ملامح المأزق القيادي لدى الإخوان المسلمين

بقلم/محمد بن المختار الشنقيطي


undefinedكان موضوع القيادة ولايزال عقدة العقد في الحضارة الإسلامية، عليه اقتتل الناس وحوله افترقت الأمة إلى ملل ونحل، ومن أجل حل مشكلاته سال الحبر والدم أنهارا.

وقد تأسست حركة الإخوان المسلمين بمصر بعد أربعة أعوام من سقوط الخلافة العثمانية، فكان إيجاد قيادة صالحة للأمة من أكبر الدوافع التي حدت بحسن البنا إلى تأسيس الحركة، والإلحاح على هذا الأمر هو ما ميز حركته عن غيرها من حركات الإصلاح السابقة واللاحقة. فهل استطاعت حركة الإخوان المسلمين في بنائها الداخلي –بعيدا عن بلاغة الخطاب- أن تقدم نموذجا عمليا في القيادة يملأ الفراغ ويقنع الأمة؟

الجمود القيادي


تتوهم حركة الإخوان أن المحافظة على استمرار القيادات -حتى ولو أصبحت عاجزة- نوع من الوفاء، الأمر الذي جعلها تتجمد، وتتحول لتقتات بتاريخها، وإنجاز القادة السابقين".

يبدو أن موضوع القيادة الذي ظل الهم الأهم لحركة الإخوان المسلمين على مر العقود الماضية هو أعظم نقطة ضعف في بناء الحركة وأدائها، إذ يتفق الخبراء المتتبعون لمسيرة الحركة –سواء بعين العطف أو العداء– على أنها تعاني من مشكلات جدية في بنائها القيادي، وأن لهذه المشكلات أثرا جديا على واقعها الحاضر ومستقبلها الآتي.

لقد لاحظ الأستاذ عمر عبيد حسنة أن من أمراض حركة الإخوان ما دعاه "تخليد فكر الأزمة" مما "جعل مواصفات القيادة ومؤهلاتها مواصفات شخصية أفرزتها الأزمة: من عدد سنوات السجن، والاعتقال، والمطاردة، والمواجهة، والثبات. دون حرية القدرة على اكتشاف المؤهلات والصفات الموضوعية للقيادة في كل عصر ومصر". كما لاحظ أن من أسوأ الأدواء التي تعاني منها هذه الحركة "عدم قدرتها على استنبات قيادات متجددة ومعاصرة بالقدر المأمول، تضمن القدرة على التواصل. وغالبا ما تتوهم أن المحافظة على استمرار القيادات –حتى ولو أصبحت عاجزة– نوع من الوفاء، الأمر الذي جعلها تتجمد، وتتحنط، وتتكلس، وتتحول لتقتات بتاريخها، وإنجاز القادة السابقين". وقد نسي الإخوان هنا أن الثبات إذا كان واجبا، فإن التغيير ضرورة.

كما لاحظ "هرير دكميجيان" –وهو من أوسع الخبراء الأميركيين اطلاعا على مسيرة الإخوان المسلمين– أن "تطور الحركة الأصولية الإسلامية سيتوقف على نوعية قيادتها السياسية والثقافية. وفي الظروف الحالية، تعاني الحركة بشكل جدي من القصور في قيادتها الفكرية والسياسية والتكتيكية". وفي مقارنته لميزان القوى بين السلطة والإخوان في عدد من الدول العربية، توصل إلى النتيجة المنطقية المترتبة على القصور القيادي السائد، فقال "بغياب طليعة منظمة، فإن الصراع الذي لا محيد عنه بين الحركات الأصولية والدولة ستميل كفته لصالح الدولة في المستقبل القريب على الأقل".

وربما اغترَّ بعض الإخوان بالتعاظم الكمي للصحوة، وانتشار روح التدين في المجتمع، فدفعهم ذلك إلى التفاؤل المفرط المبني على حتمية الانتصار، ونسوا –كما لاحظ الدكتور حسن مكي- أنه "قد تصح القابلية في المجتمع، ولا يوجد الاستعداد في الحركة، كما قد تنضج الظروف (في الحركة) ثم لا توجد القيادة".

