ثورة في تقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد.. هل يضاهي أثرها اختراع المصباح والمحرك البخاري والإنترنت؟
كان للاختراعات التقنية أثر كبير في التاريخ الحديث، ولإدراك أثرها على التطور البشري، ما عليك سوى التفكير في آثارها، مثل المصباح الكهربائي، أو المحرك البخاري، أو السيارات، أو الطائرات، إلى جانب شبكة الويب العالمية.
هذه التقنيات جعلت حياتنا أفضل من نواحٍ عديدة، وفتحت طرقًا وإمكانيات جديدة، ويعتقد أن الطباعة الثلاثية الأبعاد لديها إمكانات هائلة لتصبح واحدة من التقنيات ذات التأثير الكبير على تطوّر حياة الإنسان.
فكرة الطباعة الثلاثية الأبعاد
ظهر وصف الطباعة الثلاثية الأبعاد للمرة الأولى في قصة خيال علمي في الخمسينيات من القرن الماضي، وأصبحت حقيقة واقعة في الثمانينيات، وتحولت إلى تقنية شائعة في القرن الحالي بعد أن زادت الدقة وتنوعت المواد المستخدمة.
وظلت المبادئ الأساسية كما هي، حيث إنها عملية تصنيع كائن مادي من نموذج أو تصميم رقمي، عن طريق إضافة العديد من الطبقات المتعاقبة من المادة ودمجها وجعلها صلبة.
وفي حال أردنا تبسيط مفهوم الطباعة الثلاثية الأبعاد، فبإمكاننا القول إنها عملية تحويل النموذج أو التصميم الرقمي إلى منتج حقيقي ملموس.
وتشير التوقعات إلى أن هذه التقنية قد تضع حدًا للتصنيع التقليدي كما نعرفه، وقد تُحدث ثورة في العديد من مجالات حياتنا اليومية، وذلك بسبب اختلافها اختلافًا جذريًا عن أي تقنيات تصنيع تقليدية أخرى موجودة.
فبعد أن كانت تكلفة امتلاك طابعة ثلاثية الأبعاد في الثمانينيات تزيد على 300 ألف دولار (مليون دولار في الوقت الحالي)، فإن التقنية أصبحت في متناول الشركات الصغيرة وحتى الأفراد، مما سمح لها بتجاوز مسألة كونها عملية لتصنيع النماذج الأولية.
تطور الطباعة الثلاثية الأبعاد
ظهرت عام 1981 أول براءة اختراع بارزة ترتبط بفكرة الطباعة الثلاثية الأبعاد، وحملت عنوان "جهاز النماذج الأولية السريعة"، بينما صاغ تشاك هال مصطلح "الطباعة الحجرية المجسمة" (SLA) عام 1984 من خلال تقدمه بطلب للحصول على براءة اختراع مُنحت له عام 1986.
ويصف المصطلح تقنية تعنى بإنشاء الأجسام الثلاثية الأبعاد، من خلال مادة سائلة تتماسك عند ملامستها ضوء الليزر.
ومثلت "الطباعة الحجرية المجسمة" (SLA) الجيل الأول من تقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد، والمستخدمة على نطاق واسع حاليا، لكنها لم تكن التقنية الوحيدة قيد التطوير في ذلك الوقت.
فقد سجل كارل ديكارد عام 1987 براءة اختراع لعملية "التلبيد الانتقائي بالليزر" (SLS)، بينما قدّم سكوت كرامب عام 1989 براءة اختراع لعملية "نمذجة الترسيب المنصهر" (FDM)، كما ظهرت أيضًا تقنيات وعمليات أخرى في الطباعة الثلاثية الأبعاد خلال السنوات اللاحقة.
تطبيقات الطباعة الثلاثية الأبعاد
وتستفيد العديد من الأسواق الصناعية من الطباعة الثلاثية الأبعاد، وذلك في مجالات منها:
- الطب وطب الأسنان:
نجح العلماء عام 2000 بطباعة كلية بشرية، بينما شهد عام 2008 طباعة أطراف صناعية دون الحاجة إلى أي تجميع إضافي، في حين حصلت عملية طباعة أول فك صناعي عام 2012.
وتستخدم التقنية ذاتها في صنع تيجان الأسنان والجسور، كما تُنتج غالبية أدوات التقويم الشفافة حاليًا باستخدامها، حيث أنتجت شركة "إنفزلاين" (Invisalign) عام 2019 أكثر من نصف مليون قطعة فريدة يوميًا.
وتعدّ التقنية مثالية لإنشاء أو تحسين التصميمات للأجهزة الطبية، ويمكن استخدامها لإنشاء أجهزة تقويم العظام والأطراف الاصطناعية المخصصة.
ولجأت العديد من الشركات إلى استخدام الطباعة الثلاثية الأبعاد لإنتاج الإمدادات الطبية اللازمة أثناء الجائحة العالمية لفيروس كورونا (COVID-19)، مثل دروع وأقنعة الوجه وأجهزة التنفس.
