الشافعي روى لـ300 شاعر مجنون والذهبي سمع كتب نوادرهم وأخضعهم المعتزلة للدراسة.. مجانين العرب ثوار وأولياء وعاشقون
في الوقت الذي أسس فيه الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (ت 95هـ/715م) أول مستشفى في الإسلام كان ضمن خدماته توفير الرعاية لمرضى الصحة النفسية أواخر القرن الأول الهجري/مطلع القرن الثامن الميلادي؛ فإن البلاد الأوروبية لم تعرف أول مستشفى للأمراض النفسية إلا في القرن التاسع الهجري/الـ15م، وذلك ببناء أول مأوى للمصابين بالأمراض النفسية في فرنسا على مثال "بيمارستان قلاوون" الذي بُني في القاهرة عام 683هـ/1284م.
ومن المعروف أن العرب لم يهتموا فقط بظاهرة الجنون علاجا ورعاية، بل أيضا انشغلوا بالنظر إليها باعتبارها حالةً معرفيةً؛ فقد صمّم العرب نظاما منهجيا في غاية العمق لرصد ظاهرة الجنون، وجمعوا آثار المجانين وأشعارهم ومقولاتهم، وفرّقوا بشكل دقيق بين حالات الجنون التي تصيب العقل بسبب اضطراب إدراكي، وبين ما يعتري النفس من اختلاط وأوهام ووَجْد وعشق غياب واكتئاب.
ومن الأشياء اللافتة التي ترصدها هذه المقالة تلك العناية العجيبة التي أولتها شخصيات من تيار المعتزلة لأحوال المجانين، وحرصهم على الاجتماع بهم واختبار أفكارهم، ومبعث العجب في هذا الأمر هو تمركز المعتزلة حول العقل وإعلاؤهم من شأنه ونفورهم الشديد من أي تغييب للنظر العقلي المنطقي. وربما لا يكون لنا من تفسير لهذا الأمر إلا تعليل إمام معتزلي كبير مثل أبي عثمان الجاحظ (ت 255هـ/869م) الذي كشفت دراستنا هذه -لأول مرة فيما نعلم- عن كتاب مفقود له خصصه للمجانين.
فقد اعتبر أبو عثمان أن الغرائب التي تختلف عن مادة العقل تخصب التفكير وتُرْوِي ظمأَ التأمل، وبالتالي فإن هذا الاختلاط بأعاجيب الأحوال وغرائبها يعدّ من مستثيرات الفكر والنظر. والواقع أن المعتزلة ليسوا وحدهم في ذلك؛ فهناك كثير من أئمة الفقهاء والمحدِّثين اعتنوْا بتدوين ودراسة وحفظ أقوال المجانين وأشعارهم ونوادرهم، وقد عرضنا لنماذج من هؤلاء الأئمة في صلب المادة.
ومن أبرز ما انشغلت به هذه المقالة سعيُها لأن تمد جسرا بين شعراء المجانين ونظرائهم من العشاق ورجال المتصوفة، وكيف أن مجانين الحب العذري أثّروا -بالصور الشعرية الغزلية العفيفة والأخّاذة التي رسموها- على أدب المتصوفة المطوِّف في آفاق "الحب الإلهي"، وهذا التواصل والانتقال ما بين العشق الأرضي والحب السماوي يؤكد أن كثيرا من أحوال وأدبيات المتصوفة المسلمين كانت وليدة مؤثرات محلية وليست دخيلة أو مستوردة.
وإلى جانب ذلك؛ رصدت المقالة تحليلات مهمة قدمها فقهاء ومفكرون مسلمون لظاهرة "عقلاء المجانين" معللين الأسباب التي قادت بعضهم إلى تلك الوضعية، حيث أرجع نفر منهم ظهور بعض تلك الحالات إلى توجه تلك الشخصيات نحو الانصراف عن الحياة، أو اختيارهم العيش على حافتها، والبقاء في موقع المراقب من الخارج الساخر من الأوضاع المحيطة به، وأنه بسبب الانصراف والانشغال عن تفاصيل الحياة صَفَتْ نفوسُهم، فتواردت عيلهم الانجذابات الروحية والنفسية العميقة، وهي أحوال لا تستدعي مطاردتهم أو القسوة عليهم بل تفرض أن يحاطوا بعناية خاصة ملؤها التفهم والرحمة.
وهكذا؛ فإن هذه المقالة تكشف الأفق السامي الذي بلغته الثقافة العربية الإسلامية في احتفائها المدهش بفئة المجانين وليس فقط تسامحها العظيم مع أوضاعها وأوجاعها، كما تبرز المقالة عمق ما اتصفت به تلك الثقافة من المرونة والرحابة إزاء تلك الظاهرة، في الوقت الذي كانت تنظر فيه ثقافات أخرى إلى المجنون باعتباره وحشا، والجنون بوصفه حالة شيطانية يجب أن تُعزل وتُنفى وتُبعد؛ كما يقول المفكر الفرنسي ميشيل فوكو (ت 1415هـ/1984م) الذي قدم -في كتابه ‘الجنون في العصور الكلاسيكية‘- أهمَّ دراسة عن تاريخ الجنون بالغرب في العصر الكلاسيكي. وفي المقابل؛ تعرض دراستنا هذه نمطا من الشغف العجيب عند مفكري الإسلام برصد جانب آخر من الحقيقة لا يمكن الإمساك به إلا عندما يصمت العقل!!
لعل أهم ما يمكن أن نطرق به مقاربة المسلمين لظاهرة الجنون ونظرتهم إلى فئة المجانين هو المدخل القرآني لهذا الموضوع؛ فقد وردت كلمة "مجنون" في القرآن 11 مرة، وغالبا ما يكون ذلك وصفا للأنبياء ورد على ألسنة المكذِّبين برسالاتهم من أقوامهم.
ويحلل الإمام أبو القاسم بن حبيب النَّيْسابوري (ت 406هـ/1016م) -في كتابه ‘عقلاء المجانين‘- سبب رمي الأنبياء بالجنون بقوله "دعت الأممُ الرسلَ مجانين لأنهم شقّوا عصاهم فنابذوهم وأتوا بخلاف ما هم فيه". وفي أحاديث صحيحيْ البخاري ومسلم وردت كلمة "مجنون" أو "به جنون" 21 مرة.وأول ما يلفت الانتباه في نظرة العرب إلى الجنون أو ما يشابهه هو كثرة المترادفات اللغوية للفظة الجنون؛ فقد رصد الباحث المعاصر أحمد الخصوصي -في كتابه ‘الحمق والجنون فى التراث العربي‘- غزارة مترادفات الجنون في معجم "لسان العرب"، إذْ وصل عددها إلى 80 مفردة، بينما بلغت اشتقاقات الحُمْق نحو 400 لفظة.
