رعب نفسي لا ينتهي: كيف تتسبّب المقاومة في اضطرابات نفسية للجنود؟
في السابع والعشرين من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، أي عقب مرور شهرين ونصف تقريبًا على أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول في غزّة، وفي أحد المنتجعات العلاجية والترويحية التابعة للجيش الإسرائيلي في عسقلان، يستيقظ أحد الجنود التابعين للواء المظليّين الإسرائيلي، أو الوحدة العسكرية المعروفة باسم اللّواء 35، يستيقظ مذعورًا من أحد الكوابيس المرعبة التي تطارده من أشباح المُقاومة، فيستلّ سلاحه ويبدأ إطلاق النّار على أصدقائه الموجودين معه، متسبّبًا في جروح طفيفة، قبل أن يتمكّن زملاؤه من إعادته إلى وعيه واحتواء الموقف. المثير للاهتمام هنا، بحسب التقرير الذي نشرته صحيفة هآرتس، هو أنّ الجيش الإسرائيلي قرّر عدم فتح تحقيق في القضية، متذرّعًا بالظروف الصحّية والنفسية الخاصّة بالجنود، إذ إنّ إبعادهم إلى المنتجع الترويحي جاء عقب تضخّم الضغوط النفسية لديهم نتيجة تعرّضهم لاشتباكات عدّة في قطاع غزّة.
منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يستخدم الإسرائيليون عبارات لها امتدادات صارخة في علم النفس لتوصيف معاناتهم، مثل: "أمّة تحت الصدمة" أو "أكبر أزمة نفسية تمرّ بها إسرائيل" أو "كارثة نفسية تعصف بالإسرائيليين". من المهم في هذا السياق أن نتنبّه إلى الوظيفة الثنائية التي تؤديها هذه الخطابات النفسية، فمن جهةٍ ما ثمّة وجه من الصحّة لوجود أزمة نفسية تعصف بالإسرائيليين، إذ بحسب الجيش الإسرائيلي، حتّى شهر فبراير فقط، راجع ما يُقارب ثلاثين ألف جُندي إسرائيلي أطباء مختصين في الصحّة النفسية للعلاج النفسي وعرض ضغوطهم النفسية عليهم، إضافة إلى تضاعف استخدام خدمات الخطّ الساخن للصحّة النفسية، والخطّ الساخن يُلجَأ إليه عادةً عند زيادة شدّة الأعراض النفسية ووصولها حدًّا لا يمكن للفرد أن يستوعب ضغوطه النفسية والأفكار الاقتحامية التي تجتاح عقله إضافة إلى احتمالات الإقدام على الانتحار وغيره. أمّا الوجه الثاني لهذه المقولات النفسية، فلا شكّ في أنّها تلعب على وتر الاستعطاف الدّولي للفاجعة النفسية، إذ إنّ منظور الصدمة النفسية يشكّل مدخلًا سهلًا إلى استعطاف العقل الجَمعي الغربي المهووس بثقافة الضحايا وثقافة المصدومين نفسيًّا، ويُحوّل الإسرائيليين من جماعة مُحتلّة إلى جماعة بشرية مليئة بالعواطف الإنسانية.
"كيف نُقنع جُنديًّا إسرائيليًّا بالعودة إلى ساحة الحرب؟" هذا هو السؤال الرئيسي بحسب رئيس وحدة الصحّة النفسية في الجيش الإسرائيلي، الطبيب لوسيان تاتسا . تُشير تقارير الجيش الإسرائيلي إلى أنّ 82% من الجنود الذين تلقّوا خدمات العلاج والدعم النفسي، قد عادوا إلى الخدمة الفعّالة والنشطة في الجيش الإسرائيلي، في مُقابل نحو 18% لم يتمكّنوا من العودة إلى الخدمة العسكرية بسبب أحوالهم النفسية الصعبة. إذا كان 30,000 جندي عسكري قد عرضوا على خدمات الصحّة النفسية، فهذا يعني أنّ لدينا ما يُقارب 5,400 جُندي إسرائيلي قد توقّفوا عن الخدمة العسكرية حتّى إشعارٍ آخر. ينبغي التوجّس كذلك من هذه الأرقام، فاضطراب ما بعد الصدمة، عادةً ما يحتاج إلى علاج مُدّته في المتوسّط 6 أشهر متواصلة، تختلف بحسب شدّة الصدمة والتباينات الفردية بطبيعة الحال. علميًّا، من الشائع أن يتأخّر ظهور أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، أو أن تعاود الظهور بعد اختفائها.
