تداعيات أحداث سبتمبر على النظام الدولي

undefined

بقلم: د. نظام بركات

تركز هذه الدراسة على مناقشة تأثير أحداث سبتمبر/أيلول في النظام الدولي بشكل خاص، وتشمل الجوانب النظرية ورصد التحولات على المستوى الفكري والأيدولوجي وظهور المفاهيم الجديدة وتحليل التغيرات في المجال الثقافي وكذلك الجوانب التنظيمية والقانونية والتحولات في هيكلية النظام، وأخيراً الجوانب الحركية والممارسات على المستوى السياسي والعسكري والاقتصادي.

النظام الدولي: مفهومه وتطوره

تأثيرات الحدث

ما المقصود بالنظام الدولي؟

يقصد بالنظام الدولي مجموعة الوحدات السياسية -سواء على مستوى الدولة أو ما هو أصغر أو أكبر- التي تتفاعل فيما بينها بصورة منتظمة ومتكررة لتصل إلى مرحلة الاعتماد المتبادل مما يجعل هذه الوحدات تعمل كأجزاء متكاملة في نسق معين.
وبالتالي فإن النظام الدولي يمثل حجم التفاعلات التي تقوم بها الدول والمنظمات الدولية والعوامل دون القومية مثل حركات التحرير والعوامل عبر القومية مثل الشركات المتعددة الجنسية وغيرها.

تطور النظام الدولي
لدراسة مدى تأثير أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 في النظام الدولي يجدر بنا أولاً أن نعطي نبذة موجزة عن مراحل تطور النظام الدولي في محاولة لتحديد خصائص هذه المراحل ورصد أهم التغيرات التي حدثت على هذا النظام لكي يكون تقييمنا موضوعياً ووضع تأثير أحداث 11 سبتمبر/أيلول في إطارها الصحيح، وستتم مناقشة أهم الوحدات الفاعلة في كل مرحلة ورصد أهم الظواهر التي نتجت عن تفاعل هذه الوحدات.


كانت الفكرة القومية هي الظاهرة الأساسية للنظام الدولي في الفترة بين 1648 و1914 فهي أساس قيام الدول وأساس الصراع بين المصالح القومية، ولم تكن الظواهر الأيدولوجية الأخرى قد ظهرت بعد مثل الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية وغيرها

المرحلة الأولى 1648 – 1914
تبدأ هذه المرحلة من معاهدة وستفاليا سنة 1648 والتي أنهت الحروب الدينية وأقامت النظام الدولي الحديث المبني على تعدد الدول القومية واستقلالها، كما أخذت بفكرة توازن القوى كوسيلة لتحقيق السلام وأعطت أهمية للبعثات الدبلوماسية، وتنتهي هذه المرحلة بنهاية الحرب العالمية الأولى.

كانت الدولة القومية هي العامل الوحيد في السياسة الدولية، ولم تعرف هذه المرحلة المنظمات الدولية ولا المؤسسات غير القومية مثل الشركات العالمية، وكانت قوة الدولة مرادفة لقوتها العسكرية، وكانت أوروبا تمثل مركز الثقل في هذا النظام. أما الولايات المتحدة الأميركية فكانت على أطراف هذا النظام ولم يكن لها دور فعال نتيجة سياسة العزلة التي اتبعتها.

كانت الفكرة القومية هي الظاهرة الأساسية في النظام الدولي فهي أساس قيام الدول وأساس الصراع بين المصالح القومية للدول، ولم تكن الظواهر الأيدولوجية الأخرى قد ظهرت بعد مثل الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية وغيرها.


المرحلة الثانية 1914 – 1989
تبدأ هذه المرحلة من الحرب العالمية الأولى وحتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وقد تميزت هذه المرحلة بتعدد أطراف النظام الدولي نتيجة استقلال عدد من دول العالم الثالث وظهور مجموعة كبيرة من الوحدات السياسية في المجتمع الدولي ومنها المنظمات الدولية والإقليمية وبروز الشركات العالمية وحركات التحرير، وقد اتجه النظام بعد الحرب العالمة الثانية نحو نظام الثنائية القطبية بين المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وتوسعت قاعدة النظام الدولي ومراكز القوى خارج أوروبا.

