العنف العرقي والديني في إندونيسيا


undefined

أ. د. جابر سعيد عوض*

أولاً: التكوين العرقي والديني في إندونيسيا
    تعدد لغوي
    التركيبة الدينية
    تباين ثقافي
    افتراق جغرافي

ثانيا: النموذج الإندونيسي وتطبيق فكرة "الوحدة في إطار التنوع
    مبادئ البنكسيلا
    سوهارتو وبديل العمل الإسلامي

ثالثا: الحركات الانفصالية والنزاعات العرقية والدينية في إندونيسيا
    أسباب نشوء الحركات الإنفصالية
    1- سياسات التهجير والتعديل السكاني
    2- الحرمان النسبي والإحساس بالإهمال من جانب السلطة المركزية
    3- استمرار تدني الأوضاع الاقتصادية والأزمة المالية

رابعا: العنف العرقي والديني في إندونيسيا: رؤية مستقبلية


undefinedيعالج هذا التقرير العنف العرقي والديني في إندونيسيا باعتباره ظاهرة -شأنها شأن جميع الظواهر الاجتماعية الأخرى- لها أسبابها كما أن لها نتائجها، فضلا عن مظاهرها التي تحدد مضمونها ومحتواها. ومن هذا المنطلق تم تقسيمه إلى أربعة أجزاء رئيسية يستعرض أولها الجذور التاريخية للتكوينات العرقية والدينية والثقافية فى إندونيسيا. أما الجزء الثانى فيهدف إلى تحديد أهم الملامح التطبيقية لفكرة "الوحدة فى إطار التنوع" كما عرفتها الخبرة الإندونيسية منذ الاستقلال. ويتناول الجزء الثالث بالدراسة والتحليل الحركات الانفصالية والنزاعات العرقية والدينية في إندونيسيا من حيث الأسباب التي أدت إلى قيامها، والأهداف التي رمت إليها، والوسائل التي اتبعتها لتحقيق هذه الأهداف. أما الجزء الرابع والأخير من التقرير فيحاول استشراف مستقبل الدولة الإندونيسية فى ضوء ما شهدته -ولاتزال- من حركات انفصالية وأعمال عنف عرقي وديني.

أولاً: التكوين العرقي والديني في إندونيسيا


بلغ سكان إندونيسيا سنة 2000 أكثر من 200 مليون نسمة، ومثلت العرقية الجاوية 45% من مجموع السكان، وتقاسمت باقي العرقيات والبالغ عددها أكثر من 300 عرقية بقية العدد

تمثل النشأة التاريخية لإندونيسيا والطبيعة الجغرافية للبلاد ميراثا فريدا يندر أن يتوافر في بلد آخر. فعبر امتداد التاريخ هاجرت جماعات من مختلف شعوب جنوب شرق آسيا بكثافة كبيرة معطية الأرخبيل الإندونيسي توليفة فريدة تضم أكثر من مائة عرق ذات تباين لغوي وديني وثقافي واضح، يشكل الجاويون الذين يقيمون بصفة أساسية في قلب وشرقي جزيرة جاوا أكبر جماعة عرقية في البلاد بنسبة تبلغ نحو 45% من إجمالي سكان إندونيسيا البالغ تعدادهم وفق آخر الإحصاءات نحو 225 مليونا (يوليو/ تموز 2000)، يليهم السندان الذين يقطنون غرب جزيرة جاوة نفسها ويشكلون نحو 14% من إجمالي السكان. وتتضمن أهم الجماعات العرقية الأخرى المادور الذين يقطنون الساحل الشمالي الغربي لجزيرة جاوا، ويمثلون نحو 7.5% من سكان إندونيسيا، وكذلك -وبالنسبة نفسها تقريبا- الملايو الذين ينتشرون فى شتى أرجاء الجزر الإندونيسية على عكس الجماعات العرقية الرئيسية الأخرى. أما النسبة الباقية والتى تقدر بنحو 26% من إجمالي سكان إندونيسيا فتتوزع على عدد كبير من الأعراق التي تقطن الجزر الأخرى. ففي جزيرة سومطرة هناك الباتاق الذين يتركزون حول بحيرة توبا، والميننجاب الذين يقطنون المرتفعات الغربية، ثم الآتشيون في أقصى شمالي الجزيرة، وأخيرا اللامبنج الذين يقطنون المناطق الجنوبية. أما في جزيرة سوليسي، فهناك المنهال الذين يسكنون المناطق الشمالية، والمكاسار الذين يتمركزون حول السواحل الجنوبية للجزيرة، والتورج الذين يقطنون المناطق الداخلية. وتحوي جزيرة كالمنتان العديد من الجماعات العرقية وعلى رأسها الملايو الذين يسكنون المناطق الساحلية، والداياك الذين يتمركزون في المناطق الداخلية. أما سكان جزيرة إيريان جايا فينحدر معظمهم من أصول ميلانيسية، كما هو الحال بالنسبة لبعض سكان الجزر الشرقية الصغيرة. وتجدر الإشارة إلى أن إندونيسيا تضم عدة ملايين ممن ينحدرون من أصول صينية، والذين يتمركزون بصفة أساسية في المناطق الحضرية، فضلا عن أعداد محدودة من الهنود والعرب والأوروبيين المنتشرين على امتداد جزر الأرخبيل الإندونيسي.

