الدور العربي والإقليمي بالصراع الدائر بين فتح وحماس


undefined
حسن نافعة

الصراع بين فتح وحماس يبدو طبيعيا بين فصيلين أحدهما قديم يظن الآخر أنه شاخ وحان وقت إزاحته, والآخر جديد يظن أنه بات الأكثر تأهيلا وأحقية لقيادة المرحلة المقبلة.

ويدور جوهر الصراع بينهما على محاولة الانفراد بقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، ومن الصعوبة فهم هذا الصراع ومعرفة الدور العربي والإقليمي فيه بمعزل عن السياق التاريخي للحركة الوطنية الفلسطنية.

وفي تقديري أن ما تقوم به حماس اليوم لا يختلف في جوهره عما قامت به فتح بالأمس. فالواقع أنه ما كان يمكن للكفاح المسلح أن ينتقل من موقع الهامش إلى موقع القلب في الحركة الوطنية الفلسطينية لولا هزيمة الجيوش العربية النظامية عام 1967 واضطرار الأنظمة العربية الرسمية للسماح بالعمل الفدائي.

الصراع في ميزان مصالح الأنظمة العربية
تغيرات إقليمية ودولية مؤثرة
الأنظمة العربية وإستراتيجية العزل والحصار والتجويع

الصراع في ميزان مصالح الأنظمة العربية

"
قرار حماس خوض الانتخابات التشريعية والتي جرت بعد عام من فوز محمود عباس بالانتخابات الرئاسية جاء مدفوعا بالرغبة في حماية نفسها كفصيل مقاوم أكثر مما كان مدفوعا بالرغبة في أن تصبح جزء من مؤسسات أوسلو التي ترفضها
"

عندما أثبتت فتح جدارتها في الميدان من خلال معركة الكرامة انفتح أمام زعيمها ياسر عرفات الطريق لتولي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية, بتأييد من عبد الناصر. ورغم تحفظات كثيرة على عرفات, ربما بسبب ما قيل عن ارتباطاته السابقة بجماعة الإخوان المسلمين, فإن عبد الناصر قرر أن يلقي بثقله وراءه لأنه كان في أمس الحاجة للمقاومة ورجالها في ذلك الوقت.

وإذا كان ضعف النظام العربي الرسمي سمح للمقاومة ورجالها بالتقدم لموقع الصدارة في حركة التحرر الوطني الفلسطيني, وفتح أمامها الطريق لاعتراف المجتمع الدولي والحصول على دعم سياسي وعسكري من الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية, فإن عجز عرفات عن إدراك حجم التناقضات والتعقيدات الكامنة في هذا النظام حال دون تمكينه من إدارة العلاقة معه بحكمة, ولذلك راحت تلتف حول عنقه تدريجيا إلى أن حاصرته كليا وأفشلت إستراتيجته.

فبعد فترة وجيزة من توليه قيادة المنظمة دخل عرفات في صدام مع عبد الناصر بسبب قبول هذا الأخيرلمبادرة روجرز عام 1969، ثم ما لبث أن دخل في صدام مع النظام الهاشمي انتهى بإخراج العمل الفدائي كليا من الأردن عقب أحداث أيلول الأسود عام 1970.

وبعد زيارة السادات للقدس وإبرام مصر معاهدة سلام مع إسرائيل, اختار عرفات أن ينضم إلى "جبهة الصمود والتصدي" لكن عندما انفرط عقد هذه الجبهة بدخول العراق حربه الطويلة مع إيران انكشفت المواقع الفلسطينية في لبنان وتمكنت إسرائيل من إغلاق باب العمل الفدائي من الجبهة اللبنانية وإجبار عرفات على نقل مقر قيادته بعيدا إلى تونس.

وعندما اتخذ عرفات مواقف خلال أزمة احتلال الكويت فـُُسرت على أنها مؤيدة لصدام تعين عليه أن يدفع ثمن هزيمته.

وهكذا وجد عرفات نفسه معزولا عند انعقاد مؤتمر مدريد، ولم يجد أمامه سبيلا للخروج من هذه العزلة سوى التفاوض السري المباشر مع إسرائيل وتوقيع اتفاقية أوسلو 1993 ليبدأ طريق السقوط نحو الهاوية.

