حفلة التصفيق.. الدلالات النفسية لخطاب نتنياهو في الكونغرس

نتنياهو Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu arrives to speak to a joint meeting of Congress at the US Capitol on July 24, 2024, in Washington, DC. (Photo by Drew ANGERER / AFP)
الكاتب: محاور الخطاب الذي تبنّاه نتنياهو واستند إليه تتشابه مع المحاور التي تحملها الجماعة والأفراد الذين يشعرون بتهديد وجودي بالاستئصال والزوال (الفرنسية)

إن تحيزاتنا المعرفية المتأصلة تجعلنا عرضة للتلاعب والاستغلال من قبل أولئك الذين لديهم أجندة ممنهجة يحاولون فرضها، خاصّة إذا كان بإمكانهم تشويه سمعة جميع مصادر المعلومات الأخرى

– لي ماكنتاير، ما بعد الحقيقة

دون استدراكات كثيرة، وبلا تبرير أو تلكؤ أو التفات إلى الماضي، يفتتح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خطابه بقوله "هذا ليس صراع الحضارات، هذا صراع بين البربرية والتحضر".

بحسب ألف باء علم النفس المعرفي، فإن ما يقوله المرء في البداية يُحدد جوهر الرسالة ومُبتغاها، يُعرَف هذا بانحياز إلقاء المرساة (Anchor Bias)، وهو انحياز إدراكي لا واعٍ يصف مَيل الناس التلقائي إلى التمسك بأول معلومة يتلقّونها، والارتكاز عليها لتفسير باقي الحديث وفهم كل التفاصيل اللاحقة من خلال الرسالة الأولى التي أُلقيت إليهم.

بهذا المُفتتح البسيط والمباشر حول حقيقة الصراع ستتأطر الأذهان لاحقا، وستعجز عن استشكال أي أزمة أخلاقية قد تُمليها عليهم ضمائرهم. المهم التقاطه هُنا أن خطاب نتنياهو في مطلعه كان يتحدث عما هو قادم، عن الحاضر والمستقبل، وليس عن الماضي والسابق، وهذا التأطير لتوجيه تطلعات الجماهير ومسامعهم وأبصارهم نحو القادم فيه توكيد غير واعٍ على المُضي قُدما في حرب الإبادة على غزة أكثر مما فيه التفات ومراجعات للماضي وتجاوزاته، وجرائم الحرب التي زخرت بها الأشهر التسعة الماضية منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

دعنا ننقل التقرير إلى خطوة أخرى متقدمة في التحليل النفسي، إذ يمكن ملاحظة أن جميع مضامين الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي واحتفى به أعضاء الكونغرس يُمثِّل الوصفة الرئيسية والتشخيص الفعلي لأولئك الذين يُعانون من قلق الموت. بعبارات أدق، محاور الخطاب الذي تبنّاه نتنياهو واستند إليه تتشابه حد التطابق مع المحاور ذاتها التي تحملها الجماعة والأفراد الذين يشعرون بتهديد وجودي بالاستئصال والزوال. ولكي نفهم ذلك، سنعود خطوة إلى الوراء.

هل تساءلت يوما: كيف يتصرف البشر عند تعرُّضهم لتهديد حقيقي أو كارثة مصيرية مثل حرب هائلة أو وباء فيروسي أو زلزال مدمر وكُل ما يُشكِّل تهديدا وجوديا مُحاطا بالموت واللايقين؟

ثمة نظرية شهيرة في علم النفس الاجتماعي وعلم النفس الوجودي تبحث في ذلك، تُسمى بنظرية إدارة الذعر (Terror Management Theory – TMT). تستخدم الشعوب والحضارات المُهدَّدة بقلق الزوال والموت إستراتيجيتَين رئيسيتين لتجاوز خوفها من الكارثة أو الموت:

  •  التمسك بقيمة كونية كُبرى (Worldview)

مثل: الأمة، قيم التحضر والديمقراطية، إنقاذ البشرية، الفخر بالقبيلة، حتى وإن كانت قبل الكارثة لا تتمسك ولا تؤمن بها.