لماذا يغيب "الرشد" إذا غاب "المرشد"؟


تنظيم الإخوان غير قادر على تغيير قيادته بيسر، وبأسلوب مرن يفتح باب الصعود إلى القيادة والنزول منها بناء على معايير موضوعية دون جمود في الأداء أو تمزق في الصف

لقد نشأت أغلب الجماعات القطرية لحركة الإخوان المسلمين متمحورة حول شخص واحد، ثم وجدت نفسها أمام أحد خيارين بعد رحيله: إما الجمود على أساليب القائد المؤسس ورؤاه رغم تبدل الظروف والأحوال، وإما التمزق والانقطاع في المسيرة. وهذا أمر طبيعي "فأي تنظيم يقوده شخص واحد لابد من حدوث قطيعة في مسيرته بعد غياب ذلك الشخص" أو جمود وتصلب، من خلال القبول الاضطراري بالوجوه القديمة والأساليب العتيقة في العمل. وقد لاحظ الدكتور النفيسي ما حدث من انقطاع في مسيرة الإخوان بمصر بعد اغتيال حسن البنا، حيث "ظلت جماعة الإخوان بدون قيادة ما بين مقتل البنا في 12/2/1949 حتى 19/10/1951 عندما تسلم حسن الهضيبي رحمه الله القيادة، أي أن الإخوان ظلوا بدون قيادة ولا توجيه لمدة تقارب الثلاث سنوات". كما رصد الدكتور محمد عمارة هذه الظاهرة، وأوضح الارتباط بين صفة "الرشد" وشخص "المرشد" في حركة الإخوان، لأنها بنت أمرها من أول يوم على مواهب الشخص لا على اطراد المؤسسة.

وإذا كانت العلوم التنظيمية والإستراتيجية المعاصرة تجعل من آكد مهمات القائد "صناعة القادة" الذين يعينونه في حضوره ويخلفونه في غيابه حتى يظل الاطراد مضمونا في مسيرة التنظيم، فإن قادة الإخوان في الغالب لا يهتمون إلا "بصناعة الأتباع" الذين يحسنون التلقي والتنفيذ الفوري والإيمان بأوامر القائد وحكمته "دون تعطيل ولا تأويل". وقد لاحظ الدكتور النفيسي أن من نقاط الضعف الأساسية في قيادة حسن البنا "إهماله تدريب كوادر قيادية تتمتع بأهلية القيادة لتأتي من بعده". والذين جاؤوا من بعد البنا في قيادة حركة الإخوان كانوا أشد تفريطا في ذلك.

وقد تبين من العلوم التنظيمية المعاصرة أن في القيادة الفردية المحورية عيوبا أخرى لا تقل خطورة عما سبق، منها:

  • سيادة مفهوم "السيطرة" على مفهوم "القيادة"، بحيث يتركز اهتمام القائد على التطلع إلى الوراء للتأكد من أن الناس لا يزالون تبعا له، ويهمل التطلع إلى الأمام والتفكير فيما يحقق تقدما وتحسنا في أداء التنظيم ورسالته.
  • إغراء الأتباع بالصراع على مناصب القيادة نظرا لسد المنافذ السلمية إليها، وفي ذلك من الأخطار على التنظيم ما فيه، وأقله شغل التنظيم عن رسالته وأهدافه الأصلية واستنزاف طاقته في المعارك الداخلية.
  • التأثير السيئ على لغة التواصل بين القائد والعاملين معه، فهم يحسون بأنهم أتباع لا أقران "ومن شأن المستمعين إلى القائد المسيطر ألا يفهموا كلامه فهما موضوعيا لأنهم لا يبحثون عن قيمة الكلام في ذاته، بل عما يقصده القائد ويريده".
  • عزلة القائد عن أتباعه، لأنه لا يستطيع التحقق من مقاصدهم في أجواء المجاملات والهالة التي رسمها حول نفسه، وبذلك يتعطل تدفق المعلومات الصحيحة وتنسد أبواب التناصح النزيه.