ولعل ذلك هو ما دفع أبا حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) لقوله -في ‘الإمتاع والمؤانسة‘- إن "العقل بين أصحابه ذو عَرْض واسع، وبقدر ذلك يتفاضلون التفاضل الذي لا سبيل إلى حصره، وكذلك الجنون بين أهله ذو عَرْض واسع، وبحسب ذلك يتفاوتون التفاوت الذي لا مطمع في تحصيله.
وكما أنه يبدر من العاقل بعض ما لا يتوقع إلا من المجنون؛ كذلك يبدر من المجنون بعض ما لا يتوقع إلا من العاقل، ولا يعتد بذلك ولا بهذا، أعني أن العاقل بذلك المقدار لا يُرَى مجنونا، والمجنون بذلك المقدار لا يُسمَّى عاقلا". وواضح من هذا التنظير أن مفكري المسلمين فطنوا إلى ذلك التوازي بين العقل والجنون، وأنه طالما أن العقل متحرك فإن الجنون سيسايره في الحركة والاتساع.
ويدهشنا أبو الفرَج النديم أو ابن النديم (ت 384هـ/995م) -في كتابه ‘الفِهْرِسْتْ‘- بحقيقة أن المسلمين صنّفوا مبكرا في ظاهرة الجنون والحمق؛ فقد قال إن المؤرخ أبا الحسن المدائني (ت 225هـ/840م) –وهو "العلامة الحافظ الصادق" وفق تعبير الإمام شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م)- ألّف مصنفا سماه "كتاب الحمقى"، فلعله أقدم ما وُضع في هذا الموضوع.
وهناك عدة كتب ألِّفت في رصد ظاهرة الجنون والمجانين ذكرها كل من النديم والنيسابوري، وأكد الأخير سماعه كتبا عاش مؤلفوها في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي وهي مفقودة الآن؛ حيث قال "وكنت في حداثة سني سمعت كتباً في هذا الباب، مثل كتاب الجاحظ (ت 255هـ/869م) وكتاب ابن أبي الدنيا (ت 281هـ/894م)، وأحمد بن لقمان (بن عبد الله أبي بكر السمرقندي المعروف بالقَبّابي من رجال النصف الأول من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي)، وأبي علي سهل بن علي البغدادي (الدُّوري المتوفى 290هـ/903م)".
سباق معرفي
ويعني هذا الكلام أن للجاحظ كتابا خاصا بالمجانين الذين ما كان لهم أن يغيبوا عن دائرة رصده واهتمامه، وهو الباحث الولوع بدراسة الظواهر المجتمعية وغرائبها، لكن أثر هذا الكتاب ليس معلوما بدقة، ولا أعلم هل انتبه أحد المهتمين بتراث الرجل لأهمية البحث عن هذا الكتاب لإخراجه للناس، لكن يبدو أن أغلبية مادته موجودة في كتبه المشهورة التي تكتنز الكثير من النوادر والحكايات عن المجانين، سواء تلك التي استمدها من واقع الناس المعيش أو التي جاد بها خياله الأدبي الخِصب.
وعلى غرار النيسابوري؛ ذكر سبطُ ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) -في ‘مرآة الزمان في تواريخ الأعيان‘- ضمن ترجمته لابن أبي الدنيا (ت 281هـ/894م) أنه صنف كتابا بعنوان "حكماء المجانين"، ولعل هذا العنوان محقّقا للقول المتداول بين الناس "خذوا الحكمة من أفواه المجانين".
لكن ما يلفت النظر أكثر هو أن عنوانا مثل "عقلاء المجانين" اعتلى أغلفة عدد كبير من الكتب التراثية؛ فقد عنْون به أبو بكر ابن أبي الأزهر (ت 325هـ/937م) كتابا في هذا الموضوع، وهناك رسالة مطبوعة بعنوان «عقلاء المجانين والموسوسين» لابن إسماعيل الضرّاب المصري (ت 392هـ/1003م).
ورغم أن الضرّاب معاصر لابن حبيب النيسابوري؛ فإن كتاب الأخير المسمى «عقلاء المجانين» يظل أبرز مؤلفات هذا الباب، فهو مكتوب على طريقة المرويات، ويقدمه مؤلفه بقوله: "ألَّفت هذا الكتاب على غير سَمْتِ (= منهج) تلك الكتب [السابقة عليه]، وهو كتاب يكفي الناظرَ فيه التردادَ وتصفحَ الكتب، وأرجو أني لم أُسبَق إلى مثله".
أما مقولة "عقلاء المجانين" نفسها فقد كانت أشبه بمصطلح جوّال يكتنز محاولة معرفية لجمع شتات أقوال شخصيات تاريخية مسّها طائف من الاضطراب النفسي أو العقلي، فتمّ جمعها وتوثيقها تحسبا ربما لوقتٍ ما يمكن أن يكون فيه مجانين الأمس هم عقلاء اليوم!!
ويسهل رصد هذا المصطلح بغزارة في بحور كتب التراجم والتاريخ والأدب؛ ففي ‘تاريخ بغداد‘ للخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) جاء أن العباس بن محمد ابن الضحاك الأشهلي (ت 263هـ/877م) "روى عن أبيه أخبار عقلاء المجانين"، وابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) وضع -في ‘صِفة الصفوة‘- بابا بعنوان: «ومن عقلاء المجانين بالبصرة».
كما أرخ الذهبي لصنف من هؤلاء في كتابه ‘تاريخ الإسلام ووَفيات المشاهير الأعلام‘، فقد قال في ترجمة الحرفوش عبد الله الفاتولة الحلبي (ت 700هـ/1300م) إنه "كانت جنازته مشهودة"، رغم أن الناس كانوا "يعدّونه من عُقلاء المجانين"!!
لقاح للعقل
وهناك كتب أخرى تناولت هذه الظاهرة لكن في إطار فئة "الحمقى"، وهي دائرة أوسع من الجنون وإن كانت تتّحد معه في العديد من المظاهر النفسية والعقلية، مثل ما نسبه ابن النديم إلى الكتنجي (ت بعد 275هـ/888م) -الذي يصفه بأنه "في طبقة أبي العَنْبَس (الصَّيْمَري المتوفى 275هـ/888م) وأبي العِبَر (الهاشمي المتوفى 250هـ/862م) وقيل إنه خلف أبا العبر على الحماقة بعد موته"!!- من تأليفه كتابيْ: ‘كتاب المُلَح والمحمَّقين‘ و‘كتاب جامع الحماقات وأصل الرَّقاعات‘.
