فرنسا والمسألة الأمازيغية
المسألة الأمازيغية من نتاج الحقبة الاستعمارية من حيث ظهور الوعي السياسي الأمازيغي، لكن لها ديناميتها الخاصة. وقد استفادت من تلك الحقبة لتعبر عن نفسها، بيد أنها لم تتواطأ مع الاستعمار بل قاومته وكانت السباقة في النضال من أجل الاستقلال. |
لم تكن سياسة فرنسا موالية للبربر على حساب العرب بإعطائهم مزايا سياسية أو اقتصادية، إذ لم تمنحهم مثلاً مقام المواطنة وأبقتهم ضمن فئة الأهالي كغيرهم. كما أن فرنسا لم تفلح في خلق قاعدة أمازيغية موالية لها تجندها ضد غيرها.
يقول دانيال سوفاي المتخصص في الدراسات القبائلية إنه اهتم بتفسير الصور النمطية والقوالب بشأن بلاد القبائل، وسرعان ما لاحظ أن "ما يسمى بالأسطورة القبائلية يزيد بكثير عن البعد الأيديولوجي الذي كان قد استقطب المحللين". كما لاحظ استرداد القبائل للمعرفة التي أنتجت حولها خلال الحقبة الاستعمارية "تذويتا" وهو ما تقوم به بشكل واسع الحركة الثقافية البربرية، "وأصبحت الأسطورة والصور النمطية عنصراً للخطاب الهوياتي للقبائل حول أنفسهم".
حدة التأثر بالموروث الاستعماري انجرت عنها قراءة انتقائية للتاريخ، إذ "ذَوَّتَ" قسم من دعاة الأمازيغية الخطابَ الاستعماري وتصورات ونظرة الآخر للذات الأمازيغية. وبما أن هذه الأسطورة أسست على إسقاط الإسلام سارت عملية "التذويت" على خطاها، إذ يقصي هؤلاء ماضيهم وحاضرهم الإسلامي بدعوى الاضطهاد الهوياتي العربي.
يلاحظ الكاتب الجزائري صالح قمريش (في مقالة بجريدة ليبراسيون الفرنسية بتاريخ 29/03/2004) مفارقة لدى النشطاء البربر، فهم يحمِّلون العرب "اضطهاد ألف سنة" الذي تعرضوا له و"التنكر للهوية البربرية"، وإن كانت "هذه التهمة المزدوجة غير خاطئة كلية فإنها تاريخياً ظالمة"، وهذا لسببين:
-
أولهما أنه من بين القرون التسعة الممتدة من "الغزو العربي" إلى "الغزو العثماني"، فإن "المماليك البربرية هي التي سيطرت أو حكمت الجزائر خلال ستة قرون على الأقل".
-
ثانيهما أن "التنكر للهوية البربرية" لم يكن يتسنى لولا "مباركة" "وحتى تواطؤ العديد من الوزراء والجنرالات الذين هم أنفسهم من أصل بربري" وهذا منذ الاستقلال.
حجب مسؤولية البربر هذه انجرت عنه عملية حجب أخرى وهي محاولة جعل الإعلام الغربي يستمر في الاعتقاد بأن الإسلام السياسي الجزائري خاصية "عربية" وبأن "العنصر البربري ليس إلا الضحية المسكينة" بينما تاريخ العقدين الأخيرين -يضيف قمريش- يطلعنا بأن "الأصولية" تأصلت باكراً في المناطق البربرية لاسيما في القبائل، وأن زعماءها الرئيسيين هم من البربر. كما يلاحظ أن الجالية البربرية لم تعد تعتز بجزائريتها "فالخجل" من الإسلام السياسي جعلها تذهب إلى حد احتقار جزائريتها والتأكيد على أصولها القبائلية وحتى على انتسابها إلى اليهودية المسيحية.
إضافة إلى الإسلام السياسي هناك تيار في أوساط قبائل فرنسا لاحظناه مثلاً في الجامعات، يردد أصحابه نفس الصور النمطية المؤسِّسة "للأسطورة القبائلية" لإقناع محاورهم بصحة موقفهم فيما يخص هذا التنكر. ومن الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى التنوع داخل بربر فرنسا، فالكثير منهم يعتز بأصوله الجزائرية والمغربية، وبالإسلام كمكون لهويته.
قبائليون بفرنسا
تعد الهجرة الأمازيغية إلى فرنسا من أقدم الهجرات إلى هذا البلد، في حين أن الهجرة القبائلية تحديداً تعود تقريباً إلى قرن من الزمن. وبحكم قدمهم وثقلهم العددي وتداعيات "الأسطورة القبائلية" فإن لقبائل المهجر خصوصيتهم، فقد أعادوا تشكيل بعض البنى التقليدية في المهجر مثل "الجماعة" التي تهتم بتنمية منطقة القبائل وترحيل جثث الموتى ليواروا التراب في الجزائر.
ورغم تأكيدهم على مواطنتهم الفرنسية -بالنسبة لحملة الجنسية- فإن تحركاتهم يمليها أساساً تضامنهم مع أهلهم في الجزائر. ويعمل قسم كبير منهم اليوم على التشديد على تمايزهم منددين بخلطهم بالعرب والمسلمين، ويظهر خطابهم مدى تبنيهم لتلك الأسطورة ونزوع بعضهم إلى نوع من العنصرية حيال العربي والإسلامي في المطالبة بالاعتراف بهم كبربر وقبائل.
وقد طور القبائل شبكة من الجمعيات يبلغ عددها نحو 40 في فرنسا، أنشئ أكثر من نصفها بداية العقد الماضي، وقد ساهم في ظهورها الانفتاح السياسي في الجزائر من جهة -مما جعل بعضها يظهر أساساً لتطوير معارضة سياسية وثقافية- والحاجة في أوساط المهاجرين لمثل هذه الجمعيات من جهة أخرى.