تعدد لغوي


تتنوع اللغات واللهجات في إندونيسيا لتصل عددا يقرب من الثلاثمائة وتسعى الحكومة منذ الاستقلال إلى نشر الباجاسا اللغة الرسمية للبلاد

علاوة على هذا التنوع العرقي يتحدث الإندونيسيون نحو ثلاثمائة لغة ولهجة محلية. وتعتبر لغة الباجاسا الإندونيسية -في تميزها عن لغة الباجاسا الماليزية- هي اللغة الرسمية للبلاد والتي يتحدث بها الغالبية العظمى من السكان. ولقد لعب الاستخدام الشائع لهذه اللغة دورا مهما في توحيد البلاد منذ الاستقلال في عام 1949. وقد ترسخت هذه اللغة بالأساس على يد الملايو، وكانت لغة التجار في المناطق الساحلية، وهي تتضمن عناصر ومفردات من اللغات الصينية والهندية والهولندية والإنجليزية. وتستخدم هذه اللغة اليوم في برامج التليفزيون وكبريات الصحف القومية وفي المدارس والجامعات. وإلى جانب لغة الباجاسا هناك لغات أخرى تستخدم على نطاق واسع، إذ يتحدث الكثيرون من الإندونيسيين أكثر من لغة منها على سبيل المثال اللغة الجاوية التي يتحدث بها أكثر من 80 مليون إندونيسي، واللغة الساندانيسية التي يجيدها سكان المناطق الغربية من جزيرة جاوة.

وتنتشر كل من اللغة الآتشية والباتاقية والمينانجكابوية والملاوية في جزيرة سومطرة. ومن بين اللغات التي يتحدث بها سكان جزيرة سلاويسي هناك اللغة المناجاسية والبوجينية والميكاسارية، فضلا عن اللهجات التوراجاوية. ويتحدث سكان جزيرة كالمنتان مختلف اللهجات الملاوية والإبانية ولهجات أخرى. وتسود اللغة الغينية الجديدة بين سكان جزيرة إيريان جايا والأجزاء الشمالية من جزر مالوكو المعروفة بجزر البهار. أما في الجزر الشرقية الصغيرة من الأرخبيل الإندونيسي، فتسود كل من اللغة البالينية، والساساكية، والسومباوية.

التركيبة الدينية


تتنوع أديان إندونيسيا كتنوع لغاتها غير أن الحكومة لا تعترف إلا بأربعة أديان هي: الإسلام دين الأغلبية
(90%) والمسيحية والهندوسية والبوذية


وعلى الرغم من أن نحو 90% من سكان البلاد يعتنقون الإسلام الأمر الذي يجعل من إندونيسيا أكبر دولة إسلامية في العالم، فإن الواقع يبرز تباينا دينيا واضحا بين من يدينون بالإسلام من أبناء البلاد. فالدين الإسلامى فى أكبر تجمع عرقي فى جزيرة جاوة -والتي يقطنها نحو 45% من سكان إندونيسيا- لا يتمتع بنفس قوة الإسلام التقليدي في غيرها من المناطق. إذ يمكن التمييز بين نوعين من المسلمين في إندونيسيا: السانتري والأبنجان. النوع الأول أكثر تمسكاً بتعاليم الإسلام ومعتقداته، أما النوع الثاني فيصعب اعتبارهم من المسلمين سوى بالاسم فقط، وذلك لتداخل التعاليم والمعتقدات الإسلامية عندهم مع كثير من القيم والمعتقدات التي ترجع إلى فترة ما قبل الإسلام والتي نجحت في التكيف معه. غير أن الأمر لا يقف عند حد هذا التباين الديني بين المسلمين في إندونيسيا، إذ يضاف إليه تباين فرعي آخر داخل جماعة المسلمين من السانتري حيث يمكن التمييز بين التقليديين والتحديثيين. فبينما يقطن الصنف الأول المناطق الريفية، ويركز على تعليم الأبناء العلوم الدينية في المدارس الإسلامية، يقطن الصنف الثاني المناطق الحضرية ويرسل أبناءه لتلقي العلم في المدارس العلمانية. وإلى جانب الأغلبية المسلمة تتوزع الأقليات الدينية في إندونيسيا على النحو التالى: 5% من البروتستانت، و3% من الروم الكاثوليك يتركز معظمهم في تيمور الشرقية التي حصلت على استقلالها عن إندونيسيا عام 1999، 2% من الهندوس، 1% من البوذيين ويعتنقها بصفة أساسية العناصر المنحدرة من أصول صينية، وتتوزع نسبة الـ1% الباقية على ديانات أخرى.

