تاريخ من التحيز.. كيف انهار مستوى التحكيم في البريميرليغ؟

هذا التقرير خادع للغاية، شأنه شأن كل التقارير التي تتحدَّث عن التحكيم في كرة القدم. التركيبة المعتادة هي عنوان ساخن يجذبك للقراءة لأنه يَعِدك بإجابات ليست موجودة في الحقيقة، إجابات تؤكِّد انحيازاتك السابقة وتُشعرك بأنك على حق؛ لماذا يتعرَّض أرسنال للظلم دائما؟ هل يُجامل الحكام مانشستر يونايتد؟ هل يحق لكلوب الصراخ في وجه الحكام، بل واقتحام الملعب أحيانا، دون عقاب؟
بمجرد الضغط على الرابط، يبدأ الكاتب في سرد الديباجات المعتادة عن كون الحكام بشرا، وأن المشجعين متحيزون بدورهم، بالتالي لن يستطيعوا تمييز التحيز إن وقع فعلا، ثم في النهاية، يفاجئك الكاتب بالخلاصة المبتكرة التي توصَّل إليها بعد تفكير عميق؛ الحكام يخطئون، لا شك في ذلك، ولكنهم ليسوا متحيزين سابقا. كل موسم يُنشَر 43824261 تقريرا عن التحكيم، ونقرؤها كلها، وفي كل مرة نتفاجأ بالنهاية الصادمة؛ كلكم واهمون، حتى العقلاء منكم، لأنه لا يوجد حكم في العالم ينزل إلى الملعب وقد قرَّر مجاملة فريق على حساب الآخر.
ما تحت السجاد
ما يحدث لاحقا هو أن بعضنا يتقبَّل هذه الفكرة وأغلبنا لا يفعل، والسبب بسيط للغاية؛ هذه الحُجة تأكل نفسها، وتحمل بين طياتها الدليل على كذبها، فإن كان الحكم بشرا فعلا فهو قطعا يتحيز. في الواقع، كانت العبارة لتصبح منطقية فعلا لو كانت: "الحكم ليس بشرا مثلكم، لذا فهو لا يحمل أي انحيازات من أي نوع".
السؤال لم يكن أبدا عما إذا كان الحكام متحيزين أم لا، بالطبع هم متحيزون. السؤال كان عن مدى قدرة الجهات الرسمية على كشف هذه التحيزات والتعامل معها بمجرد تأثيرها على نتائج المباريات. هذا هو الطبيعي والمتوقَّع حتى يخترع أحدهم حكما آليا، أما ترديد العبارات النافية القاطعة طوال الوقت مثل العرائس الصينية الرديئة فهو مُريب في أقل تقدير. هذا الميل للمبالغة يخبر الجميع -ضمنيا- أن الحقيقة المجردة ليست كافية، بل ويفضح صاحبه دون أن يدري. هذا يشبه أن تسأل أخاك إن كان قد أكل نصيبك من اللحم بالأمس، فيُجيبك بأنه نباتي ولم يأكل اللحم في حياته أبدا.

التحيز ليس جزءا من طبيعتنا البشرية وحسب، بل ربما يكون -للمفاجأة- جزءا أصيلا من تجربة التحكيم ذاتها كذلك. في كتابه "إطلاق الصافرة: سيكولوجية التحكيم في كرة القدم" (Blowing The Whistle: The Psychology Of Football Refereeing)، يتحدث ستيوارت كارنغتون، المحاضر في علوم الرياضة بجامعة سانت ماري، عن مفهوم نفسي واجتماعي بسيط يؤثر في عمل الحكم طوال الوقت، وهو ما يُعرف بـ "Social Pay-off"، أو "الفدية المجتمعية" بالترجمة الحرفية، وكما يتضح من اسم الكتاب، فإن كارنغتون لن يُخبرك أنك واهم لأنك تعتقد أن هناك حكاما متحيزين، بل ربما العكس تماما. (1) (2) (3)
كارنغتون يعتقد أن الحكام غير المتحيزين لطرف معين في مباراة ما قد يخضعون لضغط الجمهور تحت تأثير "Social Pay-off"، ونظريته ليست معقدة إطلاقا. فحكم كرة القدم، مثل اللاعب والمدرب والجمهور، يهتم بنتائج عمله، ولكنه في الوقت ذاته، على عكسهم جميعا، لا يملك رفاهية أن يؤدي فريقه أداء سيئا ويفوز بالمباراة، أو أن يحرز هدفا حاسما في النهاية بعد تسع فرص مُهدرة، ولا يملك رفاهية أن تكرهه الجماهير لتصريحاته وسلوكه وتُعجَب بأدائه في الوقت ذاته، أي باختصار؛ الحكم لا يملك إلا سمعته، لا يمكنه أن يكون سواريز أو راموس أو مورينيو وأن يحتفظ بوظيفته في الوقت ذاته، بالتالي فالتحكيم بعدالة ليس هو العامل الوحيد المؤثر في تقييمه، بل الأهم هو أن يعتقد الجميع أنه قد حكَّم بعدالة كذلك. رأي الجميع في شخصه يُعَدُّ جزءا مهما من النتائج.