وسياسياً تحديداً بدأ البربر ينظمون أنفسهم بإنشاء "تنسيقية بربر فرنسا" التي يترأسها مصطفى سعدي، وهي قبائلية الطابع أساساً. كما تنشط الحركات الجمعوية البربرية في مجال المواطنة والسياسة. والجالية المسلمة بتنوعاتها (البربرية والعربية والتركية والكردية) أصبحت رهاناً سياسياً في الانتخابات الفرنسية.
أما مسألة تعليم الأمازيغية فتثير تنافساً بين الأوساط القبائلية حول من يتكفل بها. ويبقى أن الأمازيغية غير معترف بها ولا تدرس في فرنسا. وقد رفضت فرنسا المصادقة على الميثاق الأوروبي للغات المحلية للأقليات، مما أثار استياء النشطاء البربر. ودعا بعض قبائل فرنسا للتصويت بنعم في الاستفتاء حول المعاهدة المؤسِّسة للدستور الأوروبي لأن الميثاق المذكور جزء منه، وبالتالي ستضطر فرنسا لتطبيقه.
مسألة دينامية
المسألة الأمازيغية من نتاج الحقبة الاستعمارية من حيث ظهور الوعي السياسي الأمازيغي، لكن لها ديناميتها الخاصة. وقد استفادت من تلك الحقبة لتعبر عن نفسها، بيد أنها لم تتواطأ مع الاستعمار بل قاومته وكانت السباقة في النضال من أجل الاستقلال. فهي استخدمت هذا الإرث لتأخذ منحى مختلفاً تماماً عن الأطماع الاستعمارية، ولم يكن ولاؤها السياسي لفرنسا رغم فرنسية لغة خطابها.
إن وصم دعاة الأمازيغية بالعمالة لقوى أجنبية محاولة لإعفاء الذات من حقيقة موجعة وهي أن المطلب الأمازيغي يعد أيضاً تعبيراً مأساوياً لواقع إخفاق دولة الاستقلال ومحاولة للهروب من المعضلة المركزية، وهي الانسداد السياسي وتجذر التسلطية بما فيها الهوياتية. |
المشكلة التي تبدو مستعصية على الفهم هي أن المسألة الأمازيغية اليوم من نتاج التسلطية السياسية والهوياتية في البلدان المغاربية. ولو أن الأنظمة الحاكمة اعترفت غداة الاستقلال بالأمازيغية كأحد مقومات هوية شعوبها، لما أخذت المسألة الحجم الحالي. ثم إن رفضها للمطلب الأمازيغي بالتعبير عن نفسه جعله ينتقل إلى المهجر، حيث تشكل فرنسا بحكم التاريخ مركز ثقل هذه المسألة.
وباريس تمثل بالنسبة للإعلام الأمازيغي في المهجر ما تمثله لندن بالنسبة للإعلام العربي في المهجر، وإن كان الحضور البربري حديث النشأة (تلفزيون البربر أول قناة فضائية بربرية، وأطلقت عام 2000 وتبث بالفرنسية والأمازيغية).
إن وصم دعاة الأمازيغية بالعمالة لقوى أجنبية محاولة لإعفاء الذات من حقيقة موجعة وهي أن المطلب الأمازيغي يعد أيضاً تعبيراً مأساوياً لواقع إخفاق دولة الاستقلال ومحاولة للهروب من المعضلة المركزية، وهي الانسداد السياسي وتجذر التسلطية بما فيها الهوياتية.
ثم إن هذا المطلب يتحرك اليوم بمعزل عن الرهانات السياسية لأية قوى، إذ إن ديناميته محلية المنشأ ووطنية الهموم. فمثلاً تتعذر قراءة أحداث منطقة القبائل (1980 أو 2001) من زاوية العلاقة مع فرنسا، لأنها جزائرية المنشأ والتعبير. أما فرنسا المرشحة دائماً –حسب الأيديولوجية السائدة– للعب الدور السلبي، فإنها توجد بين مطرقة دعاة البربرية وسندان معارضيها. فالفريق الأول يتهمها بالتواطؤ مع الأنظمة المغاربية وبخيانتها لمبادئها الإنسانية الكونية، والفريق الثاني يتهمها بإيواء ومساندة المطلب الأمازيغي لضرب الإسلام والعروبة.
إن فرنسا لا تتلاعب بالتمايز بين بربرها وعربها لأن ذلك سيهدد سلمها الاجتماعي، ولا تلعب على هذا الوتر الحساس في المغرب العربي لأن أي اضطراب هناك سيمتد إلى أراضيها. ثم إن التفرقة بين البربر والعرب لن تنجح لثقل القاسم المشترك الأساسي أي الإسلام، والعنصرية التي لا تفرق بين أمازيغي وعربي ومسلم.
وإذا كانت فرنسا متعاطفة بعض الشيء مع القبائل (سياسة تأشيرات لصالح طلبة من هذه المنطقة على حساب المناطق الأخرى، مساندتها المطلب البربري..) فإنها التزمت تقريباً الصمت في أزمة القبائل، بل إن علاقاتها مع الجزائر تعززت حتى في خضم هذه الأزمة.
وموقفها هذا بعيد عن موقف البرلمان الأوروبي الذي تحدث في بيانه عن "الشعب البربري" والذي يوحي بأن في الجزائر "شعبا بربريا" يضطهده شعب آخر! وعليه فإن لفرنسا حساباتها الخاصة التي تتعارض أحياناً والمطلب الأمازيغي داخلياً (الميثاق الأوروبي المذكور) وخارجياً (تعاونها مع البلدان المغاربية لموازنة النفوذ الأميركي).
_____________
كاتب وباحث جزائري