الانتخابات‮ ‬الإسرائيلية‮ ‬والعملية السلمية


undefinedبقلم د. مروان بشارة *

يبدو من استطلاعات الرأي الإسرائيلية عشية الانتخابات المباشرة لرئاسة الوزراء أن فرص مرشح اليمين أرييل شارون للفوز أفضل بكثير من إيهود باراك بعد أن فقد الأخير "سحره السياسي" الذي مكنه قبل سنتين من الفوز على مرشح اليمين آنذاك بنيامين نتنياهو بفارق عشر نقاط. وإذ تعددت الاجتهادات حول سبب فشل باراك وتراجع شعبيته سواء على مستوى الأسلوب أو الأيدولوجيا، فإنه مما لا شك فيه أن عدم تمكنه من التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين أو السوريين كما سبق ووعد أثناء حملته الانتخابية الماضية هو السبب الأهم وراء خيبة أمل هؤلاء الإسرائيليين الذين صوتوا له في الانتخابات الماضية. ونتيجة لمحاولات اليمين الإطاحة بحكومة باراك بسبب الشلل والاستقطاب الكامل داخل البرلمان/الكنيست الإسرائيلي الذي تميل غالبية الأحزاب الممثلة فيه إلى اليمين، إضافة إلى انفجار انتفاضة الأقصى ردا على ألاعيب باراك الدبلوماسية وعلى الفراغ السياسي الذي تركته سياسته المتقلبة، فقد انقلب السحر على الساحر وانكشفت أوراق باراك، ولجأ الجنرال إيهود أول ما لجأ إلى استعمال الدبابات والمروحيات ضد المدنيين مهددا باندلاع حرب إقليمية إن لم يستجب الفلسطينيون لشروطه، فأخطأ مثل الذين سبقوه في حزب العمل، واعتبر أن استعمال القوة المفرطة سيرفع من شعبيته، إلا أن غريزة الإسرائيليين السياسية تقول إذا كان لا بد من استمرار الاحتلال واستعمال القوة واللجوء إلى منطق الحرب فإن ذلك من اختصاص اليمين الذي أثبت أنه أكثر دموية وبذلك أنجع من "اليسار".‬‮ ‬

بهذا المعنى لا فارق حقيقيا بين الجنرالين الدمويين إلا بقدر ما يتميزان ضمن المفاهيم السياسية الإسرائيلية وبقدر ما تتناقض مواقفهما أو أساليبهما عند الإسرائيليين. بكلمات أخرى فإن أهمية الانتخابات تتمحور حول تعريف وقراءة الإسرائيليين أنفسهم لمواقف أو برامج المرشحين، القراءة الأولى تقول إن باراك ينوي سحب الجنود الإسرائيليين من الضفة الغربية وهي مجازفة لا بد منها لعملية الفصل عن الفلسطينيين وضم 80% من المستوطنين، والثانية تعتبر أن شارون سيحارب من أجل الحفاظ على وحدة أراضي إسرائيل الكبرى وعلى دور الجيش الإسرائيلي فيها وفي "الدفاع" عن إسرائيل من المشاغبين الفلسطينيين. بهذا المعنى لا تتمحور الانتخابات في ذهن الإسرائيليين حول القبول بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني والاعتراف بالسيادة الفلسطينية الكاملة على الأراضي المحتلة سنة 67 والاعتراف بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، بل حول أفضل السبل للحفاظ على الهيمنة الإسرائيلية على الفلسطينيين وفلسطين. ومن هنا فإن الانتخابات لا تطرح بديلا جديدا للفلسطينيين بقدر ما تعكس البدائل المحدودة التي وضعها المرشحان أمام الإسرائيليين بخصوص مستقبل العلاقة مع الفلسطينيين. 

