في وقت ما من عام 1979، وأثناء زيارة المرشح الرئاسي الأميركي حينها رونالد ريغان لمقر قيادة الدفاع الجوي لأميركا الشمالية في جبال تشين بولاية كولورادو، أشار ريغان إلى الشاشات المضيئة، التي كان من ضمن مهامها رصد النشاط الصاروخي عبر استخدام الأقمار الصناعية، وسأل قائد العمليات المناوب عما يمكنهم فعله إذا أشارت تلك الشاشات إلى أن صاروخا نوويا سوفيتيا قد أُطلق في اتجاه الولايات المتحدة. وقد أجابه القائد جوابا مرعبا، حيث رد بالقول في عجز: لن يمكننا فعل أي شيء!
في طائرة العودة إلى واشنطن العاصمة، تحدث ريغان مع مستشاريه عن قلقه، وهو ما جعل أحدهم، ويُدعى مارتن أندرسون، يبدأ العمل على مذكرة لإستراتيجية دفاعية يتبناها ريغان أثناء حملته الانتخابية، تجعل منه بطلا في عيون الأميركيين، وتزيح عنه صورة المتعطش للحرب والدماء، في بلاد كانت لا تزال تعاني من آثار حربها في فيتنام. وأراد أندرسون أن تُعرف مذكرته باسم "خطة ريغان للسلام"، وحين فاز ريغان بمنصب الرئاسة في العام التالي، وضع على قائمة أولوياته التعامل مع التهديد السوفيتي، وشكَّلت مذكرة أندرسون أحد أهم مصادره لتحقيق هدفه. لم يعرف الأميركيون والعالم ما كان يفكر فيه ريغان إلا يوم 12 مارس/آذار 1983، عندما قدم الرئيس خطته باسم "مبادرة الدفاع الإستراتيجي"، التي ذاع على نطاق واسع فيما بعد الاسم الذي أطلقه عليها منتقدوها: "برنامج حرب النجوم".
كان البرنامج ثوريا بالنسبة لزمانه، فقد أراد تدريع الولايات المتحدة ضد الصواريخ النووية العابرة للقارات، من خلال توظيف أنظمة فضائية وأرضية، تتكون من أقمار صناعية وأشعة ليزر ومرايا عاكسة. بكثير من التبسيط، يمكن القول إن الفكرة الطموحة التي عززها التفاؤل بالقدرات التقنية الأميركية، كانت مبنية على رصد الصواريخ بالأقمار الصناعية على شاشات مثل تلك التي رآها ريغان في كولورادو، ثم توجيه أشعة ليزر مشتتة إلى أقمار صناعية تحمل مرايا عاكسة توجهها بدورها إلى الصاروخ المعادي بحيث يبطل عمله بطرق مختلفة من بينها تفجيره في الفضاء. لم يكتمل المشروع الطموح، بعد أن أثبتت التقنيات عجزها عن التعامل مع مشكلاته التي قدَّرها الخبراء، لكن أهم أسباب تأخره على قائمة الأولويات الدفاعية الأميركية كان انهيار الاتحاد السوفيتي نفسه في نهاية الثمانينيات، وانتفاء الحاجة إلى نظام ردع يُكلِّف مئات المليارات من الدولارات من دون تهديد يستحق ذلك.
لم يعلم الأميركيون وقتها أن التهديد الروسي لن يلبث أن يعود مجددا. ففي منتصف فبراير/شباط الماضي أعلن المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي أن الولايات المتحدة لديها معلومات استخبارية تفيد بأن الروس يطوِّرون سلاحا جديدا مضادا للأقمار الصناعية ومثيرا للقلق. ولم يوضح البيان تفاصيل دقيقة عن السلاح سوى أنه سيُطلق في الفضاء، وأنه سيكون مسلحا برأس نووي. وفي هذا السياق ترى الولايات المتحدة أن التحركات الروسية تهديد جديد لها، وأنها يجب أن تحمله على محمل الجد، بحسب ما صرَّح به كيربي آنذاك.
يمكن فهم هذا التصريح في سياق محاولات البيت الأبيض للضغط على الكونغرس من أجل الموافقة على إرسال حزمة مساعدات إضافية إلى أوكرانيا في حربها التي طالت مع روسيا، ولكن من جهة أخرى فإن هذا الخبر يعيد تنشيط ذاكرة سباق التسلح بين الدول الكبرى، ولا سيما في مجال تطوير الأسلحة الموجهة للأقمار الصناعية، وهو سباق كانت واشنطن نفسها أول من دشنه وأطلق المنافسة حوله بتجريب سلاح نووي يُفجَّر في الفضاء ويمكنه استهداف الأقمار الصناعية عام 1962، وذلك بعد الإعلان عن عملية "ستارفيش برايم"، التي جرى فيها اختبار سلاح نووي موجه للفضاء بقوة 1.4 ميغاطن (الميغاطن الواحد يساوي مليون طن من متفجرات الـ"تي إن تي") على ارتفاع 400 كيلومتر من سطح الأرض.