تحمل الصدمات النفسية نزعات تدميرية وسلوكيات عدوانية غير مُبرّرة في كثير من الأحيان، كذلك المقطع الذي انتشر لأحد الجنود الإسرائيليين وهو يُقدِم على أعمال تخريبية في أحد المحال التجارية المهجّر أصحابها في قطاع غزّة، وفي المقطع يظهر جليًّا الطابع الصبياني في تصرّفات الجندي وفي تخريبه لألعاب الأطفال وتكسيرها. بشكلٍ عام تتجسّد أعراض اضطراب ما بعد الصدمة بهيئات مختلفة، فمن الشائع أن يعود الجنود من خدماتهم العسكرية في العراق وأفغانستان محمّلين بعقدهم النفسية وصدمات المعارك النفسية التي تظهر على هيئة تصرّفات عدوانية غير مُبرّرة، تتوجّه في كثير من الأحيان نحو الأشياء والحيوانات الأليفة وحتّى أفراد أُسَرهم من زوجات وأبناء، بحسب تقارير موثّقة عدّة عن حياة الجنود الأميركيين بعد عودتهم إلى منازلهم وانتهاء خدماتهم العسكرية.
يمتدّ الرّعب النفسي لأكثر من مُجرّد لحظات وقوع الحدث ذاته، حيث تشير شهادات عدّة لإسرائيليين مختلفين، حول إدمانهم النظر إلى مشاهد المقاومة الفلسطينية وإعادة إنتاج الرّعب والذعر في أنفسهم، كحالة عُصابية من إدمان مشاهدة ما يُثير مشاعر الخوف. بحسب الشهادات المذكورة لا يستطيع جزء كبير من الإسرائيليين منع أنفسهم من مشاهدة مقاطع الفيديو التي ترعبهم، وهو أحد الأعراض المحتملة للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة. إضافةً إلى ذلك، ومن جهةٍ علمية، يُمكِن للمشاهدة المتكرّرة للوقائع المرعبة والصادمة أن تُنتِج حالة صدمة نفسية لدى أشخاص لم يحضروا واقعة الحدث الصادمة عيانًا، لكنّهم شاهدوها بكثرة عن بُعد، وتُسمّى هذه الحالة الصدمة الثانوية أو الصدمة بالإنابة، فكيف بمن عاشها ويستدعيها؟
ليست مشكلة الإسرائيليين فحسب! الجيش الأميركي قد عانى أيضًا.
في الرابع من مارس عام 1991 وبعد انتهاء عملية عاصفة الصحراء الأميركية، شهدت منطقة الخميسية العراقية، الواقعة بين جنوب شرق بغداد وشمال مدينة الكويت، انفجارا ضخما لأحد مستودعات الذخيرة نتيجة عملية عسكرية قامت بها قوّات أميركية. كان الانفجار ضخما بطريقة غير عادية، حيث غطّت سماءَ المنطقة غيمةٌ سوداءُ هائلة، ليتّضح لاحقا أن المستودع احتوى على غاز السارين، وهو عبارة عن مادة أورغانو-فوسفيتية تُستَخدم سلاحا كيميائيا.