هذا ما تعنيه الفدية المجتمعية؛ أن يصبح ما يعتقده الجمهور عادلا أهم من تطبيق القانون ذاته، ولا بد أنك تلاحظ ذلك طوال الوقت، فالجمهور مثلا لا يعتقد أن منح ركلة جزاء حاسمة في الوقت بدل الضائع إجراء عادل حتى لو كانت ركلة الجزاء نفسها عادلة. لو ركض المدافع بأقصى سرعته واصطدم بكتف المهاجم مُلقيا به في المدرجات فهذا مقبول، لو عكسنا الوضع وسجَّل المهاجم بعد دفعة بالقوة ذاتها فسيُشنق الحكم فورا، وهكذا.
رغم ذلك كله فإن الجميع في إنجلترا لا يفعل شيئا سوى نفي التحيز، ببساطة لأن الجميع يخشى عقوبات الاتحاد. مجرد التصريح بأن الحكم كان متحيزا يُعرِّضك للإيقاف والعقوبة المالية حتى لو كنت مدربا بحجم فينغر أو مورينيو أو غوارديولا، وهذا أنتج ما يسميه الطليان "أومِرتا" (OMERTÀ)؛ أي أن يتآمر مجموعة من البشر على الصمت على جريمة ما ليخفوا الحقيقة عن السلطات. الفارق هنا أن هذه المجموعة من البشر تشمل أغلبية العاملين في الإعلام، وبعض المشجعين، والسلطات نفسها مُمثَّلة في هيئات التحكيم الرسمية. (4)

المفاجأة هنا أن هذا المنطق قد يكون صالحا في سياق معين؛ بمعنى أنه لو كانت الهيئة المسؤولة عن تعيين الحكام في إنجلترا -PGMOL- تبذل كل جهدها لتحسين مستوى موظفيها ورفع كفاءتهم وتدارك أخطائهم، فمن المنطقي أن تفرض عقوبات على الاتهامات المشابهة، ليس لأن الحكام بشر لا يتحيزون كما تقول الأسطورة، بل لأن فتح الباب أمام كل مدرب أو صحفي غاضب من نتيجة مباراة فريقه لاتهام الحكم بالتحيز سيضمن الفوضى، وبالتالي، وبعملية حسابية بسيطة، ستكتشف أن عدد الادعاءات الظالمة سيفوق تلك الموضوعية، وبما أن الحكم لا يملك إلا سمعته، فلا فائدة تُرجى من تشويهها ما دامت هناك آلية فعالة لمراجعة أخطائه، حتى لو كان التحيز المتعمَّد ضد فريق ما من ضمن هذه الأخطاء. (5)
إحصائيات ماكرة
بالطبع هذا ما لا يحدث في البريميرليغ أبدا؛ مايك رايلي، رئيس لجنة تعيين الحكام في البريميرليغ والتشامبيونشيب أو "PGMOL"، قد قرَّر منذ زمن بعيد أن يكتفي بتطبيق النصف الأول فقط من هذه النظرية. الجميع يُعاقَب إلا الحكام، وخاصة المتحيزين منهم.
في الواقع، الخدعة الوحيدة في العنوان الساخن أعلاه هي الإيحاء بأن مستوى التحكيم في البريميرليغ قد انهار فجأة، الآن، بينما الحقيقة أن ما حدث مؤخرا، وما يحدث منذ بداية الموسم، ليس إلا حلقة معتادة في المسلسل نفسه. المفاجأة الحقيقية ستكون ألا ينهار مستوى التحكيم في البريميرليغ بعد تاريخ طويل من الوقائع المشابهة دون عقاب.