لكن يبقى ابن الجوزي حالة مميزة في هذا الباب بكتابه ‘أخبار الحمقى والمغفلين‘؛ إذْ أكد لنا الفكرة التي ذكرها التوحيدي بشأن توازي حركة العقل مع حركة الجنون أو الحمق، حيث يقول "إني لما شرعت في جمع أخبار الأذكياء وذكرت بعض المنقول عنهم ليكون مثالاً يُحْتذَى -لأن أخبار الشجعان تُعلِّم الشجاعة- آثرتُ أن أجمع أخبار الحمقى والمغفلين".
وأفرد ابن الجوزي بابا واسعا لسرد معاني الحمق وصفات الحمقى وأشكالهم الجسمانية، وفرَّق بين الحمق والجنون معرِّفا الأول بأنه "الغلط في الوسيلة والطريق إلى المطلوب مع صحة المقصود"، أما الجنون فهو "عبارة عن الخلل في الوسيلة والمقصود جميعا".
وبالتالي فهو يفرق بين ما هو مرضي مثل الجنون، وما هو ضعف أو اضطراب في التفكير وهو الحمق. ومن رأيه أن الحمق "غريزة لا ينفعها التأديب، وإنما ينتفع [صاحبها] بالرياضة.. فتدفع الرياضة العوارض المفسدة"، وهو ما تعززه الحكمة العربية المأثورة والقاضية بأن "الحماقة أعيتْ مَن يداويها"! وهذا يعني أن مواجهة هذه السلوكيات بالعنف والوسائل الخشنة لن تفيد، وأن أصحابها يحتاجون إلى برامج معالجة تأهيلية متخصصة لتذهب عنهم هذه العوارض.
وإلى جانب الكتب المتخصصة في عالم المجانين والحمقى؛ عرَفت المكتبة العربية التراثية الكثيرَ من الكتب الأدبية والعامة التي احتوت مئات القصص من حكاياتهم، وفي طليعتها كتب الجاحظ وأبي الفَرَج الأصفهاني (ت 356هـ/967م) وابن عبد ربه الأندلسي (ت 328هـ/940م) وأبي حيان التوحيدي.
ويبدو أن هؤلاء جميعهم رغبوا -بإيرادهم هذه القصص- في تجاور وتداخل العادي مع المدهش في بعض مؤلفاتهم، يقول الجاحظ في فصل عقده عن "كلام النَّوْكَى والمُوَسْوِسين" في كتابه ‘البيان والتبيين‘: "وأحببنا ألا يكون مجموعا في مكان واحد إبقاءً على نشاط القارئ والمستمع". ولعل الجاحظ استثناء بين هؤلاء لأنه جمع بين المنهجين في التأليف كما رأينا في كتابه الضائع.
ولئن كان المفكر الفرنسي ميشيل فوكو (ت 1415هـ/1984م) رأى أن العرب كانوا متسامحين مع ظاهرة إنسانية كالجنون؛ فإنه لم يفطن ربما إلى أن الأمر يتخطى التسامح والتندُّر وجمع الفكاهات إلى الموقف المعرفي الفعّال، ولم يكشف كذلك عن الدوافع التي جعلتهم يتخذون هذا الموقف المتسامح، وراكمت في ثقافتهم هذا التراث المدوَّن الهائل الذي يكشف في جانب منه عن شق آخر من الحياة العربية، وهو خطاب الجنون الذي لم يتم نبذه أو تهميشه أو إخراج أصحابه من مجتمعاتهم، كما حصل في المدن الأوروبية عبر ما كان يُسمَّى "سُفُن الحمقى" الشهيرة في الأدب الغربي، حيث ظل خطاب الجنون حاضرا ومصانا في الثقافة العربية.
وإذا حاولنا فهم بعض أسرار تشكُّل العقل العربي القديم الفذ؛ فسنجد أن من المفاتيح المهمة فيه -التي يجب أن تخضع لعناية الباحثين في التاريخ- حرص قطاع كبير من مختلف طبقات العلماء المسلمين على تكوين ذهني مشحون بالخاطف والغريب من أنماط التفكير، والسعي لاكتسابه من اللغة المتفجرة التي يوردها هؤلاء المغيبون.
فالإمام الشافعي (ت 204هـ/819م) كان أحد أشهر رواة شعر المجانين؛ وقد روى الإمامان المحدِّثان البَيْهقي (ت 458هـ/1067م) -في ‘مناقب الشافعي‘- والنووي (ت 676هـ/1277م) -في ‘تهذيب الأسماء واللغات‘- أن محمد بن عبد الحكم (ت 268هـ/881م) –وكان تلميذا للشافعي- قال: "سمعت الشافعي يقول: أروي لثلاثمئة شاعر مجنون"!!
ويلخص ابن عبد ربه -في كتابه ‘العِقْد الفريد‘- وظيفة هذه النوعية من الآداب بقوله إنها إذا ما "أصغى إليها السامع وجدها ملهى للسمع، ومرتعا للنظر، وسكنا للروح، ولقاحا للعقل، وسميرا في الوحدة وأنيسا في الوحشة..، وقد يأتي لهؤلاء المجانين كلام نادر محكم لا يسمع بمثله، كما قالوا: ربّ رمية من غير رامٍ". وقبل ابن عبد ربه بعقود؛ رأى الجاحظ -في ‘البيان والتبيين‘- أن "الشيء مِن غير معدنه أغربُ…، وكلما كان أعجبَ كان أبدعَ! وإنما ذلك كنوادر كلام الصبيان ومُلَح المجانين"!!
حوار النقيضين
وينقل ابن الجوزي -في ‘أخبار الحمق‘- عن الأصمعي (ت 216هـ/831م) قوله: "سمعت الرشيد (الخليفة العباسي المتوفى 193هـ/809م) يقول: النوادر تشحذ الأذهان وتفتق الآذان"! ويرى ابن خلدون -في ‘المقدمة‘- أن بعض هؤلاء المجانين قد "غاب عن حسّه جملةً، فأدرك لمحة من عالم نفسه وانطبع فيها بعض الصور وصرفها الخيال، وربما نطق عن لسانه في تلك الحال من غير إرادة النطق، وإدراك هؤلاء كلِّهم مشوب فيه الحق بالباطل لأنه لا يحصل لهم الاتصال -وإن فقدوا الحس- إلا بعد الاستعانة بالتصورات الأجنبية كما قررناه، ومن ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك".