ستكون لهذه الحادثة لاحقا أهمية كبيرة في نشوء تحقيقات وأبحاث أميركية تحاول إيجاد ارتباط بينها وبين مجموعة أعراض نفسية وجسدية ظهرت لدى الجنود الأميركيين وسكّان المنطقة المدنيّين، عُرفت باسم "متلازمة حرب الخليج"، أو كما أطلقت عليها الصحافة الأميركية في مواضع مختلفة "متلازمة عاصفة الصحراء".
أما اليوم، وبعد انسحاب الجيش الأميركي من أفغانستان، فقد أعاد هذا الانسحاب إلى الواجهة الآثار النفسية التي تُخلفّها الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة على جنودها، إضافةً إلى ضحاياها. حدث ذلك في القرن الماضي في الحربين العالمية الأولى والثانية، وحرب فيتنام، وصولا إلى يومنا هذا، ولا شك في أن الأيام القادمة ستحمل معها الكثير من التفاصيل.
ما العلاقة بين الحروب والطب النفسي؟
لطالما كان هناك ارتباط وثيق بين الطبّ النفسي وساحات المعارك، يتمثّل بعلاقة تبادلية بين الاثنين، حيث أسهمت الحرب العالمية الأولى في توفير معلومات عن إصابات طبية أُدرِجت تحت مظلّة الطب النفسي، وقد كان للطبيب دور كبير في معسكرات الجنود في محاولة منه لإيجاد حلول للانهيار الجسدي المفاجئ وبعض الأعراض الجسدية غير الـمُفسّرة، كالصداع والخمول وضعف الجسد الذي كان يُلاحظ في بعض الجنود، وهو ما أُطلق عليه مصطلح "صدمة القصف" (Shellshock)، التي أثارت التساؤل العلمي حول العديد من الأعراض الجسدية التي لم يتمكّن الأطبّاء من تحديد أسبابها العضوية(1).
كانت كلمة "الصدمة" (Trauma) حتى نهاية القرن التاسع عشر تشير إلى الأذى والجراح الجسدية فقط، ثم أسهم ظهور سكك الحديد في الالتفات إلى الجانب النفسي للصدمة، وذلك بسبب استمرار أعراض مَرَضِية كالصداع بعد فترات طويلة من مرور المصابين بتجارب سيّئة مثل حوادث القطارات، وبدأ بالتدريج على إثر ذلك التنبّه إلى وجود جانب آخر للصدمة يتجاوز الجسد وحدود الضرر الجسدي، ليشمل بُعدا آخر، وهو البُعد النفسيّ. إلا أنّه، بسبب العدد القليل لمستخدمي القطارات والمصابين بها، فإنّ العلم لم يتمكّن من الخروج بأي نتيجة تشخيصية يمكن الاعتماد عليها طبيّا. استمرّ هذا مدّة، ثمّ تغيّر حينما اندلعت الحرب العالمية الأولى، لتكون نقطة تحول في الطب النفسي نظرا للعدد الهائل من الإصابات(2).
في بداية الأمر، كان موقف القيادات العسكرية هادئا، إذ اعتبروا أنّ هذه الظواهر ليست سوى تَجلٍّ لإصابات جسدية يمكن علاجها بمرور الوقت. لكن زيادة عدد المصابين، والانهيارات المفاجئة في ميدان المعركة، دفعت عددا من قادة الصفّ الأول إلى الاستياء بشدة(3)، فأُصدرت إثر ذلك أوامر باستبعاد الجنود المصابين إلى معسكرات التأهيل عِوضا عن إرسالهم إلى المستشفيات. أثارت هذه الأوامر حفيظة عدد من الأطباء الذين أكَّدوا وجود عامل نفسي وراء تلك الانهيارات، وأصرّوا على أنّ مشكلة الجنود هي مشكلة طبّية يُمكن التعامل معها. ولإقناع القيادات بتحويل الجنود إلى المستشفيات، استُحدِث مفهوم طبي نفسي يُعنى بتقديم الرعاية والراحة النفسية للجندي المصاب في منطقة قريبة من المعركة وإعادته إليها عند تحسنه، وهو ما عرف بالإنجليزية بـ"Forward Psychiatry".
