الدولة الخليجية


undefined

* بقلم: د. محمد عبيد غباش

تمهيد
خمسة مفاهيم للسلطة في الخليج

أولا: القبلية
ثانيا: الميراثية Patrimonialism
ثالثا: الدولة الريعية
رابعا: غياب النظريات
خامسا: الدولة الطرفية

الخاتمة

تمهيد

جاء في خطاب التكليف الموجه من منسق اللقاء الخامس والعشرين لمنتدى التنمية إلى كاتب هذا البحث أن المطلوب هو تناول "الخلل الاجتماعي ورؤية السلطة لحقوقها ومصدر شرعيتها وموقفها من حق المجتمع في المبادرات العامة، واعتمادها في ذلك على آليات ضبط سلطوي للأفراد والجماعات، الأمر الذي أدى إلى غياب دور فاعل للمجتمع وسلبية النخب فيه وأضعفت قدرة المجتمع على المشاركة في تقرير مصيره وتأمين مستقبله".
ويمثل التكليف تحدياً ليس هيناً بالنظر للطموح الكبير وربما الأمل بأن يقدم المنتدى بعد إكماله ربع قرن شيئاً أكثر من كونه لقاءاً ثقافياً اجتماعياً بين مجموعة قليلة من المثقفين الخليجيين. الطموح يهدف, بحسب الخطاب نفسه إلى تناول "أهم أوجه الخلل الهيكلية التي تم رصدها والتي يجب التصدي لها، باعتبار إصلاحها يشكل مداخل إستراتيجية للإصلاح الجذري من الداخل، وذلك تلبية لاحتياجات الإصلاح المنشود والتي تأخر القيام بها في دول المنطقة بسبب غياب إرادة سياسية ومجتمعية للتغير، وفي ذلك أيضا سداً لذريعة محاولات فرض (الإصلاح) من الخارج الذي قد يكون في بعض أوجهه حقا يراد به باطل".

والتكليف واضح في أنه لا يهدف إلى معالجة أكاديمية فقط لهذه الأمور بل إلى أن تكون أوراق العمل مساعدة على تبني السياسات Policy Oriented Papers، وأن تكون موجزة ومركزة (20-30 صفحة) ومتكاملة مع بعضها بعضاً تعبر عن المستوى المعرفي وتمثل التوجه الإصلاحي لأبناء المنطقة. والهدف المأمول هو أن تكون أوراق العمل هذه عناصر "في أجندة إصلاح جذري جاد من الداخل يعبر عن قلق أبناء المنطقة على المصير والمستقبل، ويشير إلى مرحلة جديدة من التعاطي الوطني مع القضايا العامة".

وقد رسم المنسق خارطة منهجية لصياغة كل ورقة بحيث تتناول كل ورقة عمل خمسة عناصر:

  1. توصيف الخلل وتحديد أوجهه وأبرز مظاهره، والتعرف على آليات إعادة إنتاجه.
  2. رصد أبعاد الخلل ومخاطر استمراره وتداعياته المستقبلية.
  3. بيان الأهمية الإستراتيجية لإصلاح الخلل في عملية الإصلاح المنشودة.
  4. إمكانية إصلاح الخلل من الناحية العملية وكيفية ذلك.
  5. متطلبات إصلاح الخلل على مستوى الحكومات ومستوى المجتمع الأهلي ومستوى المواطن الفرد.

وأهاب التكليف بأن يقوم كاتب كل ورقة بالإلمام بما تم طرحه من قبل المنتدى عبر ربع قرن من تشخيص لأوضاع المنطقة ودعوة لإصلاح أوجه الخلل فيها.
وبرغم مشاركة الباحث للمنسق رؤيته إلا أن بعض التعديل على مخطط بحث السلطة الخليجية كان ضروريا لأسباب عديدة:

  • بخلاف باقي البنود المثارة في الأوراق البحثية فإن موضوع السلطة كان من المواضيع التي لم تدر على بساط البحث في منتدى التنمية بشكل مباشر في كل ندواته, وهو لذلك لا يحتوي أدبيات تراكمية يمكن رصدها وتلخيصها وتحديثها كما هو الحال في البنود الأخرى التي قدّم فيها المنتدى مساهمات كبيرة سواء كندوات نقاشية أو كأدبيات مطبوعة. ولهذا فستلعب الورقة البحثية هذه دور إثارة الأسئلة وطرح الخيارات المختلفة لإجابتها حتى يقوم المشاركون في الندوة المقبلة بإغنائها بمساهماتهم وإضافاتهم ونقدهم.
  • من المتعذر أن تتخذ الورقة الصيغة التي طلبها المنسق بأن تكون ورقة عمل مساعدة على تبني السياسات العامة, وذلك لأن قضية السلطة هي شيء أكبر من كونها سياسة عامة يمكن تكييفها بكيفية معينة عبر التسويات والمساومات السياسية المعروفة بين اللاعبين السياسيين, بل هي تطال القاعدة التي يقف عليها النظام السياسي برمته, وهي وإن لم تكن مستعصية على التغيير فإن تغييرها يعني فيما يعنيه تغيير النظام السياسي ومؤسسات تقاسم القوة فيه.
  • ولذلك فسيكون سعي الورقة في تحليل السلطة الخليجية بأمل أن فهماً أكبر لها سيمكّن من التفاعل معها بشكل أكثر كفاءة سواء من جانب نخبها الثقافية أو من جانب مواطنيها. وهذا من شأنه تغييرها بشكل أو بآخر, بدرجة طفيفة أو عميقة. بل إن تغلغل رؤية أعمق للسلطة الخليجية في وعي بعض شخصياتها القيادية كفيل هو الآخر بأن يكسب النظام السياسي الخليجي إدراكاً حقيقياً للمخاطر التي تتهدّده وفهماً أكبر لجوانب ضعفه, فهماً ربما يؤدي لجهد حثيث يدفع لاستئصاله, فليس هناك ما يستثني أو يمنع النظام الخليجي من الاتصاف بسمة العقلنة التي رصد ماكس فيبر تمثلها في سلوك الدول الحديثة التي أخذت بالظهور منذ منتصف القرن التاسع عشر.

خمسة مفاهيم مختلفة للسلطة في الخليج


الخليجي لا يشعر بمواطنيته في دولة حديثة بل كعضو في تحالف قبلي واسع يمحض فيه ولاءه للشيخ المترئس للتحالف مقابل حصوله على نصيبه من الغنائم

تسعى هذه الورقة إلى تسليط الضوء على خصوصية النظام الاجتماعي في دول الخليج الأعضاء في مجلس التعاون، وفهم آلية عمل السلطة السياسية فيه, والتحولات المختلفة التي لحقت بها لتكون ما هي عليه اليوم.

قدم باحثون عديدون الكثير من الفرضيات لتفسير جمود المنطقة الخليجية عن اللحاق بالعالم على صعيد الديمقراطية, ولكونها محتوية على أنظمة ملكية مطلقة أو غير دستورية ليس لتركيزها في منطقة صغيرة نظيراً في العالم. وقد طُرحت نظريات عديدة لفهم طبيعة السلطة السياسية في دول الخليج العربي الأعضاء في مجلس التعاون. يمكن تقسيم هذه النظريات إلى ثلاثة مفاهيم أساسية ذات تباين واضح: نظرية القبلية الخلدونية، نظرية الميراثية العائدة إلى ماكس فيبر ونظرية الدولة الريعية العائدة إلى الباحث الإيراني مهداوي.

وستعرض الورقة أيضاً نظريتين إضافيتين من المهم رصدهما حتى وإن لم يتمتعا بالقبول الكبير من جانب المجتمع البحثي. ستناقش الورقة نقدياً هذه النظريات وستحاول عبر هذه المناقشة رصد ظاهرة السلطة في الخليج وتمييز آليات حركتها في وسط مجتمعها وفي البيئة الإقليمية والدولية.

أولاً: القبلية

undefinedيجد هذا المفهوم مادته في الخلفية القبلية للمجتمعات الخليجية, في أن دول الخليج ليست إلا قبائل بأعلام (tribes with flags) بحسب تعبير أحد الكتاب الإنجليز, وفي أن الخليجي لا يشعر بمواطنيته في دولة حديثة بل كعضو في تحالف قبلي واسع يمحض فيه ولاءه للشيخ المترئس للتحالف مقابل حصوله على نصيبه من الغنائم, وينظر فيه على أن الحالة الخليجية لا تعدو أن تكون سلسلة من أعمال النهب والإغارة، وأن التحولات السياسية فيها ليست إلا نجاح تحالف قبلي أو جناحا في الأسرة أو ابن عم أو أخ أو ابن في الإطاحة بأبيه أو قريبه المتربع في السلطة والإتيان بتحالف قبلي جديد أو جناح محروم من الأسرة لتبدأ عملية جديدة من عمليات النهب وتقسيم الغنائم.

