هل أنت شخص نرجسي أم واثق بنفسك؟.. هذا التقرير العلمي يشرح لك

منذ أكثر من 2000 عام، عرف البشر مصطلح "النرجسية" (Narcissism بالإنجليزية) ودلالاته من خلال قصة "نرجس" (أو نرسيس)، وعرفوا كذلك مآلات هذه الصفة من القصة ذاتها التي ذهب فيها "نرجس" ضحيةً لحبّ ذاته(1). لكن، لماذا اكتسبت النرجسيّة هذا القدر من الاهتمام في الفترة الأخيرة؟ وكيف أحدثت كل هذه الضوضاء حتى صارت مفهومًا يُناقش على المستوى الاجتماعي والسياسي، لا العلمي فقط؟ وما النرجسية أصلا؟ وكيف يمكن تفريقها عن الثقة بالنفس أو ما يسميه البعض بـ"النرجسية الصحية"؟

 

في هذا التقرير، نتناول مفهوم النرجسية بدءًا من موقعها في علم وطب النفس، ونشرح المعايير التي يضعها الطب النفسي لتشخيص النرجسية المرضيّة (والفرق بينها وبين ما يُدعى بـ"النرجسية الصحية" والثقة بالنفس)، فضلًا عن تناول أسباب نشأتها وأنواعها المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، يشرح التقرير الكيفيات التي تظهر فيها النرجسية في الحياة اليومية والمآلات الخطيرة لها على مستوى الشخص وتجاه المحيطين به.

ما النرجسية في علم النفس؟

كثيرا ما نستخدم مصطلح "نرجسي/ة" في حياتنا اليومية لوصف الإنسان الذي يحب ذاته بشكل مفرط، أو يتّصف بغرور مبالغ به ويتصرف مع الآخرين بفوقية واضحة وكأنه لا يرى إلا نفسه. ومن الشائع أيضًا استخدام كلمات مشابهة لتؤدي ذات الغرض، مثل: "مغرور" أو "متكبّر".

 

في علم النفس، كما في أي علم آخر، يتم ضبط المفاهيم بتعريفات محدّدة لتجنّب حدوث لَبسٍ لدى تداولها، إلّا أنّ علم النفس والطب النفسي لم يتطوّرا بشكل كبير إلا بعد زمن طويل من نشوء مصطلح "النرجسية"، وتحديدًا إلى أن جاء القرن العشرين. منذ ذلك الوقت، أصبح التعامل مع هذه المفاهيم والصفات النفسية والاضطرابات أكثر موضوعيّةً من خلال توافق المتخصصين على معايير معينة لتشخيصها وتعريفها، وإيجاد لغة علمية مشتركة وواضحة.

 

يُعد من أهم مظاهر هذا التوافق وزيادة "الموضوعية" في التعامل مع المرضى والاضطرابات، وجودُ دليل مرجعي تُصَنَّف فيه الاضطرابات والتشخيصات النفسية والمعايير التي يجب أن يُشخّص الاضطراب اعتمادًا عليها، ألا وهو الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (المعروف باختصار DSM).

 

ليس هناك تعريف علميّ متّفق عليه بالمُطلق في علم النفس لمفهوم النرجسية، لكن عددًا من علماء النفس يُعرّفونها على أنها مجموعة من الأفكار والسلوكات والمشاعر التي تتّسم بشكل أساسي بالاعتداد بالنفس والتمركز حول الذات، وبتصوّر متضخم عن أهميتها مع شعور بالاستحقاق والحاجة لتقدير الآخرين وإعجابهم رغم فقدان القدرة على التعاطف معهم، بل والتقليل منهم(2،3).*

 

هذا النمط من التفكير والشعور والسلوك يشكّل طيفًا طويلًا، فوجوده وشكله وشدّته أمر نسبي، ويختلف من شخص إلى آخر. إلّا أن حضور النرجسية الأهم في الطب النفسي كان عندما أُضيف "اضطراب الشخصية النرجسية" بوصفه اضطرابا مستقلّا ضمن فصل اضطرابات الشخصية في النسخة الثالثة من الدليل التشخيصي والإحصائي (DSM) عام 1980(4). وهو أحد أكثر اضطرابات الشخصية شيوعًا، فهو يصيب 6% تقريبًا من البشر حول العالم، مع حضور نسبي أكبر في الذكور (7.7%) من الإناث (4.8%)(5). وعادةً ما يُقصد هذا التشخيص بالتحديد حين يُذكر مفهوم "النرجسية المَرَضية".