وخلال هذه المرحلة ظهرت الأيدولوجية كإحدى أهم الظواهر في المجتمع الدولي وأخذ الانقسام داخل النظام الدولي يأخذ طابع الصراع الأيدولوجي بين المعسكر الشرقي الاشتراكي والمعسكر الغربي الرأسمالي، وتبع ذلك ظهور عدد من الظواهر مثل الحرب الباردة والتعايش السلمي والوفاق الدولي وغيرها.


المرحلة الثالثة 1989 – …
تبدأ هذه المرحلة من نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي وحتى الآن، ويطلق عليها النظام الدولي الجديد وأخيراً العولمة، وتعود بدايات شيوع هذا المفهوم إلى حرب الخليج الثانية (1990) حيث بدأت الدعاية الأميركية بالترويج لهذا المفهوم رغم وجود محاولات سابقة في هذا المجال.
لقد اتجه النظام الدولي خلال هذه المرحلة نحو أحادية القطبية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وظهور الولايات المتحدة كقائدة للمعسكر الرأسمالي المنفردة بقيادة العالم وتمدد دورها وهيمنتها على الأمم المتحدة والشرعية الدولية. وقد شهدت هذه المرحلة زيادة عدد الدول نتيجة الانقسامات والانشقاقات التي حدثت في كثير من الدول، وفي الوقت نفسه يشير النظام خلال هذه المرحلة إلى أنماط تفاعلات جديدة تركز على الجوانب الثقافية والحضارية وتوزيع مصادر القوة والنفوذ بصورة جديدة تعطي دورا أكبر للمنظمات غير الحكومية، مما جعل البعض يطلق عليه اسم النظام العالمي الجديد بدلاً من النظام الدولي الجديد.

ارتبطت هذه المرحلة بمجموعة من القيم والمبادئ الأخلاقية والإنسانية مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام قواعد القانون الدولي وإعلاء الشرعية الدولية وتسوية المنازعات بالطرق السلمية.

وشهدت السنوات الأخيرة من عقد التسعينيات شيوع مفهوم العولمة الذي ارتبط بأحداث الثورة الصناعية الثالثة والطفرة الهائلة في وسائل وتكنولوجيا الاتصال. ويشير مفهوم العولمة إلى جملة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمتد تفاعلاتها لتشمل معظم دول العالم، وهي تعبر عن مرحلة تاريخية جوهرها زيادة التداخل والترابط بين مناطق العالم مما أدى إلى تراجع أهمية الحدود وسيادة الدولة في ظل تعدد الظواهر التي تتخطى هذه الحدود.

وقد عكست هذه المرحلة تعدد وتنوع المشكلات والتحديات التي تواجه الدول خاصة في نصف الكرة الجنوبي وما رافقها من تنامي اتجاهات التطرف والصراعات الداخلية وظهور أنماط من التصادمات والاحتكاكات في النظام القيمي والفكري. ويرتبط مفهوم العولمة بهيمنة النشاط الاقتصادي الرأسمالي وتحول العالم إلى سوق استهلاكية كبرى لمنتجات الشركات الصناعية الكبرى. أما في المجال الثقافي فالأمر يظهر وكأنه انتصار لثقافة الشمال المتقدم على الجنوب المتخلف وفرض الذوق والثقافة الأميركية والغربية على العالم.

تأثير الحدث في النظام الدولي

ولمواكبة التطورات التي أصابت النظام الدولي بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول وانعكاس هذه الأحداث على طبيعة النظام الدولي فإن هذه التطورات ستشمل الجوانب الفكرية والنظرية وكذلك الجوانب التنظيمية والقانونية وأخيراً الجوانب الحركية التي تتعلق بطبيعة الممارسات وتوازنات القوى داخل هذا النظام.


حاولت أميركا بعد أحداث سبتمبر/أيلول صياغة خطاب أخلاقي تملي بواسطته على شعوب العالم تعريفها لمفهوم الشر والخير وتحدد من هي الدول والقوى الصالحة والأخرى الطالحة، واتجه الفكر الأميركي نحو إطلاق أحكام أخلاقية ذات طابع ديني منها على سبيل المثال استخدام جورج بوش الابن مفهوم الحرب الصليبية قبل أن يتراجع عنه فيما بعد لتبرير حروبه العسكرية التي ينوي شنها