  •  تأكيد الأفراد استثنائيتهم وفرادتهم (Specialness)

مثل: تأكيد كل فرد أنه يقوم بمهمة لا يقوم بها أحدٌ سواه، ارتفاع مهارة الأفراد في وظائفهم وارتفاع كفاءتهم الإنتاجية.

تعمل الإستراتيجية الأولى من خلال نسبة البشر أنفسهم إلى ما يبقى بعد موتهم، كمحاولة التخليد الرمزي لذواتهم، وطمأنة أنفسهم أنهم وإن زالوا فسيمتدُ أثرهم، حتى وإن حصل فناؤهم أفرادا أو جماعات جُزئية. أما الإستراتيجية الثانية، فيؤكد كل فرد أو جماعة فرعية أهمية تخصصها أو ما كانت تفعله قبل حلول الكارثة المصيرية، كأن كل فرد يُؤكد لنفسه وللموت أن هناك دورا مهمًّا يفعله في هذه الحياة، وكأنها وسيلة البشر لإقناع الموت باستثنائهم لأنهم مهمون لهذه الحياة.

ومَن يُصاب بقلق الموت يصير مهجوسا بتأكيد رؤيته الكونية والحضارية للعالم، وتُشير الدراسات إلى أن أفضل تعبير يُجسده قلق الموت هو تغير المعتقدات السياسية لدى الكثيرين "قبل" الكارثة عن "بعدها"، بحيث يستسيغ الناس الالتفاف حول قيادات فاشية وعنصرية لم يكونوا ليوافقوا عليها في ظروف سابقة قبل حضور قلق الموت.

ويُعطينا النموذج النظري لنظرية إدارة الذعر مقاربة جيدة لكي نفهم أن خطاب نتنياهو يتضمن المحاور جميعها التي تعبر عن أزمة إسرائيل وشعورها بالتهديد والفناء، فقد استحضر في خطابه الرؤى الكونية الكُبرى للحضارة، وفرادة النموذج الإسرائيلي، بالإضافة إلى الإنكار والتشتيت وتوجيه الأنظار صوب نجاحات عسكرية مُبالغ في تزيينها وحجمها وتأثيرها، وقد يكون هذا النموذج مُفسِّرا أيضا لحالة الاحتفاء المُبالَغ فيها من قِبَل أعضاء الكونغرس لأنه يُلامس مخاوف الأميركيين بالأفول والتراجع عن قيادة العالم في قابل السنوات.

التصفيق الحار: ردود أفعال مبالغ فيها تفضح القلق الحاد

من المثير للاهتمام أنّ الجزء الأكثر حرارة من التصفيق أتى كتعبير عن مباركة وموافقة بالإجماع على مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي التي تستحضر سياسات التوحّش(الأناضول)

في مشهد يندر أن تراه في الأروقة الغربية، نشهد تصفيقا حارا لخطاب نتنياهو منذ دخوله وعند كل جملة وعبارة يقولها، وهو مشهد لا يتكرر كثيرا، اللهم إلا إذا فتحت مقطعا لأحد قادة الدول "الاستبدادية" التي سترى معها كيف تُسارع الجماهير إلى التصفيق الحار عقب كل كلمة وعبارة بُغية إظهار الولاء والاحتفاء المبالغ فيه.

والسؤال النفسي هنا: لماذا يقوم الأشخاص بردود أفعال لا تتناسب من حيث النوع ولا المقدار مع الموقف الأساسي الذي يحصل أمامهم؟

ثمة إجابات عديدة عن ردود الأفعال غير اللائقة، سواء كان عدم التناسب كميا أم نوعيا، كإنسان يأخذ بالضحك الهستيري عند استقبال خبر وفاة والدته، أو كإنسان يُفرِط في السعادة أمام خبر يَعُدُّه معظم الناس عاديا، وكذلك  هو الحال في خطاب الكونغرس، حين يكون التصفيق مُبالغا فيه ولا يفصل بين التصفيق والآخر سوى ثوانٍ معدودة. ويتطلب تفسير هذه الظاهرة الخوض في مختلف النظريات النفسية والأبحاث الحديثة في مجالات علم النفس والتحليل النفسي.