لذلك فإن من أهم أسباب النجاح التنظيمي "المرونة الداخلية"، وذلك بأن يكون التنظيم قادرا على تغيير قيادته بيسر، وبأسلوب مرن يفتح باب الصعود إلى القيادة والنزول منها بناء على معايير موضوعية لا شخصية، ودون انقطاع في المسيرة أو جمود في الأداء أو تمزق في الصف. ولا تروق هذه المرونة للقادة الذين يميلون إلى الاستبداد والهيمنة، فيُبقون تنظيماتهم في حال من التصلب الإجرائي يمكِّنهم من التحكم فيها. لكن هؤلاء بقدر ما يخدمون سلطتهم الشخصية على المدى القريب، فإنهم يضعفون التنظيم كمؤسسة على المدى البعيد.

إن انعدام هذه المرونة هو أكبر ما عانت منه حركة الإخوان، حيث سادت البيعة مدى الحياة، وإطلاق يد القائد والتفويض له، وعجز القيادة عن تجديد شبابها وعن التكيف مع الظروف المتغيرة.

إفراغ الشورى من مضمونها العملي والإجرائي
لقد أقرت حركة الإخوان المسلمين بمبدأ الشورى منذ أمد بعيد، وتجاوزت الجدل الفقهي الموروث حول الإلزام والإعلام في الشورى لصالح القول بالإلزام. لكن الكسب النظري في هذا الشأن لم يوازه كسب عملي يفصِّل اللوائح الملزمة، ويبني المؤسسات الراسخة التي تحفظ للشورى فاعليتها وإلزاميتها.

وقد أدى تجميد مبدأ الشورى وإفراغه من مضمونه العملي إلى تصدعات وانشقاقات عميقة في جدار العديد من الجماعات الإخوانية القطرية من ضمنها الجماعة السورية والعراقية، ثم المصرية أخيرا. وحاولت بعض جماعات الإخوان أن تتجنب مشكلات الخلافات الداخلية -الناتجة أصلا عن تعطيل الشورى- بمزيد من تحجيم الشورى، وذلك من خلال أمرين:

  • البحث عن قائد كارزمي تتمحور حوله الجماعة ويستأسر الجميع لجاذبيته ومواهبه.
  • والنخبوية في العضوية وتضييق نطاقها حتى يظل التحكم في الأتباع ممكنا.
    وكل من الأمرين يثير إشكالا، إذ غالبا ما يبدأ الشقاق بعد رحيل الزعيم الكارزمي، وتؤدي النخبوية إلى جمود الحركة وهامشيتها. وقد أصبح هذا الجمود بعد رحيل الزعماء الكبار ظاهرة لا تكاد تخلو منها أي من جماعات الإخوان، وما وقع للإخوان المصريين بعد البنا، والسوريين بعد السباعي، والجماعة الإسلامية الباكستانية بعد المودودي. مجرد أمثلة.

ولكي تتضح للقارئ أبعاد المأزق القيادي لدى حركة الإخوان، نلقي نظرة سريعة على وثيقتين مهمتين أطَّرتا البناء التنظيمي والقيادي للإخوان حقبة من الزمان، ولاتزال أغلب موادهما سارية المفعول إلى اليوم. وهما:

  • "النظام الأساسي لحركة الإخوان المسلمين" في مصر الصادر عن جمعيتها العمومية يوم 8/9/1945 والمعدل يوم 30/1/ 1948.
  • و"النظام العام للإخوان المسلمين" الصادر يوم 29/7/1982 وهو دستور التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.

وبهدف الاختصار سنشير إلى الوثيقتين باسم "النظام الأساسي" و"النظام العام" فيما يلي من عرض.