VAR incorrectly overruled decisions four times in the two weeks before the international break, says EPL referees chief Mike Riley. [BBC] pic.twitter.com/9PDo8Ydfny
— FourFourTweet (@FourFourTweet) November 23, 2019
السؤال المنطقي هنا سيكون عن كيفية تعريف الحكام المتحيزين ضد فِرَق بعينها؛ في مايو/أيار الماضي مثلا أعلن مرصد كرة القدم (CIES) أن أرسنال كان أقل فِرَق الدوريات الخمس الكبرى ارتكابا للمخالفات، ولكن في الوقت ذاته كان أرسنال أحد أكثر الفِرَق تعرُّضا للبطاقات الصفراء مقارنة بعدد المخالفات. العكس بالنسبة لتشيلسي، وطبعا أنت تعلم ما يعنيه ذلك؛ آرون لرنر، أحد المدونين المخلصين لأرسنال، اعتبر الإحصائية كافية للتلميح إلى مجاملة الحكام لتشيلسي مقارنة بناديه. (6) (7)
بالطبع أنت ترى المشكلة هنا؛ هذه الإحصائية قد تعني أن ما يعتقده لرنر صحيح فعلا، وقد تعني ببساطة أن مدافعي أرسنال أكثر تهورا من غيرهم، وبضع لقطات لتشاكا وغابرييل وديفيد لويز وغيرهم كفيلة بترجيح التفسير الأخير. هذا هو الثقب الأسود الذي يبتلع كل محاولات إدانة الحكام ويسمح بدوران العجلة إلى الأبد بلا توقف؛ أنه لا يوجد إحصائية حقيقية للمجاملات التحكيمية.
هل لاحظت ما فعلناه في الفقرة الماضية؟ هذه هي الخدعة الثانية في هذا التقرير بعد خدعة العنوان؛ الإيحاء بأن التحيز الصارخ غير قابل للإدانة عبر الإحصائيات، بينما في الحقيقة، فإن الأمر من أوضح ما يكون في البريميرليغ تحديدا، لأن المفاجأة هنا أن ما يحدث في الدوري الأقوى في العالم فج وفاضح إلى درجة أن كشف التحيز لا يحتاج إلى أي مجهود بحثي فعلي.
في الفترة ما بين 2009-2013 من البريميرليغ (4 مواسم)، كانت نسبة فوز الستة الكبار التقليديين مع الحكم مايك دين تتراوح ما بين 50-67%. في الفترة نفسها ومع الحكم نفسه كانت نسبة فوز أرسنال 7% فقط، رغم أن نسبة فوز أرسنال عموما في هذه المواسم الأربعة تراوحت ما بين 50-60%. (8)

تخيَّل للحظة أنه كان هناك فريق يفوز بنصف مبارياته على الأقل، وفي الفترة ذاتها كان هناك حكم بعينه لم يفز هذا الفريق تحت إدارته إلا بمباراة واحدة في 17 مباراة متتالية أدارها لهم خلال أربع سنوات. مَن يحتاج ساعتها إلى إحصائيات مرصد كرة القدم؟
المجد للمتحيزين
المشكلة الأولى هنا أن وقائع كتلك لا تستدعي التحقيق ناهيك بالعقاب. في يناير/كانون الثاني 2018، تسبَّب قرار ظالم آخر من مايك دين في تعادل أرسنال مع ويست بروم بعد ركلة جزاء احتُسِبت على كالوم تشيمبرز مدافع المدفعجية، ورغم اعتراف دين نفسه بالخطأ فإن الواقعة انتهت بإيقاف أرسين فينغر لثلاث مباريات وتغريمه 40 ألف جنيه إسترليني لأنه قال ما يبدو واضحا بالفعل. (9)
المشكلة الثانية أنها ليست وقائع معزولة، بل في الواقع، كل مَن يعتبرهم رئيس لجنة الحكام رايلي "نخبة" حكام البريميرليغ لهم وقائع مشابهة مع فِرَق بعينها، بل وأحيانا مع مدربين بعينهم؛ في 2007 مثلا قدَّم مارك كلاتنبرغ عرضا كارثيا في فوز ليفربول على إيفرتون بملعب غوديسون بارك، افتتحه باحتساب ركلة جزاء من خارج المنطقة لصالح جيرارد على توني هيبرت، ثم استبدل البطاقة الحمراء بالصفراء بعد ضغط قائد الحُمر، وفي النهاية لم يحتسب ركلة جزاء واضحة على جايمي كاراغر لصالح جوليون ليسكوت، وتغاضى عن طرد ديرك كاوت بعد تدخُّل متهور بكلتا الساقين على فيل نيفيل. (8)
