"في يوم الأحد تاسع عشر المحرم (سنة 762هـ/1361م) أحضِر حسن بن الخياط -من محلة الشاغور- إلى مجلس الحكم المالكي (= قاضي المالكية) من السجن وناظَرَ (= جادَلَ) في إيمان فرعون، وادُّعِي عليه بدعاوى لانتصاره لفرعون -لعنه الله- وصدَّق ذلك باعترافه"!!
جرت وقائع هذه المحاكمة العجيبة في القاهرة المملوكية خلال القرن الثامن الهجري/الـ14م، بناءً على شبهة خيالية في ذهن مدعيها؛ كما يقول الإمام ابن كثير (ت 774هـ/1372م) الذي تابع وقائع هذه المحاكمة ونقل خبرها في كتابه "البداية والنهاية".
ورغم مصادمة هذه القضية للثوابت الدينية؛ فإن ذلك لم يمنع قضاة المسلمين من الاستماع لدعوى صاحبها، ووضعها على بساط البحث والجدل والمرافعة، والاستماع لحججه والحجج المضادة لها، إلى أن تم الفصل فيها بحكم قضائي نهائي.
ولعل "محاكمة فرعون" وفتح ملفه الاعتقادي أمام منصة القضاء الإسلامي مدخلا مناسبا يمكنه أن يفتح لنا بابا واسعا لدراسة نظام القضاء في الإسلام وما كان عليه من مهنية واستقلالية، والتأمل في فلسفته التشريعية وتجربته العدلية بسبر أعماق مجتمع العدالة وآليات عمله ووظائفه، ومكانته في البناء السياسي والإداري داخل النظام الإسلامي عبر القرون.
وذلك ما يسعى إليه هذا المقال الذي يهتم برصد ملامح تاريخ النُّظُم المهنية والإدارية لمؤسسة القضاء في الإسلام، وليس منظومتها الفقهية والقانونية.
فإذا كان هرم السلطة التنفيذية -في موقع الخلافة والسلطنة- قد مثّل نقطة ضعف في محطات من تاريخ الحضارة الإسلامية، فإن القضاء ظل يمثل محور ارتكاز استقرار المجتمعات واستنهاض الدول في معظم حقب هذا التاريخ، بعيون باتت ساهرة على تطبيق الشريعة وسريان حمايتها لحقوق الأفراد والجماعات، دون تمييز بينهم على أي اعتبار لأن العدل قيمة مطلقة لا تقبل التحيز والتلون.
ومنذ البداية؛ اكتسى القضاء حُلّة الجلال والنزاهة؛ فكان القضاة –في أغلب الأحيان- يأخذون الجائرين (حكّاما ومحكومين) بالقوة إلى ساحة العدالة، وكان القاضي المسلم يؤدي عملا مرموقا مهابا، يعيش حياة كريمة مستقلا، وهو مستقل في إدارة قطاعه كاستقلاله في الرأي والحكم. وهو ما مثّل -في الذاكرة الجمعية- نموذجا ملهما لاستقلال القضاء الإسلامي وسيادته، وسلوكا مذكّرا بضرورة استدامة الممانعة ضد تدخل السلطة التنفيذية في أعمال السلطة القضائية.
ولم تكن مؤسسة القضاء الإسلامية جهة فصل في الخصومات والنزاعات فقط؛ بل كانت -في عمقها- مؤسسة علمية من حيث أصولها وتكوينها، ومن حيث كذلك علاقتها بالفقهاء والفكر الأصولي المنهجي، لاسيما أن معايير اختيار القضاة كان عمادها -في الأغلب- انتخاب الأكفأ والأورع من الجماعة العلمية، ولعل هذا الملمح العلمي جعل القضاة هم طليعة التجديد والاجتهاد في النوازل والأزمات، عبر المعمل القضائي الذي يجري من خلاله واقعيا تنفيذ الفتاوى والاجتهادات الفقهية النظرية.
وقد كان القضاء في الإسلام سبّاقا لعصرنا في أنظمة كثيرة؛ فعرف الاختصاص القضائي مكانيا وموضوعيا، والدوائر التي تباشر اختصاصات جزئية مثل المحاكم الأسرية والتجارية والقضاء العسكري، وكذا أهم مشتملات العمل القضائي المتقدم مؤسسيا من حيث المباني، ونظم الأرشفة الدقيقة، والموظفين الإداريين والأمنيين، والموارد المالية الهائلة، والأجهزة المساندة في ضبط سير العدالة من شهود ومحامين.
ويعدّ نظام "الشورى القضائية" –الذي يتكون من فقهاء خبراء يستعين بهم القضاة وغيرهم في تقديم المشورة القضائية- من أعظم وأجلّ ما قدمته فلسفة القضاء الإسلامي للتجربة القضائية العالمية؛ فقد أثّر هذا المبدأ العدلي في النظام القضائي الغربي -وخصوصا الأنجلوسكسوني منه- عبر نظام "هيئة المحلفين"، التي هي تطوير لنظام "الشورى القضائية" وتقاليد قضائية أخرى تعرضنا لها بالبيان في متن المقال.
ويبقى الأساس الذي يقوم عليه القضاء في الإسلام هو التنوع الوظيفي والمذهبي بل والديني، وهنا تبلغ الحضارة الإسلامية -في عرفها القضائي- مكانة سامية لم تلحقها فيها بعدُ الأمم وأنظمتها القضائية الحديثة؛ حيث عرفت هذه الحضارة المحاكم العدلية الخاصة بغير المسلمين، والتي كانت تتحاكم إليها الطوائف الدينية من اليهود والمسيحيين وغيرهم، تحت إشراف قضاتهم الذين بهم يثقون ووفق تشريعاتهم التي بها يدينون!!
التأسيس الهادي
اجتمعت لرسول الله ﷺ الولايات العامة كلها من تبليغ الرسالة عن الله إلى تولي الإمامة العظمى والحكم بين الناس قاضيا، وذلك بوصفه "إمامَ الأمَّة والمنفردَ بالرئاسة الدينية والدنيوية"؛ وفق تعبير الإمام أبي الوليد الباجي (ت 474هـ/1081م) في كتابه ‘المنتقَى شرح الموطَّأ‘.
وقد جمع النبي ﷺ لأمته في تبيان أسُس القضاء -الذي ربما كان أولى وظائف الدولة الإسلامية تأسيسا- بين التعليم النظري والتطبيق العملي؛ فبلّغهم ما نزل به القرآن من إيجابٍ للعدل المطلق بين الناس، وما يستلزمه ذلك من حثٍّ على توثيق التعاملات بينهم، وحمايةٍ لموثّقيها وشهودها من الأذى والضرر، وحضٍّ على إقامة الشهادة لله دون تأثُّر بدافع قرابة أو عداوة، وبيانٍ لصفات الشهود الذين تثبت بهم البينات.
ثم أوضح لهم أصول الادعاء كما في الحديث «لو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى رِجَالٌ أموالَ قَوْمٍ ودِماءَهُمْ، لَكِنِ البَيِّنَةُ على المُدَّعِي والْيَمينُ على من أَنْكَرَ». وهو "حديث حَسَن، رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في ‘الصحيحين‘"؛ طبقا للإمام ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ/1393م) في ‘جامع العلوم والحكم‘.
كما أوقد في نفوس المؤمنين جذوة يقظة الضمير الإيماني وعدم الاغترار بالمهارة في الخصومة على حساب إنصاف الحق، كما في قوله ﷺ: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، فلعلّ بعضكم أن يكون ألحنَ بحُجّته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيتُ له بشيء من حقّ أخيه فلا يأخذنّ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النّار»؛ (موطأ مالك).
وولَّى ﷺ في حياته قضاةً من أصحابه فعلّمهم أصول القضاء، كما في الحديث: "عن عليّ بن أبي طالب (ت 40هـ/661م) قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن قاضيا وأنا حَدَثُ السنّ ولا علم لي بالقضاء، فقال: «إن الله سيهدي قلبك ويثبّت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضينّ حتى تسمع من الآخر كما سمعتَ من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء»، قال: فما زلتُ قاضيا أو ما شككتُ في قضاء بعدُ"؛ (سُنَن أبي داود).
وكان عليٌّ ببركة هذا الدعاء النبوي أقضى أصحاب النبي ﷺ كما في ’الاستيعاب’ لابن عبد البر، ومن قضاته ﷺ المبتعثين إلى اليمن معاذ بن جبل (ت 18هـ/640م) الذي اختبره النبي ﷺ في أصول التشريع والقضاء، فلما رأى استيعابه لها قال ﷺ: «الحمد لله الذي وفّقَ رسولَ رسولِ اللهِ لما يُرْضي رسولَ الله»؛ (سُنَن أبي داود).
وقد ذكر القاضي وكيع الضَّبي (ت 306هـ/918م) -في ‘أخبار القضاة‘- أنه "لما استُخْلف أبو بكر (الصدّيق ت 13هـ/635م) قال لعمر (الفاروق ت 23هـ/645م) ولأبي عبيدة ابن الجراح (ت 18هـ/640م): إنه لا بدّ لي من أعوان؛ فقال له عمر: أنا أكفيك القضاءَ، وقال أبو عبيدة أنا أكفيك بيتَ المال (= الخزانة العامة)". وفي هذا النص دلالة بالغة على إدراك الصحابة لمكانة القضاء المتميزة ضمن أجهزة الحكم المركزية الضرورية لدولة الإسلام الوليدة.
ولئن كان الخليفة الصدّيق شغلته حروب الردة عن التوسع المؤسسي والجغرافي للدولة الإسلامية؛ فإن خليفته وقاضيه عمر الفاروق فتح أقطارا عديدة وأسَّس أمصارا جديدة، وجعل القضاء ولاية خاصة عيّن لها قضاة بنفسه، وأرسل إلى وُلاته كُتُباً تتضمن توجيهات مؤسِّسة في مجال أصول التقاضي ومبادئ العدل والمساواة بين الخصوم.
وعن إسهام الفاروق التاريخي في تطور جهاز القضاء الإسلامي نظريا وعمليا؛ يقول المؤرخ والقاضي ابن خلدون (ت 808هـ/1405م) -في ‘المقدمة‘- إن القضاء "كان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم، ولا يجعلون القضاء إلى من سواهم. وأولُ مَن دفعه إلى غيره وفوّضه فيه عمرُ..؛ فولَّى أبا الدرداء (ت 32هـ/654م) معه بالمدينة، وولَّى شُرَيْحاً (ابن الحارث الكندي ت 78هـ/698م) بالبصرة، وولَّى أبا موسى الأشعري (ت 42هـ/661م) بالكوفة، وكتب له في ذلك الكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكامُ القضاة، وهي مستوفاة فيه".
تراتيب إدارية
كان للقضاة في شرق العالم الإسلامي وغربه صلاحيات تدخل ضمن اختصاصهم القضائي ويكمل بعضها بعضا، وقد تضيق أو تتسع تبعا لاختلاف هيكلة النُّظم القضائية بين الأقاليم والدول، لكنها كلها تعود إلى إحقاق الحق وبسط العدل ونبذ الظلم والجور وحفظ النظام العام.
وفي ذلك يقول ابن خلدون متحدثا عن تطور دائرة الاختصاص القضائي للقضاة إن "القاضي إنما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين الخصوم فقط، ثم دُفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التدريج بحسب اشتغال الخلفاء والملوك بالسياسة الكبرى، واستقر منصب القضاء -آخرَ الأمر- على أنه يَجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاءَ بعض الحقوق العامة للمسلمين".
وقد ظل قضاة يوسعون دوائر اختصاص نظرهم ليضمنوا هيمنة العدالة على أكبر قدر من مرافق مصالح الناس. ففي مصر؛ نجد أن القاضي المالكي هارون بن عبد الله الزهري (ت 228هـ/843م) -حين قدم إليها سنة 217هـ/832م معيَّنا على قضائها من قِبل الخليفة المأمون العباسي (ت 218هـ/833م)- كان أول ما فعل أنه "جلس في المسجد الجامع ولم يُبق شيئاً في أمور القضاء إلا شاهده بنفسه، وحضره مع أهل مصر"؛ طبقا للقاضي عياض المالكي (ت 544هـ/1149م) في ’ترتيب المدارك’.
ويضيف أن الزهري "تقصّى الأحباس، وأموالَ الأيتام ووقف على وجوهها بنفسه وحاسب عليه، وضرب رجلاً على حال رآه منه في مال يتيم، كان ينظر له، وأطافه، وأورد أموالَ الغُيَّب (= الغائبين) ومَنْ لا وارث له بيت المال، وسجّل بجميع ذلك" قائمة احتفظ بها عنده.
وعندما تولّى مدوِّن المذهب المالكي سحنون بن سعيد (ت 240هـ/855م) القضاء في تونس وسّع سحنون صلاحيات القضاة، وافتكّ من أنياب الولاة والأمراء مساحات كانت حكرا عليهم وجعلها تابعة للقضاة؛ فـ"أول ما نظر سحنون في الأسواق، وإنما كان ينظر فيها الولاة دون القضاة، فنظر فيما يصلح من المعاش وما يغش من السلع..، وهو أول من نظر في الحسبة من القضاة وأمر الناس بتغيير المنكر"، وهو أول من "جعل الودائع عند الأمناء وكانت قبلُ في بيوت القضاة"؛ حسب عياض.
وفي نهاية القرن الثامن الهجري/الـ14م؛ رصد مؤرخ قضاة الأندلس ومفتيها القاضي أبو الحسن النُّبَاهي الجُذَامي (ت 792هــ/1390م) -في ’المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا’- عشرَ مهام كانت موكولة إلى القضاة ببلاده الأندلس؛ فهو يؤكد أولا سيادة القضاء واستقلالية القضاة بقوله إن "حدود القضاة -في القديم والحديث- معروفة، لا يعارضون فيها ولا تكون إلى غيرهم من الحكام (= الولاة)".
ثم يورد الاختصاصات العشرة للقضاة التي "أحدها: قطع التشاجر والخصام من المتنازعين إما بصلح.. وإما بإجبار بحكم..؛ والثاني: استيفاء الحق لمن طلبه.. إما بإقرار أو ببينة؛ والثالث: إلزام الولاية للسفهاء والمجانين، والتحجير على المفلس حفظا للأموال؛ والرابع: النظر في الأحباس (= الأوقاف) والوقوف والتفقد لأحوالها وأحوال الناظر فيها؛ والخامس: تنفيذ الوصايا على شروط الموصي إذا وافقت الشرع".
