تأثير اتفاق السلام السوداني على الأمن القومي المصري

undefined

بقلم/ إبراهيم أحمد نصر الدين

تثير التفاعلات التي تحدث في الساحة الداخلية السودانية، بالإضافة إلى الاتفاقات التي عقدت بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان (الاتفاق الإطاري مشاكوس 2002، والاتفاق الأمني نيفاشا 2003) فضلا عن الاتفاق النهائي المنتظر عقده قريبا بين الطرفين حول تقسيم السلطة والثروة في السودان.. تساؤلات حول مدى تأثيرها بالسلب والإيجاب على مصالح مصر الإستراتيجية.

إن المتأمل في الواقع السوداني وفي نصوص الاتفاقات السابقة يستنتج أنها يمكن أن تقود إلى أحد البدائل الثلاثة الآتية:

  1. قيام دولة سودانية اتحادية عربية أفريقية
  2. انفصال جنوب السودان
  3. قيام دولة سودانية ذات هوية أفريقية


يصعب تحقيق دولة سودانية اتحادية عربية أفريقية في المستقبل المنظور نظرا لتفتت خريطة القوى السياسية الفاعلة في السودان، ولعدم وجود تنظيم سياسي حديث يرفع أجندة وطنية

دولة اتحادية عربية أفريقية
وهذا هو البديل "المفضل" الذي يمكن أن يحقق مفهوم المواطنة المتساوية لكل أبناء السودان على اختلاف معتقداتهم وإثنياتهم وأقاليمهم، ومن شأنه أن يحقق إجماعا وطنيا سودانيا من جهة، ويدفع بالعلاقات المصرية-السودانية قدما في إطار من الندية والمساواة من جهة أخرى، بشكل يمكن أن يزيل الحساسيات التاريخية المترسبة لدى بعض فئات الشعب السوداني والمتمثلة في الخوف من هيمنة مصرية "متوهمة" على أقدار السودان.

ورغم أن هذا هو البديل المفضل الذي يمكن أن يخدم ويحافظ على المصالح الإستراتيجية لمصر في السودان، فإنه يصعب تحقيقه في المستقبل المنظور نظرا لتفتت خريطة القوى السياسية الفاعلة في السودان من جهة، ولعدم وجود تنظيم سياسي حديث يرفع أجندة وطنية يمكن أن تلتف حولها جميع فئات المجتمع السوداني بصرف النظر عن المعتقد أو العامل الإثني أو الإقليمي من جهة أخرى.

ويتطلب تفعيل هذا البديل تضافر جهود جميع الدول العربية وعلى رأسها مصر لإخراجه في الوقت المناسب (اتفاق جدة الأخيرة بين الحكومة السودانية والتجمع الوطني السوداني خطوة على طريق طويل)، خصوصا أن كل المفاوضات التي دارت وتدور تحت مظلة الإيغاد وبرعاية من الولايات المتحدة لم تناقش من قريب أو بعيد مسألة هوية السودان، مع ما يحمله ذلك من مخاطر قد تسفر عن طمس الهوية العربية الإسلامية التي تشكل إحدى ركائز الهوية السودانية جنبا إلى جنب مع الهوية الأفريقية. ولكن هل ستسمح الحكومة السودانية الحالية التي ستظل حاكمة في شمال السودان طوال الفترة الانتقالية ومعها الحركة الشعبية للدول العربية وعلى رأسها مصر بالقيام بهذا الدور؟ إن خبرة سنوات التعامل الماضية تشير إلى أن الإجابة ستكون بالنفي.

انفصال جنوب السودان


الانفصال -لو تم- ستكون له آثار سيئة على المصالح الإستراتيجية المصرية ولكن ليس بالصورة الخطيرة التي يروجها البعض، فالنيل الأزرق الذي يزود مصر بنحو 82% من احتياجاتها المائية لا يمر بجنوب السودان

وهذا هو البديل "السيئ" الذي سينعكس بالسلب -إلى حد ما- على المصالح الإستراتيجية لمصر في السودان.