تقول المعلومات المتوفرة حول العملية إن الانفجار النووي نجح بالفعل في استهداف الأقمار الصناعية المطلوبة، لكنه أدى في الوقت نفسه إلى نشر طبقة من الحطام الانشطاري في الغلاف الجوي العلوي، قادت إلى تدمير قدرة بعض طبقات الغلاف الجوي العلوي على ثني موجات الراديو إلى الأرض. وقد ترتب على ذلك قطع العديد من الاتصالات عبر المحيط الهادي، وبسبب تلك الأضرار الجسيمة تقرر إنهاء المشروع. ولكن منذ ذلك الحين، لم تتوقف تطلعات الدول الكبرى عن السعي لتطوير سلاح يستهدف الأقمار الصناعية، رغم التجربة الكارثية للولايات المتحدة، ورغم طموحات برنامج حرب النجوم الباهظة التكاليف.
لماذا الأقمار الصناعية؟
لا غنى عن الاتصالات في عالمنا اليوم، ففي أوقات السلم تتحرك من خلالها الأفكار، وفي أزمنة الصدام تُمرر من خلالها التعليمات، لكن النقلة النوعية في ثورة الاتصالات الحربية ترتبط بالحرب العالمية الأولى. فقد كان لدى البريطانيين شبكة وافرة من الكابلات والوصلات التلغرافية، الممتدة عبر مناطق شاسعة من العالم، وهو ما ساعدها على سرعة إيصال الأوامر والتكليفات إلى قواتها في أرض المعركة، ومن ثم تحريكهم حسبما تقتضي الخطة الإستراتيجية للمعارك، وكذلك مكنتها تلك المقدرة من توفير المعلومات والوقت الكافيين للانسحاب والمناورة إذا اقتضت الظروف ذلك.
في الوقت نفسه، لم يتردد البريطانيون في تدمير أي كابل بحري يهدد أمنهم. وأشهر تلك العمليات كانت في بدايات الحرب العالمية الأولى، وتحديدًا يوم 5 أغسطس/آب 1914 حينما أتلفت سفينة بريطانية خمس كابلات تلغرافية ألمانية رابضة في أعماق المياه؛ مما أدى إلى قطع الاتصالات الألمانية المباشرة، وعزلها عن التواصل مع خارج أوروبا، وهو ما أثر في خط سير الحرب لصالح البريطانيين.
يمكن القول إنه في أعقاب تلك العملية لم تتوقف حروب الاتصالات، والتسابق نحو امتلاك تقنيتها، حيث سعت الدول الكبرى لتطوير شبكاتها للاتصالات. ثم أتت القفزة الكبرى في مرحلة الأقمار الصناعية، وهنا يكفي مراجعة مؤشر الأجسام المطلقة في الفضاء الخارجي التابع لمكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي، الذي أوضح أن هناك 11330 قمرا صناعيا فرديا كان يدور حول الأرض عام 2023، وهي زيادة هائلة بنسبة 38% تقريبا عن عام 2022. ولوحظ أن هذه الزيادة في الأقمار الصناعية تمت في نطاقين على وجه الخصوص: الاتصالات والمراقبة. ولكي ندرك مقدار هذه الزيادة الهائلة، علينا أن نعرف أن العالم كان يطلق سنويا حوالي مئتي قمر صناعي طوال العقود السبعة الماضية، ولكن الرقم قفز قفزة كبيرة أثناء العقد الحالي.
من المعروف أن مجال عمل الأقمار الصناعية العسكرية يشمل أعمال الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، حيث تتوفر لها أجهزة الاستشعار وكاميرات الرصد المعلوماتي، كما تقدم الدعم اللوجستي عبر تسهيل الاتصالات الآمنة الموثوق بها بين الأفراد العسكريين والمحطات الأرضية والسفن والطائرات، وخاصة في المناطق النائية، علاوة على توفير معلومات دقيقة عن المواقع والملاحة وتنسيق العمليات. أما أقمار الإنذار المبكر، فتعمل على اكتشاف وتتبع عمليات إطلاق الصواريخ الباليستية؛ مما يوفر معلومات حيوية للقادة العسكريين لتقييم التهديدات. ومن ثمَّ فإن استهداف هذه البنية التحتية الفضائية لا شك سيؤثر في خط سير أي معركة، فضلا عن اختراقات القراصنة وما تسببه من بلبلة وتخبط في إيقاع الحياة داخل أي بلد يتعرض للهجوم السيبراني، إذ إن جزءا من اتصالاتنا اليومية وطرق وصولنا إلى الترفيه والمعلومات والملاحة اليومية على الطرقات يتم عبر تطبيقات مثل "غوغل مابس" المتصلة بالأقمار الصناعية.