يمكن فهم ردة الفعل الهستيرية هذه من خلال حِيَل الدفاع النفسي بحسب التحليل النفسي بصيغته الفرويدية الكلاسيكية. تلعب آليتَا الدفاع النفسي اللتان تسميان بالإزاحة و"التكوين العكسي للشعور" دورا جوهريا في تفسير هذه السلوكيات. حين يُظهر الناس ردودَ أفعالٍ مبالغا فيها مثل التمجيد والتصفيق أكثر من المعتاد على تصريح سخيف من القائد، يُمكن للتكوين العكسي للشعور أن يُفسر عملية إعادة توجيه المشاعر السلبية نحو أهداف أكثر أمانا، وفي سياق التمجيد المُفرط للقائد أو الشخص المُتحدث، قد يُساعد مثل هذا التصفيق الحار الأتباع على حل المشاعر المعقدة مثل الخوف أو الذعر أو الاستياء وتحويله في سياق مشروع مثل فعل الثناء، مما يخلق منفذا مقبولا اجتماعيا لهذه المشاعر.

تلعب إزاحة المشاعر وتحويلها غاية وظيفية تتمثل في تقليل القلق والحد من المخاوف التي لا يُمكن السيطرة عليها، عن طريق تقليل التوتر الداخلي الناجم عن المشاعر المتضاربة حول سلطة القائد وأفعاله، بهذا المعنى فإن رد الفعل هذا هو آلية دفاعية للحفاظ على التوازن النفسي وتقليل سطوة المشاعر المتضاربة.

من المثير للاهتمام هنا أن الجزء الأكثر حرارة من التصفيق أتى تعبيرا عن مباركة وموافقة بالإجماع على مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي التي تستحضر سياسات التوحش أو ما يُسمى في الإطار الغربي مبدأ "Dog-eat-dog"، الذي يعني بالعربية "حرب البقاء" أو "صراع الكل ضد الكل". فالتعبير عن أن الصراع ليس صراعا بين حضارتين إنما هو إيذان بحقبة ما قبل حضارية، أو بأن ما سيكون هو استثناء عن الظروف الحضارية التقليدية التي اعتدنا مُشاهدتها، أي أنها رِدّة نحو الحلبة الداروينية من جديد، وهي ضرورة بطبيعة الحال لإنقاذ قيم الحضارة الغربية، التي فجأة صار معقلها الأوحد والأخير هو الكيان المحتل، وهو دمج حضاري صرّح به نتنياهو في مواضع عدة من خطابه عن الحلف الغربي الإسرائيلي باعتبار إسرائيل جناحا متقدما للدفاع عن القيم الغربية في الشرق الأوسط.

خائفون من شجاعتهم؟ إليكم منظورَ آخرين لتفسير بسالة المقاومين

"هذا صراع بين مَن يُعظِّمون الموت، وبين مَن يُقدِّسون الحياة"

– نتنياهو

لا يمكن المرور على خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دون التقاط المخاوف الكامنة واللاواعية في عقله وعقل الإدارة الأميركية، وتلك القناعات الخفية التي استقرت في وجدان الغربيين ونفوسهم خلال الأشهر التسعة، أي منذ بداية الحرب، التي أبدى فيها الفلسطينيون صمودا منقطع النظير، وأظهرت مقاطع جيش الاحتلال الإسرائيلي ذاتها بسالة المقاومين وشراستهم وشجاعتهم في ميادين القتال، رغم الفجوة التقنية الهائلة، والرقابة الفائقة، وتوسل أقصى ما بلغته النظم المعلوماتية والحربية الغربية من تقنيات سيطرة وقتل.

في بداية حديثه، يُلقي نتنياهو عبارة تكشف عن لاوعيه، وربما بحسب الحفاوة الاستثنائية لهذه العبارة من قِبَل أعضاء الكونغرس فهي تكشف أيضا عن الهواجس الكامنة في عقل الإدارة الأميركية، وفيها يقول "هذا صراع بين مَن يُعظِّمون الموت وبين مَن يُقدِّسون الحياة"، وسنأخذ في هذا التحليل العبارة الأولى فقط، ووصف نتنياهو للفلسطينيين بأنهم يُعظِّمون الموت.