 

هناك نرجسية "عادية" وهناك اضطراب الشخصية النرجسية.. ما الفارق؟

يعتمد التشخيص في الطب النفسي على وجود مجموعة من المعايير/الأعراض، وليس على وجود سلوك واحد أو فكرة نرجسية واحدة لدى الشخص، وتقع مسؤولية التفريق بين السلوك النرجسي الذي يمكن وصفه بـ"غير المرضيّ" من جهة واضطراب الشخصية النرجسية من جهة أخرى على عاتق الطبيب النفسي (Psychiatrist) أو المتخصص في علم النفس العيادي (Clinical Psychologist)؛ لأنه أمر أكثر تعقيدًا وحساسية =من مجرد وجود المعايير، ويحتاج إلى حكم شخص ذي خبرة علمية وعملية.

 

إذن، كيف يفرّق المتخصصون بين "النرجسية العادية/الطبيعية" واضطراب الشخصية النرجسية؟

بحسب النسخة الأخيرة من الدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية (DSM-5)(6)، يتكوّن اضطراب الشخصية النرجسية من معايير تشخيصية عدّة، كما يظهر في الإنفوجراف أدناه:

ربّما يشعر البعض حين يقرأ هذه المعايير أو الأوصاف للوهلة الأولى أنه مصاب بالاضطراب، أو أنه يعرف الكثيرين ممن هم كذلك، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فهذا ما يشعر به كثير من البشر حين قراءة معايير الاضطرابات النفسية. ومن هنا جاءت أهمية التشخيص السريري من قبل متخصص؛ لأن الاضطرابات النفسية تقع عموما على طرف أو جزء معين من طيف طويل وواسع من أنماط السلوك والتفكير الإنسانية التي تبدأ من "الطبيعي" وتمتدّ إلى "غير الطبيعي"، ومن النادر في الطب النفسي (على عكس معظم فروع الطب الأخرى) أن تكون الحالة المرضية شديدة الوضوح والانفصال عن طيف الأنماط الطبيعية من السلوك والتفكير. التشخيص الذاتي غير ممكن وليس علميًّا (حتى من طبيب نفسي لنفسه)؛ لأن هذه الأنماط مخادعة ونحن متحيّزون مع أو ضد ذواتنا غالبا.

 

من جهة أخرى، يمكن وصف بعض السلوكات بالنرجسية دون أن تتعدّى ذلك إلى اضطراب، مثل تصرّف شخص ما بأنانية مع أحد أصدقائه ثم تصحيح الخطأ والاعتذار، أو الموظّف الذي يحصل على ترقية ما في عمله فيبدأ بالتصرّف بطريقة نرجسية مع زملائه في الشركة ثم يعود إلى أسلوبه الاعتيادي بعد قليل من الوقت، أو الطالب الذي يحصل على نتيجة ممتازة في أحد الامتحانات فيشعر أنه أفضل بكثير من غيره من الطلاب ويتصرف بنوع من الاستعلاء تجاههم، لكن ذلك التفكير لا يتحول إلى أوهام بالعَظَمة أو فقدان الحس بالتعاطف مع غيره من الطلاب بشكل مطلق.

 

النرجسية التي لا تصل مرحلة الاضطراب تبدو سلوكات أو أفكارًا مؤقتة سرعان ما تختفي أو يتم تعديلها بشكل ما، لكن الشخصية النرجسية هي نمط عام وثابت ومتكرر وطاغي الحضور في حياة الشخص(8).

 

هل هناك "نرجسية صحّية" من جهةٍ علمية؟

انتشر في الآونة الأخيرة مصطلح مثير للاهتمام والجدل في الوقت نفسه، وهو "النرجسية الصحية"، أو بمعنى آخر: النرجسية التي لا تُعدّ غير مَرَضيّة فقط، بل صحّية وإيجابية إذا امتلكها الشخص. وقد نوقشت فكرة الدور الصحي للنرجسية في تطور الذات منذ عقود طويلة، خصوصا لدى علماء مدرسة علم النفس التحليلي، ابتداء من فرويد وتلاميذه ومن بعدهم(9).