تشكل تحليلات عبد الرحمن بن خلدون الجذر الأصلي لهذا المفهوم والذي يلقى قبولاً من العديد من الباحثين. ونجد حيوية هذا النظام النظري مستمرة إلى اليوم. فعلى سبيل المثال نرى في كتاب "صراع القبلية والديمقراطية.. حالة الكويت" للدكتور خلدون النقيب أن المفهوم الخلدوني بتنويعات واختلافات في التفاصيل يحتل مكان الصدارة.

بداية, فإن الميزة الواضحة للنظرية الخلدونية في إجلاء دور في المرحلة السابقة للاستقلال من الاستعمار ليست أكيدة، وذلك لأن الإدارة الاستعمارية كانت تعدل بشكل مباشر أو غير مباشر من طبيعة الحكم القبلي. بل لا يمكن قبول النظرية بشكل تام ولتفسير لفهم العلاقات الاجتماعية السياسية السابقة لمجيء المستعمر, وذلك لأن الاستثناء كان يتمثل في تمتع الوحدات القبلية بالاستقلالية السياسية عن الكيانات السياسية المركزية في ذلك الوقت، أما القاعدة فكانت في خضوعها لهذه الوحدات سواء الدولة العمانية أو العثمانية أو السعودية الأولى أو الدولة اليعربية في عمان.

يلاحظ على المحاولات المبكرة لتطبيق النظرية الخلدونية على مجتمعات الخليج أنها تجاهلت التحول المادِّي الهائل الذي طرأ على هذه المجتمعات في العقود الأخيرة والذي أدى إلى ضعضعة البناء القبلي للمجتمع إن لم يكن قد قوّضه تماماً, ولعل هذا ما حدا بالباحثين كلارك وباون جونز, على سبيل المثال, إلى نقد كتابات الباحثة الراحلة آن فايف حول الإمارات حين ذكرا أنه "لا تزال تذاع أقوال بالغة الخطأ تتصل بالسكان غير المستقرين.

لقد زعمت فايف قبل وقت بأن 30% من سكان الإمارات العربية المتحدة هم من البدو. لكن في الحقيقة فإن نسبة السكان الناشطين في ميدان الزراعة منخفضة وتبلغ 3.2% (إحصاء الإمارات العربية المتحدة 1976). ومن هؤلاء قلة منهم يعملون في إنتاج الماشية. إن فايف تستخدم مصطلح "بدوي" لتعني سكاناً منتشرين بقطع النظر عن إن كانوا متنقلين من الناحية الجغرافية أو عن مصدر موارد رزقهم. في الواقع إن أغلب هذه الأسر تحصل على دخلها من القطاع الاقتصادي الحديث وبالذات من التوظّف في الخدمات الحكومية" (1).

هناك العديد من العوامل التي تزعزع صلاحية تطبيق مفهوم القبلية على دول الخليج في الوقت الراهن. فعلى سبيل المثال نجد أن نسبة المواطنين المتحدرين من خلفية قبلية يمكن لهم تذكّرها أصبحت تشكل نسبة يزداد تضاؤلها يوما بعد يوم (في حالة مواطني الإمارات لم تتجاوز النسبة 15% في نهاية السبعينيات) (2).

إضافة لذلك, فإننا نجد أن من يسمون رجال القبيلة قد قطعوا روابطهم المادية مع نظامهم القبلي قبل عدة عقود. وهذا جاء نتيجة لاستقرارهم في مدن وللتحول في نشاطاتهم الإنتاجية، هذا التحول الذي بدأ حتى قبل اكتشاف النفط. لهذا فالبناء القبلي للعديد من القبائل متهدَم إلى درجة أن "أعضاء" القبيلة لم يعودوا يستطيعون تمييز شيخ قبيلتهم أو يقومون بفض المنازعات بالأسلوب القبلي أو أن يعبئوا قواهم لدى بروز صدامات ما.

لجملة هذه الأسباب ولغيرها فإن من الواجب الإصغاء إلى تنبيهات الباحثين ريتشارد وواتربري التي تحذر من رؤية أشكال لنظم سياسية معاصرة كإعادة إحياء للنظم التي سبقتها. وبحسب تعبيرهما، فإن القبيلة والتضامن القبلي بالشرق الأوسط في القرن العشرين يشكلان ظواهر مختلفة نوعياً عن القبيلة والتضامن القبلي في القرن السابع عشر والثامن عشر "الشيء الذي اختلف بشكل جذري هو الدرجة التي اخترقت بها الدولة والسوق كل قطاعات مجتمع الشرق الأوسط" (3).

أدى ظهور النفط إلى ولادة مجتمع حضري يتمتع بأغلبية سكانية على باقي المناطق وذلك نتيجة الهجرة الداخلية الواسعة من المناطق البدوية الزراعية إلى المدن. التحضر في دول الخليج لا يمثل فقط توافد أعضاء القبائل إلى المدن: إنه انصهار في داخل مدن تشهد عملية غير مسبوقة تاريخياً نحو التحديث من حيث السرعة (في أربعة عقود) ومن حيث العمق (التحول من اقتصاد ندرة بدائي إلى اقتصاد قائم على إنتاج النفط وتدوير المال. وقد عبّر عضيد داويشه عن جوانب هذا التحول الاجتماعية حينما كتب "مع تزايد التحضر وتسارع التعليم وزحف الثقافة الغربية، فإن القيم والاتجاهات التقليدية التي كان يمكن الاعتماد عليها لتثبيت استقرار النظم السياسية أصبحت تواجه التشكك بشكل حتمي. لقد أخذت القيم القبلية تتلاشى مع المعيشة الحضرية وأخذ التوسع في النشاط الاقتصادي يشتت الوحدة الفيزيائية والترابط الداخلي للأسرة…" (4).

لهذه الأسباب، فأكثر المتحمسين لهذه النظرية لا يملك إلا أن يرفق تطبيقه لها على الوضع الخليجي بالكثير من التعديلات للمفهوم وذلك بغية تجاوز المشكلات الظاهرة المتمثلة في أن مواطني الدول الخليجية في غالبيتهم الساحقة تحوَّلوا من أنشطة الإنتاج القبلي إلى أنشطة إنتاج مرتبطة بالدول النفطية. الجانب الذي توليه النظرية أهمية فائقة هو الجانب الثقافي، وهو جانب يرى أن المواطن الخليجي برغم تحوله الإنتاجي والاستهلاكي إلى أَنماط حضرية وحديثة، إلا أنه فيما يتعلق بمفاهيمه السياسية لا يزال متعلقاً بانتماءاته القبلية والأُسرية -ولا تزال العصبية القبلية هي المحرك الأول لسلوكه السياسي.

تجدر الإشارة إلى أن ابن خلدون قدم تفسيراً جديراً بالتأمل, وإن كان بالضرورة جزئياً, لغياب التسيّس عند قطاعات واسعة من المجتمعات العربية، خصوصاً المجتمعات التي خلعت قبليتها حديثاً. ولعل التفسير يهدم أطروحة القبلية نفسها لتفسير الظاهرة الخليجية من أساسها. فالدورة الخلدونية تختتم بالمُلك، وفيه تبرز ظواهر ما يسميه ابن خلدون "حصول المذلة للقبلية والانقياد إلى سواهم", وسبب ذلك أن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدتها"… وأن العصبية "هي التي تكون لها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة وأن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله" (5).

نحن إذن أمام ظاهرة سياسية جديدة تمثل نقيضاً تاماً للظاهرة القبلية القائمة على العصبية، نحن أمام ظاهرة الملك التي وإن بحثها ابن خلدون إلا أن بحثه لها لا يجد الصدى ذاته لبحثه حول القبيلة في الدراسات الحديثة. يقدم ابن خلدون أيضاً تفسيراً بسيطاً لظاهرة الخضوع المديني حتى قبل أن تفتر العصبية حينما يشير إلى أن العصبيات المغلوبة تسلم أمرها للعصبيات الغالبة ولا تبذل أي خطاب مضاد لهذا الغُلب (6).

مع ذلك فمن المهم ألا نقلل من أهمية مفهوم ابن خلدون القبلي كتفسير سيكولوجي لبعض المواطنين الخليجيين الذين برغم أنهم تخطوا وضعهم القبلي مادياً منذ زمن ليس بالقصير إلا أنهم يواصلون امتلاك بعض مكوناته النفسية. أحد هذه المكونات يقدم تفسيراً لخصوصية يجب رصدها في علاقة المواطن بالسلطة؛ هذه الخصوصية تتلخص ليس في سلب الغنيمة كما ينظر البعض بل في أن أغلب الخليجيين يرتبطون برابط الدم, بروابط بشرية, وليس جغرافية. فهم حديثي عهد بشعور الانتماء لأرض مسورة بحدود دولية والشعور بامتلاك الثروات الجيولوجية في أعماق هذه الأرض.