رغم هذا التطوّر الجزئي في مفهوم الصدمة، بقي المصطلح شائعا في السياق الجسدي، وذلك حتى الحرب العالمية الثانية، حيث ظهرت إصابات عصبية ومفاهيم جديدة، مثل "إجهاد الحرب" (Battle Fatigue). أمّا التحوّل الجذري إلى تناول الصدمة بوصفها مفهوما نفسيا، فقد وقع في حرب فيتنام تحديدا، إذ إنه خلافًا لما كان متوقعا بسبب كثافة الحرب وشدّتها، جاء عدد الإصابات النفسية أقل بعشرة أضعاف من إصابات الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال، وقد عُزِيَ ذلك لاحقا إلى تطوّر الرعاية النفسية أكثر من أيّ وقت مضى.
لكنّ المفاجأة كانت بعد عودة الجنود الأميركيين من فيتنام، إذ حصل تغيّر دراميّ بظهور دراسات تتحدّث عن أعراضٍ لصدمات نفسية تأخّر ظهورها عشرات السنين عن زمن وقوع الحوادث، إلى أن وصلنا إلى عام 1980، وأُصدر المجلد الثالث لتشخيص الأمراض النفسية (وهو المصدر الأميركي الأساسي لتشخيص الأمراض النفسية) محتويا على تشخيص نفسي دقيق ذي صفات وأعراض محددة عُرف باسم "اضطراب ما بعد الصدمة النفسية" (Post-Traumatic Stress Disorder (PTSD)(3).
ثُمّ أُتبعت دراسات اضطراب ما بعد الصدمة النفسية بسلسلة أخرى من الدراسات، حيث نُشِرَت في عام 1993 أول ورقة بحثية أميركية في مجلة نيتشر (Nature) تشجّع على دراسة مجموعة أعراض جسدية ونفسية ارتبطت بالجنود العائدين من حرب الخليج، وأُطلق عليها مصطلح متلازمة حرب الخليج، وبعد ذلك نشرت مجلة لانسيت (Lancet) في بريطانيا عام 1994 دراسة مماثلة عن متلازمة حرب الخليج لدى الجنود البريطانيين العائدين من حرب الخليج(4).
متلازمة حرب الخليج.. ما هي؟
بعد أقلّ من عام على عودة الجنود الأميركيين من عملية عاصفة الصحراء، وتحديدا في يناير 1992، أُصدر تقرير من وحدة الاحتياط رقم 123 في ولاية إنديانا الأميركية ينصّ على أنّ هناك مجموعة أعراض غير مُفسّرة تظهر على الجنود العائدين من حرب الخليج. وسرعان ما بدأت هذه الأخبار تتصدّر وسائل الإعلام، متحدّثة عن تشوهّات خَلقية لحديثي الولادة من أبناء الجنود العائدين، وأعراض جسدية غير مُفسّرة تحت مسميات مختلفة، مثل "حمّى صحراء الخليج" أو "متلازمة عاصفة الصحراء".
أدّى هذا الاهتمام الإعلامي إلى صدور أوامر لدراسة هذه الأعراض، وبالفعل أُسِّس في عام 1994 برنامج خاص لتقييم الأعراض لدى الجنود المتضرّرين، ولاحقا أخذت بريطانيا تحذو حذو أميركا في إعداد سلسلة دراسات مشابهة على الجنود. تحدّثت التقارير الأولية عن عدم وجود أعراض مُميّزة تُمثِّل متلازمة جديدة، وإنّما هي مجموعة أعراض من اضطرابات نفسية معروفة مُسبَقا. هذه التقارير لم تعجب وسائل الإعلام، لتُثار في عام 1996 حادثة الخميسية إعلاميا مرة أخرى، وبَرزَ تساؤل واضح حول علاقة هذه الحادثة بمتلازمة حرب الخليج، ولماذا تمّ التعتيم إعلاميا عليها بالرغم من نشر تقارير عن حادثة الخميسية عام 1992(3).