 

مع ذلك، ما زال هذا المصطلح خلافيًّا بين العلماء، حيث يعتبر البعض النرجسية الصحية جزءا أساسيا من تطور الذات وتكوينها الصحي، بل إن بعضهم يصل إلى القول بأنها غير منفصلة عن احترام الذات(10)، بينما ما زال كثيرون يرون أنه يجب ألّا يتم إضفاء أي نوع من الإيجابية على مصطلح مذموم الدلالة مثل النرجسية(11، 12).

 

ومن النقاط التي تُثار أيضًا حول هذه المسألة، هي المشكلات التي قد يسبّبها أن يجد الشخص نفسه يقف على الطرف الآخر من طيف النرجسية، بحيث إن النسب المتدنّية جدًّا منها (النرجسية) قد ترتبط بمشكلات عديدة، مثل فقدان الثقة بالنفس وقدراتها والقلق والاكتئاب وحتى التفكير بالانتحار. فكثيرٌ من مرضى الاكتئاب، مثلًا، يعانون من نقص بالثقة في أنفسهم وتقديرها، ولذلك فإن أحد الأهداف الرئيسية للتدخلات العلاجية هو جعلُهم أكثر قدرة على حبّ ذواتهم وتقديرها وعدم توجيه اللوم تجاهها بشدّة. كما أنّ بعضهم يرى النرجسية الصحية صفة ضرورية لحماية النفس ضد النرجسية المَرَضية نفسها لدى التعامل معها عند أشخاص آخرين(13).

الحرص على إبقاء التصرفات النرجسية مضبوطة يحتاج وعيًا بالذات ومراجعة مستمرة للنفس وذكاء بدرجة ما، وهي أمور ليست متوافرة في جميع البشر.

من جهةٍ أخرى، تكمن مشكلة كثير من المتخصصين المعارضين لهذا المفهوم في كون انتشاره أو تصديره للمجال العام سيسبّب فهما غير دقيق للنرجسية على الأغلب، وقد يتم استخدامه من قبل العديد من المدربين غير المتخصّصين علميا (مثل من ينشطون في مجالات التنمية البشرية، ومدربي الحياة "اللايف كوتشنج [Life coaching]"، وما يُدعى بعلم الطاقة وقانون الجذب، وغيرهم..) للترويج لمفاهيم مغلوطة وغير سويّة وخطابات غير واقعية تصوّر الذات البشرية على أنّها "خارقة"، وقادرة على التميز والتخلّي عن الآخرين والمجتمع بسهولة دون كلفة نفسية واجتماعية، بل وتُحرّضهم على ذلك من باب أنه الأفضل لهم، وهذا خطاب مُغرٍ للناس، وسيجعل المفهوم يتجاوز بسهولة ما طرحه المتخصصون المؤيدون إلى مساحات أخرى خطيرة ويصعب ضبطها. لذلك فإن الكثير من المختصين يفضّلون استخدام المصطلحات الأكثر وضوحًا في دلالتها الإيجابية، مثل "الثقة بالذات".

ما الفرق بين النرجسية والسيكوباثية والدرامية؟

أثناء القراءة، قد يقفز إلى أذهان عدد من القرَّاء مجموعة من سمات التشابه بين بعض أعراض اضطراب الشخصية النرجسية واضطراب الشخصية المعادية للمجتمع (Antisocial Personality Disorder) أو السيكوباثية كما يُتعارف عليها.

 

ورغم وجود تقاطع مهم بين الاضطرابين، حيث إن الشخص في كلتا الحالتين يستغلّ الآخرين لتحقيق مآربه الشخصية، فإن النرجسي عادة ما يريد الوصول إلى مكانة اجتماعية مرموقة يترافق معها وجود تقدير واعتراف بهذا من الآخرين، فيما يكون الدافع الرئيسي للشخصية السيكوباثية هو إيذاء الآخرين وانتهاك حقوقهم والاستمتاع بإخضاعهم لسُلطته. إلّا أن الشخص الذي يصاب بالاضطرابين معا (وهو أمر ممكن، بل هو الترافق الأكثر شيوعا لاضطرابين معًا من اضطرابات الشخصية جميعها) يكون الأسوأ مآلًا، تبعًا لمدى سوء الأنماط السلوكية والنفسية في هذين الاضطرابين حين يجتمعان. ويصف العلماء الحالة التي يجتمع فيها الاضطرابان معًا بـ"المثلث المظلم (Dark Triad)"، بإضافة ما يُسمّى بـ"الميكافيليّة" (وهي التلاعب بالآخرين واستغلالهم مع فقدان للحسّ الأخلاقي والعاطفي الطبيعي).