ثانياً: الميراثية Patrimonialism

أشار العديد من الباحثين إلى سمة بارزة للنظم السياسية في الخليج ألا وهي ديمومتها مقارنة بالكثير من الدول الجديدة التي بعد أن نالت استقلالها عاشت اضطرابات سياسية عاصفة، انقلابات عسكرية, ثورات شعبية… إلخ. ينظر الأنثروبولوجيون الفيبريون إلى نشوء القوة الاستعمارية كأصل عملية التحوّل من سلطة ميراثية إلى سلطة ديوانية (بيروقراطية). فالنظام الاستعماري حافظ على وجود نظامين: النظام التقليدي المنظم لعلاقات الإخضاع ذات الطابع الشخصي, والنظام الحديث المعتمد على الديوانية الذي يؤسس علاقات أقل شخصية (7).

في النظام التقليدي، حسب مفهوم فيبر، تتولد الشرعية بقوة التقاليد والسلطة التي تتعاظم هيبتها بمرور الزمن عليها. وفي هذا يشير إيليا حريق إلى إساءة تقدير هذا النوع من السلطة من جانب التيارات الوطنية ومعهم علماء الاجتماع:
"… كثيراً ما أغفلوا حقيقة أن البنية تخلق الأسطورة. حينما يتم إنشاء بنية ما فإنها تطوّر قوى من المصالح الراسخة وتنتج شعوراً عند الأفراد، بمثل ما يشبه العادة، يجعلهم يتوحدون مع البنية. السلطة التقليدية كما يحدثنا ماكس فيبر هي قوة القبول المتعود لطرائق الأسلاف كطرائق صحيحة. وتطوير هذا الشعور المتعود للتوحد مع البنية لا يحتاج إلى قرون من الزمن" (8).

من بين أنواع السلطة التقليدية تشكل الميراثية أكثر حالات السلطة التقليدية أهمية للتطبيق على السلطة في دول الخليج. يعرِّف فيبر هذه كحالات تنشأ عندما تطوِّر الهيمنة التقليدية قوة إدارية وعسكرية لا تعدو عن كونها أدوات شخصية بحتة للرئيس. لحظتها فقط فإن أعضاء الجماعة تتم معاملتهم كرعايا. في السابق كانت سلطة الرئيس تظهر كحق متفوق للجماعة، لكنها الآن تتحول إلى حقه الفردي الذي يحوز عليه كما يحوز أياً من أشياء التملك. ومن حيث المبدأ فهو قادر على توظيف حقه كأي استثمار اقتصادي: بالبيع وبالرهن وبالتقسيم بين الورثة.

ويحلل فيبر بأن أساس الدعم الذي يلقاه الرئيس في النظام الميراثي هو العبيد والحرس الشخصيين والجيوش المرتزقة، بالإضافة للرعايا المجندين إلزاميا. ومن خلال هذه الأدوات يستطيع الحاكم أن يوسِّع مجال سلطته الاستبدادية وأن يضع نفسه في منزلة منح النعم والأفضال متجاوزا القيود التقليدية للبنى الحاكمة الأبوية أو القائمة على كبار السن (9).

رغم الجهود الكبيرة فقد شابت تطبيق مفهوم فيبر على المجتمعات الخليجية صعوبات عديدة. يعود سبب ذلك إلى أمور عدة منها أنه من النادر أن نرى أسلوب حكم واحد صرف في أي مجتمع خليجي: الأكثر شيوعاً أننا نرى نظام السلطة التقليدي -الميراثي- متعايشاً جنبا إلى جنب مع أشكال سلطة مغايرة قائمة على البيروقراطية, وفي حالة الكويت مع شكل سلطة يمتلك بعضاً من خصائص النظم الديمقراطية الحديثة، وفي حالة الإمارات يقوم النظام الاتحادي بتحجيم الكثير من قوة السلطات الميراثية على المستوى المحلي.

وبسبب تمازج أكثر من نظام يقدم لوشياني تطبيقاً خاصاً يمزج فيه بين مفهوم فيبر وتحديد خصوصي للدولة يطلق عليه استخدام مصطلح دولة حصصية "Allocation State", وهو ينظر إلى هذه الدول لا كدول قبلية بل كأنظمة ميراثية, ويرفض النظر إليها كأنظمة إقطاعية أو تقليدية.

إن مفهوم الدولة الحصصية يمكّننا من التغلب على أحجية: إن الملكيات الميراثية الحاكمة لا هي بتقليدية ولا هي بإقطاعية. فهي لم تكن إقطاعية قط، أما كونها تقليدية فهو أمر قد يكون بمعنى امتلاكهم لتقاليد ما وليس لكونهم هم ذاتهم كما كانوا قبل 20 أو 30 سنة. قد لا تتغير المظاهر كثيراً (في الحقيقة فإنها تغيرت كثيراً) لكن المضمون هو شيء مختلف كلياً: إن الحكام "التقليديين" اليوم يديرون دولاً حصصية معقدة ومحنكة. الذي حدث هو أن شكل الحكم الميراثي جاء مناسباً جداً لخصوصية الدول الحصصية (10).

ولوشياني لا يرى أن الديمقراطية تمثل مشكلة للدول الحصصية، فبالرغم من أنه يبدو من النافع إنشاء نوع من المؤسسات التمثيلية للتنفيس وللسيطرة على بعض أشكال السخط إلا أن أعضاء هذه المؤسسات لا يملكون بالضرورة إلا ارتباطاً واهياً مع قاعدتهم الشعبية: حواراتهم تواجه بلامبالاة من الجمهور، والحاكم يستطيع حل هذه المؤسسات دون أن يواجه عملياً أي مقاومة (11).

تبدو الميراثية منطبقة أكثر على نظام الحكم المتولد من مجيء الاستعمار وقيامه بتحويل سلطة شيوخ القبائل القائمة على الدم والعصبية (بالمعنى الخلدوني) إلى حكام يسيطرون على رقعة جغرافية محددة, ويحتكرون السلطة في ذريتهم؛ شيء يشبه الإقطاع من جهة, ويشبه علاقة الوالي أو الوكيل المحلي بالسلطة المركزية الأجنبية.

لكن الوضع طاله تحول جوهري مع رحيل القوة المستعمرة وما تبعه من ترقية للكيانات السياسية ما قبل الدولتية pre state إلى كيانات دولية تتمتع بشرعية إقليمية ودولية. إضافة لذلك فإن السمة التي تميز الأنظمة الخليجية بعد الاستقلال ولا تلقى لها معادلاً في مفهوم فيبر للسلطة الميراثية تتركز في حقيقة أن النفط كان أساسيا ليس لتشكيل الدول في الخليج العربي وحسب بل وللتحول الذي أصاب نظام السلطة الخليجية نفسها. فالحكام التقليديون كانوا يعتمدون على شكل من أشكال الضريبة من المحكومين، لكن المداخيل النفطية عملت بشكل درامي على دعم سلطة الحاكم ومكنته من نيل الاستقلال المالي عن المحكومين.

يمكن أن نشاهد صعود الحاكم وتحوّله إلى حاكم ميراثي يتعزز بداية على يد قوى المستعمر، هذه القوى التي رقَّت الحاكم من موقع شيخ القبيلة أو شيخ التحالف القبلي (الذي نستطيع فهم آليته ضمن المقولات الخلدونية) ليكون حاكما ميراثياً. لكن الترقي من السلطة الميراثية إلى السلطة الراهنة على يد النفط أساساً لا يكفي فهمه عبر المقولات الفيبرية. ولعل هذا النقص هو الذي حدا بالباحثين لتطوير مفهوم جديد يناسب الوضع النفطي.

ثالثاً: الدولة الريعية


تحتكر السلطة السياسية في الخليج أسر حاكمة مقابل عقد اجتماعي تقوم بمقتضاه بضمان الوظائف والخدمات الاجتماعية وتستقبل المجتمعات الخليجية هذه الخدمات لا كحقوق مواطنة بل كهبات تقوم مقابلها بالصمت عن إطلاق يد الحاكم ليتصرف على هواه

يحظى مفهوم الدولة الريعية بصدى غير قليل بين الباحثين في الشأن الخليجي. ولعل السبب يعود جزئياً إلى عجز النظريات القبلية والميراثية عن الاستيعاب النظري لآثار التحديث الواسع في هذه المجتمعات.

يعود هذا المفهوم إلى الباحث الإيراني مهداوي. وهو يقدم تفسيراً ليس للسلطة في الدول الخليجية وحسب بل للسلطة في دول أخرى لا تعتمد على النفط بشكل مباشر. وقد جاء التفسير لطبيعة السلطة السياسية معتمداَ على أن النظام الاقتصادي في الخليج ولّد دولة ريعية لا تفرض الضرائب والمكوس على مواطنيها، بل تقوم على عكس كل دول العالم، بالدفع لهم في دولة رفاه غير ضريبية, وعبر توظيفهم في ملاكاتها الإدارية والخدمية والأمنية.