فلننظر إلى مظاهر المأزق القيادي لدى الإخوان من خلال هاتين الوثيقتين، قبل أن نتحدث عن أصوات الإصلاح الداعية إلى تغيير البنية القيادية، وعن التغييرات التي كثر عنها الحديث مؤخرا.

إن تصفح هاتين الوثيقتين يكشف عن خلل خطير في البنية القيادية للإخوان في مصر، وفي التنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي تأسس بمبادرة وسيطرة منهم. وفي الفقرات التالية أمثلة على ذلك.

الإخلال بمبدأ الشرعية القيادية منذ البدء


الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين بمصر منحت نفسها شرعية دائمة، وحرمت أعضاء الحركة غير المؤسسين من أي حق في تغييرها أو مشاركتها حق اختيار القيادة.

يقتضي مبدأ الشرعية أن يكون أعضاء الحركة هم أصحاب القرار الأخير في اختيار قادتها، وكل هيكل تنظيمي لا ينبني على هذا المبدأ فهو يؤصل الاستبداد والجمود. لكن الموقع الذي احتلته "الهيئة التأسيسية" للإخوان المسلمين بمصر في بناء الحركة يتنكر لهذه الحقيقة، فقد نصت المادة 34 من النظام الأساسي على أن الهيئة التأسيسية "تعتبر مجلس الشورى العام للإخوان المسلمين، والجمعية العمومية لمكتب الإرشاد"، كما منحت نفس المادة الهيئة صلاحية "اختيار أعضاء مكتب الإرشاد" أعلى سلطة تنفيذية في الحركة، ومنحتها المادة التاسعة منه صلاحية انتخاب المرشد العام، مع اشتراط المادة 19 من النظام الأساسي أن يكون المرشد وأعضاء مكتب الإرشاد المنتخبون من ضمن أعضاء الهيئة التأسيسية ذاتها.

لكن الغريب أن أيا من النظام الأساسي أو اللائحة الداخلية لم يشر إلى أي نوع من الانتخاب أو التجديد الانتخابي تخضع له الهيئة التأسيسية، وكل ما ذكر هو ما ورد في المادة 33 من النظام الأساسي من أن الهيئة التأسيسية تتألف "من الإخوان الذين سبقوا بالعمل لهذه الدعوة". فمن الذي يختار هؤلاء؟ وما هو معيار الاختيار؟ لقد سكت النص عن مصدر الشرعية القيادية التي تمتعت بها أعلى هيئة دستورية في الحركة، والسبب هو أن الشيخ حسن البنا هو الذي اختار أعضاء الهيئة التأسيسية بنفسه.

وإذا كان مجرد السبق الزمني لا يعطي شرعية قيادية دائمة في أي تنظيم يريد لنفسه التوسع والنماء، فإن الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين بمصر منحت نفسها شرعية دائمة، وحرمت أعضاء الحركة غير المؤسسين من أي حق في تغييرها أو مشاركتها حق اختيار القيادة. ولك أن تتصور هيئة تراوح عددها بين 100 و150 عضوا حتى العام 1954 ثم تناقصت بعد ذلك حتى أصبح عددها 30 عضوا فقط في عام 1986، وهي تحتكر حق اختيار القيادة في حركة يقدر أعضاؤها وأنصارها بالملايين.

وأراد المؤسسون أن يعوضوا عن حرمان أعضاء الحركة حق الاختيار، من خلال سياسة الإلحاق، فمنحوا الهيئة التأسيسية الحق في ضم أعضاء جدد إليها -إن شاءت- لا يزيد عددهم عن عشرة سنويا، كما تنص المادة 35 من النظام الأساسي. لكن هذه السياسة لا تحل الإشكال الرئيسي المتعلق بالشرعية القيادية، ولا تترك مجالا للمرونة الداخلية التي تفتح باب الصعود إلى القيادة والنزول منها بناءً على اختيار حر من الأعضاء، لا بناء على رأي القيادة القائمة.