إن المتأمل في ديناميات السياسة السودانية وفي ما نص عليه كل من اتفاق مشاكوس واتفاق نيفاشا والموضوعات التي يدور حولها التفاوض في الاتفاق النهائي، يمكن أن يدرك دونما عناء أن هذا البديل يمكن أن يحدث في ظل ظروف معينة أثناء الفترة الانتقالية أو عند نهايتها، وخاصة إذا ما أدركت الحكومة السودانية أن زمام الأمور يمكن أن يفلت من يدها حينها ستبادر هي إلى إعلان اعترافها بدولة جنوب السودان، حفاظا على ما تبقى تحت يدها من الشمال كي تطبق فيه الشريعة الإسلامية. وتلك الرؤية يعتنقها العديد من أنصار التيار الإسلامي في السودان، ويساند هذه الرؤية:

  • سيطرة الحركة الشعبية على معظم أراضي جنوب السودان.
  • امتداد نفوذ عملياتها إلى شرق وغرب السودان.
  • تمتعها بدعم من دول الجوار الأفريقي.
  • مساندة غير محدودة من جانب الولايات المتحدة.
  • تكريس اتفاق مشاكوس واتفاق نيفاشا هذا الوضع الانفصالي على طول الفترة الانتقالية حيث الشمال يحكم بموجب دستور إسلامي وله مؤسسات الحكم الخاصة به وله جيشه الذي يتعين عليه سحب ما تبقى من قواته في الجنوب، وفي ذات الوقت فإن الجنوب له دستوره العلماني وله مؤسسات الحكم الخاصة به التي تتولاها الحركة الشعبية، وله جيشه الذي يتعين عليه سحب ما تبقى من فلوله في شرق وغرب البلاد.
  • يضاف إلى ما تقدم أن هذين الاتفاقين السابقين يعطيان للجنوب قدرا من السيطرة على مقدرات الشمال، ذلك أن الفصائل المتمردة في جبال النوبة في الغرب وجنوب النيل الأزرق في الشرق قد فوضت الحركة الشعبية في التفاوض بشأن قضيتها مع الشمال رغبة في الحصول على نفس مكاسب الحركة في الجنوب.
  • ثم إن ما يدور حاليا من مفاوضات حول اقتسام السلطة والثروة يتجه نحو تخصيص نسبة معينة ما بين 25% و30% للجنوب في المناصب العليا في الشمال (وزراء وسفراء وكبار موظفي الخدمة المدنية… إلخ)، فضلا عن تولي قرنق منصب نائب رئيس السودان وما يدور من أحاديث حول تمتعه بحق الفيتو على قرارات الرئيس المتعلقة بالجنوب، وتخصيص نسبة معينة قد تصل نفس النسبة السابقة من موارد الدولة (المركزية).

ولا يجدي في هذا المقام ما ورد في اتفاق نيفاشا الأمني (25 سبتمبر/ أيلول 2003) بتكوين وحدات مشتركة موحدة من أعداد متساوية من القوات المسلحة السودانية والجيش الشعبي لتحرير السودان خلال الفترة الانتقالية بحيث تكون نواة الجيش السوداني لما بعد الاستفتاء في حال تأكيد نتيجة الاستفتاء لخيار الوحدة، وإلا فتحل هذه القوات وتلتحق بقواتها المعنية.

إن خيار الانفصال -في ما لو تم- ستكون له آثار سيئة على المصالح الإستراتيجية المصرية ولكن ليس بالصورة الخطيرة التي يروجها البعض، ذلك أن النيل الأزرق الذي يزود مصر بنحو 82% من احتياجاتها المائية لا يمر بجنوب السودان وبالتالي سيظل بعيدا عن التحكم في تدفقاته، وحتى النيل الأبيض الذي يمر بجنوب السودان ويزود مصر بالنسبة المتبقية يصعب بحال إقامة منشآت فيه تمنع تدفق مياهه إلى شمال السودان ومصر وإلا فسيغرق الجنوب كلية، إضافة إلى انتشار المستنقعات الضخمة فيه.

