المغرب بعيون إسكندرانية.. رحلتي في بلد عرفته قبل أن أراه

لم تكن زيارتي للمغرب مجرد حلم سياحي راودني كوني فتاة شغوفة بالسفر، ولم يكن في نظري مجرد بلد يحتضن تنوعا مذهلا في ثقافته وطبيعته، أو مقصدا سياحيا جديدا سأسعد بزيارته، بل كان الأمر أعمق من ذلك بكثير. فقد نشأت في الإسكندرية على حكايات عن أولياء وتجار مغاربة استقروا قرب بحرنا، وأطلق اسمهم على حي وسوق لا يزالان ينبضان بالحياة حتى اليوم.
سنوات مرت، تمنيت فيها أن أمشي في شوارع المغرب، التي اقترنت في مخيلتي بالدفء والدهشة، وحين تحقق الحلم شعرت أنني في مكان أعرفه قبل أن أراه.
من الفكرة إلى التخطيط
حجزت التذاكر لأسافر إلى المغرب في نهاية ديسمبر/كانون الأول، لأودّع عاما واستقبل آخر في بلد جديد، وفي الوقت نفسه كنت أبحث عن المدن التي أرغب في زيارتها، فمدة الرحلة 10 أيام فقط، والخيارات كثيرة. لذا، كان لا بد من وضع خطة دقيقة تتيح لي حجز الفنادق مسبقا، والاستفادة القصوى من الوقت في استكشاف المدن المغربية.
بعد استشارة عدد من الأصدقاء، قررت أن أبدأ رحلتي من الرباط، عاصمة المغرب، وأن أختمها في مراكش، المدينة التي طالما سمعت عنها. ولما كانت متعة السفر تبدأ بلحظات التخطيط، حجزت أماكن الإقامة خلال تخفيضات الجمعة البيضاء في نوفمبر/تشرين الثاني، مما أتاح لي أسعارا جيدة. كما اخترت السفر على الخطوط الجوية المغربية لتكون التجربة مغربية من البداية.
في صباح 23 ديسمبر/كانون الأول، انطلقت من مطار القاهرة لمطار الدار البيضاء، كانت إجراءات الوصول سهلة وسلسة، وبعدما تسلّمت حقائبي توجّهت مباشرة إلى محطة القطار داخل المطار، متجهة للرباط.

اليوم الأول بالمغرب
هبطت الطائرة بسلام في مطار الدار البيضاء -أو "كازا" كما يسميها المغاربة- وهناك بدأت أولى تجاربي مع اللهجة المحلية. كنت قد حاولت قبل السفر تعلم بعض الكلمات الدارجة، لكنني وجدت نفسي كثيرا ما أتوقف عند كلمات جديدة، أسأل عن معناها، وأقارنها بما يعادلها باللهجة المصرية، وكان ذلك جزءًا من متعة السفر التي انتظرتها بشغف، إذ أحرص في كل بلد عربي أزوره على تعلم كلمات من لهجته المحلية وتبادلها مع أهله.
وصلت أخيرا إلى منزل صديقتي المغربية التي استقبلتني بالأتاي، وهو شاي مغربي تقليدي بالنعناع، لا يُقدَّم فقط كونه مشروبا بل إنه رمز للضيافة. وصباح اليوم التالي، تناولت "المسمن"، وهي فطيرة شهية من الدقيق والسميد تقدم غالبا مع العسل أو الجبن، وكان هذا أول لقاء لي بالطعام المغربي… لقاء لم ينتهِ، إذ صار المسمن رفيق إفطاري اليومي طيلة الرحلة.

نصحتني صديقتي بزيارة المدينة القديمة في الرباط، خاصة يوم الأحد، حيث يُقام السوق الشعبي. حملت معي نصائحها، خصوصا بشأن سيارات الأجرة، أو كما تُعرف محليا بـ"الطاكسي"، ومنها الطاكسي الصغير المخصص للتنقل داخل المدينة ويعمل بالعداد، وأما الكبير فيتسع لعدد أكبر ويُستخدم عادة بين المدن، وغالبا ما يُتفق على أجرته مسبقًا.
ولا تزال المدينة القديمة للرباط تحتفظ بروح زمن آخر، بمعالمها التاريخية مثل قصبة الأوداية، وشالة، والسور الموحدي، وصومعة حسان. بين أزقتها الضيقة وبيوتها العتيقة، شعرت كأنني أسير في متحف مفتوح للفن المغربي، من الزخارف الخضراء إلى الخط الكوفي المغاربي، إلى النقوش المنحوتة بعناية على واجهات البيوت وسقايات المياه العتيقة (الأسبلة).