- السلع الاستهلاكية:
تساعد التقنية في تسريع عملية إطلاق المنتجات الجديدة، من خلال تصميمها وتطويرها واختبارها في إطار زمني قصير، ومن الأمثلة على ذلك شركة "بيبسيكو" (PepsiCo) التي طورت عام 2015 عدة نماذج أولية لعلامتها التجارية "رافلز" (Ruffles)، حيث اختبرت الأحجام والنكهات مع المستهلكين لتحديد النوع المفضل.
وتتيح التقنية إنشاء منتجات مصممة خصيصًا لمتطلبات المستهلكين، بما في ذلك الأحذية المطبوعة بشكل ثلاثي الأبعاد، التي اكتسبت شهرة سريعة بفضل تصميماتها وميزاتها القابلة للتخصيص.
وقدمت شركة "أديداس" (Adidas) عام 2015 حذاءها المطبوع الأول المسمى "فيوتشر كرافت ثري دي" (Futurecraft 3D)، وواصلت هذا النهج مع حذاء "فيوتشر كرافت فور دي" (Futurecraft 4D).
كما استخدمت شركة "نايكي" (Nike) التقنية لنمذجة وتصنيع حذاء كرة القدم للاعبي كرة القدم الأميركية.
- الفضاء:
دخلت تقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد ضمن مجالات عديدة، مثل تصنيع محركات الصواريخ وقطع غيار المركبات، حيث تتيح للمهندسين ابتكار وتصميم أجزاء الصواريخ وتصنيعها في إطار زمني أقصر.
وبدأت وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" (NASA) منذ 30 عاما في استخدام التصنيع الإضافي للنماذج الأولية السريعة البلاستيكية، قبل بناء الأجزاء المكلفة المعدنية، حيث تسمح التقنية للوكالة ببناء مكونات أكبر في المدار باستخدام المواد الموجودة في تلك المواقع.
وتتم دراسة الطباعة الثلاثية الأبعاد كتقنية لبناء موائل خارج كوكب الأرض، حيث يتمحور مشروع "سينترهاب" (SinterHab) حول قاعدة قمرية مبنية عبر الطباعة الثلاثية الأبعاد باستخدام الغبار القمري مادة أساسية.
- النقل:
كان قطاع النقل من أوائل القطاعات التي تبنت تقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد، سعيا لإنتاج قطع الغيار عند الطلب، إلى جانب التطوير السريع للمنتجات.
وتتيح التقنية إنتاج أجزاء معقدة خفيفة الوزن ومتينة، ومن الأمثلة على ذلك إدخال شركة "بورشه" (Porsche) عام 2020 مفهومًا جديدًا لمقاعد السيارات الرياضية، يستفيد من الطباعة الثلاثية الأبعاد.
ومن النماذج على ابتكار الأدوات: شركة "فورد" (Ford) التي حصلت عام 2018 على جائزة لاستخدامها الطباعة الثلاثية الأبعاد للأدوات، كما تستخدم الشركة التقنية لإنتاج العناصر لبعض طرازاتها من المركبات.
وأعلنت شركة "بورشه" عام 2018 عن استخدامها هذه التقنية لإنتاج قطع غيار لسياراتها النادرة والكلاسيكية.
كما استفادت شركة "بي إم دبليو" (BMW) من التقنية لإنتاج تركيبات معدنية لطراز "آي 8 رودستر" (i8 Roadster).
- الفن والتصميم والنحت:
تتيح التقنية لهذا القطاع القدرة على إعادة إنتاج الأعمال السابقة، وإنشاء نسخ طبق الأصل من المنحوتات القديمة والحديثة للدراسة عن كثب والتفاعل معها شخصيًا.
ودخلت المتاحف هذا المجال، حيث نظم متحف "برادو" (Prado) معرضًا تضمن لوحات رسمها فنانون مشهورون مستخدمًا التقنية الثلاثية الأبعاد، وذلك بهدف السماح للمعاقين بصريًا بالشعور بهذه الأعمال.
كما استخدمت التقنية عام 2010 بشكل مكثف في مجال التراث الثقافي، لأغراض الحفظ والترميم والنشر.
- الإنشاءات:
وبدأ تطوير الطباعة الثلاثية الأبعاد والبحث ضمن الإنشاءات في وقت مبكر منذ عام 1995، وذلك بصفتها طريقة أسرع وأقل تكلفة للبناء بمزيد من التعقيد والدقة والتكامل الوظيفي الأكبر مع تقليل النفايات.
وتتيح التقنية تصنيع المساكن ومكونات البناء والجسور والبنية التحتية المدنية والشعاب المرجانية الاصطناعية.
وجرى عام 2015 إزاحة الستار عن فيلا وبرج يدمجان مكونات مطبوعة بشكل ثلاثي الأبعاد، وكشفت إسبانيا عام 2016 عن جسر للمشاة مطبوع بتقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد بطول 12 مترًا وعرض 1.75 مترًا.
- الصناعات الغذائية:
ارتبطت المحاولات الأولى ضمن هذا القطاع بالشوكولاتة والحلوى والبسكويت والمعكرونة والبيتزا. وتعد هذه التقنية طريقة واعدة للحد من هدر الطعام، وتسمح للطهاة بإعداد أطباق مختلفة من بقايا الطعام، كما أنها قادرة على طباعة وجبات مغذية بأشكال تجذب الأطفال.