تباين ثقافي


هناك فجوة ثقافية في إندونيسيا تبلورت منذ نحو ألفي سنة مضت بين سكان المناطق الساحلية وسكان المناطق الداخلية

يزيد التنوع الثقافي من حدة هذا التباين العرقي واللغوي والديني، فهناك فجوة ثقافية عميقة تبلورت منذ نحو ألفي سنة مضت بين سكان المناطق الساحلية الذين نجحوا فى تطوير الزراعة المروية، خاصة بالنسبة للمحصول الزراعي الرئيسي وهو الأرز، وسكان المناطق الداخلية الأكثر اعتمادا على الزراعة المطرية. ولما كان سكان المناطق الساحلية أكثر عرضة للمؤثرات الخارجية، فقد ازدادت أوضاعهم تغيرا بمرور الوقت، الأمر الذي يمكن معه القول بأن المجتمع الإندونيسي ينقسم من الناحية الثقافية إلى ثلاث جماعات متمايزة، الأولى تقطن السواحل، وتضم السكان المسلمين من السانتري الأكثر تمسكا بتعاليم الإسلام ومعتقداته، والذي تغلب عليهم التوجهات التجارية، وتقطن الجماعة الثانية المناطق الداخلية، وتضم السكان المتأثرين بالمعتقدات الهندوسية، والمشتغلين بالزراعة المروية، أما الجماعة الثالثة فتقطن المناطق الأكثر عمقا نحو الداخل، وبالأخص المناطق الجبلية البعيدة، وتمارس الزراعة المطرية وتؤمن بالمعتقدات الدينية التقليدية.

افتراق جغرافي


أدت الافتراق الجغرافي لإندونيسيا المتكونة من آلاف الجزر إلى زيادة حدة التباين في المجتمع وسهل من بروز التيارات الانفصالية

وأخيرا يأتي العامل الجغرافي ليؤكد ليس فقط على التمايزات العرقية واللغوية والدينية والثقافية على نحو ما سبقت الإشارة إليه، بل ليضيف إليها أكثر من بعد. فهناك من ناحية الطبيعة الجزرية للبلاد، والتي تضم أكثر من ثلاثة آلاف جزيرة تمتد لنحو 5100 كم من الشرق للغرب فى المحيطين الهندي والهادي، وهي مسافة تقرب من 8/1 محيط الكرة الأرضية، ونحو 1900 كم من الشمال إلى الجنوب بمساحة إجمالية تبلغ نحو مليوني كم2. كما أن تباين التضاريس بين مختلف مناطق البلاد ترتب عليه من ناحية أخرى توزيع غير متساو للسكان. ويكفي أن نذكر هنا أن نحو نصف إجمالي سكان إندونيسيا يعيشون في جزيرة واحدة هي جزيرة جاوا، بما يعنيه ذلك من وجود كثافة سكانية كبيرة للغاية في بعض المناطق وخلل سكاني في مناطق أخرى، الأمر الذي حدا بالقيادة السياسية الإندونيسية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين إلى اتباع سياسات تهجير بهدف إحداث تعديل في التوزيع السكاني، وهو ما خلق بدوره إحدى المشاكل المؤرقة في إطار مشكلة الإقليمية بمفهومها الأشمل، ولعب دوراً لا يستهان به في زيادة حدة الحركات الانفصالية والنزاعات العرقية والدينية والطائفية على نحو ما سيرد توضيحه.

ثانيا: النموذج الإندونيسي وتطبيق فكرة "الوحدة في إطار التنوع"

في أعقاب نجاح الحركة الوطنية الإندونيسية عام 1945 في الإعلان عن استقلال إندونيسيا عن الاستعمار الهولندي الذي دام نحو ثلاثة قرون، أجبرت هولندا في مؤتمر لاهيج عام 1949 على الموافقة عليه تحت مسمى الجمهورية الفدرالية للولايات المتحدة الإندونيسية. غير أن القيادة السياسية بزعامة سوكارنو ركزت على هدف استمرار الوحدة السياسية للبلاد، فعمدت عام 1950 إلى إلغاء الفدرالية لتحل محلها دولة إندونيسية موحدة، واجتهدت في لم شمل جميع الأعراق التي تحتويها البلاد بما تتضمنه من تباينات لغوية ودينية وثقافية، وما تضفيه الطبيعة الجغرافية عليها. وفي سبيل ذلك أرسى سوكارنو المبادئ الخمسة التي تضمنها مذهب "البنكسيلا" وهي: الإيمان الكامل بالوحدانية الإلهية، والتعامل الإنساني العادل والمتحضر، ووحدة إندونيسيا، والديمقراطية القائمة على الحكمة والتشاور، وأخيرا مبدأ العدالة الاجتماعية.

مبادئ البنكسيلا
ومن منطلق مبادئ "البنكسيلا" التي أضحت تشكل جوهر الدستور الإندونيسي، والمؤكدة على وحدة الأراضي الإندونيسية في إطار التباينات العرقية واللغوية والدينية والثقافية رفضت الحكومات الإندونيسية المتعاقبة أي حركة انفصالية. فعلى الرغم من أن المسلمين يشكلون الأغلبية العظمى من سكان البلاد، فإن الحكومة عادة ما نظرت بحساسية شديدة لأي اضطرابات دينية من قبلهم. ومن ثم كان اعتراف الدستور الإندونيسي على قدم المساواة بكل من الإسلام، والمسيحية الكاثوليكية أو البروتستانتية، والبوذية، والهندوسية. ومن هنا كان رفض الحكومة الإندونيسية لأي دعوة تهدف إلى تأسيس دولة إسلامية باعتبار أن ذلك يشكل تهديدا مباشرا للوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي للبلاد، فسارعت إلى إخماد الانتفاضات التى اندلعت هنا وهناك على يد الجماعات الإسلامية، كما هو الحال في غربي جزيرة جاوا، وفي آتشه، وكذلك الحركات المعارضة للنظام الجمهوري الموحد، والتي كانت تدعمها هولندا في كل من سومطرة وجزر المالوكو. ساعدها على ذلك التباينات القائمة بين المسلمين أنفسهم من السانتري والأبنجان.