1- الجوانب الفكرية والأيدولوجية
دعمت الولايات المتحدة في العقود الأخيرة من القرن الماضي أقصى نماذج التشدد الإسلامي سواء في بعض الدول العربية أو بتحالفها مع المجاهدين الأفغان ضد الغزو السوفياتي، وكان هذا التحالف المرحلي يدخل في السياسة الأميركية ضمن محاربة الشيوعية على مستوى العالم ومحاربة الأنظمة القومية الثورية في المنطقة العربية، وما أن انتهت هذه المرحلة حتى تحولت الصورة نحو اتهام الإسلام والمسلمين بأنهم بحكم الثقافة والعقيدة يميلون إلى العنف. وقد جاء ظهور تنظيم القاعدة ليثير التساؤل لدى الغرب عن أسباب العنف الديني العابر للقارات، ووجهت التهمة إلى حركات الإسلام السياسي كافة وصار ينظر لها باعتبارها حركات إرهابية، وامتدت النظرة في بعض الأحيان لتشمل البلاد العربية والإسلامية التي اتهمت بأن ثقافتها تحبذ العنف وترفض القيم الغربية عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.

لقد أدت الأحداث والتطورات السابقة لأحداث 11 سبتمبر/أيلول في الجانب الفكري إلى انفراد النظام الرأسمالي بقيادة العالم، وبدأ هذا النظام يقدم أيدولوجيته وفكره باعتباره المؤهل لقيادة العالم، وأنه سيسعى إلى تعميم ثقافته وقيمه على الآخرين، وأن حضارته قد انتصرت ويجب الأخذ بها كما روج لذلك فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ".

لكن أحداث 11 سبتمبر/أيلول أعادت الحديث من جديد عن صراع الحضارات كما أشار لذلك صمويل هنتنغتون من قبل، وتقترب محاور هذا الصراع الحضاري من المفهوم نفسه الذي طرحه، حيث صار الحديث عن انقسام العالم إلى عالم الخير الذي تمثله حضارة الغرب وعالم الشر الذي تمثله بعض الدول العربية والإسلامية المارقة وغيرها من الدول المعارضة للتوجهات الرأسمالية الأميركية، وحاولت أميركا بعد أحداث سبتمبر/أيلول صياغة خطاب أخلاقي تملي بواسطته على شعوب العالم تعريفها لمفهوم الشر والخير وتحدد من هي الدول والقوى الصالحة والأخرى الطالحة، واتجه الفكر الأميركي نحو إطلاق أحكام أخلاقية ذات طابع ديني منها على سبيل المثال استخدام جورج بوش الابن مفهوم الحرب الصليبية لكنه تراجع عنه، وذلك في محاولة لتبرير شن الحرب واستخدام القوة العسكرية، والإصرار على تبرير الحرب على أفغانستان وطالبان باعتبارها ضرورة أخلاقية تصل إلى مرحلة القداسة الدينية للرد على العنف والكراهية الذي تمثله القوى الشريرة مثل بن لادن وصدام حسين، وذلك نقيض للفكر الأميركي الذي كان سائداً قبل أحداث 11 سبتمبر/أيلول والذي كان يحاول تبرير الحروب على أساس مبادئ الحرية والديمقراطية والمصالح التي تمثل أساس الحضارة الغربية.

وقد توسعت النظرة الأميركية لأهمية الأيدولوجيا في حربها على الإرهاب، وبدأ التركيز على ضرورة التدخل في الجوانب الثقافية والتعليمية للشعوب الأخرى خاصة العربية والإسلامية لمنع ظهور التيارات الدينية التي تقف موقف النقيض من ثقافة العولمة وتعمل على التصدي لفكر الغرب وحضارته.


2- الجوانب المؤسسية والقانونية
ثار جدل كبير في تحديد ما إذا كانت أحداث 11 سبتمبر/أيلول تشكل نقطة تحول وانقطاع في النظام الدولي الجديد أم أنها استمرار للوضع السابق، وإن كان هناك شبه إجماع على أن هذه الأحداث تشكل دلالة على عدم وضوح هذا النظام وأنها تكشف محدوديته وقصوره في مواجهة التحديات القادمة.

لقد تميزت الفترة السابقة لأحداث 11 سبتمبر/أيلول بتعدد وتوزع مصادر السلطة على مستوى العالم نتيجة تصاعد قوة الشركات المتعددة الجنسية والمنظمات عبر القومية والمنظمات غير الحكومية التي أصبحت تشكل تحدياً لسيادة الدولة وسلطتها، وطرحت معادلات جديدة للسلطة والشرعية تختلف عن تلك التي تحتكرها الدولة.