قبل الانتقال إلى الحديث عن أهمّ ما خَلَصت إليه الدراسات عن هذه المتلازمة، لا بُدّ من الإشارة إلى تعريف عام بها وأسبابها المتوقعة. خَلَص العلماء والأطباء إلى وصف هذه الأعراض بأنها "مُتلازمة (Syndrome)"، وكلمة "مُتلازمة" في الأصل تشير إلى مجموعة أعراض متشابهة لدى مجموعة من المرضى دون وجود سبب واضح لها، وعليه فقد وُصفت متلازمة حرب الخليج بأنّها مجموعة أعراض جسدية غير مفسّرة، مثل الطفح الجلدي والتعب الجسدي العام وأوجاع في العضلات والعظام، إضافة إلى مشكلات هضمية كالإسهال ومشكلات في الإدراك، وأعراض أخرى كان الجنود يذكرونها في مختلف الدراسات منها مشكلات في الذاكرة. تمّ التعامل مع هذه المتلازمة على مرّ السنوات عن طريق الطب النفسي وعلاج الأعراض والمتابعة الطويلة المدى إضافة إلى العلاج النفسي المعرفي السلوكي(5).
ما أسباب متلازمة حرب الخليج؟
عند تقصّي الأسباب الكامنة وراء هذه الـمُتلازمة، لُخِّصت الأسباب البحثية للمتلازمة في ثلاثة أسباب رئيسية: المواد الكيميائية متمثّلة بشكلٍ أساسيّ بغاز السارين، وأسباب نفسية تتعلق بالصدمة النفسية وتجلياتها الجسدية، ثم أسباب ميكروبية أو كيميائية أخرى كغاز اليورانيوم(5).
من بين أحداث كثيرة وقعت في حرب الخليج، فإنّ حادثة الخميسية -تحديدا- كانت من أهمّ الأحداث التي دُرست لتفسير أعراض الـمُتلازمة. وقد تباينت الدراسات في نتائجها، إذ خَلَصَت بعض الدراسات إلى عدم وجود ارتباط بين التعرّض لغاز السارين (بالكمّية التي نجمت عن حادثة الخميسية) والإصابة بأعراض المتلازمة، وقد انتهت بعض الدراسات إلى هذه النتيجة من خلال تجارب أجريت على الحيوانات عبر تصميم نموذج محوسب يُحاكي الانفجار لمعرفة كمية المواد المنبعثة ونِسَبها.
من جهةٍ أخرى، وجدت دراسات لاحقة ارتباطات مُحتملة بين التعرّض لغاز السارين والإصابة بأعراض المتلازمة، إلا أنّ أحد أهم مُحدداتها هو عدم اختيار عينة ممثلة ومشاركة جنود وضعهم الصحي أسوأ من غيرهم. وانتهت دراسات أخرى إلى عدم وجود معلومات وأدوات كافية للخروج بنتيجة نهائية عن العلاقة السببية، وعدم إمكانية تحديد النتيجة وفق المعطيات الـمُتاحة.