غير أن انفصال الجنوب لا يعني بحال عدم الإضرار بالمصالح الإستراتيجية لمصر في السودان وأفريقيا، ذلك أنه لا يعني انتهاء حالة الصراع بين الدولة الجنوبية "الأفريقية" والدولة الشمالية "العربية" بشكل يدفع الدول العربية وعلى رأسها مصر إلى مساندة الشمال والدول الأفريقية إلى مساندة الجنوب بشكل يؤدي إلى تدهور العلاقات المصرية مع دول حوض النيل، ويقوض أي إمكانية للتعاون المائي المشترك. وعلى أي حال فإن خيار الانفصال يبدو صعبا للأسباب التالية:

  • أن جنوب السودان لا يتمتع بالجدارة الاجتماعية، ذلك أن طبيعة الصراعات فيه بين الدينكا في جانب والنوير والشلك في جانب آخر تبدو أعقد كثيرا من الصراع بين الشمال والجنوب، وبهذا فإن انفصاله قد يؤدي إلى اندلاع صراع اجتماعي ممتد فيه يشيع حالة الفوضى والاضطراب في منطقة حوض النيل ككل.
  • إن دول الجوار الجغرافي لجنوب السودان لن تسلم بانفصاله واستقلاله لأنها كلها تعاني نفس المشكلة ومن شأن قيام دولة جنوبية معترف بها أن يمكن من امتداد هذا الوضع -بمنطق العدوى- إلى كل دول الجوار، حيث تسعى الجماعات المعارضة هي أيضا إلى الانفصال.
  • إن الشرعية الأفريقية وعلى نحو ما ورد في القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي ترفض عملية الانفصال مخافة تمزيق أوصال معظم الدول الأفريقية، حيث ينص هذا القانون على الحفاظ على الحدود التي ورثتها الدول الأفريقية ساعة الاستقلال.
  • ثم إنه لا يتصور بحال أن تقبل الولايات المتحدة بانفصال جنوب السودان لأسباب عدة نذكر منها:
    أن الإدارة الأميركية منذ عهد كلينتون وضعت السودان ضمن ما أسمته القرن الأفريقي الكبير، وهي بهذا تريد أن تنتزعه كلية من الحظيرة العربية.
    – أنه ليس من مصلحة الشركات البترولية الكبرى وعلى رأسها الشركات الأميركية تقسيم السودان بالنظر إلى اكتشاف النفط في الشمال بكميات واعدة، وامتداد حقول النفط بين الجنوب والشمال بشكل يؤدي للانفصال معه إلى عرقلة نشاط هذه الشركات من جهة وسيادة حالة عدم الاستقرار من جهة أخرى.
    – أن انفصال جنوب السودان وتشجيع دول الجوار الأفريقي له قد يؤدي إلى زيادة الصراع بين الدولة الجنوبية والدولة الشمالية ويضع على الأخيرة ضغوطا قد تدفعها للوحدة مع مصر. وليس من شك في أن وضعا كهذا لن يخدم المخطط الصهيوني الأميركي الذي يستهدف إضعاف مصر، بل وربما تمزيقها بحسبان كونها ركيزة لأي توجه وتجمع عربي.


سأصل إلى الخرطوم على قرع الطبول مثلما فعل أخي يوري موسيفيني عندما دخل كمبالا على قرع الطبول

قرنق في بداية التسعينيات

دولة ذات هوية أفريقية
وهذا هو البديل الأسوأ الذي يشكل خطرا جسيما على المصالح الإستراتيجية المصرية، ويبدو أن هذا هو الخيار الذي تتجه إليه السودان وتنصرف إليه إستراتيجية جون قرنق ويلقى ترحيبا من دول جوار جنوب السودان وتأييدا من قبل الإدارة الأميركية، يدلنا على ذلك أن قرنق كثيرا ما أعلن هذا البديل تحت مسمى "السودان العلماني الموحد الجديد"، وكثيرا ما أعلن عداءه للعرب في السودان ووصفهم "بالجلابة"، مشيرا إلى أن نسبتهم لا تتجاوز 31% من الشعب السوداني.

ثم إنه استطاع أن يمد نفوذه إلى شرق السودان (جنوب النيل الأزرق) وغرب السودان (جبال النوبة)، وها هو لم يحصل في الفترة الانتقالية على حق السيادة على الجنوب فقط، وإنما باتت له يد طولى في أمور الشمال. فإذا ما أضفنا إلى ذلك وجود ما بين مليون إلى مليوني جنوبي يعيشون في معسكرات حول الخرطوم معظمهم من الشباب، لأدركنا مدى صدق مقولة قرنق في بداية التسعينيات "سأصل إلى الخرطوم على قرع الطبول مثلما فعل أخي يوري موسيفيني عندما دخل كمبالا على قرع الطبول".
_______________
أستاذ العلوم السياسية – جامعة القاهرة

المصدر : الجزيرة