وقد اعتقد بعض الإخوان أن عملية الإلحاق هذه كافية للتجدد الذاتي، لكنهم نظروا إلى الأشكال لا إلى المضامين، وإلا فإن الفرق هائل –كمًّا ونوعا- بين اختيار القاعدة لقيادتها وتحكمها في تغييرها، بما يضمن تلاؤمها مع حاجات الحركة. وبين ضم القيادة لمن تثق في ولائهم في إطار عملية تثبيت لنفسها، وتوسيع لنفوذها، وترسيخ لبقائها. هذا فضلا عن أن عملية الإلحاق –على علاتها– غير ملزمة للهيئة، وإنما هي حق لها، ففي وسعها –نظريا– عدم ضم أحد إلى الأبد.

وقد أشارت المادة 61 من النظام الأساسي إلى أنه "ينعقد كل سنتين مؤتمر عام من رؤساء شعب الإخوان المسلمين بدعوة من المرشد العام، بمدينة القاهرة أو بأي مكان آخر يحدده، ويكون الغرض منه التعارف والتفاهم العام في الشؤون المختلفة التي تتصل بالدعوة، واستعراض خطواتها في هذه الفترة".

وكان من المفترض إعطاء هذه المؤتمرات سلطة قانونية تأسيسية بحيث تكون قادرة على انتخاب قادة الحركة ومحاسبتهم وعزلهم، لأنها الهيئة العريضة الوحيدة التي تضم ممثلين عن جميع الإخوان في جميع أرجاء الدولة المصرية. لكن الغريب أن قوانين الإخوان لم تعط هذه المؤتمرات أي قيمة قانونية ملزمة، بل تركتها مجرد حشد "للتعارف والتفاهم العام". وبذلك ظلت سلطة اختيار القادة محصورة في أيدي أعضاء الهيئة التأسيسية، وضاعت على الحركة فرصة لبناء الشرعية الداخلية، وهي المعضلة الكبرى في كل مسارها. وبعد وفاة حسن البنا لم يعد لتلك المؤتمرات أي وجود فعلي ولا حتى رمزي، إذ توقف انعقادها تماما.

وقد منحت المادة 11 من "النظام العام" مجلس شورى الإخوان صلاحية انتخاب المرشد، كما أعطى النظام الأساسي هذه الصلاحية للهيئة التأسيسية من قبل. لكن الإشكال ظل دائما يكمن في: من ينتخب المنتخبِين؟ أيْ تجاهل حق القواعد العامة في اختيار القيادة أصالة أو نيابة، واحتكار ثلة قليلة لذلك بمجرد الهيبة التاريخية والسبق الزمني.

محورية المرشد العام ومركزية البناء الهرمي


وصلاحيات المرشد يعسر حصرها فهو رئيس مكتب الإرشاد العام والهيئة التأسيسية، ومن حقه نقض قرارات لجنة التحقيق والجزاء، وتوقيف أعضاء الهيئة التأسيسية.

نصت المادة 17 من النظام الأساسي على أن "يقوم المرشد العام بمهمته مدى حياته ما لم يطرأ سبب يدعو إلى تخليه عنها"، وورد مثل ذلك في النظام العام الذي نص في المادة 13 على أن المرشد "يبقى في مسؤوليته مادام أهلا لذلك"، وهي صياغة أكثر دبلوماسية من سابقتها بعد ما كثر اللغط حول هذا الأمر، لكنها لا تأتي بجديد من الناحية القانونية، فهي تعني عمليا بقاء المرشد في منصبه مدى الحياة. ورغم أن "النظام العام" نص في المادتين 22 و30 على أن مدة ولاية كل من مكتب الإرشاد العام ومجلس الشورى العام أربع سنوات هجرية، فإنه لم يحدد فترة زمنية لولاية المرشد العام، وكأن استمرار الشخص أهم من استمرار المؤسسات.