أجريت دراسات أخرى لتحديد علاقة بعض الكائنات الميكروبية، كالبكتيريا والفيروسات أو التطعيمات التي أخذها الجنود قبل الحرب، بالمتلازمة، لكنّها انتهت إلى عدم وجود أسس كافية لإيجاد علاقة سببية. وكذلك كانت النتيجة بالنسبة إلى دراسات اهتمّت بعوامل كيميائية أخرى كاليورانيوم. أما بالنسبة إلى العوامل والمسببات النفسية، فقد دافع عدد جيد من الباحثين عن كون المتلازمة تجّليا جسديا لمشكلات نفسية كما هو معروف في الطب النفسي في تشخيصات "الأمراض الجسدية النفسية" (Psychosomatic Disorders). وقد دُعمت هذه التفسيرات ببعض الدراسات التي وجدت ارتباطا بين أعراض المتلازمة وتشخيصات نفسية أخرى مثل الاكتئاب ومتلازمة ما بعد الصدمة النفسية. قُدمت بعض الاعتراضات على هذه التفسيرات لكون كثير من الجنود في حرب الخليج كانوا يعملون خلف الكواليس ولم يتعرضوا لصدمات مباشرة، ولنقص الكثير من الأعراض المعروفة والاعتيادية لتشخيص مرض مثل متلازمة ما بعد الصدمة النفسية أو غيره من الأمراض النفسية. وأخيرا، وجد باحثون آخرون أعراضا متشابهة بين متلازمة حرب الخليج وأمراض جسدية نفسية (الفيبروميالجيا Fibromyalgia) (منها آلام جسدية وعضلية في نقاط محددة من الجسم تعزى لأسباب نفسية) ومتلازمة التعب الجسدي المزمن (Chronic Fatigue Syndrome) (5).
بعد هذا الملخص لمحاولات إيجاد مسببات هذه المتلازمة، إلى ماذا خَلَص النقاش الطبي حولها؟ وما مصير هذا التشخيص؟
كيف نظر الطب إلى هذه التفسيرات؟
من أهم الاعتراضات البحثية على متلازمة حرب الخليج اعتماد الدراسات بشكل كبير على الوصف الذاتي والإبلاغ الشخصي للجنود عن أعراض، وعدم وجود فحوص دقيقة ومخبرية تتأكّد من ذلك، وبالرغم من أنّ هذه الطريقة مقبولة في ممارسة الطب النفسي (الإخبار الذاتي Self-report)، فإنّ الاعتماد على ذلك في الدراسات البحثية يؤول إلى انحيازات بحثية معروفة في الوسط العلمي تحدث كثيرا حين نعتمد على الإخبار الذاتي، مثل انحياز الذاكرة وانحياز المشاركة، ويُعنى بكليهما أن مشاركة الشخص في دراسة ما تجعله أكثر ميلا لتذكّر أعراض سيّئة عدّة، سواء حدثت بالفعل أم لم تحدث، ولأنّ الجنود المشاركين في الدراسات يتذكّرون بكلّ تأكيد مشاركتهم في حرب الخليج، فإنّهم قد يميلون بغير وعي إلى ربط أيّ أعراض مَرَضية بخدمتهم العسكرية وتجاربهم في الحرب. ومن الأمثلة التطبيقية على هذه الانحيازات، ما خلَصَت إليه دراسة استخدمت السجلات الطبية لمعرفة عدد الجنود الذين أخذوا تطعيمات الحرب قبل الذهاب إليها، ومن ثم سُئِل الجنود عن ذلك، فكانت النتيجة أنّ 1% فقط من الجنود اتفقت أقوالهم عن أخذ اللقاحات مع السجلات الطبية الموثّقة(6).
وبالرغم من تحمّس بعض العلماء لوجود متلازمة جديدة مرتبطة بحرب الخليج، كعالم الدراسات الوبائية الإحصائية (إيبيديميولوجي) الأميركي روبرت هالي، فإنّ أهم الاعتراضات على دراساته عدم وجود عيّنة مُمثّلة (عدد كاف من المبحوثين) وعدم وجود مجموعة ضابطة للمقارنة (Control Group). وخلص عدد من العلماء إلى وجود أعراض وتأثيرات صحية مرتبطة بحرب الخليج، لكن لا يمكن تصنيفها باعتبارها متلازمة جديدة، لسببين أساسيين: أولا، لم تُوجد أدلّة كافية تربط الحدث بهذه الأعراض، ولم تكن الأعراض كذلك مُميزة أو تشكّل مجموعة جديدة مختلفة عن أمراض سابقة. ثانيا، وجدت الدراسات أعراضًا مشابهة لدى أشخاص آخرين مدنيين أو عسكريين لم يشاركوا في الحرب(6).