وكما كان ظهور فتح على المسرح السياسي العربي منتصف الستينيات تعبيرا عن يأس الشتات الفلسطيني من وعود النظام الرسمي العربي وتأكيدا لتصميمه على أخذ زمام أمره بيده, كان ظهور حماس على المسرح السياسي وارتباطها بانتفاضة 87 تعبيرا عن يأس الداخل الفلسطيني من النظام الرسمي العربي ومن تنظيمات الخارج الفلسطينية معا.

وبينما كان عود حماس النضالي يشتد مع توالي الانتفاضات الفلسطينية, كانت فتح تتأهب للتحول من ثورة إلى سلطة, ولكن مشوهة وناقصة تعمل تحت رقابة العين الساهرة للاحتلال الإسرائيلي.

وهنا تكمن مفارقة أدت ليس فقط إلى جعل الصدام بين فتح وحماس أمرا حتميا، وإنما أيضا إلى إضعاف فتح لصالح حماس ثم إضعافهما معا.

كانت حماس تتحدث عن إستراتيجية بعيدة المدى تستهدف تحرير فلسطين "من النهر إلى البحر" في وقت لم يكن بوسع فتح أن تقنع الكثيرين بأنها قادرة حتى على إقامة دولة قابلة للحياة في حدود 1967.

وكانت حماس تتحدث عن إقامة مجتمع نظيف ملتزم بالقيم وبتطبيق الشريعة الإسلامية، في وقت كانت الصحافة الغربية والإسرائيلية تعج بالمقالات التي تتحدث تفصيلا عن فساد رموز كبيرة في فتح.

ورغم التناقض الظاهر في رؤية وبرامج ومناهج عمل الطرفين، كان بوسع فتح -رغم كل المصاعب- أن تتحدث خلال الفترة 1994-2000 عن "إنجازات" تتحقق على الأرض نتيجة انسحاب القوات الإسرائيلية من مدن ومواقع فلسطينية كثيفة السكان, مبررة بالتالي تشددها في مواجهة عناصر المقاومة المسلحة وإلقاء القبض عليهم والزج بهم في السجون وربما تعذيبهم.

تغيرات إقليمية ودولية مؤثرة

"
لأن حماس جزء من حركة الإخوان المسلمين فقد كان من السهل تخويف الأنظمة العربية منها والدفع في اتجاه التعامل معها كجزء من حركة أصولية عالمية تهددها وليس كامتداد للحركة الوطنية الفلسطينية المرتبطة عضويا بالأمن القومي العربي
"

غير أن الأوضاع على الأرض -كما على الصعيدين الدولي والإقليمي- راحت تتغير كليا لغير صالح فتح اعتبارا من عام 2000.

ففي منتصف هذا العام حقق حزب الله نصرا إستراتيجيا في لبنان مكنه من تحرير الجنوب اللبناني دون قيد أو شرط، بعد دحر قوات الاحتلال الإسرائيلي ومعها جيش سعد حداد العميل.

وبالقرب من نهاية العام نفسه كان قد تأكد فشل محاولة كلينتون التوصل إلى تسوية نهائية على المسار الفلسطيني في كامب ديفد الثانية. ورغم المرونة النسبية التي أظهرها باراك فإنه تبين بما لا يدع أي مجال للشك أن إسرائيل لن تنسحب إلى حدود 67 ولن تقبل بعودة اللاجئين إلى ديارهم أو بالسيادة الفلسطينية أو الإسلامية على المسجد الأقصى.

ورد الشعب الإسرائيلي على فشل باراك بمنح ثقته لشارون الذي جاء مصمما على فرض تسوية بقوة السلاح تقوم على اقتطاع ما يقرب من 40% من الضفة الغربية، وبناء جدار عازل حول المستوطنات يتعين قبوله كحدود دائمة بين "الدولتين".

