصاد هذه النبتة تحديدا من وادي البن في بلدتها، مما يضطرها إلى شرائها من محافظات الجنوب.
عمرة والسمار
بعد انتظار طويل، تصل الكمية المطلوبة من محافظة قبلي (جنوب) إلى معتمدية (حكم محلي) المكناسي مقر إقامة عمرة، وتستقبلها وعيناها تكاد ترقصان من شدة الفرح، وتتولى في مرحلة أولى تجفيفها لمدة أسبوعين، ثمّ صبغها بألوان مختلفة حسب الطلب.
تفضّل عمرة (33 عاما) تجفيف السمار في الظل، حتى يكتسب لونا أخضر نضرا؛ فهي شديدة الحرص على جودة منتجاتها وتميّزها، وقبل يوم من انطلاق العمل تقوم بغمر الكمية المحددة بالماء حتى تصبح ليّنة سهلة الاستعمال.
أدق تفاصيل النسيج
قليلة الكلام وشديدة الحياء، لكنها تقف على أدق تفاصيل حرفتها، في غرفتها المتداعية التي تسميها ورشتها الصغيرة، تقيم عمرة خطّيْن متوازييْن من خيوط الصبار مشدوديْن بعوارض من الخشب تكون ما يعرف بالنسيج "المنسج".
تجلس فوق أحد الخطين -وبأصابعها التي تحمل آثار البرد من تشقّقات- تُمرّر بكل ارتياح جدائل السمار الواحدة تلو الأخرى فهي اعتادت فعل ذلك، وبعد نسج أمتار من السمار، تأتي مرحلة التنظيف والقص وخياطة الأجزاء حسب الشّكل المطلوب.
أنامل عمرة
تجود أنامل عمرة بمنتجات مختلفة الأشكال والأحجام والألوان من سلال لوضع الخبز إلى حقائب نسائيّة ومفروشات، كما تقوم بتغليف الأثاث، فهي تعمل على إرضاء الزبائن، وكسب ثقتهم وتلبية أذواقهم على اختلافها.
وقديما اقتصرت في تونس صناعة السمار على إنتاج "الحصير"، وهو نوع من المفروشات يُستعمل أساسا في المساجد والحمامات، أما اليوم فتطمح عمرة -وهي الوحيدة التي تمتهن هذه الحرفة في محافظتها- إلى تطويرها بخلق أفكار جديدة وبصمة تنفرد بها في مجالها.
الحاجة تحرمها الدراسة
قبل 17 عاما من الآن، جذب عشق حرفة صناعة السمار عمرة، كما دفعتها الحاجة وقلة حيلة والدها إلى امتهانها، فأخذت على عاتقها مسؤولية إعالة عائلتها، وتخلّت عن أحلامها على مقاعد الدراسة، فانقطعت مبكّرا جدا حتى قبل أن تبدأ.
علاقة عمرة بصناعة السمار تتجاوز منطق الربح -رغم أنها مصدر رزقها الوحيد والقار- فهي التي أخرجتها من عزلتها وكآبتها بسبب انقطاعها المبكر عن الدراسة، وهي التي جعلتها ترى الجانب المضيء من الحياة رغم مرارتها.
قفة العرائس
تعمل عمرة يوميا في تجديل السمار لساعات لا تُحصيها، فما إن تُغلق على نفسها باب غرفتها تسرح في عالمها الخاص تبتكر أفكارا لمنتوجات جديدة "كالكنسترو" (نوع من القفة) خاصة بالعرائس، تساعدها في ذلك شقيقتها لطيفة، فهما تكمّلان بعضهما البعض وجمعتهما الظروف والأهداف ذاتها.
وجدت عمرة التشجيع والدعم من والدها سندها الأوّل، فهو الذي آمن بموهبتها، وأخذ بيدها لتواصل عمل ما تُحب خلال لحظات ضعفها وقراراتها بالتراجع، حيث إن معضلتها الأولى تتمثل في توفير مادتها الأولية الأساسية من نبتة السمار.
صعوبات جمّة
فلا يكفي أنّها لا تحصل عليها من محافظتها سيدي بوزيد، فهي تلجأ إلى شرائها من المزودين من محافظتي قابس وقبلي (جنوب) بثمانية دنانير (نحو ثلاثة دولارات) للرُّبع (الحزمة) الواحد، كما تتكفّل هي بمصاريف النّقل، مما يُقلّل نسبة الربح عند بيع المنتج.
العشرات من أمثال عمرة ممن تقطّعت بهم السبل ينتظرون الرعاية واحتضان مشاريعهم، فمن المنتظر أن ينطلق الاستغلال الفعلي للمنطقة الحرفية بسيدي بوزيد وتوزيع الورش على المنتفعين بداية عام 2019 لعرض إبداعاتهم، وتأمل عمرة أن تكون من بين هؤلاء.
ولا تثني الصعوبات عمرة عن المواصلة، ولا تحدُّ من عزيمتها، وهي الفخورة بشُغلها المُتقن الذي نال رضا وإعجاب مزوّديها عملائها؛ فهي تعمل بمقولة "خدمتك ليك وشكر الناس فايدة".
معارض الصناعات التقليدية
وتحرص عمرة رغم قلة إمكاناتها على تسجيل حضورها ومشاركاتها في مختلف المعارض والتظاهرات التي تُعنى بقطاع الصناعات التقليدية، لتروج منتجاتها وتعرف بها كتراث خاصّ بسيدي بوزيد.
ولا تُحبّذ الخوض في مسألة الربح المادي ممّا تبيعه من منتجات، بل بابتسامتها المتفائلة الخجولة تظلّ تردّد كلمات الحمد والشكر على ما تجنيه بكل رضا لمساعدة عائلتها.
أمل جديد
مع إشراقة شمس كل يوم جديد يتجدد الأمل لدى عمرة، التي قطعت وعدا على نفسها بالاستمرار في شغلها وإيصاله قدر المستطاع لفتيات بلدتها العاطلات عن العمل، وكما تولّت سابقا تكوينهنّ فهي عازمة على متابعة تعليمهنّ هذه الذاكرة الشعبية للمحافظة عليها.
ورغم التشجيع الذي تتلقاه عمرة من المندوبية الجهوية للصناعات التقليدية بسيدي بوزيد، فإنها تنتظر المزيد، خاصّة أنها إلى الآن لم تحصل على ترخيص لحصاد السمار من منطقتها لتوفير عناء دفع نفقات شرائه ونقله من الجنوب.
خطة حكومية
خلال فبراير/شباط الماضي، أعطى رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد إشارة انطلاق تنفيذ الخطة الوطنية لتنمية قطاع الصناعات التقليدية للفترة بين 2018 و2022.
ومن أهداف الخطة إحداث مواطن الشغل والمساهمة في التنمية المستدامة المتوازنة بالجهات والمحافظة على التراث، حيث وضعت قائمة بـ25 مشروعا بقيمة مالية قدرت بخمسين مليون دينار (نحو 17 مليون دولار).
وتتطلع عمرة وغيرها من المبدعات العصاميات في الحرف التقليدية في المناطق الداخلية التونسية إلى إقامة مشاريعهن الخاصة، التي تضمن لهنّ مستوى عيش كريم، خاصة أنهن يتحمّلن أعباء عائلاتهنّ.