التعددية المذهبية بين التعايش القانوني والتقريب الديني

 
 

محمد محفوظ

"علماء المسلمين يدركون بعمق وهم يسعون للتقريب بين المذاهب أن المذهب في الإسلام لم يكن في نشأته الأولى مظهرا لانقسام المسلمين وتوزعهم, وإنما كان تعبيرا عن حيوية عقلية وعملية أدت إلى تشعب الآراء ونشوء التيارات المنهجية في استنباط الأحكام الشرعية ودلالات النصوص على النحو الذي أغنى الإسلام عقيدة وشريعة وأتاح للمسلمين أن يمارسوا أعمق أشكال الحوار المستند إلى المنطق والعلم، فسجلوا في تاريخ الفكر الإنساني وتطوره مأثرة الاستماع للرأي الآخر واحترامه".

السيد محمد حسن الأمين في كتاب الاجتماع العربي الإسلامي، مراجعات في التعددية والنهضة والتنوير.

لذلك فإن احترام هذا التعدد المذهبي يعني حماية نتاج الحوار والبحث المضني المتواصل عن الحقيقة، وحماية التعدد المذهبي في الدائرة الوطنية, وحماية القيم والمبادئ التي أنتجت ثراء فقهيا وفكريا وعلميا في التجربة التاريخية الإسلامية.

وهذا بطبيعة الحال، يقتضي انفتاح المذاهب الإسلامية بعضها على بعض في مختلف المستويات, وإزالة كل الحواجز والعوامل التي تحول دون التواصل الفعال بين مختلف المدارس الفقهية والمذهبية.

تقارب أم تعارف
الطائفية نقيض التعايش
التعددية المذهبية والحماية القانونية

تقارب أم تعارف

إن مقولة التقريب من المقولات التي تجاوزها الزمن، لأنه على الصعيد الفكري والعملي تبلورت خيارات ومفاهيم أخذت كل إيجابيات مقولة التقريب.

"
التعارف مقولة قرآنية وهي كمفهوم ثقافي وممارسة اجتماعية من المقولات والمفاهيم التي تحتضن مضامين عقدية وفكرية واجتماعية أرقى من مقولة التقريب
"

فالتقريب كوعاء نظري أضحى لا يفي بحاجات ومتطلبات واقع التعددية المذهبية في المجالين العربي والإسلامي، فالتعددية المذهبية حقيقة قائمة في الكثير من الدول والبلدان العربية والإسلامية، ولا يمكن التغافل عن هذه الحقيقة أو متوالياتها ومتطلباتها، ونحن بحاجة إلى نظام اجتماعي ثقافي سياسي، يحمي هذه الحقيقة ويحترم خصوصياتها، ويوفر للجميع على حد سواء الحماية والحرية.

ولهذا فالمقولة التي يمكن طرحها على الصعيد الثقافي والاجتماعي بديلا عن مقولة التقريب هي مقولة التعارف.

فالتعارف كمفهوم ثقافي وممارسة اجتماعية من المقولات والمفاهيم التي تحتضن مضامين عقدية وفكرية واجتماعية أرقى من مقولة التقريب.

وهي من المقولات القرآنية التي تحمل مدلولات ومضامين واسعة على صعيد تشكيل العلاقة الإيجابية بين مختلف المكونات المذهبية في الأمة، وهذه المقولة (التعارف) على صعيد العلاقة المذهبية تعني:

  1. توفر الاستعداد النفسي والاجتماعي والأخلاقي لبناء علاقة تعارف متواصلة مع الآخرين، وتفسح المجال لبناء علاقة سوية وسليمة بين جميع الأطراف والمكونات.
  2. الاعتراف بالآخر، حيث إنه لا يمكن أن تنطلق في مشروع التعارف مع الآخرين دون الاعتراف بوجودهم وآرائهم وأفكارهم، وهذا الاعتراف هو الذي يقود إلى مشروع التعارف على أسس واضحة ومثمرة.
  3. التعارف في مضمونه وآفاقه ينطوي على دعوة عميقة وجوهرية لمعرفة الآخر من خلال استكشافه وولوج منظوماته وقراءته كما هو، بعيدا عن الذاتية التي تسقط على هذا الآخر عصبيتها الاجتماعية والفكرية. وهذا يقتضي الحوار المتواصل والمستديم بين جميع الأطراف والمكونات، حتى يتسنى للجميع المعرفة المتبادلة واكتشاف الآخر بعيدا عن المسبقات والقناعات الجاهزة.

فالتعددية المذهبية في مجتمعنا وأوطاننا ليست عيبا يجب إخفاؤه ولا عبئا ينبغي التخلص منه، وإنما هي حقيقة تاريخية واجتماعية ينبغي التعامل معها بحكمة وروية وبعد نظر، حتى ترتفع كل العناصر السيئة التي تشوب العلاقة بين المكونات المذهبية في المجالين العربي والإسلامي.. ومقولة التعارف هي أولى الخطوات في مشروع صياغة العلاقة الإيجابية بين أهل المذاهب الإسلامية.

الطائفية نقيض التعايش

وبأي حال من الأحوال لا يشرع التعدد المذهبي أن نمارس الطائفية بعضنا ضد بعض, بحيث إذا كان أحد منتميا لمذهب من هو بالسلطة فإن أبواب الوظائف والمناصب تفتح له، وإذا كان منتميا لمذهب مخالف فإن الكثير من الدوائر تغلق في وجهه.