وصلاحيات المرشد يعسر حصرها فهو "الرئيس الأعلى للهيئة، كما أنه رئيس مكتب الإرشاد العام والهيئة التأسيسية" حسب المادة 10 من النظام الأساسي، ومن حقه نقض قرارات لجنة التحقيق والجزاء، وتوقيف أعضاء الهيئة التأسيسية بحسب نص المادتين 37 و39 على الترتيب، علما بأن اللجنة المذكورة هي المحكمة العليا في الحركة، والهيئة التأسيسية هي مجلس شورى الحركة وسلطتها الرقابية.

ومن مظاهر محورية المرشد ما ورد في المادة 16 من النظام العام من أنه يحق له إيقاف أي عضو من أعضاء مكتب الإرشاد ومجلس الشورى، ثم العطف على ذلك بالقول إن ذلك العضو الموقوف "له أن يتظلم لدى فضيلة المرشد العام". وبذلك يكون المرشد خصما وحكما وشاهدا في ذات الوقت. وكأن محرر "النظام العام" هنا يخلط بين القانون والأخلاق، ولا ينتبه إلى أن القانون ليس مواعظ لإصلاح ذات البين تحرك ضمائر الأفراد ليراجعوا الحق ويتوبوا من خطاياهم، وليس ضغوطا يفرضها أب على أبناء له طائشين حتى يرجعوا إلى طاعته. وإنما هو ضوابط ملزمة تحمي حقوق الأفراد ومسار المؤسسات.

ومن مظاهر الإغراق في المركزية على مستوى التنظيم الدولي الاختلال في تمثيل الأقطار، وذلك من خلال التحيز الشديد للمركز المصري على حساب الجماعات القطرية الأخرى، وبعضها أصبح أعظم كسبا وأنضج تجربة وأوفر عددا، من حركة الإخوان في مصر. وقد تجلى هذا التحيز في تنصيص النظام العام في مادته الأولى على أن هيئة الإخوان –التنظيم الدولي- "مقرها الرئيسي مدينة القاهرة" ثم النص في المادة 19 منه على أن ثمانية أعضاء من الثلاثة عشر المشكلين لمكتب الإرشاد "ينتخبهم مجلس الشورى من بين أعضائه، من الإقليم الذي يقيم فيه المرشد (مصر)، أما الخمسة الباقون فهم الذين "يُراعَى في اختيارهم التمثيل الإقليمي" طبقا لنفس المادة.

والمرشد العام لابد أن يكون مصريا مادام مقر الجماعة هو مصر نصا. ولأن أعضاء مكتب الإرشاد –وثلثاهم تقريبا من المصريين- هم أعضاء استحقاقيون في مجلس الشورى العام، فقد انتقل اختلال التوازن بين الأقطار إلى مجلس الشورى أيضا وإلى غيره من هيئات التنظيم الدولي.

طغيان الأسبقية الزمنية على الكفاءة القيادية
وقد اتضح ذلك حينما اشترطت المادة 13 من "النظام العام" شروطا فيمن يمكن أن يكون مرشدا عاما للتنظيم الدولي، بعد شرط المصرية –أو القرشية الجديدة كما دعاها بعض الظرفاء- وأجملها في ثلاثة شروط، هي:

  • "ألا يقل عمره عن 40 سنة هلالية.
  • أن يكون قد مضى على انتظامه في الجماعة أخا عاملا مدة لا تقل عن 15 سنة هلالية (تضاف إليها ثلاث سنوات ونصف قبل أن يصبح أخا عاملا، كما يلزم بذلك "النظام العام").
  • أن تتوافر فيه الصفات العلمية (وخاصة فقه الشريعة) والعملية والخلقية التي تؤهله لقيادة الجماعة".

ووردت ذات الشروط في الحديث عن أعضاء مكتب الإرشاد ومجلس الشورى، حيث اشترطت المادتان 20 و32 من "النظام العام" أن يكون عمر أعضاء كل منهما 30 سنة هلالية. وزادت المادة 32 شروطا أخرى في عضو مجلس الشورى، منها:

  • "أن يكون من الإخوان العاملين الذين مارسوا عضوية المكتب التنفيذي أو مجلس الشورى في أقطارهم.
  • أن يكون قد مضى على اتصاله بالدعوة خمس سنوات على الأقل.
  • أن لا تكون قد صدرت في حقه عقوبة التوقيف خلال الخمس سنوات".