وهكذا اعتبرت "البنكسيلا" السبيل الوحيد لتحقيق الوحدة والحفاظ عليها، خاصة وأن الإيمان بإله واحد يمثل مبدأ مقبولا تماما ليس فقط من قبل المسلمين، بل أيضا من جميع الأقليات الدينية الأخرى، بما يمثله من ضمانة لهم ضد أي محاولة لتبني مبادئ دستورية محددة تجعل من الإسلام دينا رسميا للبلاد.

سوهارتو وبديل العمل الإسلامي


حاول سوهارتو الاستعانة بالعمل الإسلامي المعتدل للحد من زيادة نفوذ المؤسسة العسكرية فأطلق العنان لشخصيات إسلامية بارزة مثل الرئيس السابق يوسف حبيبي


نجحت فلسفة "البنكسيلا" في تحقيق قدر يعتد به من الوحدة بين مختلف الأعراق، وتمكنت من تجاوز الخلافات والنزاعات الدينية. وإن كان ذلك يرجع في الوقت نفسه إلى نجاح المؤسسة العسكرية في إندونيسيا منذ الاستقلال وحتى مطلع التسعينيات من الإمساك بزمام الأمور وضبط إيقاع الحركة السياسية في البلاد في إطار تحالف عسكري بيروقراطي. غير أن الخوف من تنامي نفوذ المؤسسة العسكرية بفضل الدور السياسي والاجتماعي الذي اضطلعت به حدا بالرئيس سوهارتو، الذي فطن إلى خطورة مثل هذا الموقف، إلى البحث عن قوة سياسية يمكنها موازنة الهيمنة العسكرية على الحياة السياسية وتحجيم دورها. وجد سوهارتو ضالته في الحركات الإسلامية، فأطلق لها العنان وأعطاها مزيدا من حرية الحركة، لا سيما الحركات المعتدلة منها. تجسد ذلك في قيام الاتحاد الإسلامي للمفكرين الإسلاميين بقيادة يوسف حبيبي، وزير التكنولوجيا والبحث العلمي آنذاك، والذي نجح عدد كبير من أعضائه في الوصول إلى مراكز وزارية ومناصب عليا في الدولة. فعلى سبيل المثال ضم التشكيل الوزاري عام 1993 ضعف عدد الوزراء المعروفين بانتماءاتهم إلى الجماعات الإسلامية مقارنة بالتشكيل الوزاري السابق عليه. كما رفض سوهارتو تدخل وحدات الجيش لإنهاء المظاهرات الجماهيرية العارمة التي قادتها عناصر إسلامية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1993 وهو ما يشكل سابقة لم تشهد لها البلاد مثيلاً منذ الاستقلال.

ومن الملاحظ بصفة عامة أن للحركات الإسلامية في إندونيسيا طابعا إصلاحيا هادئا في تحقيقها لأهدافها. ويرجع ذلك بالأساس إلى إيمانها بالثقافات التقليدية التي تؤكد على التسامح والعمل الجماعي، الأمر الذي جعلها تقبل التعددية السياسية ولغة الحوار في انتقاداتها للنظام وسياساته دونما لجوء إلى استخدام العنف، وإن استثني من ذلك بعض الحركات الإسلامية الراديكالية، كما هو الحال بالنسبة للحركة الإسلامية في آتشه وفي جزر المولوكو الشرقية، التي تشدد النظام في مواجهتها لما تمثله من حساسية شديدة بالنسبة لقضية الوحدة الوطنية. وفيما عدا ذلك يمكن القول بأن رد فعل الدولة إزاء حركات الإسلام السياسي قد اتسم بطبيعة تكييفية بصفة عامة، وإن لم يحل ذلك دون التزام الحكومات الإندونيسية المتعاقبة بمبدأ الدولة العلمانية ورفضها مطالب العناصر الإسلامية النشطة باعتبار الإسلام الدين الرسمي للبلاد.

خلاصة القول أنه بفضل هذه السياسة القائمة على معارضة أي حركة انفصالية أو هادفة إلى إحداث انقسامات تهدد الوحدة الوطنية تمكن حزب جولكار الحاكم منذ تأسيسه عام 1971 من الحفاظ على تماسك البلاد والحفاظ على وحدتها إلى حد كبير رغم حدة التباينات مستندا في ذلك إلى دعم المؤسسة العسكرية، التي نجح النظام في موازنة قوتها بقوة الحركات الإسلامية التي أمكن له تسييسها جنبا إلى جنب مع تمسكه بفلسفة "البانكاسيلا".