وفي الوقت نفسه ظهرت الولايات المتحدة كممثلة لنظام القطبية الأحادية وانفرادها بقيادة العالم والتصرف بصورة فردية دون حاجة للحلفاء بدلاً من القطبية الثنائية السابقة، وتنطحت للقيام بدور المنظم للمجتمع الدولي، وراود الكثيرين في العالم الأمل بانتهاء الحرب والاتجاه بخطوات ثابتة نحو السلام العالمي، لكن أحداث 11 سبتمبر/أيلول كشفت عن ظهور نوعية جديدة من الاستقطاب وحلت ثنائية جديدة تتمثل في مواجهة بين الولايات المتحدة وقوى الإرهاب ودول وصفتها أميركا بالدول المارقة والتي تشكل ملاذاً للإرهاب.

وبالتالي يمكن القول إن النظام الدولي قد عرف فاعلا جديدا كعنصر من عناصر المجتمع الدولي يتمثل في عولمة الإرهاب، فقد خرج الإرهاب من رحم العولمة الأميركية ليمثل نوعاً من العولمة المضادة، وهو فاعل ليس قطرياً ولا إقليمياً ولا يمر عبر مؤسسات الدول وله مقوماته الذاتية واستقلاليته وكثير من الجماهير المتعاطفة معه.

وأصبحت أميركا تنظر إلى انقسام العالم بين دول الخير وقوى الشر، وبدلاً من تقسيم العالم على أساس أعداء وأصدقاء أصبح تقسيم العالم على أساس الخير والشر وصار الحديث عن مجرمين وإرهابيين بدل أعداء.


أصدرت الأمم المتحدة قرار رقم 1368 فوض مجلس الأمن بموجبه الولايات المتحدة باتخاذ الإجراءات التي تراها لازمة للرد على المسؤولين عن الاعتداء عليها

وقد تم التعبير عن هذا التوجه من جانب الأمم المتحدة بإصدار القرار 1368 والذي فوض بموجبه مجلس الأمن الولايات المتحدة لاتخاذ الإجراءات للرد على المعتدين والمسؤولين عن الاعتداء على الولايات المتحدة.

وقد نجحت الولايات المتحدة في تخطي دور الأمم المتحدة وأقامت تحالفاً داعماً لهجومها على أفغانستان وتنظيم القاعدة، وشملت هذه التحالفات معظم دول العالم تحت ضغط القوة الأميركية، وذلك حفاظاً على مصالحها وإن كان هناك عدم تحمس في كثير من الدول -وخاصة على مستوى الرأي العام في الدول العربية والإسلامية- للمشاركة في الأعمال العسكرية.

الأحداث وتأثيرها في أرض الواقع

فيما سبق تمت مناقشة انعكاسات 11 سبتمبر/أيلول على النظام العالمي من ناحية الأفكار والجوانب النظرية تبعها الجوانب التنظيمية والمؤسسية، وفيما يلي سنحاول رصد أهم الممارسات والجوانب الحركية الفعلية التي حدثت على أرض الواقع. وسوف تشمل هذه التغيرات الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها.


أ- في المجال السياسي
كشفت أحداث 11 سبتمبر/أيلول عن الهوة الواسعة بين المبادئ التي تنادي بها الولايات المتحدة بشأن النظام الدولي الجديد بما يمثله من سيادة روح الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعاون الدولي لحل المشكلات الدولية بصورة سلمية وبين ممارسات واقعية تقوم على تقييد الحريات وتجاوز حقوق الإنسان وتجاهل حقوق الأقليات من المواطنين والمقيمين، فقد جرى التحقيق مع آلاف الأشخاص أغلبهم من العرب والمسلمين وتزايدت النزعات العنصرية ضدهم.