يتقاطع اضطراب الشخصية النرجسية أيضا مع اضطراب الشخصية الدرامية (Histrionic Personality Disorder)، والذي يتميز بالهوس الكبير بآراء الآخرين، والتصرف بطريقة انفعالية متهورة، والمشكلات الكبيرة في بناء العلاقات. فكلاهما يتميز بالاهتمام المبالغ به بآراء الآخرين وتقديرهم، لكن أصحاب الشخصيات الدرامية عادة ما يكونون أكثر قدرة على بناء العلاقات وأكثر تعبيرا عن الذات وتقبّلًا للآخرين(14).

 

كيف تنشأ النرجسية المَرَضيّة؟

لا تزال أسباب نشوء النرجسية غير معروفة على وجه الدقة علميًّا، غير أنّ هناك بعض الفرضيات والدراسات التي حاولت تفسير الأمر، ومنها(15):

  • الجينات:

يؤدي الاستعداد الجيني دورًا مهمًّا في جميع الاضطرابات النفسية تقريبًا، مع تفاوت واضح في مدى تأثير هذا الدور. هناك دراسات عديدة أكّدت وجود ارتباط بين مجموعة من الجينات ونشوء النرجسية لدى من يمتلكها، إلّا أنها تبقى بطبيعة الحال دراسات ارتباطية وليست سببية، ولذلك يسميه العلماء "استعدادًا" جينيًّا أو "عُرضةً" جينيّة.

 

  • التنشئة المبكرة ودور الوالدين في التكوين السيكولوجي للشخص:

ركّز الكثيرون من علماء النفس التحليلي على مرحلة الطفولة المبكرة في تفسير النرجسية المرضية، وخَلُصوا إلى أنّ السلوك غير المتوازن من قبل الوالدين في التربية (خصوصًا عبر المُكافأة والعقاب) هو أحد الأسباب الرئيسية في نشوئها، سواء كان ذلك بالمبالغة في توكيد الذات وتعزيز الطفل من قبل والديه دون نقد أو توجيه (فتنشأ النرجسية نتيجةً مباشرة لذلك)، أو نقده بقسوة والتدخل الزائد في شؤونه وحرمانه من التقدير والتعزيز (فتنشأ النرجسية مُحاوَلةً لتعويض ذلك). وقال بعضهم باحتمال وجود الأسلوبين معًا دون نهج واضح، وهذا الاختلاف بين المقاربتين المتطرفتين يخلق عند الطفل شرخا عميقا في تصوره لذاته وتعامله مع الآخرين(16).

ومن المثير للانتباه أن دراسات حديثة وجدت أن الميول النرجسي والشعور بالتميز والتفرّد تبدأ بالظهور في شخصيته منذ عمر مبكر (حول الـ8 سنوات)، وهو أمر يؤكد أهمية هذه المرحلة(16).

 

تكمن المشكلة الأساسية في مثل هذه الفرضيات في قدرتنا التجريبية على اختبارها، فمن الصعب جدًّا تتبّع الطفولة المبكرة لعدد كبير من الأطفال، بالإضافة إلى صعوبة تسجيل التفاعلات في العلاقة بينهم وبين آبائهم وأمهاتهم على مدى زمني طويل. إلّا أن إحدى أهم الدراسات التي أُجريت حديثًا في هولندا على أكثر من 500 طفل، وجدت أنّ المبالغة في مدح الطفل وتعزيزه كان العامل الأهمّ في توقع نشوء شخصية ذات ميول نرجسية لديه. وتبقى هذه الفرضيات بحاجة إلى المزيد من الدراسات وأعداد أكبر للتأكد من هذه النتائج(17).