وهو شيء يشبه عملية رشوة سياسية: أسر حاكمة تحتكر السلطة السياسية مقابل عقد اجتماعي تقوم بمقتضاه بضمان الوظائف والخدمات الاجتماعية, ومجتمعات تستقبل هذه الخدمات لا كحقوق مواطنة بل كهبات تقوم مقابلها بالصمت عن إطلاق يد الحاكم ليتصرف على هواه.

يُعرّف مهداوي الدول الريعية على أنها دول تتلقى موارد كبيرة من الريع الخارجي بشكل منتظم. الريع الخارجي بدوره يُعرّف كريع يتم دفعه من أفراد أو شركات أو حكومات أجنبية إلى أفراد أو شركات أو حكومات البلد المعني. يرى مهداوي أن دفع رسوم المرور في قناة السويس يمثل ريعاً خارجيا, كذلك الأمر مع دفع رسوم بناء واستخدام أنابيب النفط المارَّة في أراضي البلدان المعنية. والأهم أن مهداوي يعتبر العائدات النفطية المحصلة من طرف الدول المصدرة للنفط ريعاً خارجياً أيضاً.

والظاهرة التي تسترعي انتباه مهداوي في تطبيقه لمفهومه هي أن "الإسهام الأساسي لقطاع النفط يكمن في تمكين حكومات البلدان المصدّرة للنفط من الإقدام على برامج إنفاق عام كبيرة دون الحاجة لفرض الضرائب, ودون الوقوع في عجز في ميزان المدفوعات أو مصاعب تضخمية, وهو ما تعاني منه الدول النامية الأخرى. هذا لا ينتج بالضرورة نظاماً اشتراكياً لكن يمكن له أن يتحول إلى ما يمكن اعتباره دولانية محظوظة: إذ تصبح الحكومة عاملاً مهماً بل وحاسماً في الاقتصاد" (12).

إحدى النتائج المهمة للنظرية الريعية كما يرى الباحث نجم آبادي يتمثل في أن المجتمع المدني قد أسقط مطالبه عن الدولة، لأنه لا يرى من حقه التأثير في السياسة. كما أن الدولة نجحت بشكل ما في التخلص من وشائجها المدنية. هذه الاستقلالية عن المجتمع المدني مرتبطة بمداخيل النفط الكبيرة المدفوعة مباشرة للدولة (13).

ويربط حازم الببلاوي مفهوم مهداوي بالقبلية حين يعلن بأن "التراث القبلي الطويل المتسم بشراء الولاء والإخلاص تعزز عبر أُعطيات الدولة التي توزع المنافع والمنح لسكانها" (14)، والتي يتم توظيفها بحسب تعبير روجر أوين في شراء الشرعية من خلال الإنفاق العام بالإضافة إلى الأعطيات الممنوحة لأغراض كسب الولاء الشخصي. ويضرب أوين الأمثلة على مثل هذه الأنشطة: بالأعطيات النقدية بشراء الأراضي المملوكة للأفراد بأسعار كبيرة، وبوسائط مؤسساتية من خلال خدمات دولة الرفاه، ابتداء بالتعليم المجاني والرعاية الصحية وانتهاء بدعم أسعار الكهرباء والماء والسكن (15).

بالإضافة لذلك يرى أوين أن التوسع الديواني (البيروقراطي) والاقتصادي أتاح فرصاً أكثر لحيازة الرضا الشعبي من خلال توفير الوظائف والقروض وإمكانية الدخول في مضمار واسع من الأنشطة الرابحة (16).

ومثل أوين يوسع الببلاوي مفهوم الدولة الريعية ليشمل مجتمعاً ريعياً, لكنه يضيف أيضاً عاملاً ثقافياً: عقلية ريعية. تقوم هذه العقلية في رأي الببلاوي بكسر الارتباط بين العمل والمكافأة على أدائه: "… المكافأة تصبح كسباً غير متوقع وليس كثمرة للعمل الشاق المتواصل مرتبطة بالوضع الاجتماعي ولذلك فهي غير مضمونة وانتهازية" (17).

undefinedويجمع منظرو الدولة الريعية على أن نشاطات الدولة الريعية تخلق حالة من الخضوع لدى المواطنين. فهؤلاء لا يرون أهمية للفوارق في توزيع الثروة, ولا تمثل هذه الفوارق حافزاً كافياً لمحاولة تغيير النظم السياسية. ويكمن الحل بالنسبة للفرد الذي يشعر بالغبن لمشكلاته أساساً في المناورة لحيازة منافع أكبر بواسطة النظام القائم وليس في التعاون مع آخرين يعيشون حالته نفسها لأجل التغيير.

وينحط الحراك السياسي لذلك في هذه المجتمعات ليصبح لا أكثر من دسائس يتم تدبيرها بين الحاشية في دواوين الحكومة، لكن هذه المناورات نادراً ما تتطور إلى حوار سياسي حقيقي. وبشكل مماثل يعلن الببلاوي أنه مع عدم وجود ضرائب تُذكر فإن المواطنين أقل إلحاحاً نحو المشاركة السياسية، وأن تاريخ الديمقراطية ترتبط بدايته مع نوع من الارتباط المالي "لا ضرائب دون تمثيل" (18).

تنطلق نظرية الدولة الريعية أساساً من تحليل اقتصادي لا يرى في النفط وهو مادة هيدروكربونية محسوسة تم تحويلها إلى سلعة عبر عملية البحث والتنقيب والإنتاج والتعبئة والشحن والتسويق إلا كريع إيجاري بدلاً من النظر إليها كجزء من الأصول الرأسمالية المملوكة للدولة. وإذا صدقت النظرية في اعتبارها رسوم المرور في قناة السويس ريعاً إيجارياً لاستخدام القناة, وإذا هي صدقت أيضاً في اعتبار رسوم استخدام أراضي الدول الأخرى لإقامة أنابيب نفط ريعاً إيجارياً. وإن هي صدقت أيضاً (بجهد جهيد) في اعتبار المعونات الخارجية ريعاً إيجارياً فكيف يتم اعتبار انتقال مواد تشكل جزءاً من الثروة الطبيعية المحسوسة للدولة منها إلى المستهلكين ريعاً؟

وإذا نجح دعاة النظرية في المجادلة بصدق ذلك، فكيف يمكن لهم أن يمنعوا اعتبار أي دولة أخرى تنتج معدناً في العالم دولة ريعية- سواء كان ما تنتجه هو الفوسفات كالمغرب، أو اليورانيوم كجنوب أفريقيا أو النفط كروسيا؟ ربما كان مهداوي معذوراً وهو يطرح المفهوم في نهاية الستينيات حينما كان عائد النفط يتخذ شكل الضريبة الإيجارية على شركات النفط. لكن لا يصدق الأمر الآن بعد التحولات العميقة في العلاقة بين شركات النفط والدول التي تعمل هذه الشركات فيها إلى حدود جعلت أكثر الدول تمتلك حصص الأغلبية في هذه الشركات بحيث أصبحت نسب كبيرة من الموارد تتخذ شكل بيع الملكية المباشرة للسلعة الهيدروكربونية.

الأسوأ من ذلك أن هذا المنظور الاقتصادي الضيق التبست عليه المسألة الشكلية، وهي ليست سوى أكثر من اصطلاح عرفي، فأصبحت العلاقة الفعلية -علاقة الملكية للنفط من قبل المجتمع- أو الدولة للموارد غائبة أو مغيّبة. كما أن تمحيص النتيجة التي يصل لها منظرو الدولة الريعية كل بلغته الخاصة والمتصلة بادعاء شراء الشرعية من خلال الإنفاق العام يكشف أن هذه النتيجة غير قابلة للتكذيب وهو الشرط الأساسي الذي وضعه كارل بوبر للتمييز بين ما هو قابل لأن يكون علماً وبين اللاعلم (19).

فالإنفاق العام بحد ذاته هو نشاط تخوضه كل الدول ريعية كانت أم لا ريعية. ولذلك فمن الشطط اعتبار أنه حينما توفر الكويت تعليماً مجانياً فإن ذلك نوع من الرشوة لكسب الولاء بينما حين تفعله هولندا فهذه من سمات دولة الرفاه. من جانب آخر فبالإمكان رؤية أن كل الدول تقريباً تقوم بتوظيف الإنفاق العام لأجل نيل رضا وكسب ولاء كل المواطنين أو قطاعات هامة في نظرها منهم، فكيف نقوم بتمييز أن السلطة الخليجية تمارس شيئاً آتيا بشكل طبيعي من كونها ريعية بينما الشيء ذاته تمارسه سلطات دول غير ريعية؟

ونحن إذا ناقشنا بعض نتائج التحليل الريعي وتطبيقاته على الوضع الخليجي فإننا نلاحظ تهافتا بيناً: فعلى سبيل المثال يعدّد الببلاوي أمثلة على شراء الولاء في الكويت بعد الاستقلال، لكن الكويت نفسها تقدم مثالاً مضاداً لأطروحة الببلاوي حول تعذر قيام ديمقراطية في دولة ريعية لا تفرض الضرائب على مواطنيها، فقد أثبت مجلس الأمة الكويتي مراراً أنه أكثر المؤسسات شبه البرلمانية استقلالية عن السلطة الحاكمة في العالم العربي. إلى ذلك فربط الببلاوي بين الضريبة والتمثيل يكشف أغلوطة منطقية بدائية في الاستنتاج بأن "لا ضريبة دون تمثيل" يعني بالضرورة ألا تمثيل دون ضريبة. ويقوم نجم آبادي مستشهداً بالثورة الإيرانية بالتحذير من المبالغة في دور غياب الضريبة, ذاكراً بأن مجتمعاً خالياً من الضرائب لا يعني بالضرورة أنه مجتمع خاضع وخال من السياسة (20).