ويضيف أن الاختصاص "السادس: تزوج الأيامى من الأكفاء إذا عُدم الأولياء وأردن التزويج. والسابع: إقامة الحدود..؛ والثامن: النظر في المصالح العامة..؛ والتاسع: تقصي [أحوال] الشهود وتفقد الأمناء..؛ والعاشر: التسوية في الحكم بين القوي والضعيف، وتوخي العدل بين الشريف والمشروف".
هيكلة متدرجة
تطورت المؤسسة القضائية في الإسلام بمرور الزمن عن بساطتها الأولى في صدر الإسلام، وتنوعت مراتبها وأشكالها تبعا للقضايا التي يُتصور حدوثها، وكانت أعلى مراتب هيكلها الإداري "قضاء القضاة" الذي يشبه اليوم وزارة العدل أو المجلس الأعلى للقضاء، والذي كان مسؤولا عن كل ما يتعلق بالقضاة ويندرج تحت شؤون القضاء ومحاكمه.
وقد استحدث العباسيون هذا المنصب في خلافة هارون الرشيد (ت 193هـ/809م)، فعينوا الإمامَ الحنفي أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم البَجَلي (ت 182هـ/798م) "قضاءَ الممالك، فكان يُتَولَّى القضاءُ في كل مصرٍ مِنْ قِبَله، وهو أول من قيل له: «قاضي القضاة»"، كما كان يلقَّب "قاضي الآفاق"؛ طبقا للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) في كتابه ‘رفع الإصِرْ‘.
ويعرِّف مؤرخ النُّظُم السلطانية أبو العباس القلقشندي (ت 821هـ/1418م) -في ‘صبح الأعشى‘- وظيفة قاضي القضاة فيقول إن "موضوعها التحدّث في الأحكام الشرعية وتنفيذ قضاياها، والقيام بالأوامر الشرعية، والفصل بين الخصوم، ونصب النوّاب للتحدّث فيما عَسُر عليه مباشرته بنفسه". ثم يحدد مكانتها البروتوكولية فيصفها بأنها "أرفع الوظائف الدينية وأعلاها قدرا وأجلّها رتبة".
وفي الأندلس الذي كان قاضي القضاة فيه -وفي الغرب الإسلامي عموما- يُعرف بـ"قاضي الجماعة". ويذكر النُّبَاهي -في ’المرقبة العليا‘- أن وظائف الولايات الرسمية بالأندلس "أولها القضاء، وأجله قضاء قاضي الجماعة".
ويرجّح النباهي -في ’المرقبة العليا’- أن المقصود بـ"قاضي الجماعة" هو ما عُرف في المشرق بقاضي القضاة "وإضافة لفظ القضاء إلى الجماعة، جرى التزامه بالأندلس منذ سنين إلى هذا العهد، والظاهر أن المراد بالجماعة جماعة القضاة، إذ كانت ولايتهم قبل اليوم غالبا من قبل القاضي بالحضرة السلطانية، كائنا من كان؛ فبقي الرسم كذلك. وأما قاضي الخلافة -بالبلاد المشرقية- فيُدعَى بقاضي القضاة".
ومن السوابق التنظيمية التي كان لها تأثيرها اللاحق في نُظمنا القضائية المعاصرة؛ ما استقر عليه العرف القضائي بمنطقة الغرب الإسلامي من تولية قاض خاص ببعض مجالات التقاضي، فكان بذلك يمثل بمفرده دائرة تحاكم مختصة، وهو ما يعرف في القضاء المعاصر بـ"الاختصاص الموضوعي" و"الاختصاص المكاني".
فقد استقرّ عند الفقهاء أنه "جاز تَعَدُّدُ مستقلٍّ من القضاة.. خاصٍّ بناحية، أو خاصٍّ في نوع من أنواع الفقه، كقاضي المياه والأنكحة"؛ كما في كتاب ‘جواهر الدرر‘ لشمس الدين التَّتَائي المالكي المصري (ت 942هـ/1535م). فمثلا "قاضي الأنكحة" -المذكور في هذا النص- كان يقوم بما يدخل اليوم في اختصاص "محكمة الأسرة" من فصل في المنازعات الأسرية.
وعن مكانة قاضي الأسرة هذا في النظام القضائي الإسلامي؛ يفيدنا المؤرخ التونسي ابن اللؤلؤ الزركشي (ت بعد 894هـ/1489م) -في كتابه ‘تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية‘- بأنه "جرت العادة بأن قاضي الأنكحة هو الذي يتولى قضاء الجماعة"، أي يكون عادة قاضيا للقضاة عند شغور منصب متوليه، فيتسنم بذلك أعلى هرمية التنظيم القضائي بالبلاد.
ويعلل ذلك الاختيارَ أبو العباس ابن القاضي المكناسي (ت 1025هـ/1616م) -في ’درة الحجال في أسماء الرجال‘- بأنه "جرى العرف بتونس والأندلس وغيرهما.. بأن.. قاضي الأنكحة.. كالنائب عن قاضي الجماعة"، فهو إذن في الرتبة الثانية في الهرمية القضائية، وتلك مكانة تليق بمكانة الأسرة في التشريع الإسلامي.
ومن أبرز من تولى منصب "قاضي الأنكحة" في تونس الشيخ أبو علي عمر بن قداح الهواري (ت 734هـ/1333م) الذي تحدث عنه المؤرخ محمد بن عثمان السنوسي (ت 1318هـ/1900م) في كتابه ‘مسامرات الظريف بحسن التعريف‘؛ فقال إنه "حافظ المذهب المالكي ومفتيه، ولي قضاء الأنكحة وتدريس المدرسة الشماعية، ثم تقد لخطة قضاء الحاضرة (= العاصمة تونس) في رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبعمئة (733هـ/1333م)".
ويبدو أن منصب "قاضي الأنكحة" استُحدث في تونس خلال النصف الثاني من القرن السابع الهجري/الـ13م؛ ضمن إعادة هيكلة لقطاع القضاء في الإسلام تضمنت أيضا "قاضي المعاملات" الذي كان مختصا بفض المنازعات المتعلقة بالأنشطة التجارية والمالية، وهو اسم جديد لـ"قاضي السوق" الذي كان معروفا بالبلاد الإسلامية منذ القرن الثاني. ومنهم "قاضي الأهلة" الذي كان يتولى إجراءات ثبوت أهلة الشهور القمرية ذات المواسم الدينية من فرض صوم ومناسك حج ومناسبات أعياد.
وعن الريادة التونسية في تعدد المحاكم؛ يفيدنا مؤرخها الأديب محمد بن عثمان السنوسي (ت 1318هـ/1900م) -في ‘مسامرات الظريف‘- بأن سلطان الدولة الحفصية بتونس محمد المستنصر الحفصي (ت 675هـ/1274م) "بخُطَّة (= وظيفة) القضاء بتونس، فجعل أربعا من القضاة: قاضي الأهلة، وقاضي الأنكحة، وقاضي المعاملات، وقاضي الجماعة وهو بمنزلة قاضي القضاة بالمشرق".
تعددية مذهبية
كما عرف المذهب المالكي -وفقا لنص التَّتَائي المتقدم- ما كان يسمى "قاضي المياه" الذي يبدو أنه مختص بفض النزاعات المتعلقة بالريّ والسقْي، وكذا من عُرفوا بـ"قضاة البوادي" الذين كانوا يكلفون بفض الخصومات في القرى الصغيرة والمناطق غير الحضرية.
ومن القضاة المختصين الذين عرفهم النظام القضائي الإسلامي منذ وقت مبكر "قاضي الجُنْد"، وهو قاض فقيه كان يرافق الجيوش ليتولى الفصل في نزاعات المنتسبين إليها، وهي مهمة تضاهي بعض صلاحيات ما يعرف اليوم بالقضاء العسكري. بل إن ابن خلدون يذكر أن الخلفاء الأولين "ربما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد في عساكر الصوائف"، أي جيوش الغزو في فصل الصيف.
ويبدو أن هذا المنصب القضائي وُجد مبكرا في نهاية القرن الهجري الأول/السابع الميلادي أو مطلع الذي يليه؛ فقد ذكر المؤرخ أبو يوسف الفَسَوي (ت 277هـ/888م) في كتابه ‘المعرفة والتاريخ‘- أنه "كان أسد بن وداعة (ت 136هـ/754م) قاضي الجُند بحمص". ومنذ القرن الرابع الهجري/الـ10م -على الأقل- أصبح متولي هذه الوظيفة يسمى "قاضي العسكر"؛ كما نجده في بعض قصص الأديب أبي الحسن الشابُشْتي (ت 388هـ/999م) في كتابه ‘الديارات‘.
ومع تلاشي سلطة الخلفاء العباسيين، وهيمنة قادة الجيوش على شؤون الحكم في العالم الإسلامي؛ تعاظم دَوْر "قاضي العسكر" وارتفعت مكانته في دوائر السلطة ولاسيما في الدولة المملوكية، حتى إن القلقشندي يجعله في الرتبة الثانية بعد قاضي القضاة، واصفا منصبه بأنه "وظيفة جليلة قديمة... وموضوعها أن صاحبها يحضر بدار العدل مع القضاة..، ويسافر مع السلطان إذا سافر؛ وهم ثلاثة نفر: شافعيّ، وحنفيّ، ومالكيّ، وليس للحنابلة منهم حظ".
ولم يسلم القضاء من حالة التعصب والانشطار المذهبي التي عرفها العالم الإسلامي، فكان من مظاهر توظيف الدولة المملوكية للمذاهب وعلمائها في ترسيخ شرعيتها أن استحدثت نظاما قضائيا لا مركزي المذهب، على خلاف ما كان سائدا في الدولة الأيوبية من هيمنة مطلقة للمذهب الشافعي على شؤون القضاء، مع أنه في العهد المملوكي ظل منصب "كبير القضاة" لا يُسند إلا إلى أحد قضاة الشافعية، حتى جاء العثمانيون فأصبح هذا المنصب بكل قُطْر امتيازا حصريا للحنفية، ويُعيَّن للمذاهب الأخرى قضاتها حسب انتشارها الجغرافي.
وعن بداية استحداث نظام القضاء على المذاهب الأربعة؛ يخبرنا شهاب الدين النُّويْري الشافعي (ت 733هـ/1333م) -في ‘نهاية الأرب‘- بأنه استجد في عهد السلطان المملوكي الظاهر بِيبَرس البُنْدُقْداري (ت 676هـ/1277م)؛ ففي "ذي القعدة سنة ثلاث وستين وستمئة (663هـ/1265م) فوّض السلطانُ القضاءَ بالقاهرة والديار المصرية لأربعة قضاة، لكل مذهب قاضٍ".
وقد أورد السيوطي (ت 911هـ/1505م) -في ’حسن المحاضرة‘- لائحة بقضاة المذاهب الأربعة منذ ذلك التاريخ المذكور وإلى أيامه؛ فأحصى من الحنفية أكثر من 42 قاضيا، ومن المالكية حوالي 30 قاضيا فيهم العلامة ابن خلدون (ت 808هـ/1405م)، ومن الحنابلة 19 قاضيا.
ومع تعدد وتنوع القضايا المرفوعة أمام قضاة المسلمين في تاريخنا؛ فإن أكثرها جدلا هي تلك التي كانت تدخل -حقا أو مناكفة- في إطار ما نسميه اليوم محاكمات الفكر والرأي، والتي خضع لها المئات من الفقهاء والأدباء والفلاسفة والمتصوفة.
وإذا كانت أشهر هذا النوع من المحاكمات هي تلك التي امتدت نحو خمس عشرة سنة، وعُرفت تاريخيا بقضية "القول بخَلْق القرآن"؛ فلعل أطرفها وأبلغها دلالة على صيانة حق المتهم في المحاكمة -مهما كانت خطورة الرأي الذي يعبّر عنه ومصادمته للمستقر في عقائد المسلمين- هي "محاكمة إيمان فرعون"!!
فالإمام ابن كثير (ت 774هـ/1372م) يروي لنا -في ‘البداية والنهاية‘- قصة هذه المحاكمة الغريبة، وقد كان معاصرا لها؛ فيقول إنه "في يوم الأحد تاسع عشر المحرم (سنة 762هـ/1361م) أحضِر حسن بن الخياط -من محلة الشاغور- إلى مجلس الحكم المالكي (= قاضي المالكية) من السجن وناظر في إيمان فرعون، وادُّعِي عليه بدعاوى لانتصاره لفرعون -لعنه الله- وصدَّق ذلك باعترافه"!!
ويعلق ابن كثير على مرافعة الرجل قائلا إنه "لا يقيم دليلا ولا يحسنه، وإنما قام في مخيلته شبهةٌ يَحتجّ عليها بقوله [تعالى] إخبارا عن فرعون حين أدركه الغرق.. [أنه قال]: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}؛ (يونس/الآية: 90)". ثم كانت خاتمة هذه المحاكمة الغريبة -التي استمرت في ثلاث جلسات- أن الرجل صرّح "بالتوبة فيما يظهر، فنُودي عليه في البلد ثم أطلِق"!!
رواتب مجزية
القضاء بصفته منصبا عاما يكرّس صاحبُه حياتَه لإنصاف عموم الناس، فيحفظ حقوقهم ويبسط بيهم العدل؛ ولذا تقتضي خطورة منصبه أن يُكْرَم مَن يقوم بأعبائه، فيقدّم له ما يكفيه همَّ معاشه مقابل خدماته الجليلة التي تستنزف طاقاته وأوقاته، وما يكفّه عن التطلع إلى الرشوة المؤدية إلى فساد القضاء وضياع الحقوق.
وقد ألمح النبي ﷺ للصحابي معاذ بن جبل -لما أرسله إلى اليمن قاضيا لأهلها- بجواز أخذ الأجر على القضاء، وذلك حين قال له بعد أن استنزفت ديونُه مالَه: "لعل الله يُجبرك (= يعوّضك) ويؤدّي عنك دَينَك"؛ (رواه الدارَقُطْني وصححه الحاكم).
ومن الهدي الراشد لعمر بن الخطاب كتابه إلى أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل حين بعثهما إلى الشام، الأول أرسله واليا والثاني قاضيا ومفتيا؛ فقال: "انظروا رجالاً مِن صالحي مَن قِبَلكم فاستعملوهم على القضاء، وارزقوهم وأوسعوا عليهم من مال الله عز وجل"؛ وفقا للإمام ابن عساكر (ت 571هـ/1174م) في ’تاريخ دمشق‘.