الأنظمة العربية وإستراتيجية العزل والحصار والتجويع

وبوصول اليمين الأميركي المتطرف للسلطة ووقوع أحداث سبتمبر وما تلاهما من انطلاق "الحرب الأمريكية على الإرهاب" حدث تطابق إستراتيجي أميركي إسرائيلي كامل لخلق شرق أوسط جديد دفع بإسرائيل لإعادة احتلال الأراضي الفلسطينية وتصفية المقاومة المسلحة نهائيا وحصار عرفات تمهيدا للتخلص منه, ودفع بالولايات المتحدة لغزو واحتلال العراق.

وكان من الطبيعي أن تؤدي الهجمة الأميركية الإسرائيلية المنسقة إلى إعادة تشكيل التحالفات في المنطقة برمتها.

وهذا هو السياق الذي أفرز فوز حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي بعد قرارها خوض الانتخابات وشكل مفاجأة للجميع, بما في ذلك قيادة حماس نفسها, وهو نفس السياق الذي فرض على حماس أن تصبح موضوعيا شاءت أم أبت ومعها بقية فصائل المقاومة المسلحة الفلسطينية, جزءا من تحالف إقليمي أوسع يضم إيران وسوريا وحزب الله.

وفي تقديري أن قرار حماس خوض الانتخابات "التشريعية" والتي جرت بعد عام من فوز محمود عباس بالانتخابات "الرئاسية" جاء مدفوعا بالرغبة في حماية نفسها كفصيل مقاوم أكثر مما كان مدفوعا بالرغبة في أن تصبح جزءا من "مؤسسات أوسلو" التي ترفضها.

"
رأت إسرائيل في هذا المسار تطورا إيجابيا حاولت استغلاله لدفع التناقض بين حماس وفتح ثم بينها وبين النظام العربي الرسمي إلى منتهاه، وبدأت بالتنسيق مع دول عربية تعيد تسليح أجهزة الأمن وبالذات أجنحة معينة فيها موالية لها
"

ولأنه كان قد أصبح واضحا أن إسرائيل لا تريد أن تقدم شيئا لعباس قبل أن يثبت جدارته بتصفية المقاومة أولا, فربما تكون حماس قد خشيت منح صقور فتح الذريعة التي ينتظرونها, إن هي رفضت دخول الانتخابات للانقضاض عليها وتصفيتها عقب أول عملية عسكرية.

ولأنها لم تكن تتوقع الحصول على الأغلبية، فقد اعتقدت حماس أن حصولها على نسبة معقولة من المقاعد يكفي لحمايتها ضد عسف السلطة وتمكينها من تقديم الخدمات الأساسية التي تكفل تواصلها مع الشعب الفلسطيني.

وعندما فوجئت حماس بحصولها على الأغلبية لم يكن أمامها من خيار آخر غير قبول المشاركة في السلطة.

وفي تقديري أيضا أن إسرائيل سعدت تماما بهذه النتيجة، وعملت على توظيفها لصالحها إلى أقصى حد. فقد اكتشفت بسرعة أن أمامها فرصة ذهبية لتصفية حماس سياسيا إن هي استجابت للضغوط التي تطالبها بالاعتراف بها وبالاتفاقيات السابقة, أو لتهيئة الظروف المحلية والإقليمية الملائمة لتوسيع الهوة بينها وبين السلطة وأيضا بينها وبين الأنظمة العربية تمهيدا لتصفيتها عسكريا في مرحلة لاحقة إن هي رفضت الاستجابة لهذه الضغوط.

ولأن حماس جزء من حركة الإخوان المسلمين فقد كان من السهل تخويف الأنظمة العربية منها، والدفع في اتجاه التعامل معها كجزء من حركة أصولية عالمية تهددها وليس كامتداد للحركة الوطنية الفلسطينية المرتبطة عضويا بالأمن القومي العربي.

ورغم محاولة حماس إظهار قدر من المرونة ولكن دون أن تخضع بالكامل للشروط المطلوبة, فإن ذلك لم يكن كافيا كي يجنبها الحصار, ولذلك استمر العمل على تجويع الشعب الفلسطيني وإلقاء المسؤولية عليها لعل ذلك يساعد على عزلها وإسقاطها في النهاية.