ومن الصحيح أن نتنياهو قد ساق وصف "يُعظِّمون المَوت" في سياق ذم يهدف إلى نزع الأنسنة عن الضحايا وتبرير قتلهم، لكنها عبارة فريدة تُعطينا استشكالا غير محلول في عقول الإسرائيليين والأميركيين حول إصرار الفلسطينيين على مواجهة أعدائهم وإن كلَّفهم الموت. إن التعبير الموازي لعبارة نتنياهو هو أننا في مواجهة أُناس يُفضِّلون الاستمرار بالمقاومة والمطالبة بأرضهم وحريتهم وحقهم في إنهاء الاحتلال، رغم كل هذه الدماء التي قدَّموها في سبيل مطالبهم، وأنهم لا ينفكّون يُصِرُّون على القتال بمعارك تبدو "ماديا" على الأقل خاسرة، ولا يردعهم شيء حتى الموت.

ومن المعلوم في التحليل النفسي أن هنالك خطا رفيعا للغاية بين الإعجاب والحسد، وبين الحب والكراهية، حتى على مستوى الوصلات العصبية للدماغ. وأيًّا كان، فنتنياهو يقترح على الأميركيين وصفة بديلة وطريقة تفكير مُغايرة ستُعينهم في تقليل شعورهم بالخوف من هؤلاء الأنداد الذين لا يخافون الموت ولا يُقهَرون، فالأفضل بحسب نتنياهو أن نفكر بهم بوصفهم عُشاقا للموت، كارهين للحياة، وهذا التفسير سيجعلهم كائنات من نوع آخر غير إنساني، يُبيح دماءهم ويُجيز استئصالهم.

معاينة المحررين: الدليل ما ترون لا ما تسمعون

ما المُؤدى الإدراكي الذي يفرضه رئيس الوزراء الإسرائيلي حين يُحضِر معه بعض القصص المعدودة على الأصابع حول الرهائن المحررين؟ يُبدد نتنياهو الشُّبُهات المُحتملة التي يعرف جيدا أنها تدور في أذهان الغربيين، فما المُنجَز العسكري اليوم لحرب الجيش الإسرائيلي على غزة؟ وما التقدم الفعلي الذي يحصل في الميدان؟

استباقيا، يفرض نتنياهو إجابات مُفحمة، عبر منطق الانتباه الانتقائي (Attentional Bias)، وهو انحياز نفسي معروف في العلوم الإدراكية، حين يُوجَّه الإدراك والانتباه نحو مُعطيات مُنتقاة بعينها، ولو كانت قليلة ونادرة، وإغفال وتجاهل الكمية الأكبر من المعلومات التي تُكذِّب ما تُريد قوله. بهذه الطريقة يكون النقاش حول القليل المعدود وتضخيمه في الأذهان، وإهمال الكثير الذي لا يُحصى وإخماده في الأذهان.

يستقر في علم نفس الحواس والإدراك أن الرؤية أوثق الحواس للإقناع، وبدلا من سماع الحقائق والأرقام والتقارير والإحصاءات، ليس هناك ما هو أفضل من الإتيان بنماذج حية للمُعاينة والرؤية، كي يتحول فجأة ما هو قبة لمجلس الشيوخ إلى دليل كبير من القصص التي لا يمكن إنكارها. فـ"الرؤية هي التصديق" كما يقول الغربيون، أو كما يقول المغني الأميركي إلفيس بريسلي "أن ترى يعني أن تصدق!" (Seeing is Believing).

ومن المهم أن لا نغفل هنا عن أهمية اختيار فتاة أنثى بوصفها عينة ممثلة لطبيعة المحتجزين الذين تملكهم فصائل المقاومة في فلسطين، فهذه أنثى، لذلك فهو يحاول إيصال رسالة مفادها "لكم أن تتخيلوا كم تُعاني الأنثى حين تكون محتجزة"، خلافا للتوقعات المختلفة والصور النمطية التي يحملها الناس عن الرجال، الذين هُم في العادة أكثر صمودا في الظروف الصعبة كالأسر والحرب.

