القضية الكردية .. استحقاقات التجربة


undefinedد.عبد الحسين شعبان

برزت القضية الكردية في المنطقة منذ مطلع العشرينيات من القرن الماضي، فبعد أن جرى التغاضي عن معاهدة سيفر 1920، وانحياز القوى الكبرى إلى جانب تركيا الكمالية، جرى إبرام معاهدة لوزان 1923 التي تناست الكرد وحقوقهم، وكان ذلك بداية هذه القضية التي أصبحت مصدر قلقٍ وتوتر للعديد من دول المنطقة وازدادت تعقيداً مع مرور الأيام تاركة آثارا سياسية وإنسانية كبيرة وخطيرة.

التقاطع القومي
استغلال القضية
الاستحقاقات العراقية

التقاطع القومي

حظيت القضية الكردية بأهمية لتوزعها على أربع دول في المنطقة وللأهمية الجيوسياسية الإستراتيجية والاقتصادية خصوصاً بوجود النفط إضافة إلى كونها تحفل بصراعات قومية ودينية وبمشاكل إثنية وعرقية غير قليلة تؤثر على دول المنطقة وعلى المصالح الإقليمية والدولية.

"
يبرز حول القضية الكردية اتجاهان، الأول قومي متبادل يرجح الحل العسكري والثاني شعبي يدعو إلى اعتماد الحل السلمي

"

وخلال النظر إلى القضية الكردية بتاريخها يبرز اتجاهان أساسيان: الأول يرجح الحل العسكري، وتعود جذور هذا التيار الذي ينتمي إلى المدرسة القومية التقليدية إلى بعض النزعات الاستعلائية والتنكر لحقوق الشعب الكردي. ويقابل هذا الاتجاه أو يكون أحيانا رد فعل له ضيق الأفق القومي لدى بعض التوجهات الكردية واستعدادها للتحالف مع قوى معادية للبلاد (لاسيما في حالة العراق) وفي ظروف ملتبسة على أمل الحصول على بعض المكاسب.

والاتجاه الثاني هو الذي انتشر على المستوى الشعبي (في العراق بشكل خاص) ويدعو إلى اعتماد الحل السلمي للقضية الكردية والاعتراف بحقوق الشعب الكردي وشراكته في الوطن سواء عن طريق الحكم الذاتي أو من خلال شكل من أشكال الفيدرالية أو أية صيغة تضمن هذه الحقوق.

وكانت الورقة الكردية جاهزة على الدوام لـ"اللعب والاستثمار" من جانب القوى الدولية والإقليمية، ولم يكن ذلك بعيداً عن المخططات الإمبريالية والصهيونية، فالقضية الكردية إضافة إلى كونها نزاعاً داخلياً في تركيا وإيران والعراق بالدرجة الرئيسية فإنها مصدر خلاف وصراع وتحريك بينها، وكانت بالقدر نفسه مصدر اتفاق ومساومة وصفقات بين الحكومات التي يجمعها قاسم مشترك أعظم هو التنكر للحقوق القومية للشعب الكردي وظلت بؤرة ساخنة وعامل قلق دائم.

 فبعد فشل الانتفاضة الكردية في العراق إبان الحرب العالمية الثانية انتقل بعض الكرد العراقيين للقتال إلى جانب الكرد الإيرانيين عند قيام جمهورية مهاباد عام 1946 ومن المفارقات أن يكون الحكم قد صدر بالإعدام في كل من العراق وإيران على الملا مصطفى البارزاني الذي التجأ إلى الاتحاد السوفياتي، ولم يلغِ هذا الحكم عن البارزاني إلا بعد عودته إلى العراق عام 1958، واستمر الحكم عليه في إيران حتى عام 1968 رغم قيام بعض الاتصالات بين الحركة الكردية في العراق ونظام الشاه قبل هذه الفترة.

وكان لإقرار "شراكة العرب والكرد في الوطن العراقي" وتحقيق بعض المنجزات القانونية والإدارية للشعب الكردي أثره في استنهاض الشعور القومي الكردي في كل من إيران وتركيا. وقد سارعت إيران بعد اندلاع الحركة المسلحة في كردستان العراق إلى الاتصال بقيادتها منذ عام 1962 كما تقول وثيقة باسم الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) أثناء احتدام الخلافات عام 1979.