باختصار باراك يريد تحويل الاحتلال إلى هيمنة ووضع حد للاندماج الديمغرافي بين اليهود والعرب عن طريق عملية الفصل القسري، بينما يرى شارون أنه لا بد من الحفاظ على مستوى معين من العنف والاحتلال لأنه لا يمكن الثقة بالعرب وبذلك فإن السلام ليس خيارا مطروحا على إسرائيل. وعمليا فإن غالبية الأحزاب الدينية تؤيد موقف شارون اليوم إضافة إلى حزبي اليهود الروس "يسرائيل بعاليه" بقيادة اليميني الوسطي أناتولي شيرانسكي و"يسرائيل بيتنو" بقيادة اليميني المتطرف ليبرمان. ومؤيدو حزبي "التغيير/شينوي" بقيادة تومي لبيد  و"الوسط" بقيادة الجنرال‮ ‬موردخاي‮ ‬انقسموا‮ ‬بين‮ ‬شارون‮ ‬وباراك‭.‬‮  ‬وحزب‮ ‬الوسط‮ ‬عمليا‮ ‬انتهي‮ ‬كحزب‮ ‬بعد‮ ‬أن‮ ‬انضم‮ ‬الجنرال‮ ‬شاحاك‮ ‬لباراك‮ ‬وانضم‮ ‬دان‮ ‬مريدور‮ ‬لحملة‮ ‬شارون‮ ‬وعلى‮ ‬ما‮ ‬يبدو‮ ‬فهو‮ ‬المرشح‮ ‬ليكون‮ ‬وزير‮ ‬خارجية‮ ‬في‮ ‬حكومته.‬‮   ‬

على المستوى الشعبي سيدل اختيار الإسرائيليين لباراك على أنهم مستعدون للمجازفة المحسوبة وتعميق عملية الفصل "الديمغرافي" أو الجغرافي عن الفلسطينيين على اعتبار أن الاحتلال لم يعد مربحا أو مريحا كما كان الحال في لبنان، وأنهم بعد أن خرجوا من صدمة الجولة الأولى للمفاوضات النهائية أصبحوا منفتحين اليوم على فتح ملف حقوق الفلسطينيين التاريخية ولسماع المزيد عن حقوق الفلسطينيين بغض النظر عن موافقتهم عليها أو عدمها. وأما انتخاب شارون فسيدل على أن الإسرائيليين ليسوا جاهزين بعد لفتح ملف الاحتلال أو لسماع الموقف الفلسطيني حول ماهية السلام ومتطلباته التاريخية والسياسية، وأن إسرائيل الكولونيالية ماضية في تطرفها وانغلاقها وأنها عاجزة أو بالأحرى رافضة  لإعادة النظر في احتلالها وعنصريتها، وهذا سيكون له تفاعلات هامة على الصعيد الإسرائيلي الاجتماعي والسياسي‮ ‬الداخلي،‮ ‬إذ‮ ‬أنه‮ ‬سيفتتح‮ ‬مرحلة‮ ‬خطرة‮ ‬تقودها‮ ‬الشعبوية‮ ‬اليمنية‮ ‬والأصولية‮ ‬الدينية‮ ‬الشعبية،‮ ‬وهذا‮ ‬سيكون‮ ‬له‮ ‬نتائج‮ ‬في‮ ‬منتهى‮ ‬الخطورة‮ ‬على‮  ‬مستقبل‮ ‬وهوية‮ ‬الدولة‮ ‬الإسرائيلية.‬‮  ‬

لكن وبغض النظر عما ستتمخض عنه الانتخابات الإسرائيلية،  لا بد من التذكير ببعض الأسس والمفاهيم السياسية التي تعرف طبيعة العلاقات الإسرائيلية الإقليمية التي لا تخضع للمنطق الانتخابي الإسرائيلي.

أولا: لم تعد الحرب خيارا حقيقيا لأحد لا لإسرائيل ولا للعرب، وهي بالتأكيد ليست خيارا فلسطينيا. و‘ذا اندلعت الحرب فستكون لأسباب إسرائيلية داخلية بحتة وهذه ستثبت خطأها وعدم جدواها بسرعة فائقة، لأن منطق القوة الإسرائيلي قد فقد معناه ومفعوله منذ اجتياح لبنان، خاصة وأن إسرائيل لن تكون قادرة على احتلال المزيد من الأراضي أو إعادة هضم الأراضي التي احتلتها.