ليست مصالح سياسية ولكنها قصص إنسانية: وصفة الاستعطاف الذهبية

"آمل أن أعانق ابنتي ولو لمرة واحدة فقط قبل أن أموت"

نتنياهو في الكونغرس الأميركي نقلا عن والدة إحدى الرهائن (24 يوليو/تموز 2024)

 

باستشهاده واقتباسه لعبارة والدة إحدى الرهائن، يقول نتنياهو إن هذه الأم تأمل أن تعانق ابنتها للمرة الأخيرة قبل أن تموت، وهو مدخل استعطافي جيد، يُزيح مركز النقاش من الملف السياسي إلى الملف الإنساني، فالمسألة ليست مصالح سياسية، ولم تكن كذلك أبدا، كما أنها ليست وحشية عسكرية، فجيشنا ليس سوى جيش "الدفاع" الإسرائيلي، إنما هي معاناة المدنيين وقصص الضحايا التي يدمى لها القلب.

التلاعب عبر الاستعطاف هو وسيلة يُدفَع بها الشخص للقيام بشيء لم يكن يميل إلى القيام به في بادئ الأمر عن طريق استثارة مشاعر الأسى والشفقة لديه، وهي مشاعر كونية عابرة للثقافات ويمكن استثارتها وإحراج أي إنسان بها مهما كانت خلفيته. يُعَد التلاعب عبر الاستعطاف مصدرا من مصادر القوة، وسُلطة يملكها المرء على الآخرين من حوله. وتكمن المشكلة الأساسية في هذا الشكل من التلاعب أنه يصعب تمييزه عن أشكال القوة الأخرى مثل الإقناع والإغواء أو الإكراه، خاصة أن الحدود بين التلاعب والإقناع غالبا ما تكون غير واضحة، ولذلك يحمل الاستعطاف الممنهج حمولة غير أخلاقية لأنه لا يحدث إلا عبر أسلوب خداعي أو سِرّي، حيث تُستخدم تكتيكات تؤثر على الحالة الذهنية للهدف وتغير من موقفه بطُرُق لا يدركها.

ولكن كيف تتلاعب طريقة عرض المعلومات بمواقف الآخرين؟

الكاتب: إنّ الكراهية والخطاب القائم على العنف يجد فاعلية جيّدة للغاية حين تكون الأرضية التي يتمّ ضخّ خطاب الكراهية فيها مشحونة بمشاعر الخوف والقلق (الفرنسية)

بحسب الدليل المُوسع الصادر عن المعهد الجمهوري الدولي، فإن أشهر أساليب التلاعب بالآخرين عبر انتقاء الخطاب واختيار سرديات مختلفة له هي:

  1. ضخ خطاب استقطابي، عن طريق التلاعب بالمعلومات والقصص لتأجيج الانقسامات السياسية أو العنصرية أو الدينية أو الثقافية أو تلك التي تقوم على التفرقة بين مستويين مختلفين. تركز هذه الخطابات غالبا على الانقسامات الموجودة مُسبقا داخل المجتمع وتُلامس مخاوف كامنة وقديمة، وتستخدم الخطابات القائمة على الهوية لزرع الخلاف والسخط.
  2. نزع الشرعية عن خطاب الآخر، عن طريق محتوى يقوِّض نزاهة الآخر ومصادره وأخباره، كالتشكيك في آلية توثيق الضحايا، ومدى مصداقية الأساليب الإعلامية للآخرين. وتهدف هذه الخطابات إلى زرع بذور عدم الثقة وتشويه سُمعة المؤيدين للمواقف المغايرة.
  3. تقديم مبررات عقلانية للكراهية، إن الكراهية والخطاب القائم على العنف يجد فاعلية جيدة للغاية حين تكون الأرضية التي يُضَخُّ خطاب الكراهية فيها مشحونة بمشاعر الخوف والقلق، وكثيرا ما يترافق خطاب الكراهية مع سلب الآخر حقه في التعبير عن نفسه ولو بالوسائل المشروعة.

الخطر يُهددكم أنتم أيضا: عائلة رهائن أميركان

يشيع في الدراسات النفسية أنها ترصد الأثر بين القُرب المكاني وبين إدراك المخاطر أو رصد التهديدات. بمعنى آخر، تلعب المسافة الجغرافية بين الإنسان وعناصر التهديد أو المخاطر المحتملة دورا في درجة القلق والتوتر الحاصل نتيجة المخاوف ومصادر التهديد. في هذا السياق لن يكون من المستهجن أن يأتي رئيس الوزراء الإسرائيلي بعائلة إسرائيلية من مزدوجي الجنسية، التي تحمل الجنسية الأميركية أيضا، كي يُشير إلى درجة القرب الفيزيائي والمسافة الجغرافية للمخاطر التي تخلقها حركة المقاومة الفلسطينية.