حتى محاولة توسيع مفهوم الدولة الريعية ليحتوي مجتمعاً وأفراداً ريعيين وعقلية ريعية، هذا التوسيع إذ يساوي بين كيفية حصول الدولة على ريعها مع كيفية حصول المواطن على دخله، لا يكلف نفسه تحليل كيفية حصول المواطنين على هذه المداخيل. حقاً إن جزءاً من موارد الدولة يتجه بشكل مباشر نحو المواطنين بالكيفية التي سبق ذكرها (الخدمات العامة، شراء الأراضي… إلخ) لكن غالبية المواطنين يحصلون على مداخيلهم من خلال بيع قوة عملهم كموظفين, وقلة منهم تستحوذ على مداخيل ريعية: إيجارات العقارات وأرباح المضاربات (مع استثناء أرباح المؤسسات التجارية والصناعية التي يمتلكونها والتي تعرّف في النظرية الاقتصادية كربح وليس كريع إيجاري). لكن هذه مع كونها مداخيل ريعية إلا أنها ليست مباشرة ريعاً نفطياً.

بخلاف فكرة تحرير المواطنين من الضرورة, إضافة إلى فرص الكسب المادي غير المتولد عن جهد، فإن مفهوم الدولة الريعية لا يقدِّم تفسيراً مرضياً لعلاقة امتلاك الثروات النفطية من قبل السلطات الخليجية التي تمارس حقوق التملك هذه دون اللجوء علـى سبيل المثال للدعم الأيديولوجي الذي يولِّده نمط الإنتاج الرأسمالي كمثل تبادل المتكافئات Exchange of equivalants أو صنمية السلعة Commodity Fetishism لتبرير استلاب فائض القيمة إذا نحن استخدمنا المقولات الماركسية. واضح لنا جميعاً أن عدداً كبيراً من المواطنين في الخليج إن لم يكن أغلبهم، حتى وإن لم يدفعوا ضرائب إلا أنهم ينظرون للنفط كمورد طبيعي مملوك لكافة المواطنين. حتى خطاب الإعلام في الخليج, وهو رسمي في أغلبه, يعامل النفط كملكية عامة ولا يزعم أبداً أنه ملكية للأسر الحاكمة.

تنقل النظرية التالية التحليل بعيداً عن الارتباط الاجتماعي والاقتصادي إلى حقل الأفكار.

رابعاً: غياب النظريات

تدور نظرية بتروورث حول الخضوع الظاهر للمواطنين في العالم العربي إزاء أنظمة حكم مكروهة. ويرى الباحث أن الحياة السياسية في العالم العربي تختلف بشكل بيِّن عن الحياة السياسية في الغرب نتيجة غياب أي معتقدات حول الحاجة الأساسية للسيادة الشعبية. هذا الغياب هو ما يفسر في رأي بتروورث كيف أن المواطنين في الدول العربية لا يحتجون كثيراً ضد الأنظمة غير المقبولة التي يعيشون في ظلها (21).

والباحث يرجع ذلك إلى عدم اجتراح أنظمة فكرية سياسية تحد من الطغيان السياسي وتؤسس بناء حقوقياً للمواطنين (بالمعنى السياسي) في وجه الدولة:
"ما يُسهّل قبول أنظمة الحكم القائمة على حكم فرد أو قلة ليس وجود أي مجموعة محددة من الأفكار في الفكر السياسي العربي بل غيابها. لو عبرنا ببساطة: لا يوجد في تاريخ الفكر السياسي العربي شيء يقارن بالقطيعة الجذرية مع الماضي التي قام بها مكيافللي وهوبز في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والتي تم تطويرها لاحقاً ضمن عقيدة الديمقراطية الليبرالية في الأجيال التالية على يد لوك وروسو والتي جعلت مفهوم السيادة الشعبية مبدأً لا يشك فيه، بل ربما غير قابل للشك" (22).

ظاهرياً, من السهل أن نرى أن الباحث قام بتبسيط مفرط حين فتش عن تفسير للخضوع في غياب وجود نظرية ليبرالية في الفكر السياسي العربي والإسلامي. بالإمكان الرد على مثل هذه الرؤية المثالية بأن التاريخ لا يصنع فقط في الكتب بل إنه يصنع فيها وفي العالم المادي أيضاً، عالم العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية (23).

ومن السّهل أيضاً أن نحاجج بأن الديمقراطيتين اليابانية والهندية لم تنبثقا من قاعدة فكرية نظرية محلية, شينتوية أو بوذية أو هندوسية ليبرالية, وأن الدور الخارجي الأميركي والبريطاني على التوالي, كان حاسماً في تأسيسهما. لكن يختفي وراء منظور بتروورث موقف من الثقافة العربية الإسلامية التي يوعز لها السبب في القابلية العالية للخضوع. بيد أنه بالإمكان الإشارة لوجود تراث شيعي وخارجي نشط ولفترات طويلة كتراث نظري (فقهي) حرّض ضد الخضوع للسلطة المركزية كشيء مماثل للعقائد الثورية الحديثة, وكان له الدور الأساس في توليد ثورة كبرى ضد الطغيان المحلي والتبعية الخارجية في انطلاق الثورة الإيرانية واستمرار نظامها السياسي لأكثر من (24) عاما حتى اليوم.

حتى التراث الفقهي السني الذي يمثل الغالبية والذي يمكن أن نُرجع له تنظيرات طاعة الحاكم تحت أي ظرف خوفاً من الفتنة (24)، نجده في القرن العشرين قد انتفض تحت اجتهادات مفكري الإخوان المسلمين والأصولية الوهابية وولّد حركات ثورية في مختلف أنحاء العالمين العربي والإسلامي إلى الحد الذي يتعذر فيه قبول القول بغياب فكر رافض للنظم السائدة ولتقليد تقبل الاستبداد, دون أن يعني قولنا هذا بالطبع أن الإنتاج الثوري الجديد وهو يرفض الطغيان القائم يسعى نحو الليبرالية التي دعا لها لوك أو سبينوزا أو الديمقراطية المباشرة التي دعا لها روسو.

جدير بالذكر أيضاَ أن هناك إشكالية في تشخيص الوضع الخليجي من حيث خضوعه أو خلوّه من التسيُّس. وكل النظريات الآنف ذكرها انطلقت من هذا الوصف كشيء مسلم به, برغم أنه من الممكن إقامة تشخيص مضاد أساسه أن التسيُّس هو أي شيء إلا أن يكون غائباً: الحرب الأهلية في منطقة الجبل الأخضر العمانية نهاية الخمسينيات, الثورة المسلحة في إقليم ظفار في الستينيات والسبعينيات، المعارضة البحرينية الوطنية والدينية, انتفاضة 1979 في الحرم وفي المنطقة الشرقية. المعارضة السعودية الشيعية والسلفية, أنشطة منظمة القاعدة داخل الخليج وخارجه, بالإضافة إلى اضطرابات داخلية لا حصر لها في كل دول الخليج في العقود الأربعة الماضية…

ومع ذلك فمن المهم أننا ونحن نرفض تفسيرات بتروورث لظاهرة غياب التسيّس (الخضوع لأنظمة حكم مكروهة لكن متروكة لتفعل ما تشاء) أن نوافقه الرأي في وجود الظاهرة نفسها في أوساط العديد من المواطنين الخليجيين, مثلها في ذلك بقية الرقعة العربية في العقود الأخيرة. ومع التحفظ في أن فئات من المجتمع ذات وزن محسوس انغمست في أنواع من النشاط السياسي الذي اتخذ شكلاً سياسياً بل ومسلحاً في فترات مختلفة ودول خليجية عديدة.