ولعل الأديب المعاصر مصطفى صادق الرافعي (ت 1356هـ/1937م) حاول -في كتابه ‘وحي القلم‘- التعبيرَ عن تلك العلاقة التي قامت بين بعض صفوة رجال الأدب والفكر الإسلامي ونفر من هؤلاء المجانين، فقد ذهب إلى "أن من المجانين قوما ظرفاء يَدخُلهم الفساد في عقولهم من ناحيةِ فكرةٍ ملازمةٍ لا تبرح، فلا يكون جنونهم جنونا إلا من هذا الوجه، وسائر أحوالهم كأحوال العقلاء…، ومثل هذا لا بد له ممن يستجيب لهذيانه كيما يحرِّك فيه خفَّته وطيشه وزهوه، وليكون عنده الشاهد على هذا الوجود الخيالي المبدَع الذي لا يوجد إلا في عقله المختلِّ، فإذا هو ظفِر بمن يُحاسنه (= يجامله) أو يُصانعه أو يُجاريه، حسبه مُذْعِنًا مؤمنا مصدِّقا، فلا يدَعُه من بعدها ويتعلَّق به أشدَّ التعلُّق، ويراه كأنه في ملكه…، فيتخذه صفِيًّا وهو يعتقد أنه رقيق، وقد يزعمه أستاذَه ليُفْهِمه من ذلك بحساب عقله… أنه تلميذه"!
وقد كان من المدهش حقا أمر اهتمام المعتزلة بالمجانين وعناية أئمتهم بجمع نوادرهم وأخبارهم ومحاورتهم، ومبعث العجب هنا أن المعتزلة عُرفوا بالانشغال بالعقل وأحواله وأنماطه انشغالا تاما؛ فما الذي دفعهم للبحث عن نقيض العقل والقفز في فضاءات الجنون؟! فهذا النيسابوري يذكر عن شيخ شيوخ المعتزلة أبي الهُذَيْل العَلّاف (ت 235هـ/850م) أنه نزل بأحد الأديرة وناظر أحد المجانين المقيمين فيه، وبعد أن سأله المجنون عدة أسئلة عرفه من نمط حجاجه فخاطبه قائلا له: "كُنْ أبا الهذيل العلاف"!
كما يحدثنا أبو إسحق الكتبي المعروف بالوَطْواط (ت 718هـ/1318م) أن إمام المعتزلة ثُمَامة بن أشْرَس (ت 213هـ/828م) قال: "بعثني الرشيد إلى دار المجانين (= مستشفاهم) لأصلِح ما فسد من حالهم"، أي أنه كان يتفقدهم ويعتني بأوضاعهم بتكليف رسمي من السلطة. وقد روى لنا ثمامة موقفا طريفا جرى له في "مناقشة كلامية عَقَدية" جرت بينه وبين أحدهم في إحدى دُور المجانين.
ومن المحاورات التي جرت بين ثمامة وبعض المجانين ما نقله النيسابوري -في كتابه ‘عقلاء المجانين‘-عن ثمامة أنه قال: "دخلت دَيْر هرقل (= دير للرهبان كان جنوبي بغداد) فرأيت فيه شابا مشدودا إلى سارية؛ فقال لي: ما اسمك؟ قلت: ثمامة، قال: المتكلم؟ قلت: نعم! قال: يا ثمامة، هل للنوم لذة؟ قلت: نعم! قال: متى يجدها صاحبها؟ إن قلتَ: قبل النوم أحَلْتَ (= قلت مستحيلا)، وإن قلت: مع النوم أخطأت لأنه ذاهب العقل، وإن قلت: بعد النوم أخطأت لأنه قد انقضى! قلت: وما تقول أنت؟ قال: إن النعاس داء يَحُلّ بالبدن ودواؤه النوم"!!
وكان الإمام اللغوي أبو العباس المُبرّد (ت 285هـ/898م) –وهو ممن كان يُنسب إلى الفكر المعتزلي- كثير التردد على دُور ومجالس المجانين، التي أفادنا المستشرق الهولندي رينهارت دُوزي (ت 1300هـ/1883م) -في كتابه ‘تكملة المعاجم العربية‘ نقلا عن كتاب ‘ألف ليلة وليلة‘- باسم حارس إحداها فسماه "عرفشة"، وقال إنه "مراقب دار المجانين وحارسها"!
وكانت للمبرد مع هؤلاء المجانين مواقفُ وتجارب علمية عجيبة؛ فقد سأله أحد أصحابه ذات مرة قائلا: "يا أبا العباس بلغني أنك تنصرف من مجلسنا فتصير إلى المُخَيِّس (= مكان سجن)، وإلى موضع المجانين والمعالجين فما معناك في ذلك؟ قال فقلت: إن فيهم طرائف من الكلام"؛ وفقا للإمام الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) في ‘تاريخ بغداد‘.
ولم يكن المبرد يرتاد دُور المجانين بمفرده بل كان يصطحب معه أحيانا بعض أصحابه من المعتزلة، وهو ما يدلنا على عنايتهم المنهجية بسلوك "عقلاء المجانين" هؤلاء؛ فقد نقل الإمام ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- هذه الحكاية التي نوردها على ما قد يكون فيها من صنعة خيال: "قال المبرد: دخلنا يوما على المجانين نزورهم -أنا وأصحاب معي- بالرَّقّة، فإذا فيهم شاب قريب العهد بالمكان عليه ثياب ناعمة، فلما بَصُرَ بنا قال: حياكم الله! ممن أنتم؟ قلنا: من أهل العراق؛ فقال: بأبي العراقَ وأهلَها! أنشدوني أو أنشدكم؟ قال: المبرد: بل أنشدنا أنت؛ فأنشأ يقول [….]:
يا راحل العِيس عجِّل كي أودعهم * يا راحل العيس في ترحـالك الأجلُ!
إني على العــهد لم أنقض مودتهم * فليت شعري لطول العهد ما فعلوا؟!
فقال رجل من البُغَضاء (= الثقلاء) الذين معي: ماتوا! فقال الشاب: إذن أموتُ! فقال: إن شئت! فتمطَّى (= تمدَّد) واستند إلى سارية عنده ومات، وما برحنا حتى دفناه، رحمه الله"!!
الجنون فنون
والحقيقة أن العرب فطنوا مبكرا إلى حضور النبوغ الأدبي والفني في وديان الجنون -المشتق عندهم من "الجِنِّ"- التي سمَّوْا أحدها "وادي عَبْقَر"، ونسبوا إليه فقالوا "عبقري" لكل ما أعجبهم من الأشخاص والأفكار والأشياء؛ فقد قال الإمام اللغوي أبو عُبيد القاسم بن سلّام الهَرَوي (ت 224هـ/839م) -في كتابه ‘غريب الحديث‘- مفسِّرا معنى مفردة «عبقري»: "أصلُ هذا فيما يقال: إنه نُسِب إلى عَبْقَر، وهي أرض تسكنها الجن، فصارت مثلا لكل منسوب إلى شيء رفيع" وبديع بين أمثاله!!