لكن هناك ما هو أهم من المسافة الجغرافية أو البُعد المكاني، وهو ما يُسميه علماء النفس بالقُرب النفسي أو القُرب المُدرَك (Psychological proximity)، وبحسب الدراسات فإن أولئك الذين ينظرون إلى مصادر التهديد بوصفها قريبة من الناحية النفسية، كأن يعتقدوا في قرارة أنفسهم أن من المُحتمل حدوثها قريبا في بيئتهم المباشرة، أو أن يحصل معهم ما سمعوا أنه قد حصل مع الآخرين، هؤلاء تحديدا سيشعرون بمشاعر قلق أكثر حِدَّة وكثافة حيال الأخبار المتعلقة بمصادر التهديد البعيدة مكانيا وجُغرافيا.

ولن ننسى هنا أن نأخذ بعين الاعتبار السمات الشخصية لبنيامين نتنياهو نفسه، من حيث تغذية غروره بنفسه ونرجسيته الذاتية التي لا يمكن أن تكتمل إلا من خلال شعوره العالي بالاستحقاق. من هنا تحديدا فإن الإتيان بعائلة تحمل الجنسية الأميركية يحتمل أيضا أن يكون توكيدا للتفضل والمِنَّة التي مَنَّت بها الحكومة الإسرائيلية على الإدارة الأميركية بحماية مواطنيها واستعادتهم، بما يؤجج الدَّيْن الشعوري لدى الأميركيين بأنهم مَدينون لنتنياهو بالحرب التي يخوضها وينقذ فيها ليس الإسرائيليين فحسب، بل ينقذ الأميركيين والإسرائيليين على حدٍّ سواء.

تفنيد صورة الفشل: شعبنا لا يخلو من الأبطال

إن فروقات الصور الدعائية بين أفراد المقاومة الفلسطينية وجنود جيش الاحتلال الإسرائيلي لا يمكن إنكارها بأي حال من الأحوال، حتى وإنْ تبنَّت الإدارتان الأميركية والإسرائيلية وحلفاؤهما رواية مغايرة للواقع، لكنَّ أمرا لا يُمكن إنكاره تُمثِّله التقارير الواسعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي عن إحجام شريحة عريضة من الجنود الإسرائيليين عن العودة إلى صفوف القتال بعد تلقّيهم خدمات الصحة النفسية والعلاج النفسي، وتعرُّضهم المزمن لصدمات نفسية واضطراب ما بعد الصدمة.

لكن صورة التقهقر والجُبن هذه ينبغي تبديدها، فيُقدِّم نتنياهو نموذجا لمُلازم عسكري يُدعى أفيخال روغيل، وهو الذي كان خارج أوقات خدمته العسكرية، ولم تكن لديه أية مركبة أو سيارة، وباغته خبر الهجوم في السابع من أكتوبر، فالتقط سلاحه، وركض -بحسب نتنياهو- مسافة 8 أميال لبلوغ حدود قطاع غزة، كي يُدافع عن الشعب الإسرائيلي والمشروع الغربي الحضاري في الشرق الأوسط، دون أن يُخبرنا عن تفاصيل اشتباكه ووقائع وصوله إلى قطاع غزة، وعلى أية حال، ها هو أمامكم بطل وطني حي يُرزق شاهد على ممكنات إسرائيل وشعبها الذي لا يستحق من الغرب والأميركيين سوى الدعم والتشجيع غير المشروطين.

الجنود المسلمون: إعادة توكيد نموذج الدولة الغربية الديمقراطية

في خطابه الدعائي، لا ينفك نتنياهو يُذكِّر الغربيين بمدى التشابه بين إسرائيل وبينهم، ولذلك فهو يأتي إلى قاعة الكونغرس مُسلِّحا نفسه بقصص عاطفية وشاعرية ستجعل من تأييده أمرا حتميا مهما اختلف الآخرون مع سياساته وقراراته. ومن بين القصص التي يعرضها هي قصة أحد الجنود الإسرائيليين، ولكن إليكم المُفاجأة: مُسلِم! نعم مُسلِم، واسمه أشرف، وهو من الجنود الذين يفتخر الجيش الإسرائيلي بانضمامهم إلى صفوفه.