ثالثا: الحركات الانفصالية والنزاعات العرقية والدينية في إندونيسيا


undefined

عرفت إندونيسيا عبر تاريخها المعاصر العديد من الحركات الانفصالية والنزاعات العرقية والدينية التي شملت مناطق تمتد من أقصى شرقي البلاد حيث أرخبيل جزر البهار إلى منطقة آتشه في أقصى غربها. لم يقف الأمر عند حد سقوط الآلاف من القتلى والجرحى، بل بلغ الأمر حد نجاح إحدى هذه الحركات في تحقيق الاستقلال كما هو الحال بالنسبة لإقليم تيمور الشرقية الذي استقل عن إندونيسيا عام 1999 رغم أن تعداد سكانه لا يصل إلى المليون نسمة، وبما قد ينظر إليه من قبل بعض الحركات الانفصالية باعتباره سابقة قابلة للتكرار، وبما قد يخشى معه من انفراط عقد البلاد. وإذا كان من الممكن في نظر البعض إيجاد تفسير للحركة الانفصالية في جزر البهار على سبيل المثال باعتبار أن المسيحيين فيها يشكلون 44% من إجمالي سكانها بخلاف سائر أنحاء البلاد، فكيف يمكن تفسير الحركة الانفصالية في إقليم مثل آتشه ذي الأغلبية المسلمة، والذي يقع تحت سيادة أكبر دولة إسلامية في العالم، ومع ذلك لا ترضى عن الانفصال بديلا؟ الأخطر من ذلك أن هذا الإقليم شهد أواخر عام 1999، وعقب استقلال تيمور الشرقية مباشرة أضخم مسيرة تطالب بالاستقلال في تاريخ البلاد ضمت نحو مليون شخص طافت مدينة باندا عاصمة الإقليم مطالبة بإجراء استفتاء حول تقرير مصير الإقليم على غرار ذلك الذي حصل بموجبه إقليم تيمور الشرقية على الاستقلال. ولم يتوقف الأمر عند حد سقوط نحو أربعة آلاف قتيل نتيجة للتوترات بين المسلمين والمسيحيين في الجزر في عامى 1999، و2000، بل بلغ الأمر كما تشير بعض التقارير إلى درجة انحياز بعض أفراد من قوى الأمن الإندونيسي الوطنية إلى هذا الفريق أو ذاك مستخدمة في ذلك أسلحتها في المواجهات. ولا يقتصر الأمر على إقليم آتشه أو جزر البهار، بل تتعدد الحركات الانفصالية والنزاعات العرقية والدينية لتشمل مناطق أخرى كثيرة في إريان جايا، ورياو، ومادورا، وبورنيو، وغيرها.

أسباب نشوء الحركات الإنفصالية
الواقع أن هناك أسبابا عدة وراء مثل هذه الحركات الانفصالية والنزاعات العرقية والدينية في إندونيسيا يمكن تلخيصها فيما يلى:

1- سياسات التهجير والتعديل السكاني


أقدمت الدولة على تبني سياسة الاستعمار الهولندي في تهجير مئات الألوف من جزيرة جاوا المكتظة بالسكان إلى الجزر الأقل كثافة وهو ما أدى في النهاية إلى تنامي أعمال عنف بين السكان الأصليين والمهجرين الجدد

بسبب ازدياد كثافة السكان في مناطق معينة دون غيرها بحكم الطبيعة الجغرافية للبلاد، خاصة في جزيرة جاوا، فقد بدأ المستعمرون الهولنديون منذ مطلع القرن العشرين في تطبيق برنامج يهدف إلى نقل السكان من المناطق الأكثر كثافة إلى المناطق الأقل كثافة. وفي سعيها لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتحقيق قدر من التوازن في انتشار السكان نهجت الحكومات الإندونيسية المتعاقبة بدءا من عام 1969 النهج نفسه، فقامت بتهجير عشرات الآلاف من الأسر من جزيرة جاوا إلى كل من جزيرة سومطرة وكالمنتان وسالويسى ومالوكو وإيريان جايا. أدت هذه السياسة الحكومية القائمة على التهجير الجبري للسكان إلى اندلاع العديد من المواجهات وأعمال العنف بين السكان الأصليين والمستوطنين الجدد بلغت حد الحرب الأهلية في بعض المناطق، كما هو الحال في مدينة أمبون بجزر الملوك. فلم ير سكان هذه الجزر – نحو 44% منهم من المسيحيين- في سياسة التهجير الحكومية سوى محاولة تحقيق التفوق العددي للمسلمين في مولوكو، وتشديد قبضة الحكومة المركزية في جاوة على هذه المناطق البعيدة. ونتيجة لذلك قاموا في عام 1999 باغتيال نحو 500 من القرويين المسلمين المهجرين. وعلى أثر هذه الواقعة نشأ تنظيم إسلامي راديكالي عرف بإسم "لاسكر جهاد" حمل على عاتقه مهمة حماية المسلمين المهجرين إلى جزر مولوكو، والذين بلغ تعدادهم قرابة نصف المليون مهاجر. أدت أعمال العنف الطائفي بين المسلمين والمسيحيين في جزر المولوكو إلى سقوط ما بين أربعة إلى خمسة آلاف قتيل خلال عامي 1999-2000. وحدثت توترات مماثلة بين المسلمين والمسيحيين أيضا بسبب سياسات التهجير في جزيرة سالويسى.

علاوة على هذا العنف الطائفي، ترتب على سياسة التوطين لتخفيف الكثافة السكانية أعمال عنف عرقية في مناطق عدة منها مدينة سامبيت بجزيرة بورينو حيث مارس مسلحون من قبائل الداياك عمليات تطهير عرقي ضد المستوطنين القادمين من جزيرة مادورا. كذلك شهدت منطقة إقليم آتشه عمليات مماثلة ضد المستوطنين القادمين من جزيرة جاوا.