 

  • العامل الثقافي والاجتماعي: بما يشمله ذلك من ثقافة المجتمع العامة والظروف السياسية والاقتصادية، مثل:

الفرق بين قيم المجتمعات ذات الطابع الفرداني مقابل الجَمعيّ، وتغيّر الأجيال عبر الزمن، واختلاف الثقافة الشائعة في تربية الآباء والأمهات لأطفالهم، ووسائل التواصل الاجتماعي، وتأثير الشخصيات المتصدّرة في المجال العام على الناس (مثل الرئيس الأميركي دونالد ترامب)، وفترات الازدهار مقابل الركود الاقتصادي.

 

وكإجابة مختصرة عن سؤال "كيف تنشأ النرجسية المَرَضية؟"، تقول لنا الدراسات العلمية إنه على الأرجح مزيج من الاستعداد الجيني (العامل الوراثي الذي يحدد كيفية التعامل مع البيئة ومدخلاتها بشكل عام)، والأحداث والتفاعلات المبكرة مع البيئة الاجتماعية، وتحديدا العائلة، وما ينتجه ذلك كله من شخصية وديناميكيات نفسية، وأخيرًا البيئة الاجتماعية الكبيرة وثقافة المجتمع التي يوجد فيها الشخص وتشكّل جزءًا من طريقة تفكيره وسلوكه(15).

 

النرجسية الواضحة والنرجسية الخفيّة.. كيف يختلف شكل النرجسية من شخص إلى آخر؟

هل سبق لكَ أن رأيتَ نرجسيًّا خجولًا؟ ربما يكون السؤال غريبًا بعض الشيء، فكيف يمكن لنرجسي أن يخجل؟!

الحقيقة أنه يمكن للنرجسية أن تتمظهر بأشكال عديدة، كما يمكن لشدّة الأعراض أن تختلف كثيرًا من شخص إلى آخر، وهذا يجعل من اضطراب الشخصية النرجسية أحد أكثر الاضطرابات تنوّعًا وصعوبة في التعامل معه على المستوى العملي لدى المعالجين والأطباء، لكن أحد المفاتيح المهمّة التي يمكن أن تساعدنا في فهم هذا التنوّع هو التقسيم الثنائي لأنواع النرجسية(18،19):

 

  • النرجسية الواضحة (Overt):

وهي التي تتّسم بشكل رئيسي بأوهام العظمة واعتقاد الشخص التامّ بتميّزه واتّساق ذلك مع سلوكاته عامّةً. وعادةً ما يكون أصحابها أكثر جاذبية اجتماعيا وأكثر قدرة على إبهار الآخرين وإشعارهم بقوة حضورهم (رغم حاجتهم الماسّة إلى تقديرهم طبعا).

 

  • النرجسية الخفيّة (أو الحسّاسة) (Covert):

وهي التي تتّسم أكثر بالحساسية المفرطة تجاه النّقد وآراء الناس وتقييماتهم، وهشاشة الذات الواضحة، والشعور بالحسد بشكل شديد، ومركزية المقارنة مع الآخرين في نظرتهم لأنفسهم. ويكون القلق الذاتي أكثر ظهورًا في سلوكاتهم ومظهرهم، بل وربما يظهرون وكأنهم خجولون رغم اعتقادهم الداخلي بتميزهم عن الآخرين. وهذا النوع أكثر صعوبة في التمييز والتشخيص؛ لأنّه لا يَظهر فجًّا وواضحًا كما النوع الأول(20). ورغم أنّ هذا النوع يسبّب معاناة أكبر لأصحابه، فإنّه يعتبر أوفر حظًّا من حيث قابلية التغيير من خلال العلاج النفسي؛ لأنّ الشخص يكون أكثر شعورًا بالمشكلة، ووعيًا بتناقضات شخصيته. ويمكن تصوّر المشكلة هنا على أنّها عملية خداع فاشلة للذات، بينما النرجسية الواضحة هي عملية خداع ناجحة للذات(21).

 

هذا التقسيم ليس صلبًا تمامًا، فالنوعان يتقاطعان في الكثير من الأعراض، لكنه مهم جدًّا للفت الانتباه إلى أن النرجسية لا تعني بالضرورة مظهر الثقة بالنفس والغرور والغطرسة (الذي يتبادر مباشرةً إلى الذهن)، بل تتنوّع في أشكال ظهورها كثيرًا. ويرى بعض العلماء أن ظهور مفهوم النرجسية الخفيّة لعب دورًا أساسيًّا في التداول المتزايد لظاهرة النرجسية بشكل عام؛ لأنّه أحدث تغييرًا مهمًّا في كيفية تصوّرهم للأشكال الممكنة التي قد يكون عليها النرجسي في الحياة الواقعية.