القصة لم تنتهِ هنا طبعا؛ كلاتنبرغ حُرم من التحكيم في غوديسون بارك لمدة 6 سنوات بعد تلقيه تهديدات بالقتل من المشجعين، ثم عاد في 2012 ليُقدِّم عرضا آخر مثيرا للجدل شهد حرمان لويس ساها من ركلة جزاء واضحة ليتعادل التوفيز مع الفيلانز بنتيجة 1-1، ومن هنا اكتسب كلاتنبرغ أول سمعة سيئة في مسيرته بوصفه مشجعا مُخلِصا ومُتعصِّبا لليفربول. (8)
المشكلة أن كلاتنبرغ نفسه، الذي أعلن بعد اعتزاله أنه كان يخشى غضب سير أليكس فيرغسون طوال حقبته في يونايتد، كان قد تفاخر في تصريح صادم أنه الحكم الوحيد في تاريخ البريميرليغ الذي منح خصم يونايتد ثلاث ركلات جزاء في أولد ترافورد -يقصد فوز ليفربول برباعية في 2014-، ولكنه استطاع ذلك فقط لأن مويس كان مدرب يونايتد وقتها، وللمفارقة كان مويس هو مدرب إيفرتون أثناء الواقعة الأولى في 2007 أيضا. (10)
حكاية مشابهة كان بطلها الحكم هاورد ويب مع ليفربول أيضا، ولكن عكسيا هذه المرة. ففي المواسم الأربعة ذاتها ما بين 2009-2013، كانت نسبة فوز ليفربول مع باقي الحكام تتراوح ما بين 42-93%، بينما خسروا 14 مباراة من أصل 22 تحت إدارة ويب، الذي كان يُعتبر أفضل حكام إنجلترا على الإطلاق آنذاك، بنسبة فوز بلغت 27%. أليس هذا كافيا لفتح تحقيق في الأمر على الأقل؟ (8)
هذه مشكلة أخرى، فالمسؤول المنوط بفتح التحقيقات ومعاقبة الحكام على مثل هذه الوقائع لم يكن ليصل إلى موقعه لو كانت هذه هي سياسات مَن سبقوه. مايك رايلي كان بطل أكبر فضيحة تحكيمية في تاريخ البريميرليغ على الإطلاق في أكتوبر/تشرين الأول 2004 بين مانشستر يونايتد وأرسنال، أو ما عُرف لاحقا بالبيتزا غيت (Pizzagate)، في إشارة إلى شجار ما بعد المباراة في النفق المؤدي إلى غرف خلع الملابس، الذي شهد إلقاء أحد لاعبي أرسنال -سيسك فابريغاس- بشريحة بيتزا على وجه فيرغسون. (11) (12) (13)
(هذا الرجل هو الرئيس الحالي للجنة تعيين الحكام للبريميرليغ والتشامبيونشيب)
بعد مباراة هي الأعنف على الإطلاق من لاعبي يونايتد، انتهت فقط بثلاث بطاقات صفراء وفوز غير مستحق بعد احتساب ركلة جزاء وهمية لروني، الذي اعترف لاحقا بأنه لم يتعرَّض للمس من الأصل، انتهت مسيرة لا هزيمة أرسنال، الأطول في تاريخ البريميرليغ، بـ49 مباراة متتالية، ثم استمر رايلي في عمله بلا عقوبة تُدينه حتى وصل إلى موقع رئيس لجنة الحكام. في الواقع، هذا النمط متكرر؛ البريميرليغ لا يكتفي بالتغاضي عن وقائع كتلك، بل كثيرا ما يكافئ أصحابها بأعلى المناصب في المنظومة. (14)
رجال بيض مُحافظون
سايمون كوبر، الباحث البريطاني في العديد من المجالات المرتبطة باللعبة، يعتقد أن جزءا من فشل المنظومات الإدارية في بلاده راجع للعنصرية. كوبر يرى أن العادة قد جرت على إسناد المناصب المهمة لنوع معين من البريطانيين؛ الرجال البيض الذين تجاوزوا الخمسين من عمرهم، ويُصفِّفون شعرهم بطريقة محافظة وتقليدية تنم عنها ملابسهم وتصرفاتهم. (15)
يعتقد الكثيرون أن هذا هو ما حدث في منظومة التحكيم الإنجليزي كذلك؛ قصر الترقي من المستوى السابع -أقل مستوى تحكيمي في إنجلترا- إلى المستوى الأول على مجموعة محددة من الأفراد، واستبعاد كل مَن لا يستوفون هذه المعايير الشكلية.