وتظهر هذه السياسة على المستوى الأميركي عبر عدة ممارسات منها تشكيل محكمة عسكرية لمحاكمة المتهمين بأعمال الإرهاب، وصدور قانون حرية التفتيش والاحتجاز، وفرض رقابة ذاتية على وسائل الإعلام. ولقد كشفت أحداث 11 سبتمبر/أيلول عن هشاشة النظام الأميركي والديمقراطية الأميركية عن طريق اختلال التوازن بين السلطات لصالح السلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعية وقوى المجتمع المدني، وتحول النظرة الشعبية للرئيس الأميركي باعتباره قيادة حاسمة ومؤتمنة، كما أظهرت تلك الأحداث تراجع دور القضاء نظراً للبنود الواردة في قانون مكافحة الإرهاب، هذا بالإضافة إلى التعاون مع أنظمة عسكرية مثل مشرف في باكستان وتشجيع قيام نظام قبلي في أفغانستان، وقد قامت أميركا بتنصيب نفسها للقيام بدور المنظم للعالم بالإضافة لدورها في قيادة العالم، وقد أدى هذا الدور لوجود مقاومة ومعارضة في كثير من مناطق العالم، فقد كانت أحداث 11 سبتمبر/أيلول نقطة فاصلة في تحدي نفوذ وهيمنة الولايات المتحدة وتعرضها لهجوم واسع في عقر دارها مما شكل اهتزازاً لمكانة الولايات المتحدة كدولة عظمى، مما أدى إلى زيادة انغماس أميركا في القضايا الدولية ولم يعد بإمكانها الانعزال عن العالم، وصار مطلوباً منها مراقبة التحديات التي تواجه قيادتها للعالم سواء من الداخل أو الخارج.


الموقف الروسي
من ناحية الجغرافيا السياسية أعادت أحداث 11 سبتمبر/أيلول التنبيه إلى أهمية آسيا الوسطى وموقعها الإستراتيجي باعتبارها تشكل قلب العالم، وقدمت روسيا تنازلات سياسية وأمنية في هذه المنطقة التي كانت من المحرمات في السياسة الروسية، وقدمت روسيا نفسها كشريك للغرب في محاربته للإرهاب بدلاً من كونها مهددا لهذا الغرب، وأدى تأييد معظم الدول الكبرى في شمال العالم للعمليات العسكرية الأميركية إلى الحديث عن تعاون نصف الكرة الشمالي ضد المخاطر القادمة من النصف الجنوبي.

المجموعة الأوروبية
أما المجموعة الأوروبية فقد افتقدت إلى التحرك الموحد تجاه أحداث 11 سبتمبر/أيلول، فرغم الوحدة الاقتصادية والمالية التكاملية التي حققتها أوروبا فإن ردود فعلها تجاه الأحداث عكست غياب وجود سياسة خارجية موحدة، حيث اتسمت مواقف دولها بالفردية وبادرت كل دولة للاتصال بالولايات المتحدة من منطلق ظروفها الخاصة، وبالتالي فإن هذه الأحداث كشفت عجز أوروبا عن أن تشكل قوى سياسة وتتبوأ مكاناً يليق بقوتها إلى درجة وصفها بأنها عملاق اقتصادي لكنها ليست سوى قزم سياسي.


حاول شارون تقديم مجازره ضد الشعب الفلسطيني والانتفاضة بأنه يقوم بدور الوكيل على السياسة الأميركية في محاربة الإرهاب في الشرق الأوسط وهناك تيارات واضحة في أميركا لتأييد هذه السياسة


العالم العربي
أما في المجال العربي فيمكن تلخيص انعكاسات أحداث سبتمبر/أيلول على الوطن العربي بالقول إن الوطن العربي كان معنياً بهذه الأحداث أكثر من غيره وذلك لاتهام عناصر عربية بالوقوف وراء هذه الأحداث، هذا بالإضافة إلى اتهام بعض الدول العربية بأنها على علاقة بالمتهمين، وبالتالي فإن المنطقة العربية كانت الطرف الأول في هذه الأحداث وأميركا هي الطرف الثاني. لكن الملاحظ أن أميركا حاولت المحافظة على استقرار المنطقة العربية ولم تحاول إدخالها في نظام العولمة بما فيها من ديمقراطية وحقوق إنسان وغيرها من أطر سياسية واجتماعية حديثة مما انعكس سلباً على المنطقة، وجعلها مكاناً للقوى المتطرفة.

وبالتالي فقد اختارت أميركا إعلان الحرب على الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط الذي كان المجال الطبيعي للحرب الأميركية، وقد شملت هذه الحرب التهديد بالعمل المسلح ضد بعض الدول واستخدام وسائل استخبارية وأمنية ضد أنظمة وتنظيمات وجمعيات وأفراد وامتدت لتشمل مجالات الثقافة والأنشطة الخيرية.