 

وهناك وصف ثالث مهم في تصنيف أشكال النرجسية، وعادة ما يتم استخدامه من قبل المعالجين والباحثين، وهو ما يُدعى بالنرجسية غير المعيقة (High-functioning Narcissism)، وهي التي لا تعيق النرجسيين في حياتهم اليومية كثيرا، وربما يكون من الصعب جدا -حتى على المعالجين- التعرّف على هؤلاء؛ لأنهم يديرون حياتهم بشكل جيد رغم هذه الديناميكيات الداخلية، ويظهرون كفاءة وتميزًا أيضًا، فهم يتّسمون بالذكاء الكافي لاستخدام نرجسيتهم للنجاح على الصعيد المهني أو الاجتماعي.

كيف تظهر النرجسية في حياتنا اليومية؟

ليس من السّهل دائما تمييز الشخص النرجسي، فرغم أن الأعراض العامّة تبدو جليّة الوضوح، فإنّ النرجسية مختلفة التشكّلات في الأفراد المختلفين، كما أنّ الكثير من النرجسيين ماهرون جدَّا في ترك انطباعٍ إيجابي مبدئي، ولا تظهر مساوئهم إلا بكثرة المعاملة ومضي الوقت. المشكلة في هذا الأمر أننا عادة ما نشكل انطباعاتنا الأولية عن الآخرين في الدقائق الأولى ونثق بها، وهذا يفيدهم جدا؛ لأنهم يستطيعون ترك صورة سطحية إيجابية ومفعمة بالثقة. والمخيف أكثر أنّ أحد الأبحاث وجد أن أكثر مظاهر النرجسية ارتباطا بالانطباعات الأولى الإيجابية لدى الآخرين كانت: الاستغلال والشعور بالاستحقاق. أي أنّ أكثر النرجسيين قدرة على إثارة إعجاب الآخرين هم أكثرهم استغلالًا وشعورًا بالاستحقاق. وهنا تأتي أهمية التفكير الواعي بانطباعاتنا عن البشر، وعدم التسليم لتأثير اللقاءات الأولى والنظرة الأولى و"الهالة السحرية" للأشخاص.

 

من المظاهر المهمّة للسلوك النرجسي في الحياة اليومية كذلك هو التناقض الواضح ما بين حاجة النرجسي إلى الآخرين وسلوكه بالتقليل منهم في الوقت نفسه. ولعلّ ذلك يظهر أكثر ما يظهر في العلاقات الحميمية. فالنرجسي من جهة يريد أن يقيم علاقات مع الآخرين لأنه يحتاج إليهم لدعم تصوّره عن ذاته لتعويض هشاشته، لكنه في الوقت نفسه يخشى ولا يستطيع التواصل بشكل عفوي معهم لأن هذا يهدّد شعوره بالتميز، حيث إن التواصل الإنساني الحميم يُظهر بوضوح محدوديتنا ومكامن ضعفنا وهشاشتنا (Vulnerabilities). وهكذا، لا يبقى أمام النرجسي إلا الانسحاب من هذه العلاقات حين يحدث هذا الانكشاف الذي يهدد هويته وجوديًّا، أو الدخول في علاقات سطحية لا تُوجِب انكشافًا حقيقيًّا، ليحمي تصوراته من التهديد والخطر. وفي جميع الأحوال، لا يترك انشغال النرجسي بذاته والحفاظ على تصوراته أي مجال للاهتمام بمشاعر الآخرين أو التعاطف معهم. وغالبًا ما يُقصد بمفهوم "العلاقات السّامّة (Toxic Relationships)" أو مصطلح "Gaslighting" شكلٌ من العلاقات التي يكون فيها أحد الطرفين على الأقل نرجسيًّا أو سيكوباثيًّا مُتلاعبًا، ويسود فيها هذا النمط من التفاعل.