وعبارة "الفنون الجنون" الشائعة بيننا اليوم قديمة جدا في تراثنا؛ فقد وردت -كما يفيدنا أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ/1039م) في كتابه ‘يتيمة الدهر‘- قبل ألف سنة في بيت لشاعر بلاط الدولة الغزنوية بخراسان (388-432هـ/998-1040م) أبي محمد عبد الله بن محمد الدوغابادي (ت نحو 429هـ/1039م):
ويُشرَب مِن فيه المُدامُ مُعلَّقا * على لَهَب، إن «الجنون فنون»!!
ثم جاء بعده الإمام جار الله الزَّمَخْشَري المعتزلي (ت 538هـ/1143م) فوظّفها أدبيا في المقامة السادسة والخمسين من مقاماته، والتي كانت بعنوان: "الجنون فنون، والفنون جنون"!! وينقل الجاحظ -في ‘البيان والتبيين‘- عمن يسميهم "المسجديِّين" في البصرة أن مَن "لم يَرْوِ أشعار المجانين.. كانوا لا يعدُّونه من الرواة"!!
وهنا يمكن أن نفهم سر ما قاله النيسابوري "سمعتُ كتبا في هذا الباب" يقصد بذلك أخبار المجانين، وأيضا ما ذكره الإمام شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م) عن نفسه -في ‘سير أعلام النبلاء‘- ضمن ترجمته للنيسابوري هذا من أنه "العلامة المفسِّر الواعظ، صاحب كتاب ‘عقلاء المجانين‘ الذي «سمعناه» (= درسناه)"! وقوله -في ‘تاريخ الإسلام‘- مترجما لكمال الدين بن وريدة الحنبلي (ت 697هـ/1298م) المقرئ و"شيخ دار الحديث المستنصريّة" ببغداد إنه سمع "جزءَ ‘عقلاء المجانين‘ على ابن أبي حرب (أبو القاسم الفضل بن أبي حرب الجُرْجَاني المتوفى 488هـ/1095م)".
ومثلهم أبو يَعْقُوب الْعَطَّار الْبَغْدَادِيّ (ت بعد 281هـ/894م) الذي قال عنه المؤرخ ابن أيْبَك الصَّفَدي (ت 764هـ/1363م) -في ‘الوافي بالوفيات‘- إنه "جمع كتابا فيه [أخبار] عقلاء المجانين وحدّث به بطَرَسُوس (تقع اليوم جنوبي تركيا)، روى فيه عن أبي بكر بن أبي الدنيا…، ورواه عنه أبو عمرو" أحمد بن محمد ابن حكيم المدني الأصبهاني (ت 334هـ/946م) تلميذ الإمام ابن ماجه صاحب كتاب السُّنن (ت 273هـ/886م).
فإذا كان أئمة الحديث الكبار من أمثال الذهبي يُسجلون في تراجمهم "سماع" (دراسة) كتب أخبار المجانين والحمقى، ويدرّسونها في أماكن مثل طَرَسُوس التي كانت من الثغور العظيمة للجهاد والمرابطة، ويؤلفونها بأقلامهم كابن أبي الدنيا (ت 281هـ/894م) والنيسابوري وابن الجوزي فيما سنرى؛ فإن هذا يدل على احتفاء الطبقة العالمة والمثقفة قديما بمثل هذه المواضيع ومصنفاتها، وأنهم لم يكونوا يعتبرونها من قبيل العبث.
بل إن الذهبي وصف أحد أشهر المحمّقين في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي -وهو أبو العِبَر الهاشمي (ت 250هـ/862م)- بأنه "كان من أذكياء العالم"، ولم يستخدم الذهبي وصف "أذكياء العالم" إلا لقلة ممن ترجم لهم من "أعلام النبلاء". وكان الإمام ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ/1393م) يقول -في كتابه ‘استنشاق نسيم الأنْس من نفحات رياض القدس‘- عن "عقلاء المجانين" هؤلاء: "وكانت أقوالهم و[أحوالهم] محفوظة غالبا، ويصدر منهم من الكلام الحسن شيء كثير"!
الحاجة للجنون
من الأشياء التي تمكن ملاحظتها في تاريخ الجنون والحمق في التراث العربي ظاهرة "التحامق" أو "التجانن"، ويمكن إرجاعها إلى عدة أسباب منها التكيف والمسايرة مع سيطرة الجنون وهيمنته على المجال العام في لحظة تاريخية يصبح العقل فيها مهمشا وغريبا، ويمسي التعقل سببا في شقاء صاحبه!
ومن ذلك ما أورده الخطيب البغدادي -في ‘الجامع لأخلاق الراوي والسامع‘- من أن "عثمان الوراق (من رجال القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي).. رأى العتّابي الشاعر (ت 220هـ/835م) يأكل الخبز على الطريق بباب الشام [في بغداد]، فقال له: ويحك، أما تستحي؟ قال: أرأيت لو كنا في دار بقر كنت تستحي وتحتشم أن تأكل وهي تراك؟! قال الوراق: لا! قال: فاصبر حتى أعلمك أنهم بقر! فقام العتابي، فوعظ وقصّ ودعا؛ حتى كثـُر الزحام عليه، ثم قال لهم: روى لنا غير واحد أنه من بلغ لسانُه أرنبةَ أنفه لم يدخل النار! فما بقي أحد إلا أخرج لسانه يومئ به نحو أرنبة أنفه ويقدّره يبلغها أم لا! فلما تفرقوا التفت العتابي إلى صاحبه وقال: ألم أخبرك أنهم بقر؟!".
ويحكي النيسابوري أن أديبا شاعرا كان محروما من الجوائز الشعرية ثم "تحامق وأخذ في الهزل فحسُنت حاله وراج أمره حتى إن الملوك والأشراف أولِعوا به". ويروي القاضي المؤرخ ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) -في ‘وفيات الأعيان‘- أن أبا العِبَر الهاشمي يقال إنه "كان في مبدأ أمره صالح الشعر، فرأى أن شعره -مع توسطه- لا يَنفُق (= يرُوج) مع [شعر] أبي تمام (ت 231هـ/846م) والبحتري (ت 284هـ/898م) وأضرابهما؛ فعدل إلى الحمق وكسب بذلك أضعاف ما كسبه كل شاعر بالجِد"!!
بل أن أبا العبر نفسه أقرّ بأنه تلقى تأهيلا نظريا وعمليا في أصول الحماقة لكي يرفع مستوى حظوظه المعاشية والمالية؛ فقد أورد أبو إسحق الحُصْري القيرواني (ت 453هـ/1062م) -في جمع ‘الجواهر في المُلَح والنوادر‘- أن أبا العبر قال: "كنا نختلف -ونحن أحداث- إلى رجل يعلمنا الهزل؛ فكان يقول: أول ما تريدون (= تفعلون) قلب الأشياء! فكنا نقول إذا أصبح: كيف أمسيتَ؟ وإذا أمسى: كيف أصبحتَ؟"، ولازم أن أبو العبر شيخه هذا إلى أن أجازه في "فنون" الحمق وأصوله!
