كان صرحًا من خيالٍ فَهَوى: كيف أتجاوز مرحلة الانفصال عن شريك الحياة؟

كان صرحًا من خيالٍ فَهَوى: كيف أتجاوز مرحلة الانفصال عن شريك الحياة؟

إنه كابوس الأزواج، والحُزن الذي وصفه الإنسان في القصائد والأشعار (سَقى اللَه أرضاً قد غدت لك منزلاً) والأغاني التي واسى بها الإنسان نفسه،  فمن فيروز (الله معك يا هوانا)، وأم كلثوم التي غنّت (ياما أمر الفراق)، نجد أن الفراق العاطفي استحوذ على جزء كبير من المشاعر التي ما زلنا حتى اليوم نحاول التعبير عنها بشتى الطرق. ومَن منّا لا يعرف صديقًا أو عزيزًا مرّ بتجربة انفصال أو طلاق؟ هذا التقرير يسعى لأن يُجيبك عن سؤالك الصعب: كيف أتخطى مرحلة الانفصال العاطفي؟ كما سيخبرك عن أهم ما تود معرفته حول الجانب النفسي للانفصالات العاطفية، وأسباب ما تشعر به أنت والملايين غيرك ممن ينفصلون عن شركاء حياتهم، كما سيُقدم لك أهم الخطوات العملية التي يمكنك الاستعانة بها لتخطي مرحلة الطلاق أو الانفصال العاطفي.

 

ما ينبغي أن تعرفه عن أهمّية العلاقات العاطفية للإنسان

أهمّية العلاقات العاطفية للإنسان

عُرف الإنسان منذ الأزل بطبيعته الاجتماعية، وحاجته إلى أن يُحِّب ويُحَب من قبل مَن حوله، حيث إن الحاجة إلى وجود شريك حياة مُحب وإلى علاقة مستقرة لا تقل أهميةً عن الحاجة إلى دائرة من الأصدقاء الجيدين والعائلة الداعمة، وهو ما تدعمه دراسات الوسط العلمي، إذ تُشير إلى أن بناء وإنجاح علاقة عاطفية في حياة الفرد يلعب دورًا كبيرًا في الرفاهية والصحة النفسية. كما يرتبط الحُب في سياق العلاقات العاطفية باعتباره أحد أكثر النقاط تحديدًا للسعادة الشخصية على المدى البعيد، ويرتبط أيضًا بارتفاع معدلات احترام الذات والشعور بالأمان والرضا عن الحياة، بل وحتى بتحقيق الأهداف الشخصية. تأكيدًا على ذلك، قامت دراسة تحليلية بمراجعة ما يقارب ثلاثة عُقود (1990-2017) من الأبحاث المرتبطة بالعلاقات العاطفية (قامت هذه الأبحاث بدراسة متغيرات مختلفة، مثل وجود علاقة عاطفية من عدمه، ونوع تلك العلاقة، وغيرها) وأثرها على الرفاهية والصحة النفسية، وبتحليل ما مجموعه 112 دراسة، وُجد أن العلاقات الرومانسية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالرفاهية النفسية[1].

 

لكن بالمقابل، نجد اتجاهًا آخر يناقش الأثر السلبي الذي تُخلفه العلاقات أحيانًا، على اعتبار أن العلاقات الرومانسية تمثل تحديًا جوهريًّا، وتتطلب مهارات (مثل النضج العاطفي والتفكير العقلاني) وموارد قد لا يمتلكها الفرد؛ ما يؤدي لانخفاض جودة العلاقة، فتُصبح مصدرًا للاضطراب وعدم الاستقرار، وهو ما يدفع الشركاء في نهاية المطاف إلى اتخاذ قرار الانفصال.

 

لماذا ينفصل الشركاء؟ وكيف يؤثر الانفصال على الصحة النفسية؟

لماذا ينفصل الشركاء

إن أسباب الانفصال العاطفي كثيرة، بدءًا بالخيانة والعنف الأسري والابتزاز العاطفي، مرورًا بانعدام الشعور بالسعادة، والنمو الشخصي خارج العلاقة الزوجية، بل وحتى "لا أعرف"، الإجابة التي قدمها مَن انفصلوا عن شركائهم حين سُئلوا عمّا حصل. في مشهد من المسلسل التلفزيوني "Scenes from a Marriage"، تواجه الزوجة شريكها برغبتها في إنهاء العلاقة قائلة: "هذا ليس ذنب أحد، لقد حدث ما حدث فحسب، الطلاق يحدث للجميع، إنه أمر يمكن التنبؤ به بسهولة".