بالأساس، تعاني إنجلترا عموما والبريميرليغ خصوصا من أزمة تحكيم حقيقية، راجعة في الأصل إلى ظاهرة التقاعد المبكر التي تجتاح كل المستويات من السابع إلى الثاني، ففي بداية مسيرتهم، يُعيَّن الحكام لإدارة مباريات الناشئين، وفيها يتعرَّضون إلى كمٍّ لا يُطاق من الإهانات والتهديدات من الآباء والأمهات المتعصبين، وبعد فترة يُدرك الكثيرون منهم أن 20-25 جنيها إسترلينيا في المباراة الواحدة لا تستحق هذا العناء، خاصة أن الكثيرين منهم يملكون شهادات علمية في مجالات أخرى، ويستطيعون الحصول على عمل أسهل بمقابل أعلى، وهذا يعني أن منظومة التحكيم تفقد الكثير من كفاءاتها في مرحلة مبكرة. (16)
This afternoon’s referee is Joel Mannix and he will be assisted by Stuart Smith and Stephen Parkinson. #sacfc pic.twitter.com/5MU7zAzo3P
— St Albans City FC (@stalbanscityfc) February 1, 2020
المرحلة الثانية من التصفية تأتي لاحقا ولكن لأسباب مختلفة تماما؛ جويل مانيكس، واحد من أربعة حكام فقط ينتمون إلى الأقليات العِرقية من أصل 40 حكما في درجات إنجلترا المحترفة الأربعة، ويُدير مجموعة "BAME Referees" لتمثيل هذه الأقليات في منظومة التحكيم الإنجليزية، استخدم عبارة مشابهة لعبارة كوبر قائلا: "المستويان الثالث والرابع هما مقبرة الحكام السود. مراقبو هذه المستويات، الذين يُحدِّدون إمكانية الترقي للمستوى الأعلى هم في الأغلب رجال بيض مُسِنّون وعنصريون". (17)
"BAME" هي اختصار لـ "Black, Asian & Minor Ethnicities"، أو السود والآسيويين والأقليات العِرقية، ومنذ فترة، اتخذ الاتحاد الإنجليزي إجراءات واسعة نحو دمج هذه الأقليات والتحقيق في خلو المستويين الأول والثاني منهم، إذ لا يوجد سوى الرجال البيض المحافظين في هذين المستويين، في استمرار للظاهرة التي سادت المشهد بعد اعتزال أورايا ريني، آخر حكم أسود أدار مباراة في البريميرليغ حتى اللحظة، وكان هذا في 2008.
مشكلة الخطوات الواسعة التي اتخذها الاتحاد الإنجليزي في هذا الصدد أنها -للمفاجأة- لم تكن واسعة؛ مبدئيا، فاللجنة التي عُيِّنت للإشراف على مسألة الدمج العِرقي تكوَّنت من 14 حكما سابقا ليس من ضمنهم حكم أسود أو آسيوي أو مُنتمٍ إلى أي أقلية عِرقية، وإن لم يكن هذا كافيا لتحويل اللجنة إلى نكتة، فإن رئيس هذه اللجنة، الحكم السابق ديفيد إلراي، كان قد تعرَّض للإيقاف في 2014 من قِبَل الاتحاد الإنجليزي نفسه لأنه.. حسنا، نخشى أن تتهمنا بالمبالغة، لذا سنمنحك فرصة لتخمين السبب بنفسك. (17)
النتيجة طبعا هي النتيجة التي توقَّعتها. يحكي مانيكس أنه في أحد اجتماعات "الدمج العِرقي" هذه، أطلق أحد المسؤولين الكبار في الاتحاد مزحة عن أن الحكام السود المطلوبين لإيفاء النسبة العادلة يمكن تعيينهم من المجرمين الذين أُطلِق سراحهم حديثا، وفي تقريره الذي قدَّمه للاتحاد الإنجليزي منذ أسابيع، ذكر مانيكس أن أحد المراقبين المعنيين بتقييم أداء الحكام قال لحكم أسود إنه، مثل "قومه"، لا يُجيد سوى الركض بسرعة، وفي واقعة أخرى قيل لأحد الحكام السود إنه لن يترقى إن لم يتخلَّ عن ضفائره القصيرة (Dreadlocks)، وفي واقعة ثالثة كانت هناك مزحة بدأت بالموز وبالطبع يمكنك تخيُّل نهايتها. (17)
هذه هي درجة الأمان الوظيفي التي يتمتع بها حكام البريميرليغ، الدرجة التي تجعل الشريحة التي تصل منهم إلى المستوى الأول، بعد عدة مراحل تصفية بعضها عنصري، هي الشريحة التي يُعَدُّ ويب وكلاتنبرغ ودين أفضل حكامها، ولهذا السبب أيضا تُمدِّد "PGMOL" أعمارهم في الملاعب سنة تلو الأخرى، رغم افتقاد أغلبهم للياقة البدنية اللازمة لإدارة المباريات التي تفتخر إنجلترا بسرعتها وحِدَّتها.