ثانيا: السلام لا بد وأن يكون مبنيا على العدل، ولا سلام بدون عدالة نسبية وبدون طرح جميع المواضيع الهامة والحساسة على جدول الأعمال على قاعدة الشرعية الدولية. وإن السلام المبني على موازين القوى ليس أكثر من وقف إطلاق نار، وإنه لن يدوم في منطقتنا، وعلى هذا الأساس أثبتت العملية السلمية عدم جدواها وأنها ليست إلا مضيعة للوقت، في حين أنها عمقت من الاحتلال وزادت من وتيرة الاستيطان ورفعت البطالة وخفضت مستوى المعيشة المتدني أصلا، كما أنها مزقت النسيج الاجتماعي والوطني الفلسطيني بسبب سياسة‮ ‬الفصل‮ "‬الباندوستان‮" ‬وتقطيع‮ ‬أوصال‮ ‬الوطن‮ ‬بالطرق‮ ‬الالتفافية‮ ‬وتعطيل‮ ‬التواصل‮ ‬الجغرافي‮ ‬بين‮ ‬المدن‮ ‬وقرى‮ ‬الوطن‮ ‬الفلسطيني‮ ‬الواحد‭.‬

ثالثا: السلم الإقليمي غير ممكن ضمن الخطوط الحمراء الإسرائيلية والتي مازال عليها شبه إجماع وطني إسرائيلي، ولا بد لإسرائيل أن تتخلى عن منطقها العنصري والكولونيالي من أجل التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين والعرب. وأما "سلام الخطوات" والمراحل فقد ولى زمنه، وكان لا بد من قرار إسرائيلي وقيادة إسرائيلية قادرة على أن تصنع السلام بدون أن تبطش بالفلسطينيين. وهنا لا بد من التأكيد أن انتهاء مرحلة أوسلو يعني أولا وآخرا أن الترتيبات والاتفاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين لم تعد ترتيبات إسرائيلية فلسطينية داخلية تتبناها وترعاها الولايات المتحدة، وإنما ترتيبات دولية تتحكم بها الشرعية الدولية. الانتخابات الفلسطينية القادمة للمجلس التشريعي لا يمكن أن تسير بحسب الشروط الإسرائيلية وكأنها انتخابات بلدية إسرائيلية وفي ظل استمرار الاستيطان الإسرائيلي.

رابعا: لا بد من رجل دولة إسرائيلي بديل عن هؤلاء الجنرالات الذين ينظرون إلى تحديات إسرائيل السياسية والحضارية من زاوية عسكرية ويطرحون حلولا عسكرية لمشاكل إسرائيل السياسية. ولكن إسرائيل على ما يبدو ليست جاهزة، وليس مطروحاً أو مفروضاً عليها اختيار قائد جديد على منحى شارل ديغول الذي أنهى الاحتلال الفرنسي للجزائر أو فرز شخصية من نوع "دبليو دوكليرك" إسرائيلي ينهي حالة الأبرتهايد المتعمقة في الفكر الصهيوني وفي ممارسات إسرائيل في فلسطين التاريخية. ومن هنا جاء القرار الوطني للقيادة الشجاعة لحزب التجمع الوطني الديمقراطي‮ (‬داخل‮ ‬إسرائيل‮) ‬ليمهد‮ ‬لمقاطعة‮ ‬شعبية ‬عربية‮ ‬للانتخابات، ‬خاصة‮ ‬بعد‮ ‬أن‮ ‬عانى‮ ‬الفلسطينيون‮ ‬في‮ ‬إسرائيل‮ ‬من‮ ‬قوات‮ ‬الأمن‮ ‬التي‮ ‬أطلقها‮ ‬باراك‮ ‬لتحصد‮ ‬ثلاثة‮ ‬عشر‮ ‬شهيدا‮ ‬منهم ‬وتجرح‮ ‬المئات‭.‬