ولكن المشكلة الأكثر إثارة في المنطقة العربية ذلك التوافق بين الهجوم الأميركي على الإرهاب وحرب شارون على الانتفاضة، وانشغال الدول العربية بتأكيد خيارها الإستراتيجي نحو السلام ومحاربة الإرهاب، مع الإصرار على تأييد الانتفاضة كحق شرعي ورفض ربطها بالإرهاب، لكن السياسة الإسرائيلية حاولت الربط بين الانتفاضة والحرب على الإرهاب وحاول شارون تقديم مجازره ضد الشعب الفلسطيني والانتفاضة بأنه يقوم بدور الوكيل على السياسة الأميركية في محاربة الإرهاب في الشرق الأوسط وهناك تيارات واضحة في أميركا لتأييد هذه السياسة.

إن خضوع المنطقة لحربين في وقت واحد من جانب إسرائيل والولايات المتحدة قد عزز انحياز أميركا لإسرائيل وبالتالي قلل من إمكانية قيام أميركا بدور نزيه في تحقيق السلام في المنطقة. وحال في الوقت نفسه دون وجود دور فعال للأمم المتحدة والشرعية الدولية، مما عزز موقف الرأي العام العربي الرافض للهيمنة الأميركية.


ب- في المجال العسكري
كانت إستراتيجية الولايات المتحدة العسكرية تتبنى سياسة الردع والاحتواء مع الاتحاد السوفياتي والدول المعادية الأخرى، وتقوم هذه السياسة على إقناع العدو بضرورة الابتعاد عن تهديد الأمن والمصالح الأميركية خوفاً من اللجوء إلى الأسلحة النووية والتدمير الشامل، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي اتجهت السياسة الأمنية الأميركية نحو تقليل تدخل الولايات المتحدة عسكرياً في الخارج وظهر هناك نوع من التوافق الدولي نحو تجنب الحرب والعمل على تسوية المنازعات بالطرق السلمية.

لكن بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول تحولت هذه الإستراتيجية نحو إعطاء أولوية للحرب على الإرهاب وتبني سياسة الضربات الوقائية لظهور تهديدات من جانب مجموعات مسلحة، والعمل على توسيع دائرة الحرب لتشمل دولاً أخرى غير أفغانستان مع السعي لتشكيل تحالفات عسكرية متعددة الأطراف والتخلي عن سياسة العزلة.

وفي الوقت نفسه احتفظت السياسة الأميركية لنفسها بحق استخدام الأسلحة النووية بشكل محدود ضد الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة دول مارقة ترعى الإرهاب وتهدد السلم العالمي بامتلاكها لأسلحة الدمار الشامل مثل العراق وإيران وكوريا الشمالية، وقد قادت هذه السياسة إلى وجود مفهوم جديد للأمن وصار الحديث: هل الأمن مرتبط بأمن الحدود أم أمن المواطنين أم أمن المصالح الأميركية، وهل الأمن يكون لكل دولة على حده بمعزل عن الدول الأخرى أم أنه أمن جماعي يفترض نوعاً من الاعتماد المتبادل، وهل التهديدات للأمن تأتي من الخارج أم من الداخل؟ لقد اكتشفت أميركا أنها تواجه تهديداً من نوع جديد يستهدف الكيان والوجود الأميركي عبر استخدام أسلحة وهجمات غير متوقعة بهدف تحقيق خسائر مادية وبشرية جسيمة ويصل بالخطر إلى قلب أميركا والمواطن الأميركي لأول مرة مما استدعى مواجهته بهجوم ساحق وحرب شاملة من طرف أميركا تعبئ فيه كل إمكاناتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، فالحرب التي تشنها أميركا على الإرهاب لا يوجد فيها عدو واضح ينبغي هزيمته ولا توجد فيها معايير محددة للنصر مما يجعل هذه الحرب ممتدة ومتنوعة الوسائل وهي تطلب إعادة تقييم القوى النسبية التي تهدد الولايات المتحدة.

وأدت هذه التغيرات في مفهوم الأمن الأميركية إلى إعادة تحديد مهمة جهاز المخابرات (CIA) وإمكانية استخدام مصادر معلومات جديدة، وفتحت المجال لإسهام القطاع الخاص للمشاركة في هذا المجال عن طريق تطوير التكنولوجيا الأمنية مثل أجهزة كشف الأسلحة والمتفجرات وأجهزة مكافحة التلوث والأسلحة الكيماوية وغيرها.