يمكن الرد أيضاً على أطروحة بتروورث من جانب أن الخضوع يمكن إرجاعه بشكل مباشر للتدخلات الواسعة النطاق من قبل الأنظمة المسيَّرة بعقيدة الديمقراطية الليبرالية، هذه التدخلات التي تعزز من وجود أنظمة وتزعزع بقاء أنظمة أخرى. وفي الحالتين تعزيز الوجود أو زعزعته لا يتولّدان من إرادة داخلية صرفة بل ربما من نظام هيمنة خارجي. والدور الخارجي بالذات, وليس حضور النظرية أو غيابها هو ما ترتكز عليه النظرية التالية.

خامساً: الدولة الطرفية


مكّن تدفق الموارد النفطية السلطات الخليجية من قيادة عملية تحديث عامة ولم تشرك أياً من بقايا القوى الاجتماعية التقليدية (القبيلة والمؤسسة الدينية) ولا القوى الاجتماعية الصاعدة (رجال الأعمال والمثقفين)

يبسط بول فياي في مفهومه للدولة الطرفية طريقة السيطرة على المجتمع في العالم العربي. تمثل هذه الدولة شكلاً آخر من أشكال الدولة الناهبة القديمة القائمة على الاستيلاء على الثروة من التشكيلة الاجتماعية التي تقوم بحكمها. لكن هذه الدولة تعرضت علاقتها بالمجتمع للتغير في الأزمنة الحديثة، فبينما كانت الدولة الناهبة القديمة لا تتدخل في أكثر شؤون المجتمع طالما الإيرادات تتدفق نحوها بانتظام, إلا أن الدولة الطرفية ترى أنه من الضروري لها أن تخترق المجتمع وتهيمن عليه بشكل شمولي. فبالنظر لاعتمادها على السوق العالمية فهي تفكك التشكيلة الاجتماعية التي تحكمها وتعيد تنظيمها بحسب تمفصلها مع السوق العالمية.

وبهذه العملية فهي لا تحكم المجتمع المدني لكنها تلغيه بمحاولتها ممارسة دوره. الدولة الطرفية الحديثة لا تحتمل وجود منظمة أو وظيفة مستقلة في المجتمع المدني: الاقتصاد والمجتمع والدين والتعليم بل حتى الأسرة مخترقون من قبل الدولة. وهي تكتسب قوتها أساساً من ارتباطها واعتمادها على القوى الدولية المركزية وليس على قاعدة قوتها power base المحلية (المجتمع). والأخير في الواقع مبني من قبل الدولة وليس سابقاً لها (الدولة تصنع الأمة) (25).

يحتاج مفهوم فياي، إذا أردنا تطبيقه على الوضع الخليجي, إلى شيء من المناقشة. بداية, فإن المفهوم يقدم منظوراً وصفياً وليس تفسيرياً. فنحن نفهم كيف تتصرف الدولة الطرفية لكن لا نفهم لماذا تنجح في ذلك. إضافة لذلك فقابلية المفهوم للتطبيق على دول شمولية كالعراق (في مرحلة حكم البعث) وسوريا وليبيا أكثر وضوحاً من قابليته للتطبيق على الوضع الخليجي، بالنظر للدرجة المفرطة التي تُخضع فيها تلك الدول مجتمعاتها، مع أنها ليست متمفصلة جيداً مع السوق العالمية, أو مرتبطة بعمق على الصعيد الأمني بالقوى الدولية المركزية المسيطرة اليوم (وإن كانت مرتبطة بقوى القطب الدولي الآخر سابقاً قبل سقوطه).

ومع ذلك, فإن الارتباطين الاقتصادي والأمني للدول الخليجية بقوى السوق العالمي والدول المركزية يلبيان شرطاً مهماً لتطبيق مفهوم الدولة الطرفية على الحالة الخليجية. ويبقى الشق الآخر للتطبيق, وهو عملية تفكيك المجتمع وإعادة تشكيله واختراقه, بحاجة لشيء من التحليل.

من نافلة القول إن كل نظام اجتماعي, أينما كان, هو بناء ليس خالداً ويتعرض بمرور الوقت للعوامل غير المواتية وللتصدّع والخراب, وهو لذلك بحاجة إلى أن يعاد ترميمه وبناؤه باستمرار. ويُرجع فيريرو السبب في ذلك إلى أن مبدأ الشرعية الذي يقوم عليه النظام الاجتماعي هو شيء وقتي عابر لا يملي إرادته إلى ما لا نهاية (26).

ونحن إذا رصدنا التحولات السياسية والاجتماعية على المجتمعات والتشكيلات السياسية الموجودة في الخليج منذ منتصف القرن الثامن عشر والتي يمكن تحديد بدئها بالانهيار المتزامن تقريباً للدولة اليعربية في عمان ودولة نادر شاه في إيران، لوجدنا تغيرات بالغة العنف في مداها تصيب كافة أوجه الحياة الخليجية برغم ما يزعم من اتصافها بالسكونية والاستمرارية. فعلى الصعيد الخارجي تم إلحاق المنطقة بقوى إقليمية جديدة صاعدة وبقوى دولية فرضت هيمنتها العسكرية والسياسية لفترة طويلة.

وعلى الصعيد السياسي الداخلي برزت تشكيلات ما قبل دولتية على سواحل الخليج غرباً وجنوباً ذات أصول قبلية. ونجح الاستعمار في تحويل بعض هذه التشكيلات إلى كيانات ميراثية, من حيث تكوين السلطة المحلية, وحماها من تهديدات وأطماع الدول المجاورة, ومكن أغلبها من الصمود في وجه التحديات الداخلية, ورعى تطوير البنى السابقة للدولة لتصبح دولاً بعد رحيله.

بسطت بريطانيا هيمنتها على المنطقة أوائل القرن الـ 19 وقامت بتحويل الأنظمة القبلية إلى ميراثية. لكن الوضع لم يكن هيناً للحكام الجدد. فشح الموارد المرتبط باقتصاد كفاف وندرة لم يمكّن السلطة الوليدة من فرض قوتها بشكل حاسم. وأنتجت التحولات الاقتصادية تحديات كبيرة للحكام الجدد. وكانت حيازة الحاكم الخليجي لمكوس الجمارك وتصرفه فيها على هواه عاملاً مهماً في ظروف احتباس اقتصادي هائل يهدد طريقة الإنتاج والعيش التي استمرت لألفي عام على الأقل. ونشأت في الكويت والبحرين ودبي نتيجة انهيار اقتصاديات الغوص على اللؤلؤ في الثلاثينيات مجالس أو حركات إصلاحية حاولت إيجاد حلول اقتصادية جديدة بتحديث آليات الحكم التقليدية عبر توسيع دائرة المشاركة السياسية.

وبرغم نجاح الحكام وبدعم كبير من القوى الأجنبية في التغلب على تحديات المجالس الإصلاحية, إلا أن الحكام أنفسهم قاموا بتبني جهود التغيير الاقتصادي والاجتماعي, بل والسياسي في حالة الكويت في ستينيات القرن الماضي. ومكّن تدفق الموارد النفطية في يد السلطات الخليجية من أن تقود عملية تحديث هائلة مسّت كل جوانب الحياة, ولم تشرك أياً من بقايا القوى الاجتماعية التقليدية (ممثلة بالقبيلة وبالمؤسسة الدينية) ولا بالقوى الاجتماعية الصاعدة تاريخياً, كرجال الأعمال أو المثقفين, في تحديد شكل التحديث وغاياته. ووجدنا أن حكاماً عرقلوا أو تباطؤوا في السير في الطريق الجديد تمت إزاحتهم بالقوة، كمثل شيخ أبو ظبي شخبوط بن سلطان, وكذلك سلطان عمان سعيد بن تيمور.

وإذا تتبعنا بدقة الهندسة الاجتماعية هذه لوجدناها غير مسبوقة تاريخياً في قصر فترتها, وفي عنفها إزاء أنماط الإنتاج والاستهلاك التقليدية, بل وحتى في وجهها الثقافي. أي إذا استعدنا لغة بول فياي: عملية إعادة تشكيل واختراق شاملة للمجتمع، والصفة التي يجدر رصدها بدقة في العقود الثلاثة الأخيرة على الصعيد السياسي, تكمن في تمتع السلطة الخليجية باستقلالية لا مثيل لها عن مجتمعها. ويكتسب هذا الاستقلال ثلاثة أوجه يجب أخذها جميعاً بعين الاعتبار:

  1. الاستقلال الاقتصادي
    وهو ما شكل أساس مفهوم الدولة الريعية والذي استند إلى تحليل عوائد النفط. لكن الاستقلال الاقتصادي لا يتركز فقط في عدم الاعتماد على فرض ضرائب على المواطنين, لكنه يشمل قدرة السلطة على ممارسة ما أسماه بول فياي تفكيك المجتمع, وإعادة تشكيله, واختراقه, وفي النهاية الهيمنة عليه. ولا تشكل عمليات الرعاية Patronage التي ركّز عليها مفهوم الدولة الريعية إلا أقل الأمور أهمية مقارنة بفتح البلاد على مصراعيها لاكتساح قوى السوق العالمية التي لا تشمل السلع المادية وحسب بل الوسائط الخدمية والثقافية, إضافة إلى البنية الحقوقية والقانونية.

