العشوائية.. الوجه الخفي لانتظام الطبيعة
*د.محمد قاسم
وكذلك فإننا نرى ذلك التناسق في مكونات الطبيعة، فهناك تناسق عام في تكوينها، فمن يلاحظ ندفة الثلج أو بذور عباد الشمس على وجه الوردة أو قوقعة الحلزون، يجد فيها أشكالا هندسية إبداعية، ولو نظرنا إلى الطاووس أو إلى طيور الجنة الموجودة في بابوا غينيا الجديدة أو أسماك الزينة البحرية، لوجدنا فيها تناسقا لونيا خلابا، ولولا هذا الانتظام لما استطاع العلماء وضع قواعد رياضية تصف الطبيعة بشكل دقيق.
إن الاعتقاد بأن الكون منتظم ودقيق ومتناسق هو اعتقاد صحيح في المجمل ولكنه خاطئ في التفاصيل، ففي مقابل كل هذا التناسق هناك عشوائية، وهي جوهر الكون ومحتوياته، بل إن التناسق ينشأ من رحمها، والأمثلة التي تبين أن هناك عشوائية في الكون هي أكثر بكثير من تلك التي تدل على التناسق، فمثلا هناك عشوائية في انتشار العدوى بين الناس، وعشوائية في حالة الطقس من تكوّن وتبدد الغيوم وسقوط الأمطار وتكون الأعاصير.
وكذلك في نسْخ "دي أن أي" في الكائنات الحية، واختلاط الغازات مع بعضها بعضا، وحوادث السيارات، وحركة الأسهم، ونمو وسقوط أوراق الشجر، وحركة أسراب الطيور والأسماك، والتوهج الشمسي، وحتى تكوّن الأشكال الهندسية من ندفة الثلج وبذور عباد الشمس والقوقعة، وألوان ريش الطاووس وطيور الجنة وأسماك الزينة، وإنْ ظهرت للوهلة الأولى على أنها متناسقة، إلا أنها نتجت من أسس عشوائية.
قوانين العشوائية
وكما أوجد العلماء قوانين رياضية تتناغم مع حركة الطبيعة، فقد أوجدوا للعشوائية قوانين رياضية، وبهذه القوانين نستطيع معرفة كيف تعمل الطبيعة في عمومها، ولكننا لا نستطيع أن نكشف التفاصيل الفردية فيها، فمن الممكن أن نعرف كيف ينتشر المرض بين عدد كبير من الناس، ولكننا لا نعرف من الشخص التالي الذي سيصاب بالمرض في سلسلة العدوى.
وهذه القوانين مستخدمة في شتى العلوم، ولا يخلو علم واحد منها اليوم خصوصا على مستوى الدراسات العليا.
قد يتبادر للذهن أن كل تلك الأمثلة التي ذُكرت عن العشوائية هي عشوائية في ظاهرها، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، فمثلا حوادث السيارات ربما تكون عشوائية ظاهريا، ولكن بإمكاننا معرفة سبب تلك الأحداث من أخطاء بشرية، وكذلك لو تتبعنا العدوى خطوة بخطوة على مستوى الفيروسات أو البكتيريا لاكشفنا طريقة انتشارها النظامية وغير العشوائية، وهذا ينطبق على جميع أمثلة العشوائية المطروحة سابقا.
إننا نتبنى لفظة العشوائية -ظاهريا- لأننا لا ندرك جميع المتغيرات التي تحرك أفرادها، ولو علمناها جميعا لما كانت هناك عشوائية، وأن المتغيرات الغائبة عن علمنا هي سبب ضبابية المعلومات، ولذلك نسميها عشوائية، ومع ذلك فإن متابعة جميع التفاصيل أمرٌ مستحيل في العصر الحالي وربما سيكون الأمر كذلك حتى لعصور بعيدة مستقبلا.
حتى وإن سلمنا بالأمر وقبلنا بأن العشوائية في كل تلك الأمثلة هي عشوائية ظاهرية، إلا أن الطبيعة على مستوى الجسيمات الصغيرة هي فعلا عشوائية، ولا يمكن بأي حال كشف السببية فيها أبدا، ولا توجد متغيرات -أي متغيرات- يمكننا من خلالها كشف النظام أو حتى السببية.
مُبرهنة بيل
لقد أُثبتت هذه الحقيقة على مستوى ميكانيكا الكم في عدة تجارب فيزيائية، وهي تعتمد على مبدأ رياضي أوجده العالم جون سيتوارت بيل، اشتهر هذا المبدأ باسم "مُبرهنة بيل"، حيث إنها برهنت على أنه لا توجد متغيرات في العالم الجسيمي الصغير يمكنها أن تصف كيفية تصرف هذه الجسيمات، وهذا ليس لأننا لا نمتلك طريقة لمعرفتها كما هي الحال في الأمثلة السابقة عن العشوائية، إنما هي غير موجودة فعلا، وبعبارة أخرى لقد انتفت السببية على مستوى الجسيمات، وكل ما يمكننا معرفته عنها هو عشوائيتها.
وترتبط مبرهنة بيل بصراع علمي كبير بين فريق آينشتاين وفريق نيلز بور، حيث كان يعتقد آينشتاين أن هناك متغيرات في العالم الذري ولكنها غائبة عنا، وأننا نحتاج لطريقة مختلفة لفهمها ومعرفتها.
وعلى الطرف المقابل فإن فريق نيلز بور كان يعتقد أن هذه المغيرات غير موجودة بالأساس، وقد كانت هذه النظرة مقلقة لآينشتاين كثيرا، وربما أقلقته إلى نهاية حياته، إلا أنه لم يكن محظوظا ليرى التجربة العلمية التي أيّدت فريق نيلز بور ليرفع القلق عن نفسه كلية.
إذن فالجسيمات الصغيرة تتحرك بعشوائية، وبما أن الجسيمات الصغيرة هي مكونات الأجسام الكبيرة، فحتى وإن ظهرت الأجسام الكبيرة متناسقة فإن أصلها يعتمد على العشوائية.
وبعد معرفة وجود العشوائية في الطبيعة كأصل لها، ربما تتعرى صورتها النظامية الجميلة، ولكن حتى مع وجود العشوائية، من الممكن استشعار هذا الجمال ولكن بنكهة مختلفة.
_________________
*أستاذ مساعد بكلية الدراسات التكنولوجية- الكويت