في الأسواق، كانت المحلات تعجّ بالمنتجات المحلية: الجلود، والأحذية، والهدايا التذكارية. وأما الحلويات، فكانت فصلًا خاصًا في كتاب النكهات المغربية، فقد جربت الشباكية وكعب الغزال والمقروط والمخروطية مقابل 5 دراهم فقط (نصف دولار).
كانت خيارات الطعام أيضا تجربة مبهجة، إذ يشتهر المطبخ المغربي بتنوع أطباقه ونكهاته الغنية. أينما توجهت تجد الطاجين والكسكسي والمشويات، والأسماك التي يسمونها "الحوت".
في ذلك اليوم، اخترت تناول "الصوصيص"، وهي نقانق مشوية على الفحم تُقدَّم في شطائر مع الطماطم والخس والفلفل، أكلة خفيفة لكنها شهية وحاضرة بقوة في المطبخ المغربي. بعد ذلك اشتريت هدايا تذكارية، وحذاء مغربيا من الجلد، وانتهى يومي الأول في المغرب محمّلا بالنكهات والانطباعات.
إلى طنجة عبر البراق
في اليوم الثاني من رحلتي، اتجهت إلى محطة القطار لأستقل واحدة من أبرز معالم المغرب الحديثة والفريدة في العالم العربي، قطار "البراق"، الذي سمي بهذا الاسم تيمنا بسرعته الخاطفة كالبَرق.
يُعد البراق أول قطار فائق السرعة في أفريقيا والعالم العربي، وتصل سرعته إلى 375 كلم في الساعة، مما يجعله من بين الأسرع في العالم. يربط بين الدار البيضاء وطنجة، مرورا بمحطات رئيسية مثل الرباط والقنيطرة، ويقلّص بشكل كبير مدة السفر بين هذه المدن.

ورغم أن كلفته أعلى من القطارات التقليدية في المغرب، فإنه يُعد وسيلة نقل مريحة وفعالة. أنصح بحجز التذكرة مسبقا عبر الموقع الإلكتروني للمكتب الوطني للسكك الحديد، خاصة إذا كانت الرحلة خلال عطلات نهاية الأسبوع والمواسم الرسمية، إذ ترتفع الأسعار ويصعب العثور على مقعد خال.
كانت الرحلة على متن البراق هادئة ومريحة، واستغرقت ساعة و20 دقيقة فقط بدلا من 5 ساعات بالقطار العادي. لم تفارق عيناي زجاج النافذة، أتابع منه مشاهد الطبيعة وهي تتبدل بين الصحراء والأشجار والتلال الخضراء حتى وصلت إلى طنجة المدينة.. أحب مدن المغرب إلى قلبي.
طنجة عروس الشمال
تقع طنجة شمال المغرب على تقاطع البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، وتُعرف بعروس الشمال وبسحرها التاريخي والجغرافي. منذ لحظة وصولي، شعرت بانتماء غريب، ربما لأنني، القادمة من الإسكندرية، وجدت في طنجة مدينة بحرية تشبهني.

كانت تجربتي الأولى للإقامة في المغرب في دار ضيافة تقليدية يُطلق عليها محليا "الرياض"، وذلك في قلب المدينة العتيقة لطنجة، وتمتاز هذه الدار بتصميم معماري مغربي من الأقواس وأنماط الفسيفساء والتفاصيل الزخرفية ونوافير المياه وأحيانا فناء واسع مزين بالنباتات.
وفي بعض الأحيان، يكون الرياض منزل مغربي قديم، وعادة ما تكون غرفه متجاورة إذا كان موجودا في الأحياء القديمة، يوفّر للسائح مقرا يشعر فيه بالهدوء والسكينة.
بعدما نلت قسط من الراحة، بدأت بالتجول في الأزقة القديمة المجاورة حتى الوصول إلى قصبة المدينة. وبالفعل كانت العشوائية هي خطة اليوم الأول في طنجة، تركت قدماي تقوداني بين زنقة وزقاق، وبين متاجر الهدايا التقليدية والتذكارية والمنتجات الجلدية والمنسوجات بأنواعها.

ضريح ابن بطوطة
استمتع بالمشي على غير هدى وبتصوير كل شاردة وواردة توثيقا لرحلتي ورغبة في الرجوع لتلك اللحظات الجميلة. فجأة بلا تخطيط إلى "زنقة ابن بطوطة"، حيث فوجئت بضريحه البسيط المزيّن بالزهور. لم أكن أعلم أنني سأزوره صدفة، أنا التي طالما قرأت عن رحلاته وتوقفت عند وصفه لمدينتي!
كان الضريح بسيطًا للغاية تحيط به الزهور، وتعلوه لافتة تسجل رحلات ابن بطوطة حول العالم ويجاوره سبيل صغير لسقيا الماء، لم يكن ثمة حراسة أو سور يحول بيني وبينه… لا أظن أنني سأنسي هذا الحدث ما حييت!