 

كانت الأسباب التي تدفع أحد الشريكين أو كليهما للانفصال عن الآخر محط اهتمام لدى الباحثين، إذ وجدت دراسات عديدة اختلافات في أسباب الطلاق باختلاف العديد من العوامل، فالنساء على سبيل المثال، تختلف أسبابهن للانفصال مقارنة بالرجال. كما كان لعوامل أخرى مثل الحالة الاجتماعية-الاقتصادية، ومدة الزواج، وعمر الشريكين عند الارتباط، تأثيرٌ على أسباب اتخاذ قرار الانفصال.

وفي حين أنه لا بد أحيانًا من اتخاذ قرار الانفصال لإنهاء العلاقة العاطفية لما قد يسببه استمرارها من تعاسة وأذى للطرفين، إلا أن إنهاءها يصاحبه -للمفارقة- العديد من المشاعر السلبية التي قد تستمر لفترة ليست بالقصيرة. ولعلّك سمعت سابقًا أن الألم العاطفي يُنشط نفس المناطق في الدماغ التي تنشط عندما تشعر بالألم الجسدي، وهو بالفعل ما يحصل. تؤثر تجارب الانفصال بشكل سلبي على الصحة النفسية، وترتبط بحضور أعلى لاضطرابات الاكتئاب والقلق عند مقارنتها لدى من مرّوا بتجربة انفصال بغيرهم. في مصر على سبيل المثال، قامت إحدى المراجعات العلمية بالتحدث مع عدد من النساء حول الجوانب المختلفة لحياتهن بعد خوض تجربة الطلاق، وكان أحد أهم المواضيع التي طرأت خلال المقابلات هي الصحة النفسية، متمثلة بحضور الاكتئاب ومشاعر الغضب وانخفاض تقدير الذات (وتحديدًا في حال كان أحد أسباب الانفصال الخيانة الزوجية)، بالإضافة للشعور بالعجز والقلق وطلب العلاج النفسي[2].

 

بالإضافة لذلك، نجد في أدبيات الطلاق والانفصال حضورًا واضحًا للعلاقة بين تجارب الطلاق ومعدلات الانتحار أو محاولاته، إذ تتفق الغالبية العُظمى من تلك الدراسات على أن احتمال الإقدام على إنهاء الحياة يزداد لدى الأفراد -الرجال بشكل أكبر من النساء- الذين مرّوا بتجربة طلاق، مقارنة بغيرهم سواء كانوا متزوجين، أرامل، أو حتى غير متزوجين[3]. ومن جهة أخرى، تؤثر الوصمة المتعلقة بالطلاق في المجتمع على كلا الجنسين، وبشكل أكبر وأخصّ على النساء في المجتمعات العربية[2]. في دراسة أُجريت في المملكة العربية السعودية، وصفت النساء اللواتي مررن بتجربة طلاق شعورهن بالإقصاء في مجتمعهن، بالإضافة لإلقاء فشل العلاقة الزوجية على عاتقهن وحدهن[4]. إن تلك الوصمة هي بلا شك ذات تأثير سلبي على الصحة والرفاهية النفسية، وعلى القدرة على التأقلم مع الحياة بوضعها الجديد.

 

كما أنه خلال نمو واستمرار العلاقة العاطفية مع الوقت، يتشارك الأزواج أنشطتهم ودوائر معارفهم وأصدقاءهم، وقد يمتد هذا إلى أن تتشابه وتتداخل جوانبُ من شخصياتهم وهُوياتهم، والحدّ الذي يفصل "ذات" الشريك عن شريكه يُصبح أقلّ وضوحًا. تختفي الـ"أنا" شيئًا فشيئًا، وتُصبح الـ"نحن" تعريفًا عن الذات. وهو ما خلصت إليه الدراسات فعلًا، إذ إن الشركاء الأكثر التزامًا في علاقتهم هم أيضًا الأكثر ميلًا للتحدث بصيغة الجمع (نحن) عند الحديث عن أنفسهم، كما لوحظ شعور المتزوجين بالارتباك عند محاولتهم تمييز ذواتهم وتعريفها بمعزل عن شركائهم. من ثم، يجعل الانفصال العاطفي عن الآخر من كل هذا عُرضة للتهديد، فالأصدقاء المُشتركون لا يعودون كذلك، والأنشطة التي اعتاد الشريكان أن يُمارساها معًا لم تعد مُتاحة، بل وحتى الإجابة عن سؤال "مَن أنا؟" أصبحت بحاجة إلى إعادة تعريف[5][6].