"
التعايش لا ينجز بدحر التعدد المذهبي بل بالوقوف بحزم ضد التمييز الطائفي، وبتوفير الفضاء السياسي والحضاري المناسب, لكي يمارس هذا التعدد دوره في بناء الوطن وتعزيز جبهته الداخلية
"

لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع إعادة صوغ العلاقة بين أهل المذاهب الإسلامية في الفضاء الوطني هي رفض الطائفية بكل مسوغاتها وتبريراتها, التي هي في المحصلة النهائية تسهم في تمزيق المجتمع وتفتيت الوطن.

فبدون محاربة الطائفية ونقد أسسها الثقافية والسياسية ومرتكزاتها العقدية والفكرية لن نتمكن من بناء العلاقة بين مكونات الوطن المذهبية والسياسية على أسس العدالة والاعتراف والاحترام المتبادلين.

والتمييز لا يضر فقط الطرف الموجه ضده بل يضر وحدة الوطن والمواطنين ويزيد من فرص الاحتراب الداخلي.

فالتعايش لا ينجز بدحر التعدد المذهبي بل بالوقوف بحزم ضد التمييز الطائفي، وبتوفير الفضاء السياسي والحضاري المناسب, لكي يمارس هذا التعدد دوره في بناء الوطن وتعزيز جبهته الداخلية ومنها الالتزام بالآتي:

  1. الاعتراف القانوني والسياسي بالمذاهب الإسلامية المتوفرة في الوطن, وإعطاؤها المجال والفرصة لكي تمارس بحرية كل أعمالها وأنشطتها الثقافية والدينية والاجتماعية.
  2.  سن القوانين التي تجرم وتعاقب كل مواطن يمارس التمييز الطائفي، فلا يمكننا أن ننهي التمييز الطائفي من فضائنا الاجتماعي والوطني إلا بوجود منظومة قانونية متكاملة, تتعامل مع كل أشكال التمييز الطائفي باعتبارها جرما يعاقب عليه القانون.
  3. تنقية المناهج التعليمية والتربوية والمنابر الإعلامية من كل العناصر والقضايا التي تبث الكراهية الدينية والمذهبية، فلا يمكن إنهاء المشكلة الطائفية إلا بإنهاء المصادر الثقافية والإعلامية التي تغذيها وتمدها بالأسباب والمبررات. ومن ذلك تنقية المناهج الدراسية من المفردات التي تطعن في المذاهب الإسلامية الأخرى أو تطعن في عقائدها ورموزها التاريخية.
  4. بناء ثقافة وطنية جديدة قوامها الوحدة واحترام التعدد والتنوع بكل مستوياته وصيانة حقوق الإنسان، إذ لا يمكن إنهاء المشكل الطائفي دون إرساء ثقافة اجتماعية ووطنية جديدة تعيد الاعتبار للوحدة على أساس احترام التنوع, وتتعامل مع تعدد الاجتهادات الفقهية والفكرية باعتبارها من الحقائق التي تثري المجتمع والوطن.  

التعددية المذهبية والحماية القانونية

لعلنا لا نحتاج لكلام كثير لإثبات أن العلاقة القائمة بين مكونات الأمة المذهبية علاقة مليئة بالكثير من الصعوبات والمشاكل والالتباس والهواجس المتبادلة.

"
يجب أن نكون مع الاعتراف التام القانوني والسياسي بالتعددية المذهبية، وفي الوقت نفسه ضد كل السياسات الطائفية التي تحول حقيقة التعدد من نعمة إلى نقمة، ومن عامل إثراء إلى مدخل للصراعات الطاحنة
"

وإزالة هذه العناصر السلبية لا يمكن أن يتم فقط بالخطاب الثقافي العام، الذي يؤكد على الوحدة وضرورتها وأهمية أن تستعيد الأمة الإسلامية وحدتها وتضامنها، وإنما نحن بحاجة إلى منظومة قانونية متكاملة، تحمي حقيقة التعددية المذهبية وكل متوالياتها ومتطلباتها.

وغياب الأطر والإجراءات القانونية التي تحمي التعددية المذهبية، يؤدي في أحد أبعاده إلى دخول المواد السامة وعناصر التوتر في العلاقات المذهبية الإسلامية.

كما لا يمكن ضبط نزعات التوتر المذهبي دون المنظومة القانونية الحامية والرادعة في آن، لأن الاختلافات المذهبية بكل متوالياتها ليست مدعاة أو سببا لسلب الحقوق أو نقصانها، فكما أن للإنسان حق الاختلاف مع أخيه الإنسان، فله في الوقت نفسه حق ممارسة حقوقه بعيدا عن السلب أو التمييز.

والدولة هنا تتحمل مسؤولية قانونية وأخلاقية لإيجاد البيئة المناسبة للتعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع والوطن، وبالتالي سيقودنا التعدد المذهبي نحو بناء وطني جديد على أسس لا تحارب التعدد ومقتضياته، ولا ترذل التنوع وحاجاته، بل تتعامل بوعي وحكمة مع هذه التعددية. 

لذلك يجب أن نكون مع الاعتراف التام القانوني والسياسي بالتعددية المذهبية وفي الوقت نفسه ضد كل السياسات الطائفية التي تحول حقيقة التعدد من نعمة إلى نقمة، ومن عامل إثراء للسياسة والثقافة والاجتماع إلى مدخل للصراعات الطاحنة التي تدمر كل المكاسب والمنجزات.

وبهذا يكون الآخر المذهبي ليس مشروعا للنفي والإقصاء المتبادل، وإنما هو مجال مفتوح وحيوي للتعارف والتفاعل والاغتناء.
______________
كاتب سعودي شيعي 

المصدر : الجزيرة