وقد عبّر الفقهاء -في تكييفهم الفقهي للمستنَد الشرعي لراتب القاضي- عن ضرورة كفاية القضاة همَّهم المعاشي بقولهم إن القاضي "محبوس بحق العامة فكان عاجزًا عن الكسب، فلو لم يأخذ كفايتَه -لنفسه وعياله ومَنْ يمونهم من أهله وأعوانه- احتاج أن يأخذ من أموال الناس، فيأخذ الرشوة وذلك حرام"؛ كما في ’شرح أدب القاضي للخصّاف’ لبرهان الأئمة ابن مازة البخاري (ت 536هـ/1141م).
ولذا كانت العادة المتَّبَعة في الأندلس أن من الشروط الفقهية لتولية القاضي أنْ يُعطَى من المال ما يكون به غنيا قبل تسلمه منصبه، فهذا الإمام أبو الوليد الباجي (ت 474هـ/1081م) يقرر -في كتابه ‘المنتقى‘- أن القاضي "لا ينبغي أن يجلس [للقضاء] حتى يُغْنَى ويُقْضَى عنه دَينُه… ليتفرغ للقضاء، وليكون أسلم له من مقارفة ما يُخِلُّ بحاله" من الرشوة المحرمة والهدايا المشبوهة.
وفي عصور الإسلام المختلفة كان للقضاة رواتب محددة تختلف من عصر لآخر، حسب مكانة القاضي وحدود اختصاصه، وأحوال الدولة المالية والاقتصادية. وهو ما يمكن التمثيل له بمعطيات رقمية عن رواتب قضاة مصر في عهود سياسية مختلفة.
ففي أوْج قوة الدولة العباسية عُيِّن الفضل بن غانم المَرْوَزي الخُزَاعي (ت 227هـ/842م) قاضيا بمصر سنة 178هـ/794م "وأجرى عليه [واليها] في الشهر مئة وثمانية وستين دينارا (= اليوم 30000 دولار أميركي تقريبا). وهو أول من أُجرِي عليه هذا القدر بمصر"؛ حسب ابن حجر في ’رفع الإصر‘.
ويحدثنا الذهبي -في ‘سير أعلام النبلاء‘- عن راتب ضخم كانت الدولة الإخشيدية بمصر تدفعه لقاضيها المُهاب وذي الصلاحيات الواسعة محمد بن عبدة العَبّاداني البصري (ت 313هـ/925م)؛ فيقول إن الأمير خُمَارَوَيْه ابن طولون الإخشيدي (ت 282هـ/896م) كان "يُعظّمه ويُجلّه، ويُجري عليه في الشهر ثلاثة آلاف دينار (= اليوم 600 ألف دولار أميركي تقريبا)". ويضيف أن العَبّاداني بنى دارا "أنفق عليها مئة ألف دينار (= اليوم 20 مليون دولار أميركي تقريبا)، سوى ثمن مكانها"!!
وفي الدولة الفاطمية وصل راتب قاضي القضاة بمصر إلى "مئة دينار (= اليوم 20 ألف دولار أميركي تقريبا) في الشهر"؛ طبقا للقلقشندي في ’صبح الأعشى‘. وأما في وريثتها الدولة الأيوبية فإن رواتب القضاة العاديين -في القرن السادس الهجري/الـ12م- كانت "أربعين دينارا"؛ طبقا لابن حجر في ’رفع الإصر‘.
ثم ارتفع مرتبهم قليلا في الدولة المملوكية كما يفيدنا به المؤرخ تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ’المواعظ والاعتبار’- بقوله إن "معلوم القضاة والعلماء أكثره خمسون دينارا في كلّ شهر، مضافا لما بيدهم من المدارس التي يستدرون من أوقافها".
وفي مقابل هؤلاء الأعلام؛ ثمة مئات القضاة من السلف والخلف تعففوا عن أخذ الرواتب على القضاء، مبالغة منهم في الإخلاص وتورُّعا عن الشُّبه، أو استغناء بما فتح الله عليهم به من أموال كانت تأتيهم من موارد أخرى. ولذا كثيرا ما نطالع في ترجمة أحدهم أنه "لم يأخذ على القضاء"!!
فقد ذكر وكيع الضبي -في ’أخبار القضاة‘- طائفة من أئمة التابعين ومن بعدهم كانت تلك عادتهم، وفي مقدمتهم الإمام الحسن البصري (ت 110هـ/729م) الذي أرسل إليه أمير البصرة عَدي بن أرْطَاة الفَزَاري (ت 102هـ/721م) "بمئتيْ درهم، فردّها فزاده، فقال: الحسن: إني لم أردها استقلالاً لها ولكني لا آخذ على القضاء أجراً"!!
وتواصلت في العصور اللاحقة ظاهرة الاستنكاف عن الأجور لدى كثير من قضاة المسلمين؛ فهذا قاضي القضاة أبو بكر محمد بن المظفر الحموي الشافعي (ت 488هـ/1095م) كان "من أزهد القضاة وأورعهم وأتقاهم لله، وأعرفهم بالمذهب [الشافعي]...، لم يأخذ على القضاء رزقاً ولا غيَّر ملبسه" إلى زي القضاة الرسمي؛ كما في كتاب ’العِبَر‘ للذهبي (ت 748هـ/1347م) الذي ترجم فيه أيضا لشيخ الإسلام ابن رزين العامري الشافعي (ت 680هـ/1281م) فقال إنه "ولي قضاء القضاة فلم يأخذ عليه رزقًا تدينًا وورعًا"!!
أطقم مساندة
يحتاج القاضي -في عمله المتعِب والمتشعِّب- إلى مساعدين أكفاء لضبط إجراءات التقاضي، وتسجيل أقوال الشهود وتنظيم دخول المتخاصمين وضبط مرافعاتهم، وهؤلاء المساعدون هم المسمَّوْن قديما بـ"أعوان القاضي".
وقد تكلم الفقهاء على الشروط الواجبة التحقق في هؤلاء الأعوان، وبينوا بالتفصيل مشمولات وظائف كل منهم المطلوب منه القيام بها؛ فهذا ابن العطار الأموي القرطبي (ت 399هـ/1010م) يقول -في كتابه ’الوثائق والسجلات‘- إنه "يجب أن يكون أعوان القاضي في زيّ الصالحين وأحوال الناسكين، مستمسكين بهديه (= القاضي) وحاله، فإنه يُستدل بأحوال المرء بصاحبه وغلامه (= مساعده)".
ويؤكد ابن عبدون الإشبيلي (ت بعد 461هـ/1070م) -في رسالته عن ’الحسبة’- أن القاضي لا يستعمل "من الأعوان مَنْ كان.. غَضوباً ولا مِهْذاراً كثير الكلام واللَّدَدِ (= الخصومة)". ويفيدنا بأن عدد الأعوان في مدينته إشبيلية كان يبلغ عشرة موظفين في ديوان القاضي.
ومن أهم أعوان القاضي إضافة إلى "الشرطة" التي هي القوة التنفيذية لتطبيق أحكامه: "الكاتب" الذي يُدْعى اليوم "كاتب المحكمة" ويتبع إدارة "قلم المحكمة"، ويعدّ من أهم أركان الجهاز القضائي لمحورية وظيفته في إجراءات التقاضي، من لحظة رفع الدعوى إلى حين إصدار القاضي حكمه النهائي فيها.
ولذلك أوجب كثير من الفقهاء على القاضي أن يتخذ كاتبا "يكتب له ما يقع في مجلسه بين الخصوم"، مشترطين فيه أن يكون من أهل "العدالة والعقل والرأي والعفة، وإن لم يكن عالما بأحكام الشرع فلا بد أن يكون عالما بأحكام الكتابة"؛ طبقا لابن فرحون المالكي (ت 799هـ/1397م) في ‘تبصرة الحكّام‘.
ويفيدنا الذهبي -في ‘السير‘- بأن قاضي الأمويين بمصر سليم بن عِتْر التُّجِيبي (ت 75هـ/695م) هو أول من وثّق أحكامه القضائية، وسبب ذلك أنه "اختُصِم إلى سليم بن عِتْر في ميراث، فقضى بين الورثة، ثم تناكروا [في الحكم] فعادوا إليه، فقضى بينهم وكتب كتابا بقضائه وأشهد فيه شيوخ الجُند، فكان أولَ من سجّل بقضائه".
ومنذ القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي؛ أخذت جهود القضاة تتجه نحو إتقان فن التوثيق القضائي، وإحكام أساليب كتابة السجلات وضبطها وأرشفتها على نحو دقيق يضاهي أساليب الأرشفة المكتبية المعاصرة.
فهذا الإمام عز الدين ابن عبد السلام السلمي (ت 660هـ/1262م) يقدم لنا توضيحا دقيقا لما على كاتب القاضي فعله في توثيق إجراءات التقاضي وأرشفتها؛ فيقول -في ‘الغاية في اختصار النهاية‘- إن على القاضي أن "يأمره أن يكتب ما يجري في المجلس بين الخصوم، ويذكر في المحضر: الدعوى والبينة، والإقرار والإنكار، والأسماء والحُلَى (= ملامحهم الشخصية) إن احتاج إليها، ويبالغ في تفصيل ما يكتبه".
ويضيف أن على كاتب القاضي أن يضبط بدقة أرشفة الوقائع بأن "يجعل محاضر كل أسبوع في إِضْبارة (= ملف)، ويكتب عليها اسم ذلك اليوم موضَّحا، ويجعل محاضر الأسبوع في قِمَطْر (= محفظة)، ويكتب عليه ما يوضّح التاريخ، وإن ختم على كل قمطر وإضبارة كان حسنا، ويجعل محاضر الشهر في قمطر، ويفعل ذلك في السنة ويجعلها (= محاضر السنة) في خريطة (= وعاء جلدي)، ويبالغ في التمييز [بينها]. وحَسَنٌ أن يكتب نسخة للخصم، ونسخة [تبقى] في ‘ديوان الحكم‘"، أي مقر التقاضي.
ويخبرنا الإمام ابن أبي زيد القيرواني (ت 386هـ/997م) -في كتابه ‘النوادر والزيادات‘- باعتماد القضاة منذ القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي ختم مكاتبات القضاة بالطوابع؛ فيقول نقلا عن الإمام أشهب بن عبد العزيز القيسي (ت 204هـ/819م) إنه "كان الناس قديماً يجيزون الخواتم في كتب القضاة وغيرها، ثم حدث الإشهاد على الطابع".
وقد صار التوثيق القضائي صناعة ذات قواعد وتقاليد ولها خبراؤها ومكاتبها المعتمدة من القضاة، ثم سرعان ما ألِّفت فيها الرسائل والكتب -في جميع المذاهب- كأحد فروع الفقه الإسلامي، فأطلق العلماء عليه "علم الشروط والسجلات".
وقد عرّفوا هذا الفن بأنه "علم باحث عن كيفية ثبت الأحكام الثابتة عند القاضي في الكتب والسجلات، على وجه يصح الاحتجاج به عند انقضاء شهود الحال"؛ حسب كتاب ‘كشف الظنون‘ لمؤرخ العلوم حاجي خليفة (ت 1068هـ/1657م) الذي يخبرنا أن "أول من صنف فيه هلال بن يحيى البصري الحنفي (ت 245هـ/859م)".
ومن أعوان القاضي أيضا "المترجم" الذي ذكر ابن فرحون المالكي أنه "يُشترط فيه العدالة والصلاح التام". ويبدو أن انتباه الفقهاء لأهمية المترجم في إجراءات القاضي أمر قديم؛ فقد نسب ابن فرحون إلى الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) قوله إنه "إذا اختصم إليه (= القاضي) من لا يتكلم بالعربية -ولا يَفهم عنه- فليُترجِم عنه ثقة مسلم مأمون، واثنان أحب إلينا، ولا بأس أن يقبل ترجمة امرأة عدل" بشروط ذَكَرَها.
نُظُم توثيقية
كان من الإجراءات القضائية نظام معزِّز لعمل القضاة يسمى "الشهود المُعدِّلين" أو "وظيفة العدالة"؛ كما سماها ابن خلدون في ‘المقدمة‘. وهم جماعة من العدول يسجلون أنفسهم لأداء الشهادة لدى قاضي المنطقة بعد أن يستوثق من عدالتهم.
ولذا فإن أهم خصائصهم هي المعرفة العميقة بأحوال الناس حتى يستطيعوا الحكم بالجرح أو التعديل على الشهود في المخاصمات المجهولي الحال بالنسبة للقاضي؛ فبعملهم ذلك تعمّ "الفائدة في تعيين من تخْفى عدالتُه على القضاة بسبب اتساع الأمصار واشتباه الأحوال، واضطرار القضاة إلى الفصل بين المتنازعين بالبينات الموثوقة، فيعولون غالبا في الوثوق بها على هذا الصنف" من الشهود؛ طبقا لابن خلدون.
وقد بدأ هذا النظام على يد قاضي الأمويين بمصر سليم بن عِتْر التُّجِيبي -المتقدم ذكره- ثم توسّع كثيرا عبر القرون، وكانت تدفع لهؤلاء الشهود رواتب من مؤسسة بيت المال (الخزانة العامة)، ولذلك كان التنافس في الانضمام إليهم قويا.
فقد وصل عدد "الشهود المعدِّلين" ببغداد مثلا إلى "ألف وثمانمئة شاهد ليس فيهم من شهد إلا بفضيلة محضة"، كانوا معتمَدين لدى قاضي القضاة عمر ابن أبي عمر المالكي (ت 328هـ/940م)، ثم تناقص عددهم خلال نصف قرن حتى "بلغت عدة الشهود ثلاثمئة وثلاثة أنفس"؛ وفقا للإمام ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) في ‘المنتظم‘.
وقد عقد ابن خلدون فصلا لهذه الوظيفة التي سماها "العدالة"، بيّن فيه دورها المحوري في العملية القضائية؛ فذكر أنها "وظيفة دينية تابعة للقضاء ومن مواد تصريفه، وحقيقة هذه الوظيفة القيامُ -عن إذن القاضي- بالشهادة بين الناس فيما لهم وعليهم، تحمُّلًا عند الإشهاد وأداءً عند التنازع، وكَتْباً في السجلات تحفظ به حقوق الناس وأملاكهم وديونهم وسائر معاملاتهم. وشَرْط هذه الوظيفة الاتصاف بالعدالة الشرعية والبراءة من الجَرْح، ثم القيام بكَتْب السجلات والعقود من جهة عباراتها وانتظام فصولها، ومن جهة إحكام شروطها الشرعية".