هبني "هُنا"

حتى أشير إليّك منها.. كي أفرّقَ بيننا

حتى يُلمحَ إصبعٌ بالميلِ

مَن مِن"نا".. أنا

 

كيف أتجاوز مرحلة الطلاق أو الانفصال عن شريك حياتي؟

كيف أتجاوز مرحلة الطلاق أو الانفصال

  • تسامح مع المشاعر السلبية، ولكن لا تدعها تستحوذ عليك:

بعد المرور بتجربة الانفصال العاطفي، من الطبيعي أن تراودك مشاعر وأفكار سلبية تجاه نفسك وتجاه ما حصل، كأن تقول مثلًا: "لا أعتقد أنني سأجد أحدًا يُحبني أبدًا" أو "فشلي في هذه العلاقة يعني أنني لن أنجح في أي علاقة أخرى"، وتناولت دراسات عديدة مشاعر كفقدان الرغبة في الحياة والسؤال عن المعنى، وهو تساؤل العاشق الذي صاغه محمود درويش:

"هل كان هذا الطريقُ هباءً

على شَكْل معنًى وسار بنا؟"

إن تلك المشاعر مفهومة ومُقدرة، ومن المهم أن تعطيها حقّها وتعرف أنك لست وحدك من يختبرها، لكن تذكر أن تجربة الانفصال كغيرها من التجارب السلبية في الحياة، تجعل تفكيرنا ضبابيًّا إلى حدّ ما، فتلبس الأفكار اللامنطقية والسوداوية لباس الحقائق، ويُعميك ألم رفض شريكك لك عن كل صفاتك ومميزاتك.

 

  • تخلص من مشاعر الغضب والمرارة تجاه العلاقة والشريك السابق:

تراود العديد منّا مشاعر سلبية تجاه شركائنا السابقين، وربما تستمر لفترة طويلة بعد انتهاء العلاقة. وفي حين قد يبدو أحيانًا أنه من الأسهل شيطنة الطرف الآخر ولومه على كل ما أدّى بشكل مباشر أو غير مباشر إلى انتهاء العلاقة، إلا أن هذا -بحسب العلم- ليس الحل الأفضل. لقد وجدت دراسة أننا كلما كنّا أكثر قدرة على مسامحة الشريك السابق (بمعنى غياب المشاعر السلبية تجاهه أو حتى حضور المشاعر الإيجابية) ازدادت قدرتنا على الشعور بحالة نفسية أفضل[7]. وفي دراسة أخرى أُجريت على 208 أشخاص بهدف معرفة وجهات نظرهم تجاه أسباب انتهاء علاقاتهم بالانفصال، وجد الباحثون أن أولئك الذين عزوا أسباب انفصالهم إلى خلل في جوهر العلاقة نفسها بدلًا من إلقاء اللوم على أسباب داخلية (كأنفسهم) أو أسباب خارجية (مثل المشكلات المادية وغيرها)، وجدوا أنهم أقل قدرة على التكيف لاحقًا وتخطي الانفصال[8]. من المهم أن نُذكّر بأن مسامحتك لشريكك السابق لا تعني بالضرورة وجوب استعادة علاقتكما، فبالطبع هناك شركاء سيئون وهناك علاقات غير صحية، غير أن المسامحة لا تستوجب إلا التخلص من المشاعر السلبية التي قد تؤثر على سير حياتك وصحتك النفسية.

 

  • تقبّل انتهاء العلاقة:

تقبّل انتهاء العلاقة

لعلّك سمعت سابقًا بنموذج مراحل الحزن الخمس الذي يُخبرك عمّا تمر به عند تعرضك لخسارة كبيرة. وبحسب النموذج الذي وضعته الطبيبة النفسية كوبلر روس فإن تلك المراحل هي: الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، والتقبل. وسنركز هنا على تلك الأخيرة، إذ يواجه العديد منّا بعد الانفصال عن شريكه صعوبة في تقبل انتهاء العلاقة، وأن الطرفين سيمضي كل منهما في طريقٍ ومستقبل خاص به. إن أهمية تقبل انتهاء العلاقة يدعمه العلم، إذ سنشرح لاحقًا دور العلاج النفسي القائم على التقبل في مساعدتك على التكيف بشكل أفضل مع المرحلة الجديدة من حياتك.