يُقدم أشرف نموذجا جيدا للأميركيين، أولا لتأكيد قيم "التعددية الغربية" و"مفاهيم الديمقراطية"، التي لا تدّعيها إسرائيل فحسب وإنما تُطبقها في إدارتها اليومية للأرض المحتلة في فلسطين. من المعروف في علم النفس أن أفضل طريقة لكي تكتسب فيها تعاطف أي شخص غريب عنك ولا يعرفك هي أن تُعزز ما يُسمى سيكولوجيًّا بـ"التشابه المُدرَك" (Perceived Similarity) التي تعني أننا يشبه بعضنا بعضا، كأن تقول للآخر "لقد مررتُ بما مررتَ به"، أو "أعرف تماما ما الذي تتحدث عنه"، أو "أنا مثلكم تماما" لديّ قيم تعددية أفخر بها، وليس بعيدا عن هذا اختيار محتجزة أنثى من بين المحتجزين المُستعادين كي تكون عينة ممثلة لهم.

وقد يحمل أشرف، الجندي المسلم في صفوف الجيش الإسرائيلي، رسالة أخرى تُعيد لأذهان الأميركيين ممكنات التطبيع الإسرائيلي في الشرق الأوسط، ونموذج المُسلم الممكن غربيا، وهو مُسلم يحب إسرائيل وينضم إلى صفوفها العسكرية، خلافا للمسلمين "المتخلّفين والبرابرة والهمجيين الذين يرفضون التطبيع مع إسرائيل" ويرفضون وجودها جُملة وتفصيلا.

الكاتب: حين نفهم طبيعة المِزاج العالَمي اليوم ومدى هشاشة الحقيقة وما آلت إليه الحضارة البشرية لن نستغرب كثيرًا نجاح خطاب نتنياهو ومؤدّاه ولن يكون هناك معنًى لمن يطرح أسئلة من نوع: مَن يُصدّق كُلّ هذه الأكاذيب؟ (الأناضول)

معرض للقصص ومتحف للناجين والأبطال: مَن يُصدق هذا كله؟

ما التقييم العام الذي نشهده خلال وفي نهاية خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي؟ لا شك أنه النجاح، النجاح الباهر، لقد أدى العرض التمثيلي ومعرض القصص والحكايا وظيفته المرجوة منه.

حين نفهم طبيعة المِزاج العالمي اليوم، ومدى هشاشة الحقيقة، وما آلت إليه الحضارة البشرية، فلن نستغرب كثيرا نجاح خطاب نتنياهو ومؤداه، ولن يكون هناك معنى لمَن يطرح أسئلة من نوع: مَن يُصدق كُل هذه الأكاذيب؟ لأن أحدا لن يهمه التحقق من تفاصيل القصص والحكايا. وهل ستهم الحقيقة أساسا في عالم "ما بعد الحقيقة" بتعبير لي ماكنتاير في كتابه المهم والبارز الذي يُؤرخ فيه لحقبة جديدة ليس للحقيقة فيها مكان، فالكذب يمكن أن يصير حقيقة عبر عرض الحقائق المُجزأة بطريقة واعية ومقصودة مليئة بالتلاعب والخداع، فالأهم من الحقيقة هي الأكاذيب التي نرويها بطريقة مُقنعة.

وأفضل إجابة عن جميع هذه الأسئلة المَثَل الفلسطيني الشعبي الذي يقول "ما أكذب من شب تغرب، إلا ختيار ماتت أجياله"! فمَن يُصدِّق شابا يروي قصصا بطولية في غربته لا يمكن معرفتها ولا التوثق منها، ومَن سيُصدِّق رجلا طاعنا في السن يروي بطولاته مع أقرانه الذين ماتوا ولا يمكن مراجعتهم أو الحديث معهم للتأكد والتحقق من صحة القصص والمَرويات.

المصدر : الجزيرة

إعلان