2- الحرمان النسبي والإحساس بالإهمال من جانب السلطة المركزية:


أدت سياسات الحكومة المركزية إلى تركز الثروة بشكل ملفت للنظر في جزيرتي جاوا وبالي، وفي المقابل عانت المناطق الغنية بالثروات وخاصة النفط من الإهمال والحرمان

شهد المجتمع الإندونيسي تحولا عميقا في تركز الثروة. فخلال العقود الأولى للاستقلال كانت الثروة تتركز في المناطق الريفية، خاصة في الجزر المحيطة بجاوا. فمن خلال الاستحواذ على الأرض الزراعية، والنجاح في تصدير المحاصيل ازداد ثراء النخبة الريفية في هذه المناطق. ومع تنامي عملية التصنيع في المدن انتقل تركز الثروة إلى المناطق الحضرية، خاصة في كل من جزيرتي جاوا وبالي. هذا الانتقال للثروة زاد من الإحساس بالحرمان النسبي لدى سكان المناطق المختلفة مقارنة بسكان جاوا. فعلى الرغم من أن المناطق الأخرى تسهم بالنصيب الأوفر من إجمالي الدخل القومي للبلاد فإن سكانها يشعرون بأنهم لا يحصلون إلا على القليل بينما تستأثر جاوا بالنصيب الأكبر منه. فعلى سبيل المثال يتركز إنتاج البترول الخام والغاز الطبيعي -الذى تعتبر إندونيسيا من الدول الرئيسية المنتجة لهما إذ بلغ إنتاجها عام 1996 من البترول الخام 565 مليون برميل، ومن الغاز الطبيعي 302 تريليونات قدم مكعب- يتركز في منطقة آرون شمالي جزيرة سومطرة، ومنطقة باداق شرقي جزيرة كالمنتان. كما تتركز الاحتياطيات المؤكدة من البترول، والتي تبلغ نحو 10.4 بلايين برميل في بحر الصين الجنوبي قرب جزر ناتونا. كذلك الأمر بالنسبة للمعادن التي تسهم بنحو 10% من إجمالي الدخل القومي لإندونيسيا، إذ توجد احتياطيات البلاد من القصدير في جزر بانجاكا وبليتونج، واحتياطيات البوكسيت على امتداد سواحل كالمنتان الغربية وأرخبيل رياو، ويتركز النيكل في جزيرة سالويسي، والنحاس في جزيرة إيريان جايا. أما الذهب الذي تزايد إنتاج إندونيسيا منه مؤخرا ليصل إلى 65م3 فيأتي من منجم واحد بجزيرة إيريان جايا.

وعلى الرغم من ذلك فإن نمط توزيع العوائد والثروة في البلاد يعكس خللا واضحا ومتناميا. إذ يعيش كثير من الإندونيسيين تحت خط الفقر، خاصة في المناطق الريفية والجزر المحيطة بجاوا. في عام 1993، على سبيل المثال بلغ إنفاق أغنى 10% من سكان البلاد نحو 26% من إجمالي الإنفاق في الوقت الذى قل فيه إنفاق أفقر 10% من السكان عن 4% من إجمالي الإنفاق. ولم يكن غريبا والحال هكذا أن تكون الأقلية الصينية هدفا لهجمات كثيرة بسبب ما تتمتع به من ثراء. أضف إلى ذلك أن معظم الصناعات الجديدة تتركز في جزيرة جاوا، خاصة في مقاطعة جاكرتا الكبرى. والحق يقال أن الحكومة حاولت جاهدة توجيه الاستثمارات الأجنبية بعيدا عن جاوا وجاكرتا نحو الجزر الأخرى، إلا أن جهودها لم تفلح في هذا الصدد. وبسبب ازدياد استياء السكان المحليين في المناطق المختلفة من قلة التمويل الذي تتلقاه من الحكومة المركزية لأغراض التنمية الاقتصادية على الرغم مما تسهم به مناطقهم في دخل البلاد من الصادرات، وتنامت الحركات الانفصالية أو الهادفة إلى تحقيق قدر من الحكم الذاتي واستقلال المناطق، والمزيد من العدالة الاجتماعية، والسيطرة على الموارد المحلية. فعلى سبيل المثال برزت حركات انفصالية بسيطة في جزر رياو وكالمنتان الشرقية، وسالويسي الجنوبية والملوك، وحركات انفصالية أكثر حدة مثل جبهة التحرير الوطنية في آتشه بجزيرة سومطرة وحركة بابوا الحرة في جزيرة بابوا.