________________________________________________

هامش*

هذا المعنى التفت إليه مُبكِّرًا العالِم المسلم أبو بكر الرازي وذكره في كتابه "الطب الروحاني" عبر تناوله للعُجب والإفراط في حبّ الذات، إذ عرض نصًّا بديعًا يقول فيه: "إذا كانت للإنسان أدنى فضيلةٍ عَظُمَت عند نفسه وأحبّ أن يُمدَح عليها فوق استحقاقه، وإذا تأكدت فيه هذه الحالة صار عُجبًا، ولا سيمّا إن وجد قومًا يساعدونه على ذلك ويبلغون من تزكيته ومدحه ما يحب. ومن بلايا العُجب أنه يؤدي إلى النقص في الأمر الذي يقع به العُجب، لأنّ المُعجب لا يروم التزيُّد ولا الاقتناء والاقتباس من غيره في الباب الذي منه يُعجَب بنفسه. لأنّ المُعجَب بفرسه لا يروم أن يستبدل به ما هو أفرهُ منه لأنه لا يرى أنّ فرسًا أفرهُ منه، والمُعجب بعمله لا يتزيَّد منه لأنه لا يرى أنّ فيه مزيدًا".

المصادر:

  1. Narcissus
  2. Caligor, E., Levy, K. N., & Yeomans, F. E. (2015). Narcissistic personality disorder: Diagnostic and clinical challenges. American Journal of Psychiatry, 172(5), 415-422.
  3. Narcissism
  4. American Psychiatric Association (APA), DSM-3, 1980
  5. Stinson FS, Dawson DA, Goldstein RB, Chou SP, Huang B, Smith SM, Ruan WJ, Pulay AJ, Saha TD, Pickering RP, Grant BF. Prevalence, correlates, disability, and comorbidity of DSM-IV narcissistic personality disorder: results from the wave 2 national epidemiologic survey on alcohol and related conditions. J Clin Psychiatry. 2008 Jul;69(7):1033-45. doi: 10.4088/jcp.v69n0701. PMID: 18557663; PMCID: PMC2669224.
  6. American Psychiatric Association (APA), DSM-5, 2013
  7.  Shedler J, Westen D: Refining personality disorder diagnosis: integrating science and practice. Am J Psychiatry 2004; 161:1350–1365
  8. Krizan, Z., & Herlache, A. D. (2018). The narcissism spectrum model: A synthetic view of narcissistic personality. Personality and Social Psychology Review, 22(1), 3-31.
  9. Sigmund Freud, On Narcissism, 1916.
  10. Ernest Becker, The Denial of Death, 1972
  11.  McNeal, S. (2007). Healthy narcissism and ego state therapy. Intl. Journal of Clinical and Experimental Hypnosis, 56(1), 19-36.
  12.  What is Healthy Narcissism? (https://www.psychologytoday.com/intl/blog/contemporary-psychoanalysis-in-action/201609/what-is-healthy-narcissism)
  13. Dear Survivors of Narcissistic Abuse: Own Your Healthy Narcissism! (https://mindsplain.com/healthy-narcissism/
  14. First Aid for Psychiatry Clerkship, Fifth Edition.
  15. Thomaes, S. C. E., Bushman, B. J., Orobio de Castro, B., & Stegge, H. (2009). What makes narcissists bloom? A framework for research on the etiology and development of narcissism. Development and Psychopathology, 21, 1233-1247.
  16. Twenge JM, Konrath S, Foster JD, et al. Egos inflating over time: A cross-temporal meta-analysis of the Narcissistic Personality Inventory. Journal of Personality 2008; 76:875-901.
  17.  Brummelman E, Thomaes S, Nelemans SA, et al. Origins of narcissism in children. Proceedings of the National Academy of Sciences 2015: 112:3659-3662.
  18. Rohmann, E., Neumann, E., Herner, M. J., & Bierhoff, H. W. (2012). Grandiose and vulnerable narcissism. European Psychologist, 17(4), 279-290.
  19. Jauk, E., Weigle, E., Lehmann, K., Benedek, M., & Neubauer, A. C. (2017). The relationship between grandiose and vulnerable (hypersensitive) narcissism. Frontiers in Psychology, 8.
  20. Neufeld, D. C., & Johnson, E. A. (2016). Burning with envy? Dispositional and situational influences on envy in grandiose and vulnerable narcissism. Journal of Personality, 84(5), 685–696.
  21. Kealy, D., Sandhu, S., & Ogrodniczuk, J. S. (2017). Looking ahead through a fragile lens: Vulnerable narcissism and the future self. Personality & Mental Health, 11(4), 290–298.
المصدر : الجزيرة