وثمة نمط من التحامق يريد به أصحابه الإفلات من عقاب السلطة، كما نرى في الحكاية التي جمع فيها أحدهم متناقضات الولاءات المذهبية في وصفه لنفسه وخصمه أمام أحد الولاة! فقد روى ابن الجوزي -في أخبار الحمقى والمغفلين‘- عن ثمامة بن أشرس أنه قال: "شهدتُ رجلا وقد قدّم خصما له إلى أحد الولاة فقال: أصلحك الله، أنا رافضي ناصبي، وخصمي جَهميّ مُشبِّه مُجسِّم قَدَريّ، يشتمُ الحجّاج بن الزبير الذي هدم الكعبة على علي بن أبي سفيان، ويلعنُ معاوية بن أبي طالب؛ فقال له الوالي: ما أدري مَمَّ أتعجبُ؟! من علمك بالأنساب أم من معرفتك الوثيقة بالألقاب! قال: أصلحك الله، والله ما خرجتُ من الكُتَّاب حتى تعلمت هذا كله"!!
جنون ثوري
جاء في كتاب ‘موجز تاريخ الجنون‘ للمؤرخ الطبي البريطاني روي بورتر (ت 1423هـ/2002م) قول أحد المجانين: "نحن المجانين نمتلك حرية التعبير عما يعتمل في أنفسنا فيقول المرء ما يشاء دون أن يسائله أحد"؛ إنه الجنون الثوري الذي يقوم على انتقاد الطغيان ومقاومته لكن على طريقة المجانين، وقد يكون الجنون حقيقيا أو ادعاء للهرب من العقاب؛ حيث يتحصن المعارض الثوري بالجنون لدفع غائلة السلطة.
وكان للوالي الأموي الحَجّاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ/715م) حكايات مشهورة مع المتحامقين، وتبدو القصة التالية ذات مغزى خاص في فهم كيفية اتخاذ المعارضة السياسية الجنونَ إحدى آلياتها الانتقادية الفعالة لرواية الحقيقة المحجوبة من السلطة، ثم وسيلة للإفلات من تبعات ذلك؛ إذْ يحكي النيسابوري أن الحجاج خرج يوما للنزهة فوجد شيخا فسأله: "كيف ترون عمالكم؟ قال: شر عمال، يظلمون الناس ويستحلون أموالهم!
قال: فكيف قولك في الحجاج؟ قال: ذاك ما ولي العراقَ شرٌّ منه، قبحه الله وقبح من استعمله! قال: أتعرف من أنا؟ قال: لا، قال: أنا الحجاج، قال: جُعلتُ فداك! أو تعرف من أنا؟ قال: لا، قال: أنا… مجنون بني عِجْل! أُصرع في كل يوم مرتين…؛ فضحك الحجاج منه وأمر له بصِلة (= جائزة)"!!
وقد ظهرت في زمن العباسيين شخصيات كثيرة اتسمت بقدر من السلوك الغريب لكي تتسنى لها معارضة السلطة بأمان؛ ففي زمن الخليفة المهدي (ت 169هـ/785م) لمع نجم أحد هؤلاء المجانين الثوريين من رواة الحقيقة الممنوعة، فكان -كما يروي ابن عبد ربه في ‘العِقْد الفريد‘- يركب قصبة في كل جمعة يوميْ الاثنين والخميس، "فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلِّم على صبيانه (= تلامذته) حُكم ولا طاعة، فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان، فيصعد تلًّا وينادي بأعلى صوته: ما فعل النبيون والمرسلون، أليسوا في أعلى عليين؟ فيقولون: نعم. قال: هاتوا أبا بكر الصدّيق، فأخِذ غلام فأجلِس بين يديه، فيقول: جزاك الله خيراً أبا بكر عن الرعية، فقد عدلتَ وقمت بالقِسط وخلَفت محمداً عليه الصلاة والسلام فأحسنت الخلافة، اذهبوا به إلى أعلى عليين"، ثم يفعل ذلك مع بقية الخلفاء الراشدين.
ثم يستمر هذا المجنون الثائر في رصد الخلفاء مستعرضا سلاطين بني أمية واحدا واحدا، فيوزعهم بين الجنة والنار حسب ما يقرره هو من عدالتهم مع رعاياهم، وحين يصل إلى زمن العباسيين يسكت "فقيل له: هذا أبو العباس [المهدي] أمير المؤمنين! قال: بَلَغَ أمرُنا إلى بني هاشم، ارفعوا حساب هؤلاء جملة واقذفوا بهم في النار جميعاً"!!
حُب وتصوف
وقد عرف العرب في تراثهم ظاهرة المحبّين المجانين، وهم طائفة واسعة لقوم سَلَبَ العشقُ ألبابَهم وإن ظلت نفوسهم ترشح بأعذب الشعر وأشجاه. وقد أوردهم النيسابوري ضمن طبقات «عقلاء المجانين»، وأفرد باباً للشاعر قيس بن الملوّح العامري (ت 68هـ/688م) وجذباته النفسية التي ندّت عن حب ميؤوس منه. فقد وصفه أبو الطيب الوشّاء (ت 325هـ/937م) بأنه "كان لا يعقل عقلا، فإذا ذُكرت ليلى ثاب إليه عقله"!!
وروى ابن حزم الظاهري الأندلسي (ت 456هـ/1065م) -في رسائله وكتابه ‘طوق الحمامة‘- حكايات عدة عن هذا الصنف من الجنون، ويلفت النظر أن قصصه عنه كانت تخص بعض الطبقات الاجتماعية والعلمية، وأن هذا الداء قد يصيب بعض كبار العلماء العاشقين؛ فيقول: "حدثني أبو بكر محمد بن بَقِيّ الحَجَري (ت بعد 400هـ/1010م)، وكان حكيم الطبع عاقلا فهيما، عن رجل من شيوخنا لا يمكن ذِكْره.. [أنه] أحبّ [جارية في بغداد].. فاختلط عقله وأقام في المارستان (= المستشفى) يعاني مدة طويلة"!!
وابن حزم في معالجاته لهذه الظاهرة العجيبة لم يكتف بالرصد بل قدّم تحليلا نفسيا عميقا لها؛ حيث رأى أن العشق ينتج عن "إدمان الفكر"، وأنه "إذا غلبت الفكرة وتمكن الخلط وتُرك التداوي خرج الأمر عن حد الحب إلى حد الوَلَه والجنون".