الخدعة الثالثة

مجددا نُذكِّرك، هذا التقرير خادع لأنه يوحي لك بأننا في صفك تماما، وهذا غير حقيقي. أكثر مشجعي كرة القدم مهووسون فعلا، ولن يستطيعوا إدراك التحيز حتى لو وقع فعلا، ونحن لا نعتبر أنفسنا معصومين من الخطأ نفسه.
الفكرة هنا ليست في كون مشجعي البريميرليغ على حق، بل في أن فشل حكامه وانعدام كفاءتهم أكبر من أن نحتاج إلى آراء المشجعين أو إحصائيات المخالفات والبطاقات الصفراء. وعموما، فإن كل منظومة تحكيمية في العالم تعاني من مجموعة من الأمراض قُتلت بحثا عبر دراسات عدة؛ جميع الحكام تقريبا ينحازون للفِرَق الناجحة، وجميع الحكام تقريبا ينحازون لصاحب الأرض، بل إن هناك دراسة أُجريت على البريميرليغ والبوندسليغا في 2009 أثبتت أن انحياز الحكم لصاحب الأرض مرتبط بوجود أو غياب مضمار للجري بين المدرجات والعشب، فكلما كانت الجماهير أبعد عن الملعب كان تأثيرها أقل على قرارات الحكم. (18) (19)
هناك أيضا دراسة مهمة وواسعة أجرتها الإندبندنت الأيرلندية عن الوقت بدل الضائع الذي يحصل عليه الستة الكبار في إنجلترا مقارنة بحالة النتيجة، سواء كانوا متأخرين أو متعادلين أو فائزين، واتضح أنه كلما زاد الفارق في الأهداف كان الوقت بدل الضائع أقل. (20)
كل هذا يمكن التشكيك فيه بسهولة؛ الوقت بدل الضائع قد يزيد لأن لاعبي الفريق الفائز يهدرون الوقت أمام الستة الكبار ببساطة، وهي ظاهرة نشهدها بانتظام دون الحاجة إلى أي دراسات. في الواقع، في أي محاولة منطقية لتقييم حجم الفشل التحكيمي المؤسسي في البريميرليغ، كنا سنستخدم هذه الدراسات باعتبارها الأدلة الوحيدة التي نملكها، ولكن المفاجأة كانت أن حجم الفشل التحكيمي في البريميرليغ كان أوضح وأكبر من ذلك بكثير.