وعند إعلان بيان 11 مارس/آذار 1970 الذي هو بمثابة اتفاق بين الحكومة العراقية والثورة الكردية على إنهاء القتال ووضع أسس حل سلمي، لم تكن إيران مرتاحة من تثبيت بعض الحقوق الكردية خصوصاً أن العلاقات الإيرانية العراقية كانت على درجة عالية من التوتر حيث أقدمت إيران من طرف واحد على إلغاء معاهدة عام 1937 العراقية الإيرانية بخصوص تنظيم الحدود خلافاً للقانون الدولي، وهو ما كرره النظام السابق في العراق حين مزق اتفاقية 6 مارس/آذار لعام 1975 في 17 سبتمبر/أيلول 1980 عشية الحرب العراقية الإيرانية.

وفي أواسط الثمانينات خصوصا في ظل الاحتراب الكردي – الكردي العراقي وفي ظروف الحرب العراقية- الإيرانية انقسمت الحركة الكردية العراقية، فالحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) تعاون مع إيران، في حين تعاون الاتحاد الوطني الكردستاني (اوك) مع الحكومة العراقية خصوصا عشية وبُعيد مجزرة بشتاشان 1983 ضد الأنصار الشيوعيين في كردستان.

 

ومن المفارقة إن قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني استعانت بالحكومة العراقية عام 1996 لاستعادة  أربيل من الاتحاد الوطني الكردستاني الذي كان يتعاون مع إيران في تلك الفترة، بما يؤكد فكرة تلاعب القوى الإقليمية والدولية بالقضية الكردية ومحاولة استغلالها، واضطرار القيادات الكردية، خصوصا بإصرار الحكومات العراقية على عدم تلبية مطالب الشعب الكردي المشروعة، لمثل هذا التعاون الذي يلحق ضرراً بليغاً به وبقضيته وبمستقبل علاقاته بجيرانه وخصوصاً العرب بشكل عام وعرب العراق بشكل خاص.

 

استغلال القضية

يصح القول استناداً إلى التجربة التاريخية خصوصاً بعد اندلاع القتال بين الحكومة العراقية والحركة الكردية عام 1974 إن إيران التي تخلت عن دعم الحركة الكردية عام 1975 لم تستهدف من معاونتها للحركة الكردية دعم الشعب الكردي وإنما إضعاف العراق وإشغال جيشه بنزاع داخلي في حين كانت إسرائيل هي المستفيد الأول من ذلك.

"
قامت قوى إقليمية ودولية باستغلال القضية الكردية لصالحها واستخدمتها ورقة لخدمة مصالحها، وكان بعضها يدعم كرد جيرانه بينما يضطهد الكرد في بلاده

"

وعندما اصطدمت مصالح إيران مع الحركة الكردية أقدمت على الفور على قطع المساعدة عنها. يقول تقرير للمستر بايك قدم إلى الكونغرس في 9 يناير/كانون الثاني 1976 إن شاه إيران لم يعتبر مساعدته للحركة القومية الكردية في العراق سوى "ورقة يلعب بها في النزاع مع جيرانه"، وبالمقابل فإن بغداد بعد انتصار الثورة الإيرانية في فبراير/شباط 1979 عمدت إلى استخدام سلاح الشاه في مدّ يد العون إلى كرد "العدو" مشجعةً إياهم على مواجهة السلطة الجديدة وخلق المتاعب في وجهها، مبديةً حرصاً زائفاً على مطالب الشعب الكردي في إيران في حين كانت توغل في اضطهاد الشعب الكردي بالعراق.

وعلى الرغم من دعم طهران للحركة الكردية العراقية في أواخر السبعينيات والثمانينيات فإنها لاحقت الحركة الكردية الإيرانية بل إن هناك اتهامات بضلوعها في اغتيال الدكتور عبد الرحمن قاسملو بالنمسا.

أما في تركيا فإن الموقف من القضية الكردية رغم التطورات التي حصلت على الصعيد العالمي ما زال قاصراً حيث عانى الكرد من سياسة التتريك والحرمان من الحقوق لنحو سدس سكان تركيا الذين كان يطلق عليهم مصطلح "أتراك جبليون"، وعملياً هضمت حقوق أولية للكرد بما فيها حق التعلم بلغتهم ناهيكم عن حقهم في حكم أنفسهم بأنفسهم في حكم ذاتي وكانت إيران تعتبر الحديث عن المسألة القومية، هو بدعة وضلال لأن المسلمين متساوون "كأسنان المشط" في محاولة للتنكر وعدم الاعتراف بحقوق الكرد.

كما أن القيادة السورية كانت تستقبل القيادات الكردية العراقية وتبدي تعاطفاً مع كرد العراق في حين تمتنع من تلبية بعض الحقوق الكردية بما فيها منح عشرات الآلاف منهم الجنسية.