لكن من جانب آخر؛ هناك من التمس من لفيح صحراء العرب حرارةَ العشق، ولكنه وجّهها وجهة أخرى نحو محبوب أسمى، إنه "الحب الإلهي". ويبدو أن عشق مجنون بني عامر (المعروف بمجنون ليلى المتوفى 68هـ/688م) ألهم "مجانين" من نوع آخر هم المحبّون للرحمن سبحانه وتعالى، وعلى من يبحث عن ينابيعه الأصلية أن يذهب وراء هؤلاء الشعراء المجانين الذين عاشوا قديما في صحراء العرب.
فقد باتت أشعار مجنون ليلى وصوره عن "الديار وليلى والجدار" منبع إلهام للمتصوفة عبر القرون؛ إذ استعارها الإمام أبو حامد الغزالي (ت 505هـ/1111م) حين كتب عن المشاهدة والتجربة والعشق الذي يتعدى ذات المحبوب إلى أثره، وكذلك حب الله تعالى إذا قوي وغلب على القلب.
ويحكي المؤرخ نور الدين السَّمْهُودي (ت 911هـ/1505م) -في ‘جواهر العِقدين في فضل الشرفيْن‘- عن شيخه الإمام شرف الدين المناوي (ت 871هـ/1466م) أنه "كان إذا خرج إلى الدرس يقف بدهليز بيته حتى يحصِّل النية ثم يخرج، وكان كثيرا ما ينشد هذا البيت [من شعر مجنون ليلى]:
لئن كان هذا الدمع يجري صبابةً ** على غير ليلى فَهْوَ دمعٌ مُضيَّع!
ثم يبكي بكاءً كثيرا"!!
فمجانين التصوف المحبون الهائمون المسافرون من أمثال "سعدون المجنون" و"عُليّان المجنون" كلهم كانوا من دراويش المجانين. وقد قال الإمام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) -في ‘رسالة في اتباع الرسول ﷺ‘ المنشورة ضمن كتابه ‘جامع المسائل‘- عن هذا النمط من الشخصيات: "لهم قلوب فيها تألُّه (= خشوع) وإنابة إلى الله تعالى ومحبة له، وإعراض عن الحياة الدنيا، قد يسمون «عقلاء المجانين»". ثم حلّل سبب اختلال الواحد منهم بأنه لـ"وارد ورد عليه من المحبة أو المخافة أو الحزن أو الفرح حتى انحرف مزاجه". ورأى أنه لا يجوز الاقتداء بهم إلا فيما يوافق أحكام الشريعة.
بين ثقافتين
وبعد هذه الرحلة الطويلة مع الجنون والمجانين والحمقى في فضاء الثقافة العربية؛ نجد أنفسنا أمام مقارنة كتب عنها باقتضاب ميشيل فوكو في كتابه ‘الجنون في العصور الكلاسيكية‘، حين تناول الفروق بين منهج العرب في التعامل مع ظاهرة المجانين وموقف الغرب منها لاسيما فيما بعد عصور التنوير.
فقد أشاد فوكو -في مواضع من كتابه- بتسامح العرب مع خطابات الجنون، وقال إنهم شيّدوا في وقت مبكر مستشفيات خاصة بالمجانين في بغداد والقاهرة، وأن هذه المؤسسات العلاجية "كانت تستعمل في العلاج وصفةً روحية تستعين بالموسيقى والرقص والفُرجة والاستماع إلى حكايات غريبة"، ورأى أن مشافي المجانين انتقلت إلى أوروبا من الأندلس الإسلامية.
لقد كان من مظاهر الاهتمام بالمجانين في التاريخ الإسلامي العنايةُ بهم وتوفير البيئة الصحية الجيدة لهم، وهو ما سجله خبراء فرنسيون أثناء احتلال فرنسا لمصر أيام نابليون بونابرت (ت 1235هـ/1821م)، وربما يكون ميشيل فوكو قد اطّلع على تلك السجلات واستفاد منها في دراساته عن الجنون.
وكان من اللافت تركيز الفرنسيين -في أبحاثهم بمصر- على ترتيبات علاج أصحاب الأمراض العقلية والنفسية في مستشفى "المارستان المنصوري" الذي أنشأه السلطان المملوكي المنصور قلاوون (ت 689هـ/1290م) في القاهرة سنة 684هـ/1285م، ووصفه المؤرخ الأميركي وِلْ ديورانت (ت 1402هـ/1981م) -في كتابه ‘قصة الحضارة‘- بأنه "أعظم مستشفيات العصور الوسطى على الإطلاق"!!
فقد ذكر الدكتور أحمد عيسى (ت 1365هـ/1945م) -في كتابه ‘تاريخ البيمارستانات في الإسلام‘- أنه "جاء في «خطط مصر» (= كتاب «وصف مصر») التي وضعتها الحملة الفرنسية على مصر من سنة 1798 (= 1212هـ) إلى سنة 1801 (= 1216هـ)؛ قال المسيو جومار (آدم فرانسوا جومار Edme François Jomard المتوفى 1278هـ/1862م) أحد العلماء الذين استقدمهم نابليون مع الحملة: أنشئ في القاهرة -منذ خمسة قرون أو ستة- عدة مارستانات (= مستشفيات) تضم الأعلّاء والمرضى والمجانين، ولم يبق منها سوى مارستان واحد هو مارستان قلاوون، تجتمع فيه المجانين من الجنسين.
ومارستان القاهرة هذا لا يزال أكثر شهرة من مارستان دمشق، وقد كان في الأصل مخصصا للمجانين، ثم جُعل لقبول كل نوع من الأمراض، وصَرف عليه سلاطين مصر مالا وافرا، وأفرِد فيه لكل مرض قاعة خاصة وطبيب خاص، وللذكور فيه قسم منعزل عن قسم الإناث. وكان يدخله كل المرضى فقراء وأغنياء بدون تمييز، وكان يُجْلب إليه الأطباء من مختلف جهات الشرق (= بلاد الإسلام) ويُجزل لهم العطاء، وكانت له خزانة شراب صيدلية مجهزة بالأدوية والأدوات.
ويقال إن كل مريض كانت نفقاته في كل يوم دينارا، وكان له شخصان يقومان بخدمته. وكان المؤرَّقون (= المصابون بالأرَق) من المرضى يُعزلون في قاعة منفردة يشنِّفون فيها آذانهم بسماع ألحان الموسيقى الشجية، أو يتسلَّوْن باستماع القصص يلقيها عليهم القُصّاص، وكان المرضى الذين يستعيدون صحتهم يعزلون عن باقي المرضى ويمتّعون بمشاهدة الرقص، وكانت تمثل أمامهـ[ـم] الروايات المضحكة، وكان يُعطَى لكل مريض حين خروجه من المارستان خمس قطع من الذهب، حتى لا يضطر إلى الالتجاء إلى العمل الشاق في الحال" حتى تتم عافيتهم!!