ويبدو أن هذه الوظيفة انفصلت -مكانيا لا وظيفيا- عن مجالس حكم القضاة منذ القرن الثامن الهجري/الـ14م على الأقل، وأصبحت -وفقا لابن خلدون- صنعةً لأصحابها بحيث صارت "لهم في سائر الأمصار دكاكين ومصاطب يختصون بالجلوس عليها، فيتعاهدهم أصحاب المعاملات للإشهاد وتقييده بالكتاب" أي التوثيق؛ وهي بذلك تمثل الأصل التاريخي لما يعرف اليوم بـ"الموثقين القانونيين".
وبسبب العامل التجاري في مهمة الشهود العدول؛ شدد ابن خلدون -وقد عانى منهم كثيرا حين تولى القضاء في مصر- على أنه "يجب على القاضي تصفح أحوالهم والكشف عن سِيَرهم، رعايةً لشرط العدالة فيهم، وألّا يهمل ذلك لما يتعين عليه من حفظ حقوق الناس، فالعهدة عليه في ذلك كله".
ولم يكن كلام هذا القاضي المتمرس صادرا من فراغ؛ فقد دخل هذه "الوظيفةَ" الفسادُ كما دخل القضاءَ نفسه، فأصبحت مثلَه -أحيانا كثيرة وخاصة بدءا من القرن الرابع الهجري/الـ10م- ينالها بعضُ ممتهنيها بتقديمهم الرشوة للقضاة الفاسدين ليعتمدوا شهاداتهم.
فقد ذكر ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- أنه بعد وفاة قاضي القضاة بالعراق عُبيد الله بن أحمد بن معروف (ت 381هـ/992م) "كثُر قبول الشهود بالبذل (= الرشوة) والشفاعات (= الوساطات)"، كما صار بعضهم يشهد زورا في القضايا المرفوعة أمام القضاة لصالح الطرف الذي يدفع لهم مقابل شهادتهم الفاسدة!!
ومن موظفي الجهاز الإداري التابع للقاضي ما كان يعرف قديما بـ"أصحاب المسائل"، وهم مخبِرون سريون يشكلون جهاز استخبارات خاصا بالقضاة، يشبه تقريبا -في جوهر وظيفته الرامية لضمان سلامة سَيْر العدالة- ما يسمى اليوم "الاستخبارات القضائية".
وكانت مهمة العاملين فيه البحث سِرًّا عن أحوال الشهود الذين سيدلون بشهاداتهم في مجالس الحُكم، ويجهل القاضي والشهود المعدَّلون المعتمَدون عنده أحوالَهم من حيث العدالة والاستقامة؛ فكان يكلِّف مساعديه من "أصحاب المسائل" بتقصي أخبار هؤلاء الشهود خفيةً من العارفين بهم في أوساطهم الاجتماعية والوظيفية. ولسؤالهم هذا عن أحوال الشهود سُمُّوا "أصحاب المسائل".
وفي ذلك يقول الإمام أبو القاسم الرافعي القزويني الشافعي (ت 623هـ/1226م) -في ‘العزيز شرح الوجيز‘- إن "القاضي ينبغي أن يكون له مزكّون و‘أصحاب مسائل‘، والمزكون هم المرجوع إليهم ليبينوا حال الشهود، وأصحاب المسائل الذين يبعثهم القاضي إلى المزكين ليبحثوا أو يسألوا.. مَنْ يعرفـ[ـهم] من الجيران وأهل الحرفة ورفقاء السفر والمعاملين".
وقد شرح سلطان العلماء عز الدين ابن عبد السلام صفات هؤلاء المعدِّلين السريين ومهمتهم؛ فقال في كتابه ‘الغاية في اختصار النهاية‘: "ينبغي للحاكم (= القاضي) أن ينصب مزكِّين عدولا أتقياء أخفيّاء، ليسوا من أهل الأهواء، أعفّاء في أنفسهم وأطعمتهم، برآء من الشحناء ومماطلة الناس؛ فإذا احتاج إلى تزكية الشهود كتب إليهم بأسماء الشهود، وأسماء آبائهم وأجدادهم، وصنائعهم وحُلاهم (= صفاتهم وملامحهم)، ومساجدهم التي ينتابونها"؛ ليبحثوا عن أحوالهم ويوافونه بما هم عليه من العدالة أو عدمها.
ويذكر المؤرخ الفقيه النويري أن القاضي إذا تولى منصبه "احتاج إلى أعوان يعملون له من: كاتب، و‘أصحاب مسائل‘ (= مخبرون سريون)، وقاسِم (= محاسب مالي)". ثم يحدد حساسية مهمة هؤلاء المخبرين السريين وما تقتضيه من كفاءة وأمانة، فيقول إنهم "هم أمناء القاضي على الشهادات التي تتعلق بها حقوق المسلمين، فلا ينبغي أن يَأمن عليها إلا المستحِقَّ لأن يُؤْتمَن، ولا يثق فيها إلا بمَن يَستوجِب -بحُسن أحواله- الثقةَ به".
كما يقرر ابن فرحون أن من أعوان القاضي "من يزكي عنده الشهود، وينبغي أن ينصب (= يعيِّن) لذلك رجلين يسألان له عن الشهود ويكون كشفهم (= تحقيقهم) في السر، وإن قَدَرَ القاضي ألا يعرف الناسُ مَن نصبه لذلك فذلك حسنٌ، والواحد الصالح المأمون المتنبّه يُجْزئ، ولا ينبغي للكاشف أن يسأل واحدا أو اثنين، وليسأل ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك إن قَدَرَ، خِيفةَ أنْ يزكيه (= الشاهد) أهلُ وُدِّه، أو يجرحه عدوُّه، بخلاف ما إذا سأل جماعةً" عن حاله.
وبذلك ندرك أن هؤلاء المخبرين هم في الحقيقة شهود معدَّلون لكنهم سريون، وهم مكملون لعمل الشهود المعدَّلين العلنيين؛ فما خفي على هؤلاء من أحوال الشهود المجهولين يكشفه أولئك بناءً على تكليف محدَّد من القاضي حتى لا تُنتهَك حرمات الناس، كما يتم اليوم التحري عن خصوصيات الناس (التنصت مثلا) بترخيص قضائي رسمي.
ويحدثنا ابن حجر -في ‘رفع الإصر‘- عن أن تقليد الاستخبارات القضائية يعود إلى النصف الأول من القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي؛ فيذكر أن القاضي غوث بن سليمان الحضرمي (ت 168هـ/784م) ولّاه الخليفة المنصور العباسي (ت 158هـ/776م) قضاء مصر سنة 135هـ/753م؛ فكان "أولَ مَنْ سَأل عن الشهود بمصر، وكان الناس قبل ذلك يشهدون فمَن عُرِف بالخير قُبِل، ومَن لم يُعْرَف سُئل عنه جيرانُه فما ذكروه به من خير أو شر عُمِل به، ومَن لم يُعْرَف لم يُقْبَل، حتى فشت شهادةُ الزور، فسأل غوث عن الشهود في السر؛ فمضى الأمر على ذلك".
شورى قضائية
تميز النظام القضائي الإسلامي عموما -وخاصة في منطقة الغرب والأندلس منها خاصة- بتقليد "الشورى القضائية" التي كانت تسمى أندلسياً بـ"خُطّة الشورى" أو "خُطّة الأحكام"، وحظي أصحابها من الفقهاء بمنزلة خاصة في تسيير العملية القضائية، فكان "الفقيه المشاوَر" مشاركا بفتواه للقاضي في عمله، بل إن بعض هؤلاء الفقهاء المشاوَرين قارب حد الوصاية على القضاة في أحكامهم.
ويبدو أن الشورى القضائية كانت أسلوبا عمليا مهمته -علاوة على حماية استقامة العدالة- تقصير مدة التقاضي في المحاكم الإسلامية، لأن ما تتيحه من تثبُّت قبل الحكم تنتفي معه غالبا الحاجة إلى الاستئناف أو النقض، الذي إن لجأ إليه أحد المتقاضين فإنما يكون نصيره فيه غالبا الفقهاء لا القضاة، لأنه من المستقر فقهاً أنه لا يُنقَض حكم القاضي النزيه العادل بحكم آخر من قاض مثله.
ولعل هذا التقليد القضائي كان معروفا أيضا في العراق العباسي؛ كما يُفهم من القصة التي أوردها القاضي أبو علي المحسِّن التنوخي (ت 384هـ/995م) في كتابه ‘نشوار المحاضرة‘، والتي يروي فيها نموذجا من المماحكات التي كانت تحكم علاقة القضاة الذين يقوم عملهم على الفطنة ودقة "الفهم" لحيل الخصوم، والفقهاء الذي يولون أهمية أكبر لسعة "العلم" والفقه.
فقد روى التنوخي بسنده إلى أحد فقهاء بغداد أنه قال: "لما وُلي [القاضي] أبو عمر [المالكي] طمِعنا في أن نتبعه بالخطأ لما كنا نعلم من قلة فقهه، فكنا نُستفتَى فنقول [للمستفتين من المتقاضين]: امضوا إلى القاضي، ونراعي ما يحكم به، فيُدافع عن الأحكام مدافعةً أحسنَ من فصل الحكم، ثم تجيئنا الفتاوى في تلك القصص (= الدعاوى)، فنخاف أن نُحْرَج إن لم نُفْتِ، فتعود الفتاوى إليه فيَحكم بما يُفتي به الفقهاء؛ فما عثرنا عليه بخطأ"!!
على أن التطور الإداري لنظام الشورى القضائية بالأندلس قاد إلى تخصيص مكان لها عُرف بـ"دار الشورى". ولدينا نص ثمين يشير إلى وجودها بغرناطة في عصر متأخر من تاريخ الأندلس الإسلامية، ففي ترجمة الوزير الأديب لسان الدين ابن الخطيب (ت 776هـ/1374م) -في كتاب ‘الإحاطة في أخبار غرناطة‘- للإمام المالكي فَرَج بن قاسم ابن لُبٍّ التغلبي (ت 782هـ/1380م) أنه كان "حامل لواء التحصيل عليه بدار الشورى، وإليه مرجع الفتوى ببلده لغزارة حفظه، وقيامه على الفقه واضطلاعه بالمسائل".
ويحدثنا عبد الواحد المراكشي (ت 647هـ/1249م) عن عِظَم مكانة الشورى القضائية في أيام دولة المرابطين، وخاصة في عهد أميرها علي بن يوسف بن تاشفين (ت 537هـ/1142م)؛ فيقول في كتابه ‘المُعجِب‘- إنه "كان.. إذا ولَّى أحدا من قضاته.. يَعْهَد إليه ألا يقطع أمرا ولا يبتّ حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء".
ومن أعلام المتأخرين بالأندلس من الفقهاء المشاوَرين في الأحكام القضائية قبل صدورها؛ الفقيه عبد الحق بن ربيع الأنصاري الأندلسي (ت 675هـ/1274م) الذي "ناب عن القضاة في الأحكام، وهو المشاوَر عندهم والمعوَّل عليه، بل هو القاضي على القضاة في الحقيقة لرجوعهم إليه"؛ وفقا لأحمد بابا التِّنْبُكْتي (ت 1036هـ/1627م) في ’نيل الابتهاج‘.
وعلى غرار القضاة؛ تفيد نصوص تاريخية بأن "الفقهاء المشاوَرين" كانوا يأخذون رواتب رسمية على وظيفتهم هذه. ومن ذلك ما ذكره ابن بسام الشَّنْتَريني الأندلسي (ت 542هـ/1147م) -في كتابه ‘الذخيرة‘- عن أخذ علماء عصره ومصره "جوائز الأمراء الذين سبكوا خبائث الضرائب"، ثم قال: "وكنتُ أحسب «فقهاء الشورى»… يكتمون شأن ذلك الراتب، حتى سمعتُ أبرَّهم يُلحّ في طلبه وينتظر بلوغَ وقته فانكشف لي شأنه، والقوم أعلم بما يأتونه وهم القدوة، لا جعلهم الله لنا فئة"!!
كانت المساجد ورحابها هي الأماكن المعهودة لمزاولة القضاة عملَهم، ففيها ظلت تُعقد "مجالس الحكم" طوال قرون عديدة، ولم ينافسها في ذلك إلا بيوت القضاة أنفسهم وفي نطاق محدود. ولذلك قال ابن فرحون إن "القضاء في المسجد من الأمر القديم، وهو الحق والصواب؛ قال مالك: لأنه يُرْضَى فيه بالدُّون مِن المجلس، وهو أقرب على الناس في شهودهم (= حضورهم)، ويصل إليه الضعيف والمرأة".
ونُقل عن الإمام مالك جواز التوسع في أماكن القضاء؛ حيث قال: "لا بأس أن يقضي القاضي في منزله وحيث أحَبَّ"، فالقاضي إذن هو سيد مجلسه القضائي، ولا يتقيد في إجراءاته بأي قيد يعوقه -جسميا أو نفسيا- عن إحسان النظر في القضايا المرفوعة أمامه بعدالة واتزان.
ومن إجراءات القاضي سحنون التنظيمية في القضاء أنه اهتم بدقة تنظيم دخول المتقاضين في مكان قضائه؛ فكان "يكتب للناس أسماءهم في رقاع تجعل بين يديه ويدعو بهم واحداً واحداً، إلا أن يأتي مضطر أو ملهوف" فيعطيه الأولوية في الدخول.
أما بداية تخصيص دُور لمجالس القضاة ورفع دعاوى الخصومات؛ فيرجع إلى عهد السلطان نور الدين زنكي (ت 569هـ/1173م) الذي كان "أول من بنى دارا للكشف (= التحقيق القضائي) بدمشق وسماها دار العدل"، فكانت محكمة عليا يحاكم فيها كبار المسؤولين؛ وفقا للإمام سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) في ’مرآة الزمان‘.
تهيُّب حازم
منذ بداية إنشاء وظيفة القضاء في الدولة الإسلامية امتنع كثير من العلماء عن تولي منصبها اختيارا، حتى إن بعضهم آثر الاختفاء عن السلطة هربا من إجباره على تحمُّل مسؤوليتها، وفي بعض الحالات رأى العلماء المسلمون ذلك نوعا من الجهاد السلمي والعصيان المدني لمقارعة السلاطين الظلمة.
وربما كان ذلك الرفض راجعا إلى أمرين رئيسيين؛ الأول: تحذير الإسلام الشديد من مغبة الظلم والجور والعجز عن تحقيق العدل، وإشفاق هؤلاء العلماء من الدخول فيما أخبر به النبي ﷺ من أن ثلثيْ القضاة في النار، وذلك بقوله: «القُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ»؛ (روته كتب السُّنن الأربعة وصححه الحاكم).