التهويل‮ ‬بخطر‮ ‬شارون
بلا شك سجل شارون العسكري والسياسي ليس أقل دموية من باراك، بل هو أكثر عنفا وتطرفا. ولكن التهويل بالخطر الذي يعنيه انتخاب شارون رئيسا للوزراء إلى حد الفزع والذعر سينقلب على الذين يحاولون الترويج لباراك بين الغربيين والعرب. وإذ أن العرب يعبرون عن إفلاسهم حين يطلقون تأييدهم لباراك وكأن خياراتهم قد انحسرت في الساحة الانتخابية الإسرائيلية، تماما كما حدث سنة 1999 حين أيدوا باراك بحماسة وبرهن لهم بعد انتخابه أنه أسوأ من نتنياهو، إلا أنهم لم يتعلموا. وأما الغربيون ممن يهولون اليوم من خطر شارون فسيقفون في الطليعة غدا لتنظيفه وبعد أن يقوم في حال انتخابه ببعض الخطوات المهدئة مثل سحب بعض المستوطنين في المناطق المتوترة مثل نتساريم في قلب غزة أو من كفار داروم وغيرها من مناطق التماس الكامل مع الفلسطينيين والتي لا يزيد عدد المستوطنين فيها عن بضع مئات. ولنتذكر أن شارون هو الذي أفرغ مستوطنة "يميت" من سيناء بعد اتفاق كامب ديفد.  وبهذا المعنى فإن تدني التوقعات من شارون بل والتخويف منه بهذا التهويل سيعني أنه حالما سيقوم بتغييرات صورية وتفصيلية سيطالبنا هؤلاء الغربيون بأن نعطيه فرصة، تماما كما طالبونا بإعطاء نتنياهو فرصة سنة 1996، ‮‬وسنرجع‮ ‬مرة‮ ‬أخرى‮ ‬إلى‮ ‬الوراء‮ ‬وستقدم‮ ‬عملية‮ ‬مصافحة‮ ‬شارون‮ ‬لعرفات‮ ‬وكأنها‮ ‬إنجاز‮ ‬تاريخي،‮ ‬وسيقال‮ ‬إن‮ ‬مصافحة‮ ‬الدموي‮ ‬الإسرائيلي‮ ‬مع‮ ‬الرئيس‮ ‬الفلسطيني‮ ‬تشكل‮ ‬خطوة‮ ‬هامة‮ ‬على‮ ‬صعيد‮ ‬المصالحة‮ ‬التاريخية‮!! ‬

يبقى أن الفارق السياسي الأهم بين باراك وشارون هو أن الأول متعجرف إلى درجة كبيرة ويعتبر أن بإمكانه التوصل إلى سلام شامل ودائم مع الفلسطينيين ضمن الخطوط الحمراء الإسرائيلية، وأما شارون فهو على درجة من العنصرية والكراهية للعرب تجعله ينفر من فكرة الحل النهائي باعتبار أنه لا حل ممكنا معهم ومقبولا من قبل الطرفين، وبذلك لا بد من التحضير لنوع من حرب الاستنزاف والتي يمكن أن ترى فترات من الهدوء النسبي إذا أمكن التوصل إلى المزيد من الاتفاقات المرحلية، وهذا بالذات ما سيعرضه شارون على الفلسطينيين، المزيد من المرحلية المشروطة بالأداء الأمني، والتعامل مع عرفات على أنه "سعد حداد" وإلا العداء والحصار. وسيحظى شارون بدعم الأحزاب اليمينية والدينية والوسطية التي ستؤيد عدم تخليه عن القدس والمستوطنات أو عن "أرض إسرائيل" أو "يهودا والسامرة" الضفة الغربية. وفي حال تمكنه من لجم الفلسطينيين‮ ‬بدون‮ ‬ثمن‮ ‬باهظ‮ ‬لإسرائيل‮ ‬فستعلو‮ ‬شعبيته‮ ‬بين‮ ‬الإسرائيليين‭.‬

والسؤال هل سيضغط الغرب والعرب على الفلسطينيين للقبول بالأمر الواقع الإسرائيلي بعد الانتخابات، أم أن العرب سيفرضون على إسرائيل إنتاج قيادة بديلة عبر عملية مقاطعة ومحاصرة دولية ومحلية؟!

إذا فاز باراك ونجح في عملية الفصل الديمغرافي فإن على الفلسطينيين تحويلها إلى فصل قانوني وسيادي، وهذا سيتطلب وحدة وطنية واستراتيجية دولية معقدة. وأما إذا فاز شارون فإن سياسته ستؤدي لا محالة إلى حالة من الأبرتهايد المستعصية، وكلما طال أجلها كلما تحول الصراع الفلسطيني من صراع على الدولة المستقلة إلى صراع على الدولة ثنائية‮ ‬القومية‭.‬

بيت جالا ورام الله والقدس والخليل ونابلس وغيرها من المدن والقرى لا تميز بين سياسة اليمين وسياسة باراك. الأخير لا يجرؤ على إعادة احتلالها ولكنه يضربها بالطيران والمدافع، والثاني يهدد باحتلال بعض منها إذا ما تطلب الأمر. إذا كان الخيار بين باراك وشارون فلا بد‮ ‬من‮ ‬البحث‮ ‬عن‮ ‬طريق‮ ‬ثالث‮ ‬في ‬اليوم‮ ‬التالي‮ ‬للانتخابات.
ـــــــــــ
* أكاديمي فلسطيني متخصص في الشؤون الإسرائيلية‬‮.

المصدر : غير معروف