ودوليا يبرز استغلال الولايات المتحدة للقضية الكردية، فهي كانت حريصة على أن لا يحصل أي اتفاق بين الحركة الكردية وبين الحكومة العراقية في التسعينيات وخلال فترة الحصار الدولي.

وقد عبّرت بعض القيادات الكردية عن ذلك بعد الاتفاق الأولي بينها وبين الحكومة عام 1991 فأكدت أن هناك ضغوطاً أميركية حالت دون تحقيق الاتفاق مما يؤكد أن هذه القضية التي فشلت الحكومات في حلها سلمياً كانت قد استثمرتها قوى خارجية دافعةً الأمور باتجاه التباعد والصدام وتشجيع النزعات الافتراقية على حساب التعايش والوحدة الوطنية.

وكان الكثير من القيادات الكردية يتذكر مواقف كيسنجر عام 1974-1975 حين تمت التضحية بالقضية الكردية بتلك المساومة المعروفة، وهو ما كان يردده وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك عن الفارق بين السياسة والأخلاق.

ولعل الموقف من أحداث حلبجة وعمليات الأنفال عام 1988 خير دليل على ازدواجية المعايير وانتقائية المواقف بالنسبة للولايات المتحدة التي سكتت عنها أو بررتها في حين عادت إلى استخدامها بعد غزو القوات العراقية للكويت في 2 أغسطس/آب 1990.

الاستحقاقات العراقية

حتى وقت قريب كانت برامج معظم الأحزاب السياسية القومية العربية تخلو من تحديد واضح للمسألة القومية الكردية في العراق خصوصاً عندما تكون قريبة من مواقع السلطة، ولم ينظر التيار الإسلامي بشقيه إلى المسألة القومية الكردية باعتبارها أحد أركان مشكلة الحكم في العراق.

ولهذا لم يبلور حلاً واضحاً بخصوصها سوى الدعوة إلى المساواة من زاوية هي أقرب إلى الأخلاق منها إلى السياسة. وإذا كان اليوم قد جرى تأكيد شعار "الحكم الذاتي" وفيما بعد "قبول الفيدرالية" إرغاماً أو اقتناعا جزئيا في برامج وأنشطة مشتركة خصوصاً مع الأحزاب الكردية، فإن هذه القوى والأحزاب تختلف إلى حدود غير قليلة حول مضمون ودلالات هذا الشعار وما يشمله.

"
نظرت القوى السياسية في العراق إلى القضية الكردية بطريقة متباينة لكنها اتسمت عموما بالتشويش وعدم الوضوح

"

وفي التطبيق العملي فإن التيار الماركسي أيضاً لم يخلُ من التشوش في الموقف من الحركة القومية ومن الحل المطروح وذلك بالقرب أو البعد من مواقع السلطة أيضاً رغم تقدم أطروحاته النظرية بصدد الحل المنشود للقضية الكردية على أساس حق تقرير المصير.

ومن الحركات القومية العربية التي اتخذت منذ وقت مبكر موقفاً متميزاً من الحركة الكردية وأيدت فكرة الحكم الذاتي على أساس حق تقرير المصير الحركة الاشتراكية العربية بعد مؤتمرها الذي انعقد عام 1968.

أما الحزب الاشتراكي وبعض التيارات الناصرية فقد وافقت على فكرة الحكم الذاتي وفيما بعد الفيدرالية بدرجات متفاوتة وكان حزب البعث -قيادة قطر العراق قد أيّد فكرة الحكم الذاتي للكرد في المؤتمر القومي الحادي عشر (دمشق 1971)، أما حزب البعث في العراق فقد ساهم في التوصل إلى بيان 11 مارس/آذار 1970 للحكم الذاتي وأصدر "قانون الحكم الذاتي" عام 1974 الذي يعتبر رغم نواقصه وثغراته خطوة متقدمة في حينها، خصوصاً ما تضمنه دستور 16 يوليو/تموز 1970.

وبخصوص الحركة الإسلامية العراقية فإن أول حزب إسلامي وافق على فكرة الحكم الذاتي الحقيقي كان هو حزب الدعوة الإسلامي في برنامجه الصادر في مارس/آذار 1992.

وخلا مشروع السيد محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الإسلامي الأعلى الذي عرضه في مطلع عام 1992 من الإشارة إلى موضوع الحكم الذاتي. وحين وافقت القوى الإسلامية في مؤتمرات المعارضة وخصوصاً مؤتمر صلاح الدين عام 1992 على الفيدرالية أردفتها بكلمة "الولايات" ذات الأبعاد الإسلامية.