والثاني: انقلاب الحكم إلى ملك عضوض، فخاف العلماء من أن يساهموا في ترسيخ ذلك الاستبداد بمنحه الشرعية بقبول وظائفه، أو أن يُتهموا بتسويغ الظلم للحكام المستبدين، خاصة إذا عجزوا عن تنفيذ أحكامهم القضائية الملزمة.
وقصص امتناع العلماء تورعاً عن تولي القضاء وزهدا فيه كثيرة مبثوثة في كتب التراجم والتاريخ؛ ولئن كان الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت (ت 150هـ/768م) أشهر العلماء الذين امتنعوا عن القضاء، وحين ضُرب على قبوله ازداد رفضا وامتناعا؛ فإن تلميذه الوارث لإمامة مذهبه أبا يوسف لم يسر على نهجه الرافض للقضاء، بل إنه كان أول من تولى منصب "قاضي القضاة"؛ كما سبق القول.
ومن بعده صار تولي القضاء وقبوله امتيازا لفقهاء المذهب الحنفي، حتى كان "شيخ الشافعية" بالعراق أبو علي الحسين ابن خَيْران البغدادي (ت 320هـ/932م) "يعاتِب ابنَ سُرَيج (الإمام الشافعي ت 306هـ/918م) على القضاء، ويقول: هذا الأمر لم يكن في أصحابنا! إنما كان في أصحاب أبي حنيفة"؛ وفقا للذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘.
ولم يكن استهجان ابن خيران لتقلد زميله الشافعي القضاء مجرد تسجيل موقف عابر؛ بل إن الذهبي يخبرنا بأنه سبق له أن "عُرض [عليه].. القضاءُ فلم يتقلده"، بل إنه فرّ من بيته حتى لا يُكرَه على توليه، وذلك في أيام الخليفة العباسي المقتدر بالله (ت 320هـ/932م).
لكن السلطة العباسية ببغداد أغلقت باب دار ابن خيران بالمسامير، وفرضت عليها الشرطة حراسة مشددة لتجبره على الاستجابة لتعيينه قاضيا، ولما "خوطب الوزير في ذلك فقال: إنما قصَدنا التوكيل بداره ليقال: كان في زماننا مَنْ وُكِّلَ [الشرطةُ] بداره ليتقلد القضاء فلم يفعل"!!
ولئن كان لرفضه النضالي قيمة فخرية استشعرها الذين حاولوا إرغامه على القضاء بقوتهم السلطوية؛ فقد وَجد ابن خيران مؤازرة استثنائية من الرأي العام المسلم ببلده دعما لموقفه الحاسم هذا، فصار بذلك منقبة تتناقلها الرواة ويحكيها الرحالة والزائرون.
فهذا الإمام أبو بكر بن الحداد الشافعي (ت 345هـ/956م) يقول إنه "شاهد.. ببغداد سنة عشر وثلاثمئة (310هـ/922م) باب أبي علي بن خيران مسمورا لامتناعه من القضاء، وقد استتر! قال: فكان الناس يأتون بأولادهم الصغار [إلى داره]، فيقولون لهم: انظروا حتى تحدثوا بهذا" الأجيال القادمة!!
استقلالية كاملة
لم يقبل كثير من علماء الإسلام تولي القضاء بسهولة، لكن من قبلوا منهم تحمُّل أمانة القضاء رعوْا تلك الأمانة حق رعايتها في أغلب الأحيان، وكانوا مدركين أن الخلفاء والسلاطين هم أكثر من يهدد مبدأ استقلال القضاء ونفاذ الأحكام، فاتخذوا منهم مسافة وجعلوا للقضاء هيبة لم تنل منها قوة السلطة التنفيذية.
فهذا مؤرخ القضاة وكيع يخبرنا -في ’أخبار القضاة’- أن الخليفة العباسي القوي هارون الرشيد عندما قدِم مرة "الحِيرة أقام أربعين يوماً، فلم يأته القاسم بْن مَعْن (القاضي ت 175هـ/795م) فَقَالَ لَهُ الفضل (ابن يحيى البَرْمكي الوزير ت 193هـ/809م): يا أمير المؤمنين، قدمت منذ أربعين يوماً لم يبق أحد من أشرافها وقضاتها إِلَّا وقد وقف على بابك إِلَّا هَذَا القاضي؟! قال [الرشيد]: ما أعرفني أيَّ شيء تريد؟! تريد أن أعزله؟! لا والله لا أعزله"!!
وفي تونس؛ اشتهر القاضي عبد الله بن غانم الرُّعيني القيرواني (ت 190هـ/805م) بالعدل والصرامة، ونفاذ أحكامه القضائية على الأمراء والولاة منذ تولَّى القضاء سنة 171هـ/787م في عهد الخليفة هارون الرشيد.
وكان من عادته -وفقا للقاضي عياض في ’ترتيب المدارك’- في القضاء أنه "إذا جلس رمى إليه الخصومُ الشِّقافَ (= قطع خزفية) فيها قِصصُهم (= دعاويهم) مكتوبة، فوجد يوماً شقفة فيها قصة لنخّاسي (= بائعي الدواب) البغال فدعاهم، فأخبروه أن أبا هارون مولى إبراهيم بن الأغلب (التميمي أمير تونس ت 196هـ/811م).. ابتاع منهم بغالاً بخمسمئة دينار (= اليوم 100 ألف دولار أميركي تقريبا)، ولم يدفع لهم شيئا".
فما كان من هذا القاضي إلا أن قصد فورا منزل الأمير "فذكر له شأن المتظلمين، فأحضر أبا هارون (= المدعى عليه) فاعترف وقال حتى يجيء الخراج (= الجباية الحكومية)، وقد بعثتُ في طلبه. فقال ابن غانم: لا أبرح حتى تدفع إليهم أموالهم! فما برح حتى دفعت إليهم"!!
وقد ورَّث ابنُ غانم صرامتَه في القضاء وقوته في إحقاق الحق لتلميذه الإمام سحنون؛ إذْ لم يكن تولي سحنون للقضاء سهلا فقد "أدير عليه حولاً، وأغلظ عليه الغلظة، وحلف عليه محمد بن الأغلب (أمير تونس ت 242هـ/856م) بأشد الإيمان"، حتى قال سحنون عنه: "جاءني من عزمه.. ما يخاف المرء على نفسه، وفكرت فلم أجد أحدا يستحق هذا الأمر، ولم أجد لنفسي سعة في رده".
وكان اشتراط سحنون لمبدأ الاستقلالية حاسما في قبوله تولي القضاء بعد تعيُّنه عليه؛ كما قال هو نفسه: "لم أكن أرى قبول هذا الأمر، حتى كان من الأمير معنيان: أحدهما أعطاني كل ما طلبت، وأطلق يدي في كل ما رغبت، حتى إني قلت له: أبدأ بأهل بيتك وقرابتك وأعوانك، فإن قِبَلَهم (= عندهم) ظُلامات (= مظالم) الناس وأموال لهم منذ زمان طويل، إذْ لم يجترئ عليهم مَن كان قَبلي [من القضاة]. فقال لي: نعم لا تبدأ إلا بهم، وأجْرِ الحق على مفرق رأسي، فقلت له: الله، قال لي: الله، ثلاث مرات"!!
ولترسيخ الاستقلالية وقوة القضاة وهيبة المؤسسة العدلية "كان سحنون لا يأخذ لنفسه رزقاً، ولا صلة من السلطان في قضائه كله، ويأخذ لأعوانه وكتابه وقضائه من جزية أهل الكتاب"، وإنما كان رفضه للراتب تورعا منه مع علمه بجواز ذلك شرعا.
كما أن إدراك سحنون لطبيعة العلاقة بين السلطتين التنفيذية والقضائية جعله يتفادى استغلال الأخيرة من قبل الأولى، فكان شعاره حين يريد أحد الأمراء الاستقواء بجماهيريته في صراعاته السياسية: "متى كانت القضاة تشاورها الملوكُ في صلاح سلطانها؟!".
سيادة صارمة
كما عرفت الأندلس شموخ القضاء واستقلال القضاة؛ فمؤرخ قضاة الأندلس النُّبَاهي يحدثنا -في ‘المرقبة العليا‘- أن الفقيه محمد بن بشير المَعافري (ت 198هـ/814م) كان "ممن لقي مالك بن أنس عند توجهه إلى حج بيت الله الحرام".
ويضيف النباهي أن المعافري لما عاد من رحلته إلى الأندلس طلب منه أميرها الأموي الحَكَم بن هشام الرَّبَضي (ت 206هـ/821م) أن يتولى منصب القضاء فـ"قَبِل قضاءه على شروط؛ منها: نفاذ حكمه على كل أحد من الأمير إلى حارس السوق، وأنه إذا ظهر له العجز من نفسه أعفِي، وأن يكون رزقه (= راتبه) كَفافا من المال الفيء (= الغنائم)".
وفي العراق؛ يخبرنا الإمام الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) -في ’تاريخ بغداد’- أن سليل القضاة المالكيين بالعراق الإمام الفقيه يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن حماد بن زيد البصري (ت 297هـ/900م) تولى القضاء سنة 276هـ/892م، فكان "عفيفا خيِّرا، حسن العلم بصناعة القضاء، شديدا في الحكم لا يراقب فيه أحدا، وكانت له هيبة ورياسة".
ولهذا القاضي قصص بالغة الدالة على حرص القضاة المسلمين على إنفاذ مبدأ سيادة القانون والتسوية بين الخصوم في إجراءات التقاضي، بغض النظر عن مراكزهم الاجتماعية ومكانتهم الرسمية.
ومن ذلك أنه رُفعت إليه دعوى على أحد خُدّام الخليفة العباسي المعتضد بالله (ت 289هـ/1002م) "فجاء [الخادم] فارتفع في المجلس [عن خصمه]، فأمره الحاجب (= كبير أعوان القاضي) بموازاة خصمه، فلم يفعل إدلالا (= استقواءً) بعِظَم محله من الدولة"، فما كان من القاضي يوسف إلا أن صاح عليه قائلا لحراسه: "قِفاه (= أوقفاه)، أتُؤْمَر بموازاة خصمك فتمتنع؟!".
ثم قال القاضي لحاجبه: "خذ بيده وسَوِّ بينه وبين خصمه، فأخِذ كرهاً وأجلِس مع خصمه، فلما انقضى الحكم انصرف الخادم فحدث المعتضد بالحديث، وبكى بين يديه، فصاح عليه المعتضد، وقال: لو باعك لأجزت بيعه وما رددتك إلى ملكي أبدا، وليس خصوصك بي يزيل مرتبة الحكم، فإنه عمود السلطان وقوام الأديان"؛ وفقا للخطيب البغدادي.
وكما قام بالحق والعدل قضاة أفذاذ قهروا سيف الهوى والتحيز، وداعية النفس إلى الحيف والجور؛ فإن آخرين جعلوا من منصب القضاء الشريف سلّما لنيل مآرب شخصية، أو وسيلة لتصفية حسابات مع الخصوم أو لخدمة سلطان جائر.
ولئن خلّدت كتبُ التراجم مناقبَ قضاة العدل فإنها لم تهمل مثالب قضاة الجور؛ فقد ذكر وكيع الضبي -في ‘أخبار القضاة‘- أن بلال بْن أبي بُرْدة (ت 127هـ/746م) تولى القضاء في البصرة، فكان قاضيا "ظلوماً ما يبالي ما صنع في الحُكم وغيره"!! ثم أورد من قصص ظلمه ما يشهد بصحة حكمه عليه بالظلم في قضائه.
وأبشع مظاهر الاستغلال ما قام به قضاة "محنة القول بخَلْق القرآن" من محاكمات للعلماء على آرائهم الاعتقادية، والإشراف على إيداعهم زنازين السجون وتعذيبهم مُدَداً متطاولة.
ومن هؤلاء القاضي المعتزلي عبد الرحمن بن زيد المخزومي (توفي في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي) الذي كان "خبيث الرأي يمتحن الناس ويخيفهم، ويقيم كل جمعة [رجلا] أسودَ ينادي حول المسجد الحرام: «القرآن مخلوق»..، وكان قليل العلم شديد العصبية"؛ وفقا لوكيع.
استثناءات سلبية
وفي تونس التي كان القاضيان ابن غانم وتلميذه سحنون رمزين لقوة القضاء وهيبته واستقلاليته، التي هي متفرعة عن مبدأ استقلالية العلماء عن السلاطين؛ نجد نقيضهما القاضي ماتع بن عبد الرحمن الرُّعَيْني (ت بعد 161هـ/779م) الذي كان "فيما ذَكروا رجلَ سُوءٍ..، وكان إذا سجّل القضية وختم في أسفلها يكتب تحت الطابع: بقي شيء! يعني: الرشوة"!!
ولم يكتف ابن ماتع بمجاهرته الغريبة بأخذ الرشوة حتى ضمّ إليها اعترافه بتسخير منصبه الجليل لتلبية رغبات السلطة؛ فقد قال مؤرخ تونس أبو العرب التميمي (ت 333هـ/945م) -في ‘طبقات علماء إفريقية‘- إن القاضي ابن ماتع "خلّف -بعد موته- طُومَارا (= سِجِلًّا) مكتوبا فيه: إنما حكمتُ لفلان على فلان لأن فلانا سألني فيه، يعني: بعض السلاطين"!!
ويخبرنا المقريزي -في ’السلوك‘- أنه في سنة 820هـ/1417م كان "في جميع أرض مصر.. من أنواع الظلم ما لا يمكن وصفه بقلم ولا حكايته بقول من كثرته وشناعته"!
ومن مظاهر ذلك الظلم الشنيع أن مصر بلغت أعلى مستويات فساد القضاء في تاريخها؛ فالقضاة ونوابهم -الذين "يبلغ عددهم نحو المئتين- ما منهم إلا مَن لا يحتشم من أخذ الرشوة على الحُكْم، مع ما يأتون -هم وكتابهم وأعوانهم- من المنكرات، بما لم يُسْمَع بمثله فيما سلف! وينفقون ما يجمعونه من ذلك فيما تهوى أنفسهم ولا يَغْرَم أحد منهم شيئا للسلطنة".
ومن صور الفساد التي دخلت مؤسسة القضاء -خلال القرن العاشر الهجري/الـ16م وما بعده- ما كان يسمى "محصول القاضي"، وهو مبلغ مالي يأخذه القاضي -علاوة على راتبه- من المتقاضين عند إصداره الحكم في إحدى القضايا المرفوعة أمامه، ولعله هو الأصل التاريخي لما يعرف اليوم في المحاكم بـ"رسوم التقاضي".