Doesn't seem possible, but since VAR has been introduced, refereeing decisions have got WORSE! At what point does the @fa and @EPL decide enough is enough for Mike Riley and his band of incompetents? Richest league in the world and this the standard of refereeing? #shocking
— City 'til I Cry! (@tomritchiemcfc) August 31, 2019
هذا يقودك إلى ما يُثير الغيظ في الأمر كله؛ رغم كل هذه المؤشرات الفاضحة على ضعف كفاءة الكثير من حكام البريميرليغ -يمكن اعتبار الاستسلام للانحيازات دليلا على ضعف الكفاءة بدوره- فإن هناك مَن يعتقد أن التكنولوجيا هي ما زاد الأمر سوءا. البعض يرى أن "VAR" هو ما تسبَّب في المزيد من الانتقادات للحكام، لأنه كلما تمكَّن المدربون واللاعبون والجماهير من إعادة اللقطة أكثر من مرة، زاد غضبهم واشتعل الموقف. (21)
هنا تنغلق دائرة العبث على نفسها لتعود بالجميع إلى نقطة الصفر مجددا، وبدلا من استخدام "VAR" في رفع كفاءة الحكام وتجنُّب الأخطاء الساذجة المُكلِّفة، مثل التغاضي عن طرد هاري كين أمام ليفربول مثلا، أصبحت المشكلة في "VAR" نفسه لأنه يزيد من غضب المتضررين ويمنحهم أدوات جديدة لكشف هذه الأخطاء. المجانين في نعيم فعلا.
منذ أسبوعين بالضبط، كتب ستيوارت جيمز في "ذا أثلتيك" تحت عنوان: "الناس الوحيدون المتحيزون فعلا في معركة التحكيم هم نحن.. المشجعون!". جيمز بدأ حديثه بمايك دين للمفارقة، ثم أخبرنا بالديباجات المعتادة عن أن الحكام بشر، ثم فاجأنا في النهاية بالخلاصة المبتكرة التي توصَّل إليها بعد تفكير عميق؛ الحكام يُخطئون، لا شك في ذلك، ولكنهم ليسوا متحيزين سابقا. المفاجأة أن التعليقات أظهرت أن الكثيرين لم يعودوا متحمسين لكنس التراب تحت السجاد. (22)
___________________________________________
المصادر:
- كتاب "Blowing The Whistle: The Psychology Of Football Refereeing" لستيوارت كارنغتون – Amazon
- ستيوارت كارنغتون – St. Mary Univesity
- دراسة: ظاهرة التأثير المجتمعي على ملاعب كرة القدم؛ الضغط الجماهيري على قرارات الحكام – Research Gate
- أومرتا – Dictionary
- About PGMOL – Premier League
- التقرير الأسبوعي: كثافة ارتكاب المخالفات عبر أوروبا.. أرسنال يتميز – CIES
- هل حكام البريميرليغ متحيزون ضد أرسنال؟ – SB Nation | The Short Fuse
- الحكام الأكثر تحيزا مع كبار البريميرليغ – Sporskeeda
- مايك دين يعترف بخطأ قراره في ركلة جزاء ويست بروم التي أدت إلى تعادل أرسنال وإيقاف أرسين فينغر – The Independent
- مقال مارك كلاتنبرغ: "توقف عن النفاق يا كلوب فلاعبوك يغطسون أيضا!" – The Daily Mail
- مانشستر يونايتد ضد أرسنال: مراجعة "معركة البوفيه" بعد 10 سنوات من وقوعها – BBC
- سيسك فابريغاس يعترف أنه مَن ألقى شريحة البيتزا على فيرغسون – Sky Sports
- أرسين فينغر يبتسم أثناء تذكر "معركة البوفيه" بعد 10 سنوات من وقوعها – Reuters
- إحساس مُمض بالظلم بعد أن خفتت نيران أرسنال – The Guardian
- كتاب "Soccernomics" لسايمون كوبر وستيفان زيمانسكي – Amazon
- معايير التحكيم في البريميرليغ؛ لماذا هي متواضعة؟ وما الذي يمكننا أن نفعله لتحسينها؟ وكيف نتعلم من اليورو؟ – Swapping Shirts
- كرة القدم المحترفة في إنجلترا تملك 40 حكما كلهم بيض، فلماذا لا تصل الأقليات العِرقية إلى هذه الدرجات؟ – The Guardian
- دراسة: هل حكام كرة القدم متحيزون وغير ثابتين في المستوى؟ أدلة من العقوبات الإدارية للمخالفات في البريميرليغ – Research Gate
- دراسة: اللاعب رقم 12؟ التحيز التحكيمي في الدوريين الإنجليزي والألماني – Jstor
- تحليل: هل حكام البريميرليغ متحيزون لصالح الِفرَق الكبيرة؟ – Independent
- الـ "VAR" والتعامل الناعم مع ابتزاز حكام البريميرليغ هو ما قاد إلى أزمة التحكيم الحالية – iNews
- المتحيزون الوحيدون في معركة التحكيم هم نحن.. المشجعون! – The Athletic