لكن بعيدا عن الجدل الطبي والبحثي، كيف تمّ التعامل على أرض الواقع مع هذه الأعراض؟
قبلت وزارة الدفاع البريطانية عام 2005 مصطلح متلازمة حرب الخليج بوصفه مظلة توضع تحتها مجموعة أعراض مختلفة غير مُحدّدة بتشخيص يستطيع من خلالها الجندي الحصول على تعويض مادي مقابل تشخيصه بهذه الأعراض، وقد ارتبط هذا القرار بالطريقة الـمُعتمدة أساسا للتعويضات المالية أو غيرها، التي لا تحتاج إلى تشخيص مُحدّد للحصول عليها، بل يكفي فيها مجرّد رأي خبير طبّي يُحدّد مدى الضرر والإعاقة الناتجة عن المشاركة بالحرب. أمّا بالنسبة إلى العلاج، فكما ذكرنا سابقا، فقد استُخدِم العلاج المعرفي السلوكي للتعامل مع الأعراض كما يتم التعامل مع أمراض أخرى، مثل متلازمة التعب الجسدي الـمُزمن، وهو تشخيص يعتمده الأطباء النفسيون حين يعجزون عن تحديد أسباب مباشرة للأعراض الجسدية. وقد درست وزارةُ الدفاع الأميركية عام 2003 أثر العلاج المعرفي السلوكي والتمارين الرياضية على تخفيف الأعراض، وكانت النتائج الأوّلية متواضعة بعض الشيء.
وإضافة إلى هذا كلّه، يرى بعض الباحثين أنّ من أهم عوائق دراسة هذه المتلازمة وأسبابها أو النتائج العلاجية، التأخّر في إجراء دراسات مُحكمة وكبيرة الحجم؛ مما زاد احتمالات انحيازات الذاكرة على سبيل المثال، وصعوبة إيجاد علاقات سببية بأدلّة كافية(6).
ما علاقة التشخيص الطبي بالثقافة والسياسة؟
يعدّ مصطلح متلازمة حرب الخليج أو الأعراض المكونة لها جزءا من مجموعة كبيرة من التشخيصات النفسية التي برزت بعد حروب مختلفة عبر التاريخ، إلا أنّ نقطة التحوّل الأساسية في تشخيصات الطب النفسي المرتبطة بالحرب كانت حرب فيتنام، إذ لم تسهم حرب فيتنام في تشكيل تشخيص نفسي أساسي مرتبط بالحروب والصدمات فحسب، بل كانت من المراحل المهمة التي غيّرت صورة الجنديّ نفسه لدى العالَم والمدنيين.
ففي مقابلة أجراها مع موقع سبايكد، يرى بروفيسور دراسات الحرب إدغر جونز من جامعة كنجز كولج في لندن أنه في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت المُحدّدات المُتعلّقة بوصف الجنود نابعة من ثنائيات أخلاقية، مثل: الشجاعة أو الجُبن، لكنّ حرب فيتنام غيّرت طريقة التعاطي مع الجنود أنفسهم، حيث أصبحت محددات النظرة إلى الجندي مرتبطة بنفسية الإنسان وهشاشته، وصارت أنسنة الجُندي وتصويره على أنه ضحية، فكرة أكثر قبولا، ولاقت رواجا وتقديرا أكبر من فكرة الجُندي الشجاع المُضحّي بنفسه.