2. الاستقلال عن العمالة المحلية
يشكل وضع العمالة غير المواطنة ذات النسب الكبيرة عنصراً من عناصر استقلالية السلطة عن المجتمع. فمن الواضح أن قوة العمل الأساسية في هذه المجتمعات يتم استيرادها كسلعة من الخارج للاستخدام لفترة محددة دون أي حقوق سياسية وبأقل الحقوق التفاوضية في سوق العمل, وهي معرضة للترحيل حينما تنتفي الحاجة لها. إن هذه الوضعية تمكن الدولة الخليجية من الانتفاع من قوة عمل ماهرة دون التعامل معها كجزء من مجتمعها التمثيلي Constituency الذي يجب عليها أن تلبي, أو على الأقل أن تظهر استجابتها لتلبية حاجاته وتحقيق قيمه (هكذا تُفهم عملية توليد الشرعية والمحافظة على استمرارها).

بالمقابل فإن هذه الأعداد الضخمة من قوة العمل الخارجية, عربية كانت أم أجنبية, تُهمش المجتمع المحلي سياسياً أمام نظام حكمه وذلك عبر إزاحته من مواقع الإنتاج التي يمكن من خلالها أن يتم صراع اجتماعي أو سياسي.

  1. الاستقلال الأمني العسكري
    برغم صغر أسواقها, فإن دول الخليج تقوم بإنتاج سلعتين إستراتيجيتين على الصعيد الدولي, النفط والفوائض المالية. وهو ما أدى إلى مد الضمانات الأمنية الغربية إلى جميع دول الخليج. وهذه الضمانات التي جرى اختبارها مراراً بنجاح (على سبيل المثال في ظفار في السبعينيات, وفي الكويت في التسعينيات) تضيف ركناً حيوياً لإقواء السلطة الخليجية وحمايتها مما يتهددها من التحديات الداخلية والخارجية.

وقد سعى الغرب أثناء الحرب الباردة والعقد والنيف اللذين تلاهما إلى الإبقاء على الأوضاع القائمة في الخليج دون تغيير بسبب خوفه أن تدخلاً أقل ربما يقود لنجاح الاتحاد السوفياتي في التأثير على المنطقة أو أن الاضطراب في الخليج قد يجرّ إلى اضطراب إمدادات النفط مع ما يحمله ذلك من زيادة لا تحمد عواقبها في الأسعار. من آثار هذا التدخل تجميد عملية الإصلاح السياسي في الداخل. وكنتيجة للاعتماد على الضمانات الأمنية الغربية برزت استقلالية السلطة في الميدان الأمني حيث بات الاعتماد الطبيعي على مواطنيها للتعبئة العسكرية أمراً قليل الأهمية.

ومن الواضح أن الحاكم الذي لا يستمد وضعه من الرضا الداخلي عليه بل من حماية القوى الأجنبية, يعيش علاقة فريدة مع شعبه: فالأدبيات السياسية تكاد تُجمع أنه من المتعذر أن تستمر تشكيلة حاكمه دون دعم داخلي من طبقة اجتماعية أو إثنية أو طائفة تسند الحكم في وجه مناوئيه في الداخل وتوفر له الشرعية، وبمقابل هذه الشرعية يقوم الحاكم بأداء واجبه في عقد صريح وإن لم يكن مكتوباً وهذا الواجب بالغ التعقيد, ويتضمن فيما يتضمن توفير الأمن وإدارة نظام قانوني يضمن حقوق الأفراد والجماعات, ويلبي ضرورات اقتصادية في حد معين يتفاوت من مجتمع لآخر يمكن للأفراد عبره من الإنتاج والعيش. بيد أن هذا التوازن بين واجبات الحاكم وحقوق المواطنين ينهار حينما تأتي قوى خارجية لتضمن للحاكم وجوده رغم أنف مجتمعه.

إن هذه الدولة البالغة الاستقلال تظهر قوية جداً أمام شعبها. فهي لا تتمتع فقط بمزايا اقتصادية وأمنية وسكانية تغنيها عن الاعتماد على مواطنيها. إنها فوق كل ذلك, ونتيجة لكل ما سلف ذكره, تتمتع بأهم مزية: إلغاء الحاجة لنيل الشرعية. بمعنى آخر، فإن النهاية المنطقية لدولة بالغة الاستقلال في مجال الاقتصاد وتوفير قوة العمل والأمن هو تحرير السلطة من قابلية المحاسبة, من ضرورة قيامها بتقديم تبريرات حقيقية أو ظاهرية تقول إنها تلبي مطالب شعبية أو أنها تسعى لتحقيق أهداف عامة مرغوبة. لهذا فإن المشكلة الملازمة لكل الدول الحديثة وهي مكابدة أزمة دائمة للشرعية تصبح مشكلة لا وجود لها في الخليج (27).

ومن هذا يتبين أنه برغم وجود كل الشروط التقليدية لوجود أزمة إلا أنه لا تظهر على السطح أية أزمة. وليس صعباً معرفة السبب: إن السلطة الخليجية لا تملك شعباً، وهو الشيء نفسه الذي نصفه حينما نقول إن الشعب الخليجي لا يملك سلطة.
لهذا فإن اتجاهات الرأي العام الخليجي اللامبالية ظاهرياً تجاه السياسة, يجب تفسيرها في الاستقلالية البالغة التي تتمتع بها السلطة الخليجية. وهذا ربما يكون حجر الزاوية في عملية الإقصاء السياسي التي تتصف بها المنطقة الخليجية.

وعلى عكس مفهوم الدولة الريعية القائم على تحقيق الشرعية عبر ما يمكن أن تسميه "رشوة عامة" فإننا صرنا نمتلك تصوراً أكثر تماسكاً. وهو تصور وإن لم يكن ينكر دور الإنفاق العام والتحرر من ضرورة دفع الضريبة في تهدئة المواطنين، إلا أنه تصور يضع بالإضافة إلى المداخيل النفطية العاملين الإضافيين، السكاني والأمني كأركان أخرى لنجاح النظام الخليجي في ضبط مواطنيه. ونتيجة ذلك كله هو الإخلال بالتوازن الدقيق بين الحكام والمحكومين وبدفع السلطة إلى منزلة شاهقة من الهيمنة على المجتمع.

الخاتمة

للوهلة الأولى قد يبدو هذا التحليل متشائماً في إمكانات تطوير النظام السياسي الخليجي, وتعميق المشاركة السياسية فيه, وتوسيع دور مجتمعه المدني. لكنني لن أكتفي فقط في الإجابة بأن الباحث غير مطلوب منه تقديم صور ملونة للواقع وأن الأمانة تقتضي كشف الوضع على علاته مهما تكن النتائج. هذه الإجابة سهلة ومشروعة في الوقت نفسه. لكن أود الإشارة إلى أن الورقة ركزت البحث بالدرجة الأولى على علاقة السلطة بالمجتمع وهي علاقة بالضرورة غير مكتملة، إذ أنها لم تتطرق إلى تحليل مجموع هذين الكيانين، السلطة السياسية والمجتمع المدني, أي الدولة، وهو كيان له آليته وطريقة عمله الخاصة خصوصاً في تفاعلاته مع أشباهه من الدول إقليميا ودولياً.

ومن الواضح أن الدولة الخليجية, وبخلاف سلطتها, ليست دولة قوية. فهي وإن كانت ترث قوة سلطتها السياسية الداخلية إلا أنها ترث أيضاً ضعف مجتمعها المدني. لهذا فهي دولة ضعيفة، سواء في محيطها الإقليمي والدولي أو في المجالات اللاسياسية، في مجال التقنية والاقتصاد والإعلام والتعليم. وليس من الصعب إدراك أنه وكما كان العبيد على مدى آلاف السنين محاربين سيئين، فكذلك فإن مجتمعاً مدنياً منهاراً لا يستطيع أن يكسب الصراعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي غدت السمة التي تميز العصر الراهن.

الدولة الخليجية منكشفة أمنياً لاعتمادها شبه التام على غيرها. وهي معرضة لضغوطات قد تكون كارثية من الدول الداعمة أمنياً, ومن الدول التي تستورد منها اليد العاملة التي أصبحت اثنتان منها دولاً نووية. والانكشاف الاقتصادي باد للعيان من جراء الاعتماد المفرط على تصدير النفط الخام الذي قد يواجه بدائل طاقة منافسة من جراء تحولات وتقدم تكنولوجي ليست في الحسبان. والانكشاف باد للعيان بسبب الإيكولوجيا الخليجية الشديدة الحرارة والشحيحة بالمياه والمفتقدة للأراضي الخصبة.