 

  • افهم نفسك وتصرفاتك في العلاقة:

العديد من الدراسات ناقشت وربطت بين أنماط التعلق التي تتشكل خلال مرحلة الطفولة وعلاقتها بمن نكون وكيف نتصرف في علاقاتنا، بل وحتى في مدى تأثُّرنا بالانفصالات العاطفية. فعلى سبيل المثال، يميل الأشخاص الذين يتسمون بأنماط تعلّق غير آمن (Insecure attachment) إلى أن يختبروا مستويات أعلى من التوتر والاكتئاب، ومستويات أقل من التحكم بالمشاعر والتصرفات عند الانفصال. وعلى النقيض من ذلك، يمتاز من يتسمون بنمط تعلق آمن (Secure attachment) بتحكم ومرونة أكثر تجاه الانفصالات والضغوط العاطفية[9][10]. هذا مُجرد مثال فقط. تساعدك معرفة نفسك بشكل أفضل على وضع الأمور في نصابها، وعدم الاكتفاء بتقبل أخطائك فحسب، بل الوصول أيضًا إلى نسخة أفضل من نفسك تمنحك علاقًة أكثر جودةً واستقرارًا في المستقبل.

 

  • اعتنِ بنفسك وبصحتك، وضَعْ نمطًا جديدًا لحياتك:

غالبًا ما يواجه الأفراد بعد الانفصال وقت فراغ كبيرًا، ومِساحة واسعة يتركها غياب الشريك، وهو ما قد يعني الغرق في دوامة المشاعر السلبية التي ذكرناها سابقًا، لذلك تجد أن إحدى أهم الخطوات التي -على بساطتها- سوف تُشكل فرقًا واضحًا في تكَيُّفك مع التغيير الذي طرأ على حياتك وما يتبعه من أفكار ومشاعر، هي أن تعتني بنفسك وتضع خطة جديدة لحياتك القادمة. يساعدك وضع روتين جديد والقيام بأنشطة على مواجهة مشاعر الوحدة التي ستشعر بها بعد الانفصال، وشغل أوقات فراغك بما يمنعك من التفكير الزائد في العلاقة التي مضت. يُمكنك على سبيل المثال أن تُخصص وقتًا لممارسة نشاط بدني بشكل يومي كالمشي، وأن تُمارس تمارين التأمل. لا يعني هذا بالطبع أن عليك تجاهل علاقتك السابقة بشكل تام وعدم التفكير فيما حدث، ولكن الاعتدال في ذلك -كما في إلهاء نفسك- هو الحل.

 

  • اطلب المساعدة المختصة:

قد يساعدك أن تستشير أخصائيًّا نفسيًّا للتعامل مع جوانب عديدة لمرحلة الانفصال. فالعلاج المعرفي السلوكي (Cognitive Behavioral Therapy) على سبيل المثال، يساعدك على التعامل مع الأفكار السلبية التي تنشأ نتيجة له، مثل انخفاض تقدير الذات ومشاعر الغضب والإحباط وغيرها. كما أن تقنيات العلاج النفسي بالقبول والالتزام (Acceptance and Commitment Therapy) تهدف بشكل رئيسي إلى زيادة المرونة النفسية بالتركيز على مهارات التقبل والوعي الذاتي وغيرها، والتي تساعدك على التعامل مع الأفكار والأحداث السلبية بدلًا من إنكارها أو تجنبها؛ ما يساعدك على تخطيها بشكل صحي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تُعينك الاستشارة الأسرية (Family Counseling) على التكيف والتعامل مع المواقف التي تحتاج إلى تواصل مباشر مع شريكك السابق، خاصةً في حالة وجود أطفال في الأسرة أو غير ذلك.

 

أدوات ستساعدك:

  • كتاب

كتاب "How to Survive the Loss of a Love"

يناقش كتاب "How to Survive the Loss of a Love" المشاعر والأفكار المختلفة التي يواجهها الأفراد عند فقدانهم للحب، ويقدم توصيات عديدة تساعد في التعامل مع الألم الناتج عن ذلك والوصول إلى حالة نفسية أفضل.

———————————————————————————–

المصادر:

[1]  Well-Being and Romantic Relationships: A Systematic Review in Adolescence and Emerging Adulthood (2019)

[2]  Strengthening Marriages in Egypt: Impact of Divorce on Women, Behavioral Sciences (2019)

[3]  Marital status and suicide in the National Longitudinal Mortality Study (2000)

[4]  Exploring the Challenges of Divorce on Saudi Women (2017)

[5]  Who am i without you? the influence of romantic breakup on the self-concept (2010)

[6]  Falling in Love: Prospective Studies of Self-Concept Change (1995)

[7]  Forgiveness of an Ex-Spouse, (2008)

[8]  People’s Reasons for Divorcing: Gender, Social Class, the Life Course, and Adjustment, (2003)

[9]  Bouncing Back from a Breakup: Attachment, Time Perspective (2011)

[10] Associations of Childhood Maltreatment and Attachment Styles with Romantic Breakup Grief Severity: The Role of Emotional Suppression (2022)

المصدر : الجزيرة