كشفت الممارسات الفعلية التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر/أيلول عن استخدام مفرط للقوة العسكرية الأميركية وتهديد للأمن القومي لعدة دول بحجة مقاومة الإرهاب لأن أميركا اكتشفت أنها أمام عدو من نوع جديد يتمثل في شبكة واسعة من التنظيمات الفرعية التي لا تحكمها هياكل تنظيمية محددة ولا تعمل في إطار خطة عسكرية ولا يمكن توقع أفعالها، لذلك عمدت أميركا إلى سياسة الانتشار العسكري والتي بدأت باليمن والفلبين وتحقيق الانفتاح العسكري في كل من ماليزيا وإندونيسيا والسودان والصومال وغيرها لضمان امتداد المظلة العسكرية الأميركية إلى معظم المناطق التي يتوقع انتشار تنظيم القاعدة فيها، مع إعطاء الضوء الأخضر لشارون لاستخدام كل طاقات إسرائيل العسكرية ضد الانتفاضة وتهديد المؤيدين لهذه الانتفاضة في المنطقة العربية سواء على الصعيد الشعبي أو الحكومي.


ج- المجال الاقتصادي
تميزت الفترة السابقة لأحداث 11 سبتمبر/ أيلول بسيطرة نظام العولمة الاقتصادي والذي تقوم فلسفته على الربح السريع واقتصاد السوق والهيمنة الشاملة للقوى الاقتصادية العظمى، فقد كشفت التقارير الاقتصادية بأن حوالي 20% من سكان العالم الذين يعيشون في الدول المتقدمة يسيطرون على حوالي 86% من الاستثمارات في حين يحصل حوالي 20% من سكان العالم الذين يعيشون في الدول الأكثر فقراً على 1% فقط من الاستثمارات، وأن هناك 358 شخصاً من أغنياء العالم يملكون ثروة تضاهي ما يملكه 2.5 مليار شخص من الناس يشكلون 50% من سكان العالم، وأن هناك 20% من دول العالم تستحوذ على 85% من الناتج الإجمالي العالمي في حين هناك 80% من سكان العالم يصنفون ضمن السكان الفائضين عن الحاجة من الفقراء الذين يعتمدون على المساعدات، وظهر اتجاه واضح ضمن النظام الدولي الجديد نحو تغيير وظيفة الدولة الاقتصادية خاصة في دول العالم الثالث فبدلاً من التركيز على تحقيق التنمية الاقتصادية وعدالة توزيع الدخل أصبح التركيز على الإصلاح الاقتصادي الذي يعني زيادة نصيب القطاع الخاص على حساب القطاع العام، وذلك في مختلف المجالات من استثمارات وتشغيل وإطلاق آلية السوق لتحقيق إنتاجية أكبر وتحقيق التوازن على المستوى الكلي.

وكان ينظر للولايات المتحدة باعتبارها القائدة لهذا النظام الاقتصادي العالمي القائم أساسا على العولمة والخصخصة في الوقت نفسه وأن هذا النظام يعطي أهمية للشركات العملاقة ومؤسسات التمويل الدولية لإدارة النظام الاقتصادي العالمي.

undefinedوجاءت أحداث 11 سبتمبر/أيلول لتشكل نقطة فاصلة في تحدي نفوذ الولايات المتحدة بوصفها القوة العظمى والعملاق الاقتصادي المهيمن على النظام الاقتصادي العالمي وتعرضها لهجوم واسع استهدف رموز عظمتها الاقتصادية.

وقد أدت تلك الأحداث إلى زعزعة الثقة في الاقتصاد الأميركي، وأدت إلى انهيارات في سوق الأسهم والسندات الأميركية وتراجع قيمة الدولار مقارنة بالعملات العالمية الأخرى، وتزايد نسبة البطالة وإعلان بعض الشركات عن إفلاسها وما تبع ذلك من ظهور فضائح في ميزانيات الشركات الكبرى. وقد قدرت قيمة الخسائر المادية نتيجة تلك الهجمات على أميركا بأكثر من 60 مليار دولار هذا بالإضافة إلى الخسائر الناتجة عن النفقات الأخرى المتعلقة بالعمليات العسكرية اللاحقة.

وتركزت جهود الولايات المتحدة في المجال الاقتصادي بعد تلك الأحداث على تأمين النفقات العسكرية للمجهودات الحربية الأميركية وتقديم الدعم للدولة المؤيدة للجهود الأميركية والتي تشمل باكستان ودول آسيا الوسطى وحتى روسيا التي تحاول الحصول على مساعدات اقتصادية غربية كعائد لمساندة أميركا في حربها على الإرهاب، هذا بالإضافة إلى بعض دول العالم العربي مثل الأردن ومصر.