واصلت صعودي في أزقة طنجة البيضاء نحو القصبة، حيث تتعانق مياه البحر مع جدران المدينة القديمة، وتُطل القلاع والمباني الأندلسية من ربوة عالية على مضيق جبل طارق.
تعد قصبة طنجة رمزا لتراث المدينة الغني، حيث زرت متحف القصبة وبيت العود الذي سحرني بأجوائه، إذ يمتزج صوت العزف برائحة الشاي وسط صور وتحف كأنها جاءت من زمن بعيد. وما لفت انتباهي بشكل شخصي الجدران المطلية تجاه طريق القصبة باللون الأبيض حولك من كل مكان، وكأن الطريق لقصبة طنجة لؤلؤة باهية بيضاء اللون.
ثم سرت على الممشى البحري حتى وصلت إلى "مارينا طنجة" أو ما يعرف بالمارينا-باي (Tanja Marina Bay)، حيث تتراصف اليخوت وتنتشر المطاعم البحرية بقرب البحر المتوسط. وهناك شاهدت العبارات التي تعبر إلى أوروبا من ميناء طريفة.
وفي المساء، أخذتني ابنة صاحب الرياض الذي كنت أقيم به في طنجة في جولة داخل الأسواق التجارية في مركز المدينة. دلّتني على أماكن الشراء المناسبة وشجعتني على تذوق البسطيلة، وهي فطيرة تجمع بين الدجاج والقرفة، وهي إحدى روائع المطبخ المغربي التقليدي. وكانت هذه التجربة من أكثر ما استمتعت به في رحلتي.. فأن ترى المدينة بعين واحد من أهلها الذي يرشدك لخباياها هي تجربة تجعل السفر يحمل كثيرا من الأنس والدفء.
وهكذا انتهى يومي الأول بطنجة، وكنت على موعد في اليوم التالي مع أماكن جديدة في هذه المدينة. بدأت رحلتي في الصباح الباكر أولاً بإفطار مغربي وهو صحن البيصارة والذي يختلف في طعمه وطريقة إعداده عن مصر، يُقدم صحن البيصارة مع التوابل مثل الفلفل الحار والكمون وزيت الزيتون، مع رغيف من الخبز الطازج.

معالم بحرية
انطلقت بعدها في جولة عبر الأتوبيس السياحي لمدينة طنجة، الذي ينطلق من الميناء نحو أهم معالم المدينة الطبيعية والتاريخية. كانت محطتي الأولى مغارة هرقل، الواقعة في منطقة رأس سبارطيل، حيث يلتقي المحيط الأطلسي بالبحر الأبيض المتوسط.
رأس سبارطيل نفسه يُعد من أبرز النقاط الجغرافية في المغرب، وهو قمة صخرية شاهقة ترتفع أكثر من 300 متر، جنوب مضيق جبل طارق. وهناك، على هذا الرأس المطل على مياه مترامية لا نهاية لها، تقع مغارة هرقل التي تمتد 30 مترا داخل الجبل، وتُعد من أشهر المزارات الطبيعية في البلاد.
ما يميز المغارة ليس فقط موقعها، بل تكوينها الصخري الفريد، وفتحتها المطلة على المحيط. ارتبطت هذه المغارة بعدة أساطير، أبرزها تلك التي تقول إن البطل الإغريقي هرقل اتخذها ملجأ له بعد إنجاز إحدى مغامراته، ومنها اكتسبت اسمها.

وانتهت الرحلة بالعودة سريعا استعدادا للسفر إلى المدينة التالية البعيدة وهي شفشاون.
شفشاون الجوهرة الزرقاء
وصلت إلى شفشاون ليلا، بعد يوم مرهق من تبديل وسائل المواصلات، إذ فاتتني الحافلة واضطررت لركوب سيارة أجرة بين المدن. كانت السيارة قديمة والرحلة مزدحمة، تذكّرني بمشاهد من مصر أو بأسفار الطفولة. والغريب أن الحقائب تُحسب لها أجرة كأنها راكب مستقل!
كنت الوحيدة المصرية في السيارة، وحين لاحظ أحد الشبان المغاربة تعثري في حمل الحقائب عرض مساعدته دون تردد. ثم دخل في نقاش خفيف مع السائق يوصيه بي، وأخبره أنني "برّانية"، كما يقولون هناك، أي غريبة عن البلد. سرعان ما بدأت أحاديث خفيفة عن مصر، وذُكر عادل إمام كرمز للفن الذي يُقرب بين الشعوب.
حين وصلت، كانت المدينة تغط في سكون بارد. لم تكن البرودة تشبه طنجة، كانت قادمة من الجبال المرتفعة مباشرة، تخترق جسدك بلا رحمة. خرجتُ من السيارة وكنت قد هاتفت صاحب الرياض الجديد أو النُزل التقليدي الذي سأسكن فيه لليلة واحدة في شفشاون. وجدته بانتظاري وقادني إلى نُزل صغير وسط أزقة المدينة الزرقاء الضيقة، كنت قد تعودت على مثل هذه الشوارع في طنجة بالفعل.