وعندما فشلت سياسة الحصار والتجويع ولم تثمر النتائج المرجوة, بدأت عمليات التحرش والتحريض وتنظيم الاضرابات وأخيرا تأليب أجهزة الأمن لتنفلت الأعصاب في النهاية ويجري الاقتتال الذي انتهى بسيطرة حماس على الوضع كليا على قطاع غزة.

ومرة أخرى رأت إسرائيل في هذا المسار تطورا إيجابيا حاولت استغلاله لدفع التناقض بين حماس وفتح ثم بينها وبين النظام العربي الرسمي إلى منتهاه.

فأوعزت إلى عباس بأنها ستقدم له خطوات ملموسة إن هو تخلص من حكومة حماس وستعيد تنشيط العملية السياسية. وبدأت -بالتنسيق مع دول عربية أخرى- تعيد تسليح أجهزة الأمن وبالذات أجنحة معينة فيها موالية لها.

وفي إطار إستراتيجتها الرامية لتعميق التناقض بين فتح وحماس وتحويل فتح والسلطة إلى أحد مكونات "تحالف المعتدلين" دخلت الولايات المتحدة على الخط وحاولت بلورة إستراتيجية أكثر فعالية تستفيد من أخطائها السابقة.

وقد تطورت هذه الإستراتيجية لتسفر مؤخرا عن اقتراح أميركي بعقد "مؤتمر دولي" في الخريف القادم ترأسه وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ويضم "المعتدلين" في المنطقة لمساعدة عباس على تشكيل مؤسسات فلسطينية قوية تصلح نواة لقيام دولة فلسطينية معتدلة.

لكن الهدف الحقيقي هو تصفية حماس نهائيا دون أي ضمانات حقيقية بقيام دولة قابلة للحياة.

من المؤكد أن حماس ارتكبت أخطاء كثيرة أثناء اندلاع أحداث غزة الأخيرة, لكن من المؤكد أيضا أن قيادة فتح والدول العربية الموالية للسياسة الأميركية في المنطقة لعبت دورا أساسيا في دفع الأمور في هذا الاتجاه، وتتحمل بالتالي جانبا كبيرا من المسؤولية عما جرى.

فقد كان بوسع عباس أن يعمل على الاستفادة بشكل أفضل من حصول حماس على الأغلبية النيابية لتحسين الموقف التفاوضي للسلطة.

"
من المؤكد أن حماس ارتكبت أخطاء كثيرة أثناء اندلاع أحداث غزة الأخيرة, لكن من المؤكد أيضا أن قيادة فتح والدول العربية الموالية للسياسة الأميركية في المنطقة لعبت دورا أساسيا في دفع الأمور في هذا الاتجاه وتتحمل بالتالي جانبا كبيرا من المسؤولية عما جرى
"

وكان بوسع الدول العربية أن تعمل على دفع حماس لمزيد من المرونة الإيجابية، ولكن دون التفريط في تماسك الموقف التفاوضي العربي لو أنها رفضت الانسياق وراء الضغوط الأميركية والإسرائيلية الرامية للانخراط في إستراتيجية العزل والحصار والتجويع.

فقد أدت هذه الإستراتيجية في الواقع إلى دفع حماس دفعا للتقارب أكثر مع إيران. وبات واضحا تماما أن الولايات المتحدة وإسرائيل تعتقدان أن إقامة شرق أوسط جديد يتطلب أولا فك التحالف القائم بين إيران وسوريا وحزب الله والمقاومة تمهيدا لتصفية مكوناته الواحد بعد الآخر.

وقد تطلب فك هذا التحالف إقامة تحالف مضاد "من المعتدلين" مع تركيز الضغط العسكري على أحد أطرافه. وكانت التجربة قد بدأت بلبنان, من خلال الحرب على حزب الله, وبعد أن فشلت ها هي الآن تحاول تكرار نفسها في غزة.

وللأسف يبدو أنه ليس أمام الأنظمة العربية الموالية للولايات المتحدة أي خيار آخر سوى الاستمرار في لعبة لن تخدم في النهاية سوى المصالح الإسرائيلية.
_______________
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة والأمين العام لمنتدى الفكر العربي بعمان.

المصدر : الجزيرة