ويبدو أن تقليد "محصول القاضي" كان ممارسة شائعة لدى القضاة في ظل الدولة العثمانية، التي كان قضاتها يسمُّونه "أجرة صُكوك" أو "رَسْم الحُجّة"؛ رغم أن فقهاء الحنفية نصوا في كتبهم على أنه "يُلحق بالجبايات [الظالمة] محصول القاضي في زماننا"؛ طبقا لشهاب الدين أحمد بن محمد الحنفي (ت 1098هـ/1687م) في كتابه ‘غمز عيون البصائر‘.
وقد أورد نجم الدين الغزي الحنفي (ت 1061هـ/1651م) -في ‘الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة‘- مناقشة طريفة جرت بين أحد فقهاء الحنفية وزميله القاضي شرف الدين أحمد بن يوسف القسطنطيني الشهير بابن الجصاص (ت 936هـ/1527م) أيام توليه قضاء دمشق، ودارت حول الحكم الشرعي لـ"محصول القاضي" الذي سماه بعضهم أيضا "اليسق/الياسق"، ربما تشبيها له بـ"قانون الياسق" المغولي الذي لا معتمد له في الشرع الإسلامي.
فيروي الغزي أن الفقيه قال: "سألتُ القاضي أحمد بن يوسف الحنفي أيام توليته بدمشق عن حِلّ ‘اليسق‘ -يعني المحصول الذي يأخذه القاضي- وقلتُ: الأحكام الشرعية مستنبطة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأنتم تأخذون هذا اليسق من أي هذه الأربعة؟ فسكت! ثم قال: لا والله، وإنما هو تبعا للموالي (= القضاة الكبار)! فقلت له: الجهلُ ليس بقدوة! وكان بين يديه ولدٌ له فقال: لي والدي فقير! فقلت له في ذلك: ببيت المال ما يكفيه لو طلبه"!!
ولمكافحة تلك المفاسد في البيئة القضائية؛ قرر الفقهاء أنه يجب على رأس السلطة التنفيذية الاهتمام بفرض الرقابة المالية السرية على القضاة لضمان نزاهتهم، ولمصادرة أموالهم المكتسبة باستغلال المنصب والنفوذ. فيقول نجم الدين الطَّرَسُوسي الحنفي (ت 758هـ/1357م) في كتاب ‘تحفة التُّرْك‘:
"ينبغي للسلطان أن يتخذ على القضاة عينا (= مُخْبِراً) في السر، ثقة ديِّناً عفيفا أمينا قليل الكلام، لا يُؤْبَه له ولا يدرون به أنه عينٌ عليهم. بحيث يطلع السلطان في السر ساعة بساعة على أحوالهم. ويكون السلطان في العلانية معظِّما للقضاة ولا يَظهر منه أنه يستكشف عن أحوالهم أبدا، فإذا صح عنده أنه وقع من أحدهم جريمة" من رشوة أو استغلال نفوذ بسببه "التمس من الناس مالا أو اكتسبه بالقضاء أخذه [منه ورده] لبيت المال"، بعد أن يُصدِر قراره بعزل القاضي.
أعراف مؤسسية
كان تعيين القضاة مسؤولية حصرية للخلفاء والسلاطين حتى تتحقق الشرعية لسلطة الإلزام التي تجعل الناس ينقادون لأحكام القضاة، مع إجماع الفقهاء على أن ذلك التعيين لا يمسّ استقلالية القاضي عن السلطة التنفيذية، ولذلك فإنه "يجوز للمُقلَّد (= القاضي) أن يقضي للمُقلِّد (= السلطان) وعليه...؛ لأن المُقلَّد ليس بنائب عن المُقلِّد، بل هو نائب عن جماعة المسلمين، ولهذا لا ينعزل بموته" أي موت السلطان؛ طبقا لابن مازة الحنفي في ‘شرح أدب القاضي للخصّاف‘.
وكذلك يرى المالكية أن القاضي "لا ينعزل بموت الخليفة لأنه لم يتولَّ لمصلحة الخليفة وإنما ولايته عامة لمصالح المسلمين"؛ كما في ‘شرح الخرشي على مختصر خليل‘ لشيخ الأزهر محمد الخرشي المالكي (ت 1101هـ/1689م).
ولكن حدث أحيانا أن السلطة التنفيذية كانت تُسنِد اختيار القضاة إلى علماء ووجهاء بلدٍ أو مذهبٍ ما، ثم تضفي شرعيتها على ذلك الاختيار أو الانتخاب. ومن الأمثلة المبكرة لانتخاب القضاة أهليا -بتفويض من السلطة التنفيذية- ما وقع في مصر حين جاءها الأمير عبد الله بن طاهر الخُزَاعي (ت 230هـ/845م) سنة 212هـ/827م واليا عليها من الخليفة المأمون العباسي.
ففَوْرَ وصول ابن طاهر إلى البلاد "أمر بإحضار أهل مصر فحضر الناسُ.. فقال ابن طاهر: إن جمعي لكم لترتادوا لأنفسكم قاضيا". وبعد مداولات لم تخلُ من مشاحنات وقع الاختيار على عيسى بن المُنْكَدِر القرشي (ت نحو 220هـ/235م)؛ حسب ابن حجر في ‘رفع الإصر‘.
ولما رسخت المذاهب الفقهية وتعمقت فيها روابط الانتماء المذهبي؛ نجمت ظاهرة تعدد القضاة بتعدد المذاهب برعاية السلطة التي ربما استغلت السلطة ذلك الانتماء فوظفته بشكل انتهازي عند اختيار القضاة من فقهاء مذاهبهم، كما في الحادثة التي نجدها في ‘تاريخ البصروي‘ للفقيه الشافعي علاء الدين العاتكي (ت 905هـ/1499م).
فقد أورد البصروي هذا أنه في 4 شوال سنة 894هـ/1489م "اجتمع جماعة من الحنفية (بدمشق).. وقُرِئ مرسوم بعزل [القاضي] زين الدين الحسباني الحنفي (ت 916هـ/1510م)، وأن يختار الحنفية قاضيا غيره على أن يلتزم بدينِ" بعضِ الأمراء المماليك فيقضيه عنهم، فالتزم بذلك أحد فقهائهم "ورضي به الحنفية، فولّاه النائب (= نائب السلطان بدمشق) وشرط عليه ألا يحكم إلا بالقول الراجح في مذهبه".
ومن النُّظم العريقة في نظام القضاء الإسلامي: مهنة المحاماة التي كانت تسمى "التوكيل/الوكالة على أبواب القضاة"؛ فقد نص الفقهاء على أنه "إذا وكَّل الرجلُ [غيرَه] بالخصومة في شيء فهو جائز..؛ وقد يحتاج لذلك إما لقلة هدايته (= خبرته) أو لصيانة نفسه عن الابتذال في مجلس الخصومة. وقد جرى الرسم (= العُرْف) على التوكيل على أبواب القضاة من لدن رسول الله ﷺ إلى يومنا هذا من غير نكير"؛ وفقا للإمام السَّرْخَسي (ت 483هـ/1090م) في كتابه ‘المبسوط‘.
وقد تعاطى المحاماة لدى القضاة عدد وافر من العلماء كان أحدهم يوصف في ترجمته بأنه "الوكيل بباب القضاة"؛ نذكر منهم بركة بن علي البغدادي (ت 605هـ/1211م) الذي بلغ من مهارته في المحاماة أن وضع فيها تأليفا، وجاء في تعريفه أنه "الوكيل بباب القضاة.. وكانت له معرفة بالشروط..، وصنَّف كتابا سماه ‘كامل الآلة في صنعة الوكالة‘"؛ طبقا للإمام زكي الدين المنذري (ت 656هـ/1258م) في ‘التكملة لوفيات النَّقَلَة‘.
وقد كان لـ"وكلاء الخصومة" (المحامين) نقيب يرأسهم ونقابة تجمعهم وتنظم مهنتهم، على نحو مشابه لما نعرفه اليوم في عمل نقابة المحامين؛ فقد جاء في ‘نهاية الرتبة في طلب الحسبة‘ للمحتسب ابن بسام التِّنِّيسي (ت نحو 626هـ/1229م) أن المحتسب "ينبغي أن يعرِّف عليهم عريفا (= نقيبا)، وأن يكون الوكلاء المناظرون بأبواب الحكام أمناءَ غير خونة ولا فسقة، فقد يُمسك أحدُهم عن إقامة الحُجة لموكِّله من أجل الرشوة على ذلك..، ويجب على جماعتهم -إذا شكوا في شيء- [أن يـ]ـرجعوا إلى رأي مَن نُصب لذا الأمر".
تقاليد راسخة
حفل القضاء الإسلامي في مسيرته الملحمية بتقاليد خاصة تميزت بها حياتهم الوظيفية؛ وتشمل تلك التقاليد مراسم تولية القضاة ونوعية أزيائهم التي بها يتميزون عن غيرهم من العلماء وأصحاب المناصب الرسمية.
ففيما يتعلق بمراسم التعيين؛ فإن الإمام أبا الحسن الماوَرْدي (ت 450هـ/1059م) -في ’الأحكام السلطانية‘- يقرر أن "ولاية القضاء تنعقد بما تنعقد به الولايات [العامة الأخرى]، مع الحضور باللفظ مشافهة ومع الغيبة مراسلة ومكاتبة، ولكن لا بد -مع المكاتبة- من أن يقترن بها من شواهد الحال ما يدل عليها عند المولَّى (= القاضي) وأهل عمله".
والغاية من تلك الترتيبات هي أن تتسم تولية القاضي بإجراءات رسمية ملموسة يراها الناس وتفيد شرعية أحكامه للمتقاضين أمامه وإلزاميتها لهم، إنفاذا لهيبة سلطة القضاء ومبدأ سيادة القانون على الجميع حكاما ومحكومين.
ويورد الإمام ابن سعد (ت 230هـ/845م) -في ’الطبقات الكبرى’- ما يفيد بأن تقليد تميُّز القضاة بزيّ معيّن كان معروفا -على الأقل- منذ زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد. فقد نقل ابن سعد عن شيخه محمد بن عمر الواقدي (ت 207هـ/822م) أن الوزير يحيى بن خالد (البَرْمَكي 190هـ/806م) نصحه -حين أراد توظيفه قاضيا- بأن يتزين "لأمير المؤمنين [هارون الرشيد] بأحسن زي من زي القضاة".
أما نوعيات أزياء القضاة فقد لخص لنا الإمام السيوطي القولَ فيها بقوله في كتابه ’حسن المحاضرة‘: "وأما زِيُّ القضاة والعلماء فدَلَق (= ثوب واسع الأكمام) متسع بغير تفريق، فتحته على كتفه، وشاش كبير منه ذؤابة بين الكتفين، ويميلها إلى الكتف الأيسر..، ومنهم من يلبس الطَّيْلسان (= رداء للكتفين والرأس). وأما قاضي القضاة الشافعي.. فرسمه الطَّرْحة (= شبيهة بالشال) وبها يمتاز. ومراكبهم البغال".
ومن الأعراف التي سادت مبكرا في عمل القضاة المسلمين العملُ بنظام الإجازة الأسبوعية؛ ومن نماذج ذلك ما ذكره النباهي -في ‘المرقبة العليا‘- من أن القاضي الأندلسي المصعب بن عِمْران الهَمْداني (ت بعد 180هـ/796م) أصرَّ عليه الأمير هشام بن عبد الرحمن الأموي (ت 180هـ/796م) ليقبل تقلُّد منصب القضاء فـ"ـتولَّى له العملَ كرهاً، واشترط على هشام أن يأذن له في اطلاع (= تفقُّد) ضَيْعته (= مزرعته) يومين في الجمعة (= الأسبوع): السبت والأحد، ويحكم لسائر الأيام؛ فأجابه [الأمير] إلى ذلك".
وقد أثبت الفقهاءُ حقَّ الإجازة الأسبوعية للقضاة "لأن القاضي لا بد له من يوم يستريح فيه حتى لا يملّ، أو [لـ]ـينظر في أموره" الخاصة؛ كما يقول ابن مازة البخاري في ‘شرح أدب القاضي للخصاف‘.
كما ناقشوا ما إن كانت إجازة القاضي معوَّضة ماليا بالكامل أم لا؛ فقالوا إن "القاضي يستحق الكفاية من بيت المال في يوم البطالة (= عطلة) في الأصح... لأن يوم البطالة للاستراحة" تجديدا للقدرة على العمل؛ وفقا للإمام ابن نُجَيْم الحنفي (ت 970هـ/1563م) في كتابه ‘الأشباه والنظائر‘.
ويقدم لنا ابن مازة البخاري رصدا تاريخيا لتذبذب أيام إجازة القضاة عبر العصور بشرقي العالم الإسلامي؛ فيقول إنه "كان الرسم (= العادة) في زمن أبي حنيفة.. أن يوم البطالة يوم السبت..، وكان الرسم في زمن الخصّاف (شيخ الحنفية أبو بكر ابن مُهَيْرٍ الشَّيْباني ت 261هـ/875م).. أن يوم البطالة كان مترددا بين يوم الاثنين وبين يوم الثلاثاء؛ [فـ]ـمن القضاة مَن يختار هذا ومنهم من يختار ذلك..، والرسم في زماننا (= القرن السادس الهجري/الـ12م) يومُ الثلاثاء".
ومن التقاليد الطريفة في حياة القضاة -والتي لا تزال مستمرة ببعض الدول الإسلامية- أن ثمة عوائل علمية توارثت مهنة القضاء في عدة أجيال من أبنائها؛ ففي ’صبح الأعشى’ للقلقشندي أن "أعرق الناس في القضاء بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: كان بلال قاضيا على البصرة، وأبو بردة (ت 104هـ/723م) قاضيا على الكوفة، وأبو موسى [الأشعري] قاضيا لأمير المؤمنين عمر" الفاروق.
ويورد لنا الذهبي أيضا عائلة دمشقية تسلسلت وظيفة "قضي القضاة" في خمسة أجيال منها على نحو متواصل؛ فيذكر أنه في سنة 686هـ/1287م توفي "ابنُ الزكي قاضي القضاة بهاءُ الدين أبو الفضل يوسف ابنُ قاضي القضاة محيي الدين يحيى (ت 668هـ/1269م) ابنِ قاضي القضاة محيي الدين أبي المعالي محمد (ت 685هـ/1286م) ابنِ قاضي القضاة زكي الدين علي ابنِ قاضي القضاة منتجَبِ الدين محمد بن يحيى القرشي الدمشقي الشافعي". ويفيدنا عبد القادر بن محمد النعيمي (ت 927هـ/1521م) -في ‘الدارس في تاريخ المدارس‘- بأن بهاء الدين المذكور "هو آخر من ولي القضاء من هذا البيت"!!