3- استمرار تدني الأوضاع الاقتصادية والأزمة المالية:


ركزت سياسات الدولة إبان حكم سوهارتو على تطوير الاقتصاد دون الالتفات إلى التنمية والمساواة الاجتماية بين محتلف مناطق البلاد، وأتت الأزمة الاقتصادية في التسعينيات لتزيد من الشعور بالظلم بين قطاعات كبيرة من الشعب

لم تشهد العقود الأولى للاستقلال عملية تنمية اقتصادية حقيقية إذ ركزت حكومة الرئيس سوكارنو على مسألة تأكيد الوحدة السياسية للبلاد والحفاظ عليها. غير أنه على العكس من ذلك، أعطت حكومة الرئيس سوهارتو أولوية أكبر للاقتصاد، وبدأت منذ عام 1969 في تنفيذ برنامج للخطط الخمسية نما على إثرها الاقتصاد الإندونيسي بمعدلات عالية خلال الثمانينيات ومعظم التسعينيات من القرن الماضى بسبب غنى البلاد بالموارد الطبيعية. إلا إنه على الرغم من ذلك لم يترتب على النمو الاقتصادي الحقيقي الذي عرفته البلاد أي تغير حقيقي في مجال العدالة الاجتماعية والاقتصادية وبخاصة في المناطق الريفية. فلا يعني الارتفاع المتواصل لمتوسط الدخل الفردي في إندونيسيا أي شيء بالنسبة للغالبية العظمى من المواطنين التي تعيش تحت خط الفقر. فإذا كان متوسط الدخل الفردي المعلن قد زاد من 1023 دولارا عام 1995 إلى 1140 دولارا عام 1996 ثم إلى 1300 دولار عام 1997، فإن متوسط الدخل الحقيقى لم يتجاوز 350 دولارا لنحو 80% من السكان. وربط الكثيرون بين تدني الأوضاع الاقتصادية في كثير من المناطق وتزايد الإحساس باللامساواة الاجتماعية والاقتصادية، وبين تنامي الحركات الإسلامية وتصاعد التوترات السياسية في إندونيسيا طيلة التسعينيات بسبب الإحباط الجماهيري، لا سيما بعد أن هبطت معدلات الأداء الاقتصادي إلى الصفر في السنوات الأخيرة من القرن العشرين. وزاد النمو السكانى من حدة عدم المساواة، وجاءت الأزمة المالية التي عرفتها إندونيسيا بدءا من صيف عام 1997 -شأنها في ذلك شأن كثير من الدول الآسيوية- شديدة الوطأة على الفقراء نتيجة الارتفاع الكبير في أسعار السلع والخدمات والمقرونة في الوقت نفسه بانخفاض حاد في قيمة العملة الوطنية (الروبية). وكانت النتيجة تزايد حدة أعمال العنف الموجودة أصلا بسبب التباينات الدينية والعرقية لتنتشر في مناطق عديدة من البلاد.

إضافة إلى الأسباب المشار إليها، هناك من يرى في تنامي البعثات التبشيرية المسيحية في بعض المناطق التي يقطنها غالبية من المسلمين تحديا للحس الإسلامي، ومن ثم سببا لاندلاع العنف الديني. وهناك من يرجع الحركات الانفصالية في بعض الجزر إلى عدم موافقة سكانها منذ البداية على قيام الجمهورية الإندونيسية بشكلها الوحدوي عام 1950. وهناك من يرجعها إلى مصادر خارجية تهدف إلى تقسيم إندونيسيا، ومن ثم إضعافها باعتبارها صاحبة أقوى اقتصاد في منطقة جنوبي شرقي آسيا.

رابعا: العنف العرقي والديني في إندونيسيا: رؤية مستقبلية


إن النظر إلى نجاح الحكومات السابقة في الحفاظ على وحدة المجتمع الإندونيسي كفيل بأن يبعث على التفاؤل بإمكانية استمرار هذه النجاح شريطة أن تعيد الحكومة حساباتها لتوفير العدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية

شهدت إندونيسيا -ولاتزال- العديد من الحركات الانفصالية والتوترات العرقية والدينية وأعمال العنف والشغب بسبب طبيعة نشأتها التاريخية وأوضاعها الجغرافية من ناحية، وما استجد على ذلك من سياسات تهجير جبري طيلة القرن الماضى، فضلا عن التحولات العميقة في تركز الثروة، وما ارتبط بذلك من حرمان نسبي لكثير من المناطق من عوائد ثرواتها الطبيعية، وكذا المشاكل الناجمة عن اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة من ناحية ثانية، والميراث الطويل لاحتكار السلطة وسيطرة المؤسسة العسكرية الجاوية وانتهاكاتها المتكررة لحقوق الإنسان، واستشراء الفساد السياسي من ناحية ثالثة. لا خلاف على أن كل ذلك يمثل قضايا معقدة وذات طبيعة مركبة ومتشابكة. وهو الأمر الذي يفرض التساؤل حول ما يمكن أن تمثله من تهديد لوحدة التراب الإندونيسي في المستقبل. وإذا كانت الحركة الانفصالية في إقليم تيمور الشرقية قد نجحت في تحقيق استقلال الإقليم فهل من الممكن أن يتكرر ذلك بالنسبة لحركات انفصالية نشطة أخرى مثل الجبهة الوطنية المتحدة في آتشه، أو حركة بابوا الحرة في جزيرة بابوا، أو الحركة الانفصالية في جزر الملوك؟ وإذا كانت الجماعات الإسلامية في إندونيسيا تؤيد بصفة عامة الحلول السياسية السلمية لمشاكل البلاد، فهل من المحتمل أن يتنامى الإسلام الثوري بما يمكنه من الإطاحة بالنظام، وبما قد يعرض وحدة البلاد للخطر؟ وإذا كان النفوذ السياسي للمؤسسة العسكرية قد شهد تدهوراً شديداً منذ الإطاحة بسوهارتو عام 1998، فهل يعني ذلك أنها قد تخلت، أو أنها لم تعد قادرة على الاضطلاع بالدور التقليدي الذي اضطلعت به منذ الاستقلال في الحفاظ على وحدة البلاد وتماسكها في مواجهة الحركات الانفصالية والتوترات العرقية والدينية؟ وإذا كانت فلسفة "البانكاسيلا" قد نجحت إلى حد كبير حتى الآن في الحفاظ على وحدة إندونيسيا، فهل الحديث عن "الوحدة فى إطار التنوع" أضحى يعكس تطلعا أكثر منه واقعا حقيقيا في ضوء التطورات الحاصلة مؤخراً في البلاد؟