لكن البرامج الخاصة للأحزاب الإسلامية بما فيها قائمة الائتلاف الوطني العراقي اتخذت منحًى آخر بعد احتلال العراق وشروعها في طرح فكرة الفيدرالية للقسم الجنوبي من العراق وفي إطار مناقشات الدستور الدائم الذي تم الاستفتاء عليه في 15 أكتوبر/تشرين الأول 2005، وهذا يعني ضمناً قبول المبدأ الفيدرالي للمنطقة الكردية ولبقية مناطق العراق وفقاً للرؤية الخاصة التي كان قد عرضها السيد عبد العزيز الحكيم.

أما الحزب الإسلامي العراقي وجبهة التوافق العراقية وقوى أخرى فإنها -وإن كانت قد تحدثت عن خصوصية القضية الكردية دون تأييد الفيدرالية صراحة- عارضت بشدة فكرة الفيدرالية لوسط وجنوب العراق، واعتبرتها خطوة للتقسيم وهو ما تؤكد عليه دائما حتى عندما وافقت على دخول الانتخابات الأخيرة  في 15 ديسمبر/كانون الأول 2005، حيث علقت مسألة مناقشة الدستور الذي تم التصديق عليه إلى ما بعد أربعة أشهر من إجراء الانتخابات، وهي تطمح ومعها قوى أخرى إلى التأثير على صياغة موضوع وحدة العراق على أساس واضح يبعد فكرة الفيدرالية الجنوبية.

أما التيار الماركسي والحزب الشيوعي فقد تبنى فكرة الاستقلال الذاتي للأكراد عام 1956 في الكونفرنس الثاني للحزب وفي عام 1970 أكد على حق تقرير المصير لجميع الأمم صغيرها وكبيرها وحق التحرر من نير الاضطهاد القومي وإنشاء الكيان القومي المستقل والموحد لكل أمة في معرض حديثه عن الأمة الكردية المجزأة. ومن الجدير بالذكر أن الحزب قد رفع شعار الفيدرالية منذ عام 1991 وهو ما أكده مؤتمره الخامس المنعقد في نوفمبر/تشرين الثاني 1993.

تدويل القضية
لقد خرجت القضية الكردية في العراق أو في المنطقة كلها من الدائرة المحلية إلى الدائرة الدولية لتصبح من ألحّ القضايا الدولية المعقدة التي تتطلب

"
القضية الكردية خرجت من دوائرها المحلية إلى الدائرة الدولية لتصبح من ألحّ القضايا العالمية التي تتطلب حلولا عاجلة وسريعة

"

حلولاً عاجلة وسريعة وذلك بالارتباط بحرب الخليج الثانية ومشاهد الهجرة الجماعية المرعبة للكرد بعد قمع "الانتفاضة".

وإذا ما استثنينا القضية الفلسطينية وعدوان إسرائيل المتكرر والبعد الإنساني والسياسي لقضية اللاجئين فلربما كانت القضية الكردية من القضايا ذات البعد الإنساني والسياسي الأكثر سخونة والتهاباً بعد القضية الفلسطينية، ليس في العراق فحسب بل على صعيد الأمة الكردية التي تعاني مثل الأمة العربية من التجزئة والتقسيم.

وقد كان صدور القرار 688 في 5 أبريل/نيسان 1991 من مجلس الأمن الدولي عودة جديدة بالقضية الكردية إلى الأروقة الدولية وتحديداً في إطار الأمم المتحدة منذ معاهدة سيفر 1920. 

ويمكننا القول إن هذا القرار هو القرار اليتيم والتائه الذي ظل منسيا من بين جميع قرارات مجلس الأمن التي بلغت ما يزيد عن 60 قراراً مجحفاً كلها صدرت ضمن الفصل السابع الخاص بالعقوبات واستخدام جميع الإجراءات بما فيها القوة لفرض امتثال الحكومة العراقية لجميع تلك القرارات الجائرة والمذّلة وغير الإنسانية باستثناء هذا القرار الوحيد الذي انتصر للشعب العراقي حين دعا إلى كفالة احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين ووقف القمع الذي تتعرض له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق باعتباره تهديداً للسلم والأمن الدوليين.

ومن المفارقة أن هذا القرار لم يصدر ضمن الفصل السابع ولم يصرّ مجلس الأمن على تطبيقه أسوة بالقرارات الدولية الأخرى، كما لم تضغط الولايات المتحدة على تنفيذه دون قيد أو شرط كما فعلت بالنسبة لقرارات الحصار الدولي وكذلك لم توافق عليه الحكومة العراقية، التي وافقت على جميع القرارات الدولية المجحفة.
_______________
مفكر وباحث في القضايا الإستراتجية

المصدر : الجزيرة