ولعل أعرق بيت قضاء في التاريخ الإسلامي هو بيت محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب الأموي (ت 244هـ/858م)؛ فقد "ولِي القضاءَ أربعة وعشرون نفْساً من أولاد محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، منهم ثمانية وُلّوا قضاء القضاة"؛ وفقا للذهبي الذي يفيدنا بأن آخر قاضي قضاة في هذه العائلة هو أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن العباس بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وقد توفي أبو الحسن هذا سنة 417هـ/1027م.
وقد نافست المدنُ الإسلاميةُ العوائلَ في فضيلة الإكثار من إنجاب القضاة؛ فحين ترجم مؤرخ البلدان الأديب الكتبي ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) لمدينة شَهْرَزُور العراقية -في كتابه ‘معجم البلدان‘- مدحها بأنها خرج منها من "أعيان القضاة والفقهاء ما يفوت الحصر عده..، وحسبك بالقضاة بني الشَّهْرَزُوري جلالة قدر وعظم بيت وفخامة فعل وذِكْر، الذين ما علمت أن في الإسلام كله ولي من القضاة أكثر من عدتهم"!!
ملامح حضارية
لم يُغفل القضاء الإسلامي حقوقَ الأقليات الدينية في التقاضي، بل منحهم حق الاختيار بين التحاكم إلى القضاة المسلمين أو هيئاتهم العدلية وفق تشريعاتهم الدينية؛ فكان في البلاد الإسلامية ذات الأقليات الدينية "قاضي النصارى" و"قاضي قضاة اليهود" الذي يسمونه اصطلاحا "الناجد"، ومِن مشاهير مَن لُقِّب به الحاخام والفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون (ت 601هـ/1204م).
ويرى الإمام أبو حنيفة أنه يجوز لغير المسلمين أن يتولى أحدُهم "القضاءَ بين أهل دينه". وقد علّل الماوردي ذلك -في ‘الأحكام السلطانية‘- بقوله: "وهذا وإن كان عرفُ الولاة بتقليده جاريا فهو تقليد زعامة ورئاسة، وليس بتقليد حكم وقضاء، وإنما يلزمهم حكمه لالتزامهم له لا لزومه لهم..، وإذا امتنعوا من تحاكمهم إليه لم يُجْبروا عليه، وكان حكم الإسلام عليهم أنفذ".
وفي أدبيات التقاضي الإسلامي قصص كثيرة سجلت حضور أهل الكتاب في القضاء الإسلامي، واعترافهم بما أتاحه له لهم المسلمون -منذ مجيء الإسلام- من حق في التقاضي وفق شرائعهم وكتبهم المقدسة.
ومن ذلك اعترافهم الذي وثقه لنا الإمام القاضي تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1370م) في ’طبقات الشافعية الكبرى‘؛ فقد ذكر "أن اليهود.. رفعوا قصة إلى السلطان صلاح الدين (الأيوبي ت 589هـ/1193م).. أنهوا فيها أن عادتهم لم تزل بحمل أمورهم على ما يراه مُقدَّم شريعتهم، فهم يتحاكمون إليه ويتوارثون على حسب شرعهم، من غير أن يعترضهم في ذلك معترض...، وسؤالهم (= طلبهم) حَمْلَ الأمر على العادة" التي جرت به من استقلاليتهم القضائية.
ولذا كان من ضمانات التعايش الديني في التجربة الإسلامية ما كان يُصدره القضاة المسلمون من أحكام لدفع ظلم السلاطين عن رعيتهم من غير المسلمين، وهي ظاهرة قضائية متعددة الشواهد في مختلف حقب التاريخ الإسلامي.
ومن نماذج ذلك أن قاضي القضاة بمصر الحارث بن مسكين المالكي (ت 250هـ/864م) استفتاه الخليفة العباسي المأمون في قتال أقباط قرية البُشْمور -التي تقع اليوم بمحافظة الدقهلية شمالي مصر- حين تمردوا على سلطته سنة 216هـ/831م؛ فرفض الحارث قتالهم قائلا للخليفة: "لا يحلّ لك [دمُهم]! فقال له المأمون: أنت تَيْس"!!
كما دأب قضاة وعلماء المسلمين على حماية الكنائس وغيرها من دُور عبادة غير المسلمين؛ ومن نماذج ذلك ما ذكره المؤرخ ابن الوردي (ت 749هـ/1348م) -في تاريخه- أنه في سنة 721هـ/1321م وقعت فتنة بالقاهرة حاصر فيها بعض العامة الكنائس "فغضب السلطان واستفتى القضاة فأفتوه بتعزيرهم".
وخلال القرن الثامن الهجري/الـ14م نفسه؛ ثار في تونس جدل بين قضاتها بشأن صحة إشهاد "أهل الذمة" للمسلمين في معاملاتهم وعقود أنكحتهم، ما بين رافض لذلك ومؤيد له متمسك بأن في ذلك حماية لحقوق غير المسلمين في توثيق عقودهم ومعاملاتهم.
إذْ يحدثنا المؤرخ الزركشي التونسي أن "قاضي الأنكحة" أبا علي عمر بن محمد الهاشمي (ت 731هـ/1331م) أجاز "عقدة نكاح بين ذميين بشهادة المسلمين..، فسمع [ذلك] قاضي الجماعة [إبراهيم ابن عبد الرفيع (ت733 هـ/1333م)] فأنكره، فوجّه قاضي الأنكحة هذا لعدول (= الشهود المعتمدين بالمحاكم) تونس وأمرهم بالشهادة فيه، وألّف كتابا في إباحة الحكم بينهم والشهادة عليهم وفي أنكحتهم، وسماه ‘إدراك الصواب في أنكحة أهل الكتاب‘".
وفي أوج انتصارات الدولة العثمانية وتمددها؛ اعترض مفتيها شيخ الإسلام علي بن أحمد الجمالي الشهير بلقبه ‘زنبيللي علي أفندي‘ (ت932هـ/1527م) على قرار أراد إصداره سلطانُها القوي سليم الأول (ت 925هـ/1520م) ويقضي بـ"حمْل النصارى الذين في المملكة على الإسلام جميعًا، أو [أن] يخرجوا من البلاد"، فما كان من المفتي الجمالي إلا أن وقف في وجهه بحزم "وقال له: لا يحلُّ لك ذلك! وليس لنا إلا أن نأخذ منهم الجزية والطاعة"!!
وحين روى العلامة اللبناني شكيب أرسلان (ت 1366هـ/1946م) هذه الحكاية -في كتابه ‘تاريخ ابن خلدون‘ مؤكدا أن خبرها "مَرْويّ بالتواتر وفي الكتب أيضًا"- علّق عليها قائلا: "ثبت أن الشريعة الإسلامية -بعدالتها وأمانتها- هي التي حفظت المسيحيين في السلطنة العثمانية أيام كان السلطان يَقدِر أن ينفّذ جميع ما يريده بهم"!!
وقد دفعت تجربة القضاء الإسلامي مع غير المسلمين عددا من المؤرخين الغربيين المنصفين إلى تسجيل إطراءهم البالغ لنصاعتها ورحابة صدرها؛ وهو ما لخصه مؤرخ الحضارة الأميركي ويل ديورانت (ت 1402هـ/1981م) حين أقر -في ‘قصة الحضارة‘- بصدقية خلاصة زميله المستشرق البريطاني استانلي لين بول (ت 1350هـ/1931م) -في كتابه ‘حكم المسلمين في إسبانيا‘- القائلة: "لم تنعَم الأندلس طوال تاريخها بحكم رحيم عادل كما نعِمتْ به في أيام الفاتحين العرب"!!
اقتباسات غربية
يتجدد الجدل البحثي في أعقاب أي محاكمة لأحد المشاهير الغربيين وفقا لنظام هيئة المحلفين القضائي؛ فيتساءل الناس -في الغرب والشرق- عن صحة ما يقال عن الصلة التاريخية بين هذا النظام والتجربة القضائية الإسلامية، التي هي إحدى مظاهر التأثير الإسلامي في الحضارة الغربية.
وذلك منذ جادل الباحث القانوني د. جون مقدسي سنة 1421هـ/1999م -في بحث له بعنوان: ‘الأصول الإسلامية للقانون العام الإنجليزي‘- بأن الأصول التشريعية والإجرائية لتقليد "هيئة المحلفين" تعود إلى ما يُعرف بـ"شهادة اللفيف" في النظام القضائي في صقلية الإسلامية، التي انتقل منها -بعد خروجها عن سيادة المسلمين- إلى بريطانيا في إطار العلاقات التاريخية التي ربطت بين البلدين قبل ثمانية قرون.
وكانت دراسة مقدسي هذه تسير على خُطَى إعادة الأمور لنصابها غربيا في موضوع إنصاف التشريع الإسلامي، والاعتراف بدوره المؤثر في نضج القانون الغربي عقلا وتنظيما، بعد عقود من ترسيخ دعوى تأثُّر الفقه الإسلامي بالقانون الروماني التي أشاعها متعصبو الاستشراق من أمثال المجري إغناتس جولد تسهير (ت 1339هـ/1921م) في كتابه ’العقيدة والشريعة في الإسلام’، وتلميذه المخلص الألماني جوزيف شاخت (ت 1389هـ/1969م) في محاضرته عن ’القانون البيزنطي والشريعة الإسلامية’.
ومسألة "شهادة الكافة" أو "شهادة اللفيف" (اللفيف = أخلاط الناس) عند المالكية يُقصد بها بناء القاضي حكمه في واقعة ما على أساس شهادة تقدم بها عدد ممن حضروها لا يقلّ عادةً عن 12 شاهدا، ويكونون من الذين لم يتوفر فيهم شرط "العدالة الشرعية"، ولكن عددهم يمنع -في العادة- اتفاقَهم على الكذب في شهادتهم، وهو ما يعطي للقاضي ظنا راجحا بصدقية شهادتهم، على أساس أن كل ستة منهم يساوون شاهدَ عدلٍ واحدا.
وشهادة اللفيف هذه إنما أقرها المالكية -بشروط وكيفية ليس هنا مجال لذكرها- بدافع الضرورة القضائية، حتى لا تضيع حقوق الناس بسبب غياب "الشهود العدول" في زمان أو مكان ما لا يكون فيه عادة أمثال هؤلاء الشهود، ولذلك لا يعتمدها القاضي بمفردها إذا كان يجد ولو شاهدا عدلا واحدا في القضية المرفوعة أمامه.
بل إن القاضي لا يعتمد غالبا شهادة جماعة اللفيف مباشرة وإنما يكلف شاهديْ عدلٍ معتمديْن عنده بالاستماع إلى شهادة اللفيف وتوثيقها كتابيا، ثم يقومان هما نيابة عن شهود اللفيف بقراءة وثيقة الشهادة أمام القاضي ليعتمدها.
وكان لدى فقهاء المذهب المالكي هاجسٌ مُزْمِنٌ من اعتبار جعل شهادة اللفيف أصلا يهدم اشتراط العدالة في الشهود؛ فأكد متأخروهم "أن ما جرى في كلام المتقدمين من اعتبار شهادة غير العدول إنما يعنون به ما كان على سبيل التواتر المفيد للعلم، وهو خارج عن باب الشهادة العرفية فإطلاق الشهادة عليه مجاز، وهذا أصل شهادة اللفيف، وشهادة العدول هي المعهودة في الشريعة لترتب الأحكام عليها"؛ كما يقول الفقيه المحقق محمد العربي الفاسي (ت 1052هـ/ 1642م) في رسالته ’شهادة اللفيف‘".
فشهادة اللفيف إذن نموذج عملي لواقعية الفقهاء والقضاة المسلمين حين قرروا أنه "إذا لم نجد في جهة إلا غيرَ العدول أقمنا أصلحَهم وأقلَّهم فجورا للشهادة عليهم، ويلزم مثلُ ذلك في القضاة [عند فسادهم] وغيرِهم ليلا تضيع المصالح..، فإن التكليف [الشرعي] مشروط بالإمكان"؛ طبقا للإمام القرافي المالكي (ت 684هـ/1283م) في كتابه ‘الذخيرة‘.
والأمر الجوهري هنا هو أن "شهادة اللفيف" مختلفة -في تكييفها القانوني وتوظيفها القضائي- عن نظام "هيئة المحلفين" في صيغته المستقرة اليوم في القضاء الأنجلوسكسوني، لكونها لا يُعمل بها إلا في الظروف الاستثنائية التي تنعدم فيها آليات وإجراءات التقاضي العادية، بينما هيئة المحلفين نظام قضائي أصيل ولا يمثل حالة استثنائية.
بل إن فلسفة نظام هيئة المحلفين قائمة على أنه يعتبر نوعا من دَمَقْرَطَة القضاء بإدخال العنصر الشعبي في مكوّنه الوظيفي، بحيث إن المحلفين يعادلون -بدرجة ما- القضاةَ لا الشهودَ، ولذلك يُشترط في اختيارهم حُسْنُ السيرة والسلوك، وليس ذلك شرطا في اللفيف باعتبار أنهم أصلا لا تُشترط فيهم العدالة، ولذلك فإن حكم المحلفين ملزِم للقاضي في حدود صلاحياتهم، وليست شهادة اللفيف ملزمة للقاضي من الناحية الفقهية وإن كان -في الغالب- يعتمد عليها حكمه القضائي.
روافد التأثير
على أن تلك الفروق بين النظامين لا تعني انتفاء القواسم المشتركة بينهما؛ ومن أهمها كون اللفيف والمحلفين ينتمون إلى عامة الشعب وليسوا -من جهة التكوين والتأهيل- ضمن فئة القضاة، كما يعزز النظامان حضورَ الأعراف المجتمعية داخل آليات التقاضي.
ولعل نظام "الشورى القضائية" -الذي شرحنا ملامحه العامة سابقا- أقرب إلى نظام المحلفين من تجربة شهادة اللفيف؛ فالفقهاء المشاوَرون هم عمليا من المجتمع العادي -رغم مكانتهم العلمية البارزة- وليسوا رسميا من فئة القضاة، رغم كونهم يشاركون في التأكد من سلامة حكم القاضي قبل صدوره.