وكل هذا يدل على النزوع إلى الاستبداد والمركزية وعلى ضعف الثقة في الجماعات الإخوانية القطرية، وإلا فلم لا يكون من حق تلك الجماعات أن تختار من يمثلها في التنظيم الدولي حسب الكفاءة، بغض النظر عن عمره وتاريخه في الحركة؟

من الواضح أن الإخوان المصريين هنا أعطوا عنصر السبق الزمني أولوية على عنصر الكفاءة القيادية، مما أورث الحركة تصلبا داخليا وجمودا واضحا بعد رحيل الإمام المؤسس وشيخوخة الجيل الرائد، وهو أمر حتمي في كل تنظيم يغفل الشرعية والمرونة الداخلية في بنائه. وقد كان الإخوان في غنى عن كل ذلك، إذ ليس كل سابق مؤهلا للقيادة، ولا كل متأخر قاصرا عنها.

دعوات الإصلاح.. "مواعظ في البرِّية"!


حان الوقت ليقدم الإخوان أنفسهم قدوة للناس، لا في الالتزام الفردي بل بالالتزام الجماعي بتعاليم الإسلام الداعية إلى الشورى في بناء السلطة وأدائها. وما لم يفلحوا فإن مستقبلهم السياسي سيظل مشكوكا فيه.

تساءل كثيرون ممن درسوا تجربة الإخوان المسلمين بمصر عن السر في الجمود القيادي والتصلب الإجرائي التي عانت منه منذ نشأتها، ولاتزال تحاول التخلص منه دون جدوى.

فبعض مفكري الحركة المقتنعين بالتغيير والإصلاح –مثل الدكتورين عصام العريان وعبد المنعم أبو الفتوح- يفسرون هذه الظاهرة بالثقافة الأبوية السائدة في المجتمع المصري، في حين يرجعها بعض الكتاب الغربيين إلى تقاليد الدولة المستبدة في مجتمع عاش في ظل دولة مركزية قاهرة منذ سبعة آلاف عام، وقد أطلق "دكميجيان" على هذه الظاهرة اسم "الجبرية الفرعونية".

لكني أعتقد أن الأمر لا يحتاج إلى كل هذا التفلسف والتكلف، فالأمر –في جوهره– تخلف تنظيمي يمكن حله بإصلاحات إجرائية بسيطة. كما أعتقد أن هذا البؤس القيادي ليس ناتجا عن نقص في الكفاءات داخل الحركة المصرية التي استوعبت أغلب النخبة المتعلمة في أكبر الدول العربية، وإنما هو نتيجة التصلب في الإجراءات المتبعة، وإهمال معايير الأمانة والقوة التي جعلها الإسلام أساس الجدارة القيادية، واستبدالها باعتبارات زمنية وشخصية. وفي الحركة اليوم كثيرون من ذوي الجدارة الفكرية والعملية، كما خرج عليها بالأمس العديد من هؤلاء.

الأستاذ فريد عبد الخالق من رواد الإخوان المسلمين وتلامذة حسن البنا، وقد كان عضوا في كل من الهيئة التأسيسية ومكتب الإرشاد، لكنه تخلى عن الحركة منذ تولي عمر التلمساني قيادة الحركة عام 1976، وهو يفسر ذلك في مقابلة مع "الأهرام" منذ أيام بقوله "لقد كان الخلاف يتعلق بالممارسات، لم يكن اختلافا في الهدف‏ ولكنه في الأسلوب والشكل، لأنني كنت أرى أن الممارسات داخل الدعوة بين الإخوان أو الجماعة يجب أن تكون أكثر تمتعا بحرية الفكر والشورى مما كان متاحا. من ضمن ما اعتنقته من أفكار أن يتم تحديد مدة زمنية للمرشد ولتكن ست سنوات تجدد مرة واحدة".