وتعمل شركة "أب برايتينغ فود" (Upprinting Food) على مزج المكونات المختلفة من مخلفات الطعام، والجمع بينها لإنتاج مواد مهروسة تُستخدم بعد ذلك كمواد للطباعة الثلاثية الأبعاد.
وتريد وكالة "ناسا" صنع طعام مصمم ليلائم الاحتياجات الغذائية لرائد الفضاء، مع صلاحية تخزين تصل إلى 30 عامًا.
- التعليم:
وقد أحدثت التقنية ثورة في تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، حيث تسمح للطلاب بإنشاء نماذج أولية دون الحاجة إلى أدوات باهظة الثمن.
كما يمكن للطلاب تصميم وإنتاج النماذج، إذ تتيح التقنية تحويل الأفكار والصور إلى عنصر مادي، إلى جانب المساعدة في استكشاف مبادئ الهندسة والتصميم والتخطيط المعماري.
ويعيد الطلاب إنشاء نسخ مكررة من عناصر المتحف، مثل الحفريات والتحف التاريخية للدراسة في الفصل الدراسي دون الإضرار بالمجموعات الحساسة.
تأثير الطباعة الثلاثية الأبعاد
وتجلب تقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد -سواء على المستوى الصناعي أو المحلي أو الشخصي- مجموعة من الفوائد التي لا تستطيع الطرق التقليدية للتصنيع تحقيقها، ومنها:
- التخصيص: تسمح التقنية بالتخصيص الشامل وفقًا للاحتياجات والمتطلبات الفردية، حيث يمكن تصنيع العديد من المنتجات في نفس الوقت وفقًا لمتطلبات المستخدمين النهائيين، دون أي تكلفة عملية إضافية.
- التعقيد: تسمح التقنية بمستويات من التعقيد لا يمكن إنتاجها فعليًا بأي طريقة أخرى، كما تكون المنتجات أخف وزنا وأقوى من سابقاتها.
- أدوات أقل: تلغي التقنية الحاجة إلى إنتاج الأدوات بالنسبة للتصنيع المنخفض إلى متوسط الكمية، وبالتالي: تقليل التكاليف وتقصير المهل الزمنية وتخفيض العمالة المرتبطة بها، كما تتجنب متطلبات التجميع، مما يلغي العمالة والتكاليف المرتبطة بعمليات التجميع.
- الاستدامة: تبرز التقنية كطريقة موفرة للطاقة عبر استخدامها ما يصل إلى 90% من المواد القياسية، وبالتالي: تقليل النفايات، إلى جانب طول العمر التشغيلي للمنتج الذي يكون ذا تصميم أخف وزنا وأقوى، ويفرض بصمة كربونية أقل مقارنة بالمنتجات المصنعة تقليديًا.
وبلغت القيمة في السوق العالمية لمنتجات وخدمات الطباعة الثلاثية الأبعاد عام 2020 نحو 12.6 مليار دولار، ومن المتوقع أن يتضاعف حجم السوق ثلاث مرات تقريبًا بين عامي 2020 و2026.
وأصبحت الطباعة الثلاثية الأبعاد الآن حقيقة واقعة سريعة التطوير، حيث يجري استخدامها في مجموعة واسعة من القطاعات، بما في ذلك صناعة الطيران وصناعة السيارات والقطاع الطبي والصناعة العسكرية وحتى في صناعة الأغذية.
وتمثل التكاليف المرتفعة للتقنية المشكلة الكبرى للمستخدمين العاديين، حيث إنها تمنع استخدامها بشكل أكبر، بالإضافة إلى أن الجودة المنخفضة للأجزاء المطبوعة تعد سببًا رئيسيًا آخر لعدم استخدامها بشكل أوسع في الوقت الحالي.
ولكن الأمور قد تتغير مستقبلًا مع استمرار انخفاض تكلفة التقنية وزيادة تطورها، مما قد يجعل المستخدمين يصنعون المنتجات بدلًا من شرائها. كما أن انخفاض التكلفة وتطور التقنية قد يُحدث تغييرات عديدة، حيث تصبح قادرة على تسهيل التصنيع الموزع، مما ينتج عنه فوائد في سلسلة التوريد والخدمات اللوجستية.
وعلاوة على ذلك، فإن التنمية الاجتماعية والاقتصادية تتقدم من خلال إنشاء اقتصادات إنتاج محلية، ويصبح الإنتاج محليًا ومخصصًا، إلى جانب الاستجابة للطلب الفعلي، وليس الطلب المتوقع.
ومع بدء المزيد من الطابعات الثلاثية الأبعاد الوصول إلى المنازل، فإن العلاقة التقليدية بين المنزل ومكان العمل قد تتلاشى.
ختامًا، تعتبر الطباعة الثلاثية الأبعاد واحدة من التقنيات الأكثر غرابة في عصرنا، ومن المتوقع أن تكون في طليعة الثورة الصناعية الرابعة، حيث تجعل التكنولوجيا الحياة أبسط أو أفضل.