كما أنه يشترط في الفقهاء المشاوَرين تحقق الاستقامة الأخلاقية والنزاهة في إبداء الرأي الفقهي الصحيح، للمحافظة على تطبيق القضاة "لروح القانون"، وحماية هذا القانون الفقهي من الانتهاك لأن الفقهاء هم سلطة التشريع الاجتهادي في مقابل السلطة القضائية، وأيضا لصيانة حقوق المتقاضين من عسْف القاضي في الأحكام. وكل هذه مقاصد مرعية نظريا في نظام هيئة المحلفين.
أما النظام القضائي الإسلامي الثاني الذي يقترب منه أكثر -في نمط تشكيلته- نموذجُ هيئة المحلفين، ويقارب هو -في طبيعة صلاحياته- أيضا تجربةَ "الشورى القضائية"؛ فهو ما عُرف في مؤسسة قضاء الدولة العثمانية باسم "شهود الحال".
وحسب الباحث التركي رمضان بالجي -في بحث له بعنوان ‘شهود الحال في القضاء العثماني‘- فإن شهود الحال هم "هيئة رقابية.. تتابع سير المحكمة، حيث يستشير القاضي هذه الهيئة ليتلقى منها المعلومات حول القانون العرفي والعادات المحلية. ويشارك شهودُ الحال في المحاكم بصفةِ شهودٍ لمؤازرة القاضي على تحقيق العدالة، فهم يوجَدون أثناء المحاكمة من أجل متابعة سير المحكمة ومراقبتها".
ويضيف بالجي أن "شهود الحال لم يتدخّلوا في قرار القاضي ولم يكن لهم تأثير عليه بالمرة، ولكن وجودهم كان بمثابة العنصر الضامن للعدل في المحكمة، حيث كان القاضي -قبل إصدار حكمه- يلجأ إلى شهود الحال ويستشيرهم، ثم يصدر الحكم. وهذا دليل واضح على دور شهود الحال في تجلّي العدالة في المحكمة. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن شهود الحال ليسوا شهودَ عِيانٍ على القضية، بل إنهم مراقبون في المحكمة".
ويكاد هذا التوصيف ينطبق على نظام الشورى القضائية كما عرفناه؛ ولكن مكونات تشكيلة هيئة "شهود الحال" تجعلها أقرب شكليا إلى هيئة المحلفين التي تتألف من أشخاص ذوي خلفيات وظيفية مختلفة (مهندسون وأطباء وتجار وعمال بسطاء... إلخ)، فشهود الحال أيضا يتكونون من خليط من موظفي الدولة وممثلي المجتمع المدني.
وفي ذلك يقول الباحث التركي بالجي إن هيئة "شهود الحال" تتكون عادة في كل محكمة من النُّواب الذين هم كبار رجال المدينة وكانوا يحضرون كل القضايا، والمفتي الرسمي الذي كان يحضر عادة القضايا المهمة فقط، ونقيب السادة الأشراف..، و"أخي بابا" الذي هو رئيس نقابات التجار والحرفيين، والدفتردار (أمين المالية).
وبغض النظر عن درجة تشابه نظام "هيئة المحلفين" مع التجارب القضائية الإسلامية ("شهادة اللفيف" و"الشورى القضائية" و"شهود الحال")؛ فإن فرضية جذوره الإسلامية تظل أقرب إلى المنطق التاريخي، مهما دخل عليه بعد ذلك من تطويرات وإضافات، خاصة أنه "لا يوجد نظام آخر في أي مؤسسة قانونية -تمت دراستها حتى الآن- تشترك في كل هذه الخصائص [لنظام اللفيف الإسلامي] مع هيئة المحلفين الإنجليزية"؛ وفقا للباحث د. جون مقدسي في بحثه المذكور سابقا.
وهذا الاقتباس القضائي الغربي من التجربة القضائية الإسلامية -مهما كانت درجته وطبيعته والحقبة التي تم فيها والبوابة التي عبر منها إلى الغرب- إنما هو مظهر من مظاهر المؤثرات الفكرية والنُّظمية التي اقتبستها الحضارة الغربية من جارتها الإسلامية، عبر نقاط التماس بينهما في الأندلس وصقلية، وأيضا منطقة أوروبا الشرقية والبلقان التي كانت جزءا من الدولة العثمانية طوال خمسة قرون.
"فقه" نابليوني
ومما يعزز هذا الاقتباس أنه حصل نظير له في عصر لا يبعد عنا أكثر من قرنين، وفي وقت كانت فيه أوروبا في ذروة مجدها الثوري على كل شيء؛ فما بالنا أن تقتبس من نُظم الحضارة الإسلامية وهي لا تزال في عصور ظلامها الوسطى المطبقة.
والاقتباس الذي نعنيه هو ذاك الذي أمر به وأشرف على إنجازه "مخلّص" الثورة الفرنسية وإمبراطورها نابليون بونابرت (ت 1236هـ/1821م)؛ فقد أمر -وهو حينها غازٍ مقتحمٌ للبلاد الإسلامية بمصر والشام- أن تترجَم له الثروة الفقهية القانونية الإسلامية للمغلوبين الذين أصبحوا رعية في إمبراطوريته المترامية، فكان نابليون بذلك -على خلاف القاعدة الخلدونية- غالبا مولَعاً بتقليد ثقافة المغلوب!!
وهذه الثروة الفقهية -التي اعتمدت أساسا على فقه المذهب المالكي- هي التي صاغ له منها قانونيو حملته الغازية الغاشمة ما أصبح يُعرف باسم "قانون نابليون" (Code de Napoleon) الصادر أولَ مرة سنة 1219هـ/1804م، وهو القانون "الذي قرر الهيكل التشريعي لفرنسا حتى يومنا هذا، [واستطاع به نابليون] أن يحقق أعظم مآثره بقاءً على الزمن"؛ وفقا لديورانت الذي ينقل -في ‘قصة الحضارة‘- عن نابليون قولَه متباهيا بمدونته بحيث صارت تعدل عنده جميع منجزاته: "إن عظمتي الحقيقية ليست في المعارك الأربعين التي خضتها وأحرزتُ فيها النصر، ذلك لأن هزيمتي في واترلو Waterloo (= أمام الإنجليز سنة 1230هـ/1815م) ستَمحق ذكرى هذه الانتصارات..، أما ما لا يمكن محقه وما سيبقى أبد الدهر فهو مدوَّنتي القانونية"!!
ولإثبات الصلة -عبر القرون- بين الفقه الإسلامي وقوانين بونابرت التي منها تفرعت التشريعات الأوروبية الحديثة؛ عكف العالم المصري سيد عبد الله علي حسين التِّيدي (ت بعد 1385هـ/1965م) -وهو عالم أزهري ودارس للحقوق في جامعة ليون بفرنسا- على مقارنة مواد تشريعات نابليون بفروع كتب الفقه المالكي، مقارنة لا تكتفي بالبحث في الاقتباس على مستوى الأصول والقواعد وإنما تتتبع الجزئيات الفقهية في قواعد القانون المدني الفرنسي قاعدةً قاعدةً، حسب أبواب المعاملات المدنية.
وقد أودع العالم الأزهري نتائج عمله في سفر ضخم سماه: "المقارنات التشريعية بين القوانين الوضعية المدنية والتشريع الإسلامي: مقارنة بين فقه القانون الفرنسي ومذهب الإمام مالك". وكانت خلاصة دراسته المستفيضة إثبات أن "القانون المدني الفرنسي -وهو أصل القوانين التشريعية الوضعية- مأخوذ من مذهب الإمام مالك بن أنس".
بل إن التِّيدي يدقق هذا الحكم أكثر فيقول إن كتابه توصل إلى أن نسبة هذا الأخذ تقدر "بتسعة أعشار نصوص القانون الفرنسي المدني"!! وهو ما يؤيده الأكاديمي البريطاني المسلم ديفيد موسى بيدكوك -في مقدمته لكتاب "نابليون والإسلام" للباحث كريستيان تشيرفيلز- بقوله إن "96% من مواد القانون المدني (قانون نابليون) استُمِدَّت من الشريعة الإسلامية.. على أساس فقه الإمام مالك"، وإن "قانون نابليون (القانون المدني) -الذي كان له تأثير عملي ساعد على تحرير يهود أوروبا من العبودية- كان إسلاميا بالكامل تقريبا".
وبعد سيّد التِّيدي؛ جاء العلامة الفقيه والخبير في القانون الفرنسي د. مصطفى السباعي (ت 1384هـ/1964م) -في كتابه ‘من روائع حضارتنا‘- ليؤكد أنه "كان لاتصال الطلاب الغربيين بالمدارس الإسلامية في الأندلس وغيرها أثر كبير في نقل مجموعة من الأحكام الفقهية والتشريعية إلى لغاتهم، ولم تكن أوروبا في ذلك الحين على نظام مُتقَن ولا قوانين عادلة، حتى إذا كان عهد نابليون في مصر ترجم أشهر كتب الفقه المالكي إلى اللغة الفرنسية".
ويضيف السباعي أنه كان "من أوائل هذه الكتب ‘كتاب خليل‘ (= ‘مختصر خليل‘) الذي كان نواة القانون المدني الفرنسي، وقد جاء متشابها إلى حد كبير مع أحكام الفقه المالكي. يقول العلامة سيديو (المستشرق الفرنسي بيير لوي سيديو Louis-Pierre-Eugène Sédillot ت 1875هـ/1292م):
«والمذهب المالكي هو الذي يستوقف نظرنا على الخصوص لما لنا من الصلات بعرب إفريقية، وعهدت الحكومة الفرنسية إلى الدكتور بيرون (= نيكولا بيرون Nicolas Perron ت 1291هـ/1876م) في أن يترجم إلى الفرنسية كتاب ‘المختصر‘ في الفقه لخليل بن إسحق (المالكي ت 776هـ/1374م)»".
وقد لفتت مظاهرُ مجمل التأثير الإسلامي في القانون الغربي الوضعي انتباهَ منظمة اليونسكو الدولية؛ فأشرف "مركز تبادل القيم الثقافية بالشعبة القومية لليونسكو" سنة 1398هـ/1978م على إصدار مجلدات حافلة تحت عنوان: "التشريع الإسلامي والنظم القانونية الوضعية: دراسة مقارنة"، عالج فيها كبار القانونيين الدوليين هذه القضية من زوايا عديدة.
وكانت تلك الخطوة نمطا من الاستجابة العالمية لما دعا إليه -قبل زهاء نصف قرن- فقهاءُ القانون الدولي في "المؤتمر الدولي للقانون المقارن" المنعقد في سنة 1351هـ1932م بمدينة لاهاي الهولندية، من ضرورة اعتبار الشريعة الإسلامية منظومة قانونية ثرية ومتميزة إلى جانب المنظومات القانونية العالمية الأخرى.
وحسب الباحث الجزائري د. حمزة بن خدة -في رسالة دكتوراه بعنوان: ‘أثر الفقه المالكي في القانون المدني الفرنسي: العقد نموذجا‘؛ فإن "أكثر ما يثير الانتباه.. هو وجود وثيقة رسمية تثبت امتثال الدكتور نيكولا بيرون لأمر الحكومة الفرنسية وقيامه فعلا بترجمة كتاب خليل في ستة مجلدات؛ ألا وهي نسخة لمختصر خليل طبعت في فرنسا بداية من 1855م (= 1271هـ) تحت إشرافٍ من وزارة الدفاع الفرنسية، وجاءت معنونة بالعربية بـ«المختصر في الفقه على مذهب الإمام مالك بن أنس لخليل بن إسحق المالكي»".
ومن الطريف أن نسخة وزارة الدفاع الفرنسية -التي كانت حينها قد احتلت الجزائر وتتحفز لاقتحام تونس والمغرب- من ترجمة الفقه المالكي بمصر "جاء في صفحتها الأولى المعنونة بالعربية: «طُبع في مدينة باريز المحروسة بالمطبع السلطاني المعمر سنة 1272 من الهجرة المطابقة لسنة 1855 من ميلاد المسيح»"؛ طبقا للباحث بن خدة.
على أنه من المهم الإشارة إلى جهود التقنين للفقه الإسلامي سبقت تجربة نابليون بما يزيد على قرن، وكان -بحكم طموحه الإمبراطوري العالمي- على علم بها واطلاع عليها عبر مستشاريه القانونيين، مما يفتح الباب أمام طرح فرضية احتذائه نمطها في مشروعها القانوني، الذي اقتبست منه كل القوانين الحديثة بما فيها القوانين العربية والإسلامية، التي كان الأولى بها الرجوع إلى ذخيرتها الفقهية الأصيلة التي منها استمدّ نابليون تشريعاته.
ففي الدولة المغولية الإسلامية بالهند نجد تجربة سلطانها عالَمْكير أورَنْكْزيب (ت 1118هـ/1707م) الذي كان من فئة السلاطين العلماء، وحكم 50 سنة كانت درة تاج إنجازاته العلمية خلالها مشروعا علميا فقهيا رائدا صار النواة الأولى لمدونات "تقنين الفقه" المعاصرة، بدءا من ‘مجلة الأحكام العدلية‘ للدولة العثمانية الصادرة سنة 1293هـ/1876م.
وقد أبان عن عِظَم ذلك المشروع المؤرخ أبو الفضل المُرادي (ت 1206هـ/1791م) -في ‘سِلك الدُّرر‘- بقوله إن عالَمْكير: "أمَرَ علماء بلاده الحنفية أن يجمعوا باسمه فتاوى تجمع جُلَّ مذهبهم، مما يُحتاج إليه من الأحكام الشرعية؛ فجُمعت في مجلدات وسماها بـ‘الفتاوي العالَمْكيرية‘، واشتهرت في الأقطار الحجازية والمصرية والشامية والرومية (= التركية)، وعَمَّ النفعُ بها وصارت مرجعاً للمفتين" في جميع هذه الأقطار.
وكذلك تجربة "قانون صنعاء" الذي صدر سنة 1161هـ/1748م في أيام الدولة القاسمية الزيدية، وتضمن قواعد تنظيمية دقيقة تقنن كثيرا من التعاملات المدنية والنشاط التجاري والمهني، وما يتصل بها من مخالفات وجزاءات ترتكز على أحكام الفقه وعوائد المجتمع وقواعد المصلحة العامة. وقد طبع القاضي اليمني حسين بن أحمد السياغي (ت 1410هـ/1990م) نصَّ هذا القانون بعنوان: "قانون صنعاء في القرن الثاني عشر الهجري".