وفي الوقت نفسه تعاظمت الجهود الأميركية لتقييد الدعم الاقتصادي للمنظمات "الإرهابية" عبر تجميد حسابات عدد من المنظمات والجمعيات والأشخاص المتهمين بأن لهم علاقات مالية بتنظيم القاعدة وغيرها، وفرض نوع من القيود والرقابة على حركات الأموال عبر العالم.

ونتيجة لذلك كله عانى الاقتصاد الأميركي من التباطؤ في النمو وظهور المشاكل الاقتصادية على السطح بعد تراجع حجم الاستثمارات مما دفع الدولة الأميركية للتوسع في مجال الإنفاق العام، خاصة المجال العسكري وتصاعد الاتجاه نحو عسكرة الاقتصاد، وفتح المجال لإسهام القطاع الخاص في الجهود الأميركية لمكافحة الإرهاب لتنشيط العملية الاقتصادية.

الخاتمة
لقد أثبتت أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة هشاشة النظام الدولي المعاصر، فبعد تحول النظام إلى الأحادية القطبية اعتقد الكثيرون بأن هذا النظام سيشهد فترة من السلام العالمي والاتجاه نحو تفعيل الشرعية الدولية وتسوية المنازعات بالطرق السلمية، لكن أحداث 11 سبتمبر/أيلول كشفت عن تحول الصراع في العلاقات الدولية إلى صراع بين الدول العظمى وهي الولايات المتحدة وبين ظاهرة الإرهاب وهي ظاهرة غير محددة المعالم وليس لها وطن محدد، ولقد أظهرت الأحداث بصورة جلية ضعف النظام الدولي عن طريق تجاوز أميركا لأطر هذا النظام وعدم الاعتماد على الشرعية الدولية في إدارتها للصراع أو ترتيبها للنظام الدولي ولجوئها للقوة الساحقة في محاربة أعدائها أو تهديد مصالحهم.

وتشير الاتجاهات المستقبلية في النظام الدولي الجديد إلى عودة التركيز على سيادة الدولة، فبعد أن اقتحمت سيادة الدولة وهددت من قبل المصالح والمنظمات العابرة للقارات والتكنولوجيا الحديثة، عادت أميركا لتتراجع عن هذا التوجه وتسعى لإعطاء الدولة على مستوى العالم دورا جديدا يتمثل أساساً في مكافحة الإرهاب وتأييد جهود الولايات المتحدة العسكرية والسياسية والثقافية في وقف التهديد للمصالح الأميركية على مستوى العالم حتى لو أدى ذلك إلى تجاوز حقوق الإنسان والحريات الممنوحة للمواطنين سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها، وظهر اتجاه نحو التراجع عن مبدأ العولمة المبشر بالانفتاح على الآخرين وحصل انكفاء في الموقف الأميركي يقوم على عدم الاستعداد لقبول أي موقف أو فكر يرفض الهيمنة الأميركية مما سبب لها خلافات مع أصدقائها وحلفائها في العالم وهو ما يهدد استقرار النظام الدولي الجديد.
ــــــــــــــــــ
* أستاذ العلوم السياسية بجامعة اليرموك
المصادر:
1- مجلة السياسة الدولية العدد 148 أبريل 2002.
2- مجلة السياسة الدولية العدد 149 يوليو 2002.
3- هانس بيتر مارتين وهارالد شومان، فخ العولمة، المجلس الوطني للثقافة/الكويت، 1998.
4- بيتر تيلور وكولن فلنت، الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 2002.
5- حازم الببلاوي، النظام الاقتصادي الدولي المعاصر، المجلس الوطني للثقافة/الكويت، 2000.
6- مجلة وجهات نظر، العدد 39، أبريل 2002.
7- نظام بركات وآخرون، مبادئ علم السياسة، مكتبة العبيكان/الرياض، 1999.
8- جلال أمين، عولمة القهر، أميركا والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر 2001، دار الشروق/القاهرة، 2002.
9- إبراهيم نافع، انفجار سبتمبر بين العولمة والأمركة، مؤسسة الأهرام/القاهرة 2002.
10- Foreign Affairs, Vol.81, No. 4, August 2002.
11- Holm, H and Sorenson, G, Whose World Order? Westview, Co, 1995.
12- Chomsky, Noam, World Orders, Columbia University Press, New york, 1996.

المصدر : غير معروف