بدأت بذلك فكرة تقبّل المرض النفسي، لينمو الطب النفسي حينها بفضل تراكمات عديدة أسهمت فيها الحرب العالمية الأولى والثانية، وظهور حركات رافضة للتدخّلات العسكرية والحروب غير المستحقّة وغير العادلة مثل حرب فيتنام، وقد ضجّت شوارع ولايات أميركية بالمظاهرات الرافضة لحرب فيتنام حينها. هذا الرفض جعل الناس غير مُحتفين بعودة الجنود كما حصل في الحرب العالمية الثانية أو حتى الأولى على الصعيد البريطاني، وقلل هذا البرود قيمة الجندي المعنوية المتمثّلة بالشرف والشجاعة والتضحية. إضافة إلى ذلك، أصبح مجال الطب النفسي والأمراض النفسية مدخلا أساسيا لمزيد من السخط على القيادات والحكومات الداعمة للحروب بسبب ما ألحقته بالجنود من أضرار نفسية، بحيث أصبحت المعاناة النفسية مصدرا للاعتبار والتقدير.
لاقت فكرة الضحية رواجا لكونها خففت من وطأة المسؤولية الأخلاقية لأفعال الجنود، وأطّرتها على مستوى فردي، كما أسهمت -بشكل أو بآخر- في إتاحة المجال لتعويضات مادية عن الأضرار النفسية. لا بدّ من الإشارة إلى أنّ كلّ هذه التحوّلات وأثرها في صيرورة الطب النفسي وتشخيصاته لا تنفي بالضرورة الآثار النفسية للحروب والصدمات، لكن بصورة أوضح لا يوجد مسار حتمي لحصول الأمراض النفسية بقدر ما تحكمه عوامل سابقة للحدث ولاحقة له، إضافة إلى تأثيرات الثقافة وتأهّبنا الحالي والدائم، في ظل زخم المعلومات المتاحة في عصرنا، لخطر ما هو قادم.
وبالعودة إلى متلازمة حرب الخليج، يرى الباحثون أنّ الأسباب الطبية قد دُرِست بكثافة، إلا أنّ هناك أسبابا ثقافية واجتماعية تمّ تجاهلها. فعلى سبيل المثال، كان ثمّة دور كبير للإعلام الأميركي في تشجيع وتحريك الدعم لإجراء دراسات على الأعراض التي ظهرت على الجنود العائدين من الحرب، وقد استُخدم مصطلح "متلازمة" بكثافة قبل صدور أيّ نتائج بحثية، وكان هناك تشكيك دائم في مصداقية الجهات المسؤولة وما يتم مشاركته من تقارير عن الحرب وتأثيراتها.
في مقالة بحثية كتبها عام 2006، يرى البروفيسور بيل دورودي، أستاذ العلاقات الدولية ورئيس قسم السياسة سابقا بجامعة باث البريطانية، أنّ تحوّلات عديدة في العالم أسهمت في تكوين مصطلح متلازمة حرب الخليج؛ وذلك لأنّها أوّل حرب حقيقية اندلعت بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي وما تبع ذلك من تغيّرات في السياسة وثقافة الحروب بل وحتّى تصوّرات البشر عن القيمة والمعنى. وفي مقالته البحثية، سلّط دورودي الضوء على فكرة التحوّلات الاجتماعية وتراجع مفاهيم مثل الأهداف الجمعية لمجتمع ما، لصالح تقدّم فكرة المصلحة الفردية وما نتج عن ذلك من ثقافة خوف دائم من أخطار دائمة الاحتمال، مَرَضية كانت أم اجتماعية.
تحوّلت زعزعة المفاهيم كذلك إلى شعور دائم بعدم الأمان اتجاه المجتمع والسياسات، وصار لزاما على الدولة توفير بدائل تُشعر الإنسان براحة ما، فإذا كان لا بد من الإصابة بمرض ما، جسديا كان أم نفسيا، فإنّ من واجب الدولة توفير الدراسات اللازمة لفهم ما يحدث، إضافة إلى توفير أفضل العلاجات الممكنة. ويُنهي البروفيسور مقالته البحثية بتأكيده ارتباط عدد من الحروب بأعراض نفسية، ومنها حرب الخليج، لكنّه يرى أنّ بناء هذه المتلازمة تحديدا يعكس تحوّلات مجتمعية وتغيُّرا في القيم الحربية الجمعية نحو مقاربات فردية للحرب والمرض.