– يشير التحليل السابق إلى أن أحد المحددات الأساسية, بل لعله المحدد الأهم لسلوك النظام السياسي الخليجي يكمن لا في استرضاء المجتمع بل في استرضاء الدولة الراعية أمنياً, وهي هنا الولايات المتحدة. والرصد الدقيق لعملية الاسترضاء يقتضي فهم ما تتطلبه الولايات المتحدة من الأنظمة المحمية. فالاصطفاف بوجه الاتحاد السوفياتي وحلفائه كان الهاجس الأكبر في الماضي وهو الذي حول طبيعة الحكم لتكون معادية للتيارات اليسارية وداعمة للحركات الإسلامية ذات الخطاب المعادي للشيوعية أثناء الحرب الباردة.

والاسترضاء لا يعني بحال الخضوع التام للولايات المتحدة في كل ما تريده, في كل الفترات. فمن دون شك يمكن رصد مواجهات وخلافات على قضايا مختلفة بين القوة الدولية الحامية والنظم الخليجية المحمية, كالخلاف على الوضع الفلسطيني وعلى المحاور المختلفة للصراع العربي الإسرائيلي, لكنه يعني أن الأنظمة الخليجية تمتلك هامش حركة ضيّقا ومحدّدا في المرجع الأخير بتحديدات أميركية, خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.

وعناوين مثل "محاربة الإرهاب" و"الإصلاح الديمقراطي" و"التخصيص الاقتصادي" و"التطبيع مع إسرائيل" دون شك تمثل شيئاً ضاغطاً، وضروري التبني حتى وإن كان "كريهاً" من منظور أنظمة لا تريد أن تصطف بشكل تابع, وبأقل قدر من الإرادة المستقلة وراء البرامج المصاغة في واشنطن. وبالطبع فإن القوى الاجتماعية القادرة على التماهي مع هذه البرامج, كرجال الأعمال مثلاً, تمتلك تأثيراً هائلاً على النظم الخليجية, لا لقوتها الذاتية بل لتطابق البرامج الأميركية مع مصالحها (في مجال التخصيص).
– من الواضح أننا لكي نحدد واقع الحال الخليجي في المستقبل القريب من المهم لنا أن نرى ما يحدث بالضبط في هذين الحقلين: حقل الضمانات الأمنية الأجنبية المقدمة لنظمنا السياسية وهي تواجه مطالب شعوبها في المشاركة السياسية، وحقل استعادة الشعوب الخليجية لمواقعها في سوق العمل التي تمت إزاحتها منها. ومن خلال الرصد لهذين الحقلين سنستطيع أن نحدد بدقة إن كانت هناك فرص حقيقية للتحول إلى الديمقراطية.

ومع أن الإدارة الأميركية الراهنة تتبنى علنياً مشروعاً سياسياً إصلاحياً لمنطقة الشرق الأوسط يستند إلى الديمقراطية والعلمنة, لكن من المشكوك فيه أن يتخطى المشروع حيز التنفيذ الجاد، وذلك لأن القوى الأكثر تأهيلاً للبروز في الوضع الديمقراطي هي الحركات السياسية الإسلامية, والتي تنظر لها الولايات المتحدة وحلفاؤها على أنها الخصم الأمني والسياسي والعقائدي الأول. ولهذا فالتجارب "الديمقراطية" في الخليج سوف تبقى في حدها الأقصى في إطار شكلي مشابه للتجارب الديمقراطية المزعومة في مصر والأردن والمغرب.
_______________
* كاتب وباحث من الإمارات العربية المتحدة

الإحالات
1 – J. Clark & H. Bowen – Jones 1981 : 84

2 – طباطبائي 1978 : 353

3 – A. Richard and J. Waterbury 1990 : 331

4 – A. Dawisha 1988 : 266

5 – ابن خلدون، دون تاريخ: أنا مدين لغسان سلامة في تمييز هذا الفارق الكبير في نظرية ابن خلدون السياسية.

6 – لعل أقرب المفاهيم الحديثة لهذا الرأي الخلدوني ذلك الذي قدمه غرامسشي تحت مسمى الهيمنة.

7 – I. Harik 1987 : 44

8 – المصدر نفسه.

9 – M. Weber 1968 : 231

10 – G. Luciani in H. Beblawi and G. Luciani 1987 : 77-8

11 – المصدر نفسه 74- 5

12 – M. Mahdavi in M. Cook 1970 : 428

13 – A. Najmabadi in H. Beblawi and G. Luciani 1987 : 213

14 – H. Beblawi in H. Beblawi and G. Luciani 1987 : 53

15 – R. Owen 1992 : 72-3

16 – المصدر نفسه

17 – H. Beblawi in H. Beblawi and G. Luciani 1987 : 14

18 – المصدر نفسه: 53

19 – I. Lakatos in I. Lakatos and A. Musgrave 1970: 91.

20 – Najmabadi in H. Beblawi and G. Luciani 1987 : 227

21 – المصدر ذاته: 110

22 – Butterwerth in H. Beblawi and G. Luciani 1987 : 91

23 – تقوم نظرية مايكل مان حول القوة الاجتماعية على فرضية وجود أربعة مصادر متباينة كانت لكل منها الغلبة على غيرها في فترات تاريخية مختلفة, وفي مجتمعات مختلفة: سياسية, عسكرية, اقتصادية, وثقافية. وإذا صحت هذه الفرضية فربما يجب أن نتوخى الحذر من الرفض العجول لمفهوم بتروورث المفرط في منح المركزية للدور الثقافي.

24 – على سبيل المثال تنظير الماوردي, أنظر يوسف أيبش 1966: 148 .

25 – S. Zubaida 1989: 141-45

26 – "لوموند ديبلوماتيك"، النسخة العربية. رقم 12:20

27 – يرى هابرماس أن أزمة الشرعية تعيشها بشكل دائم كل الدول المتقدمة. J. Habermas 1976

المصادر:

Butterworth, C. (1987) State and Authority in Arabic Political Thought. In Salamé, G. (ed)
Cook, M. (1970) Studies in the Economic History Of the Middle East: From the Rise of Islam to the Present Day. London: Oxford University Press
Clarke, J. and Bowen-Jones, H. (eds) (1981) Change and Development in the Middle East:Essays in honour of W.B. Fisher. London: MethuenDawisha, A. and Zartman, I. (eds.) (1988) Beyond Coercion: The Durability of the Arab State. London: Croom Helm
Dawisha, A. (1988) “Arab Regimes: Legitimacy and Foreign Policy”. In Dawisha, A. and Zart¬man, I. (eds)
al-Dekhayel, A. (1990) The State and Political Legitimation in an Oil-Rentier Economy; Kuwait as a Case Study . PhD. Thesis, Exeter: University of Exeter
Habermas, Jurgen (1976) Legitimation Crisis. London: Heinemann
Harik, I. (1987) ‘The Origins of the Arab State System’. In Salamé, G (ed)
Ibn Khaldun, ‘A. (no date) al-muqaddemah (The Introduction). Beirut: Dar al-Fikr.I. Lakatos, I and A. Musgrave (eds) (1970) Criticism and the Growth of Knowledge. London: Cambridge University Press
Luciani, G. (1987) ‘Allocation vs. Production States: A Theoretical Framework’. In Beblawi, H. and Luciani, G. (eds)
Luciani, G. and Salamé, G. (1988) The Politics of Arab Integration. London: Croom Helm
Mahdavi, H. (1970) ‘Patterns and Problems of Economic Development in Rentier States: The Case of Iran’. In Cook, M. (ed)
Mann, M. (1986) The Sources of Social Power: A History of Power from the Beginning to AD 1760. Cambridge: Cambridge University Press
Najmabadi, A. (1987) ‘Depoliticisation of a Rentier State: The Case of Pahlavi Iran’. In Beblawi, H. and Luciani, G. (ed)
al-Naqeeb, K. (1990) Society and State in the Gulf and Arab Peninsula: a Different Perspective. London: Routledge
Richards, A. and Waterbury, J. (1990) A Political Economy of the Middle East: State, Class, and Economic Development. Boulder: Westview Press
Salamé, G. (1987) ‘‘Strong’ and ‘Weak’ States, a Qualified Return to the Muqqaddimah’. In Salamé, G. (ed)
Salamé, G. (1987) (ed.) The Foundations of the Arab State. London: Croom Helm
Salamé, G. (1988) ‘Integration in the Arab World: the Institutional Framework’. In Luciani, G. and Salame, G. (eds)
Weber, M. (1968) Economy and Society: an Outline of Interpretive Sociology. New York: Bed¬minster Press

ابن خلدون, عبد الرحمن (دون تاريخ) المقدمة, بيروت: دار الفكر.
أيبش, يوسف (1966) نصوص الفكر السياسي الإسلامي: الإمامة عند السنة, بيروت: دار الطليعة.
الكواري, علي (2002) الخليج العربي والديمقراطية, نحو رؤية مستقبلية لتعزيز المساعي الديمقراطية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية.

المصدر : الجزيرة