كنتُ متعبة، لكن شيئًا داخلي كان يعرف أنني وصلت إلى مدينة مختلفة، مدينة صغيرة لكنها لا تشبه غيرها.
كان البرد قاسيا، لكن فضولي ورغبتي في اقتناص ساعات وجودي في شفشاون كان أقوى، فقررت أن أخرج لتمشية قصيرة في قلب المدينة القديمة، التي لم تكن تبعد كثيرا عن مقر إقامتي. كنت أظن أنني سأجد شيئًا يشبه روح طنجة في المساء، لكن المدينة كانت ساكنة في هدوء لا يقطعه سوى صوت الهواء بين الجبال المحيطة بشفشاون.
شعرت بشيء من الإحباط، لا من المدينة، بل من الوصول المتأخر، من لحظة لقاء كان يمكن أن تكون أكثر حيوية لولا تأخري. عدت إلى غرفتي وأنا أعد نفسي: "غدا ستريني شفشاون وجهها الأزرق في وضح النهار".
بدأت يومي بإفطار بسيط في ساحة هادئة قادتني إليها قدماي: مسمن مغربي بالجبن، وكوب من القهوة المغربية التي تذوقتها للمرة الأولى في حياتي. كان طعمها قويا ومختلفًا لم أنسه ولم أعرف سر مكوناته إلا في مدينة مراكش.

شفشاون ومواقع التواصل
في الصباح، خرجت متلهفة لاكتشاف المدينة الزرقاء التي طالما رأيتها في الصور مغمورة بظلال الأزرق الحالم على الجدران والأبواب والنوافذ. لكن مع كل خطوة شعرت بمفارقة: المدينة أصغر وأهدأ مما تخيلت. لم تكن شفشاون زائفة، لكنها أكثر بساطة وأقل نشاطا مما ترسمه صفحات التواصل الاجتماعي، وتسببت تلك التوقعات المُسبقة في خيبة أمل لم أخفيها.
لم أجد كل تلك الزوايا الساحرة، ولم يغمُرني الأزرق كما كنت أظن. بدا لي أن السكون هنا جزء من طبيعتها، لا مؤامرة على السائحين.
وبعيدا عن الأزقة الضيقة المطلية بالأزرق، تحتفظ شفشاون ببعض من بقايا مدينتها العتيقة، حيث تقع القصبة الأثرية في قلب المدينة، وهي حصن قديم ذو أسوار مرتفعة يعود للقرن التاسع الهجري، شيده مؤسس شفشاون نفسه علي بن موسى بن راشد. وتنتشر حولها المحال الصغيرة التي تبيع الهدايا التذكارية والمشغولات التقليدية مثل الحقائب اليدوية والسلال والحُلي المحلية البديعة إلى الأقمشة المصبوغة يدويا.
وبينما أخذت أتمشى في الطرقات جذبتني أصوات واضحة للمياه، فتتبعتها حتى وصلت إلى الطرف الآخر من المدينة، حيث بدأت أصعد درجات حجريّة تحفّها الأشجار الباسقة، بعضها محمّل بحبات البرتقال زاكي الرائحة، وبعضها نخيل يظلل طريق المارين. في نهاية الدرج، وجدت نفسي أمام شلال صغير رائق، تنهمر مياهه في هدوء، كما لو أن المدينة كلّها تنبض في هذا المكان الصغير. في نظري، كانت هذه النقطة -المطلة على المدينة من أعلى- أجمل ما في شفشاون.

قبل الظهيرة، قررت أن أغادر شفشاون مكتفية بإقامتي القصيرة التي لم تتجاوز اليوم الواحد. كانت زيارة خفيفة الظل، هادئة كطبيعة المدينة نفسها، لكن كنت أتوق لزيارة المحطة التالية.. مدينة التاريخ والعراقة: فاس.
في الجزء الثاني، أتابع ترحالي في المغرب لأتعرف على فاس ومراكش والدار البيضاء.