وأضاف التقرير الفرنسي أنه "كان يُصرف من [أموال] الوقف على بعض أجواق (= فرق موسيقية) تأتي كل يوم إلى المارستان لتسلية المرضى بالغناء أو بالعزف على الآلات الموسيقية. ولتخفيف ألم الانتظار وطول الوقت على المرضى؛ كان المؤذنون في المسجد يؤذنون في السَّحَر وفي الفجر ساعتين قبل الميعاد، حتى يخفف [الأذانُ] قلقَ المرضى الذين أضجرهم السهر وطول الوقت"!!
وكانت تلك الرعاية العلاجية مدعومة بمنظومة متكاملة من المرافق الصحية والخدمية اشتمل عليها مستشفى المنصور قلاوون، وقد وصف ديورانت جانبا منها فقال إن هذا المستشفى "كان يحتوي على أقسام منفصلة لمختلف الأمراض، وأخرى للناقهين، ومعامل للتحليل، وصيدلية، وعيادات خارجية، ومطابخ، وحمامات، ومكتبة، ومسجد للصلاة، وقاعة للمحاضرات، وأماكن للمصابين بالأمراض العقلية زُوّدت بمناظر تسرّ العين"!!
تمييز منهجي
وفي مقابل تلك الصورة الإنسانية المشرقة لعناية الحضارة الإسلامية بالمجانين ومعاناتهم العقلية والنفسية؛ كتب فوكو فصولا عن مآسي الإقصاء والنبذ والتعامل الوحشي مع المجانين في المنطقة الأوروبية، وكيف كانوا يُرسَلون فيما يسمى "سفن الحمقى" بعيدا عن المدن، بحيث يُلْقَوْنَ في أي أرض نائية خالية. كما تحدث عن زنازين وسجون المستشفيات والبؤس والشقاء والتعذيب، ورصد كيف كان يضاف إلى فئات الحمقى والمجانين الدراويشُ والشحاذون والفقراء والعاطلون، ليقذف بالجميع إلى "عالم الرعب"!!
ويُرجِع فوكو سبب تلك اللعنة التي حلت بمجانين الغرب إلى اللحظة التي دخل فيها العالم الغربي دائرة هيمنة العقل المتأله، وكانت نقطة البدء حينما أعلن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (ت 1060هـ/1650م) مقولته: "أنا أفكر إذن أنا موجود"! التي تحولت إلى "أنا أفكر إذن أنا أحتكر الوجود والحياة والمعرفة"، فصار العقلاء والأذكياء وحدهم هم الذين لهم حق الحياة، ولا عزاء للحمقى والمغفلين!!
وهذا أمر لم تعرفه الحضارة العربية الإسلامية التي كانت تؤمن بوجود العقل وكذلك بوجود معارف وحيٍ غيبية فوق العقل، وأن لحظة صمت العقل لا تعني موت الحقيقة كما يقول ابن خَلْدُون (ت 808هـ/1406م) بل هي لحظة مهمة لمعرفة جانب مختلف من الحقيقة، وأن «عقلاء المجانين» هم صنف من البشر فقد نوعا من العقول وهو العقل المعاشي، "وليس من فقد هذه الصّفة بفاقد لنفسه ولا ذاهل عن حقيقته"؛ طبقا لابن خَلْدُون في ‘المقدمة‘.
وهذا المنهج المعرفي العربي المركَّب هو أساس التعددية عند العرب التي منحت شريحة واسعة من المجانين والمغيَّبي الإدراك حقَّ الحياة وحق الكلام والاعتراض، طبقا لمبدأ ابن خلدون المناقض للصيغة الديكارتية، فالمبدأ العربي الخلدوني يصف المجنون بأنه "موجودُ الحقيقةِ معدومُ العقل التّكليفيّ".
والواقع أن الحكماء المسلمين كان يتعاملون بشيء من التوزان بين ظواهر الجنون المَرَضية والظواهر الإيمانية الكشفية، ولم يتركوا كل تلك الظواهر للتنصيف المَرَضي النفسي؛ فمثلا يرى الغزالي -في كتابه ‘معارج القدس في مدارج معرفه النفس‘- أن "المجانين قد يشاهدون ما يتخيلون"، وبالتالي لا يُستبعَد "أن يُخْبِروا بالأمور الكائنة فيَصْدُقوا في الكثير، ولذلك مقدمة وهي أن القوة المتخيِّلة كالموضوعة بين قوتين مستعمِلتين لها: سافلة (= الحسّ) وعالية (= العقل)"، وعلى هذا فالمعرفة الصاعدة من العقل الباطن قد يعارضها العقل الواعي ويصفّيها من الأوهام "فإنه بقوته يصرفها (= القوة المتخيِّلة) عن التخيل للكاذبات" مما لم يثبته الحس ولا العقل.
ولكن في حال ضعف الوعي وتراجع تأثيره تقوم الصور الباطنية بالصعود والهيمنة، كما يحدث في النوم وعند تعاطي المُسْكِرات التي تغيّب العقل والعقاقير المؤثرة في الوعي، وهي كذلك تَحْدُث كثيرا في حال الجنون إذْ "تقْوَى [القوة المتخيِّلة] على مقاومة العقل، وتمعن في ما هو فعلها الخاص غير ملتفتـ[ـة] إلى معاندة العقل، وهذا في حال النوم وعند إحضارها الصورة كالمشاهَدة، وتارة تتخلص عن سياسة العقل عند فساد الآلة التي يستعملها العقل في تدبير البدن".
ويفرّق الغزالي بوضوح بين هذه الحالة التي يغيب فيها العقل مَرَضِيًّا، وتلك التي يتراجع فيها في حالة الكشف الصوفي الذي يصفه بأنه "نور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف..؛ فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحرَّرة فقد ضيق رحمةَ الله تعالى الواسعة"، ثم يقرر أن هذا الكشف لا يطيح بالضروريات العقلية التي تظل "مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين".
والحقيقة أن المنهج المعرفي الإسلامي المركَّب تجاه ظاهرة الجنون وجماعة المجانين -بمن فيهم "عقلاء المجانين"- هو الذي منع ظهور ذلك الإقصاء والتوحش والإبادة التي حدثت للمجانين وعامة المخالفين في الحضارة الغربية، ولذلك ظلت الثقافة العربية الإسلامية تحافظ على مساحة من التجاور والتعايش بين "دار العقل" و"دائرة الجنون"؛ كما يقول الإمام ابن الجوزي.