قبل تلمس الإجابة على التساؤلات المثارة بغية تقديم رؤية استشرافية لمستقبل الوحدة الإندونيسية في ضوء أحداث العنف العرقي والديني المتنامية التي تشهدها البلاد، هناك ملاحظة هامة تجدر الإشارة إليها، ألا وهى أن هذه الأحداث وإن كان لها جذورها التاريخية، إلا أنها تتداخل مع عوامل مجتمعية أخرى: سياسية واجتماعية واقتصادية، داخلية وخارجية تلعب دوراً مفجراً أو معجلاً في هذه الأحداث فتزيد من تفاقمها، أو دوراً مهبطاً ومبطأً فتقلل من حدتها وما يمكن أن يترتب عليها من آثار. وعليه، يصبح من الضروري أخذ مثل هذه العوامل في الاعتبار. وهو ما سوف نحاوله -قدر الإمكان- في الإجابة على التساؤلات المطروحة، وذلك من خلال النقاط التالية:

1- هناك نقطة جوهرية هامة فيما يتعلق بإقليم تيمور الشرقية مقارنة بإقليم آتشه أو جزر الملوك أو إيريان جايا على سبيل المثال التى تطالب بالاستقلال أو إجراء استفتاء حول تقرير المصير على غرار ما حدث في تيمور الشرقية، ألا وهي أن هذه الأقاليم، بخلاف تيمور الشرقية التي كانت مستعمرة برتغالية واستقلت فقط عام 1975، كانت جميعها ضمن حدود إندونيسيا إبان إعلان استقلالها عام 1945. ومن ثم، فهي تعتبر جزءا لا يتجزأ من الأراضي الإندونيسية باعتراف المجتمع الدولي والقوانين الدولية. وهو ما تتخذه الدولة الإندونيسية حجة، وتعتقد في الوقت نفسه أن التنازل عن جزيرة واحدة -كبيرة أو صغيرة- سيفتح المجال أمام تنازلات لن تتوقف إلا بانفراط عقد الدولة. وعليه فمن المرجح أن النظام القائم سيتمسك بالحفاظ على وحدة البلاد. وهو في اعتقادي لا يزال قادرا على ذلك رغم ما يعانيه من مشاكل وأزمات.

2- إن تنامي الإسلام الثوري في إندونيسيا على نحو يهدد وحدة البلاد هو أمر غير وارد، وذلك لثلاثة أسباب، يتمثل أول هذه الأسباب في التباين بين المسلمين أنفسهم ما بين سانتري وأبنجان، وما تبديه الجماعات الإسلامية بصفة عامة من احترام لمبادئ "البنكسيلا". ويتمثل ثانيا فى الدور الموازن الذي يمكن أن تلعبه المؤسسة العسكرية، لا سيما في ضوء عدم الارتياح الذي أبدته كثيرا إزاء تنامي أنشطة الحركات الإسلامية، حتى المعتدلة منها، فما بالنا بالثورية منها. أما ثالث هذه الأسباب فيرجع إلى أنه من المرجح أن يسرع النظام إذا ما استشعر خطر تنامي الإسلام الثوري إلى إعادة النظر في سياساته الاقتصادية بصفة عامة، وتوزيع العوائد بصفة خاصة.

3- على الرغم مما قد يبدو من انسحاب نسبي للمؤسسة العسكرية من الحياة السياسية مؤخرا فإنها ترى في نفسها القوة الحامية لوحدة الدولة، ولا تزال تتمسك بدورها الاجتماعي والسياسي الذي اضطلعت به منذ الاستقلال. فضلا عن أن النظام لا يرغب في إقصاء المؤسسة العسكرية كلية عن الحياة السياسية، بل ينظر إليها باعتبارها صمام الأمان الأخير للرئاسة في مواجهة خصومها، وفي مقدمتها الحركات الانفصالية. بعبارة أخرى لا يزال الجيش الحكم الأخير في أي أزمة.

4- إن نجاح الحكومة المركزية في جاكرتا لما يزيد عن نصف قرن في إدارة البلاد "كدولة موحدة" يؤكد قدرتها على الاستمرار في تحقيق ذلك، بما يستبعد معه احتمال تعرض وحدة البلاد لخطر. وأن أقصى ما يمكن أن تضطر إليه هو القبول بشكل أو بآخر من النظم الفدرالية، أما الحل الأقرب في مواجهة الحركات الانفصالية فيتمثل في منح صورة أو أخرى من صور الحكم الذاتي الموسع، بما يعنيه ذلك في نهاية المطاف من استمرارية تطبيق فكرة "الوحدة في إطار التعدد".
__________
*أستاذ العلوم السياسية- كلية الاقتصاد- جامعة القاهرة

المصدر : غير معروف