وحول اختيار المرشد الجديد بعد وفاة الشيخ مصطفى مشهور تمنى الأستاذ فريد عبد الخالق أن "تحدث شورى حقيقية يعطَى الكل فيها حرية إبداء الرأي دون تحريم أو تسفيه‏. الكل شركاء في الدعوة لا تميز بتقدم سن أو دخول سجن".

وقد فسر الأستاذ فريد منذ عقدين من الزمان أزمة الإخوان القيادية تفسيرا فكريا، فهو يرى أن سببها العميق يرجع إلى الخلط بين "مبررات النشوء ومبررات الاستمرار"، بمعنى أن حسن البنا كان أحوج إلى من يقدر جهده ويبني عليه أكثر من حاجته إلى من يقدسه ويتوقف عنده. لكن هذا الاتجاه الأخير هو الذي ساد لدى حركة الإخوان المصرية ومن نحا نحوها من الإسلاميين في البلدان الأخرى. وحتى لو افترضنا أن جهود حسن البنا لا تشتمل على ثغرات وجوانب قصور –وهو غلو من القول على أي حال– فإن كثيرا مما يصلح لزمانه لا يصلح للأزمنة التالية لأنه ينتمي إلى طور "نشوء" الحركة لا إلى طور "استمرارها". ولكل عصر رجاله وأشكاله.

وقد تحدث بعض قيادات الإخوان مؤخرا عن تغييرات إجرائية في اختيار المرشد العام، ولم تنشر هذه التغييرات في وثيقة رسمية للحركة حتى الآن حسب اطلاعي. وتحدد التغييرات الجديدة فترة ولاية المرشد بست سنوات قابلة للتجديد عددا من المرات غير محصور. وهذا التطور لا يضمن تغييرا في البنية القيادية الراكدة، لكنه يجعل قادة الإخوان في مستوى قادة الدول العربية من حيث احترام بعض الشكليات على الأقل. أما قبل ذلك فقد كانت قيادة الحركة متخلفة في طرق اختيارها عن الرؤساء العرب أنفسهم.

ومن أغرب الأمور تبرير قيادات الإخوان لتعطيل التشاور وتعللها بالواقع الأمني، رغم أن الاجتماعات المادية لم تعد شرطا في التداول والتشاور في عصر الإنترنت.

أعتقد أن الوقت قد حان ليقدم الإخوان المسلمون أنفسهم قدوة للناس، لا في الالتزام الفردي بالخلق الإسلامي فقط وإنما بالالتزام الجماعي بتعاليم الإسلام الداعية إلى الشورى في بناء السلطة والمشاورة في أدائها. وما لم يفلحوا في ذلك فإن مستقبلهم السياسي سيظل مشكوكا فيه.

إن إفلاس الوقائع القائمة لا يضمن انتصار البدائل القاصرة. والقوة السياسية التي لا تستطيع تغيير نفسها لن تستطيع تغيير مجتمعها في نهاية المطاف.
ـــــــــــــــ
* كاتب موريتاني مقيم في الولايات المتحدة.
المصادر:
1- عمر عبيد حسنة، مراجعات في الفكر والدعوة والحركة، ص 116، 119.
2- H. Dekmejian: Islam in Revolution p. 165, 177
3- د. حسن مكي، حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969)، ص 196.
4- Robert Greenleaf : Servant Leadership p.63, 65
5- د. عبد الله النفيسي، الإخوان المسلمون في مصر.. التجربة والخطأ، ضمن كتاب "الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية"، ص 247، 216.
6- د. محمد عمارة، من مظاهر الخلل في الحركات الإسلامية المعاصرة، ضمن كتاب "الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية"، ص 346.
7- EL-Affendi: Turabi’s Revolution p. 167
8- إبراهيم زهمول، الإخوان المسلمون.. أوراق تاريخية، ص 175.
9- فريد عبد الخالق، نحو مراجعة المقولات والآليات، ضمن كتاب "الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية"، ص 316.

المصدر : غير معروف