يعني ما سبق أن استهداف الأقمار الصناعية بضربات عسكرية ليس عملا ثانويا، بل يقع في قلب التخطيط العسكري للدول الكبرى، ولم يكن من الصعب نظريا تطوير أنماط السلاح الموجه للأقمار الصناعية، فالفضاء ليس فيه جاذبية تضطر المقذوفات الصاروخية إلى التغلب عليها والتعامل معها. ومن ثمَّ فإن وصول الصواريخ إلى سرعات بعشرات الآلاف من الكيلومترات في الساعة أمر يسير دون الحاجة إلى شحنات متفجرة، ويكفي الارتطام بجسم القمر ليتم إيقاف الصاروخ وإخراجه عن العمل والخدمة إلى الأبد.
ولكن مع تلك السهولة البادية نظريا، تكمن المشكلة في السرعات العالية مع انعدام الجاذبية في أن المقذوف يحتاج إلى ضبط دقيق لمساره. فمن المعروف أن الأقمار الصناعية تدور بسرعات هائلة، كما أنها تتنوع في ارتفاع مداراتها حول الأرض، فليست كلها في المدار الأرضي المنخفض، الذي لا يتعدى مداه 500 كيلومتر من سطح البحر، بل منها ما يحلق في المدار الجغرافي الثابت على ارتفاع أكثر من 35 ألف كيلومتر من سطح البحر، وهي مسافة تعني تقريبا دورة كاملة حول الأرض. إن استهداف شيء يجري بتلك السرعة الهائلة على هذا الارتفاع أمر في غاية الصعوبة، والجدير بالذكر أن سياق الحرب الباردة كان يدفع نحو تطوير هذه الأسلحة، وقد بدأت الولايات المتحدة ببرامج مثل ستار فيش، ثم "إيه إس إم 135" (ASM 135)، وهو صاروخ موجه أطلق عموديا من طائرة إف 15 على قمر صناعي أميركي كان يدور على ارتفاع 555 كيلومترا، ونجحت التجربة حينها.
من جهة أخرى، كان للروس تجارب ناجحة أولها في نوفمبر/تشرين الثاني 1963 حينما أطلقوا مناورة باسم بوليوت-1 (Polyot-1)، وكان الهدف منها اختبار ما إذا كانوا قادرين على الاقتراب من قمر صناعي محدد. ولكن أول استهداف عملي ناجح تم عام 1968، وعلى خلاف الطريقة الأميركية، طوَّر السوفيت قمرا صناعيا خاصا لأغراض الاستهداف، حيث يتخذ القمر الهجومي مدارا يتطور ببطء ليقترب من القمر الصناعي المُستهدَف. وبعد ذلك بخمس سنوات دخل النظام المضاد للأقمار الصناعية الخدمة التجريبية، ثم أصبح جاهزا للعمل بكامل طاقته عام 1983. وقد تطور هذا الصراع البارد ليصل إلى مبادرة الدفاع الإستراتيجي، أو برنامج حرب النجوم، كما ذكرنا في بداية المقال.
ثلاث تجارب حاسمة
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، هدأ الحديث عن الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، لكن يبدو أن ثمة جمرا يغفو تحت الرماد، إذ أعادت دولٌ مثل الصين والهند وروسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي تدشين سباق حروب الفضاء مرة أخرى. على مدار العقدين الماضيين أُجريَت ثلاث تجارب حاسمة شكلت حاضرنا المتوتر مع هذا النمط من التسليح، ففي 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 أشار رئيس العمليات الفضائية في الجيش الأميركي الجنرال برادلي سالتزمان إلى أن القدرات الصاروخية الصينية المضادة للأقمار الصناعية تعد أحد أكبر التحديات التي تواجه الولايات المتحدة حاليا، واصفا اختبار الصين عام 2007 لسلاحها المضاد للأقمار الصناعية بأنه نقطة تحول في تاريخ هذا النوع من الأسلحة.
تشير المعلومات الحالية إلى أن الاختبارات الصينية تمكنت من تطوير مركبة حركية فضائية تجري بسرعة 27 ألف كيلومتر في الساعة، ويمكنها استهداف قمر صناعي صيني للطقس على ارتفاع 865 كيلومترا وبكتلة 750 كيلوغراما. وقد أطلقت المركبة بصاروخ حامل متعدد المراحل يعمل بالوقود الصلب من مركز شينشيانغ لإطلاق الأقمار الصناعية. والمركبة الحركية الصينية هي سلاح مقذوف يعتمد فقط على الطاقة الحركية للقذيفة لإلحاق الضرر بالهدف، بدون أي استخدام للمواد المتفجرة أو الحارقة أو الحمولات الحرارية أو الكيميائية أو الإشعاعية؛ ولذا يمكنه الوصول إلى سرعة طيران عالية، وتحويل طاقته الحركية إلى موجات مدمرة حينما تصطدم بالهدف رأسا برأس، وهو ما حصل في التجربة الصينية الناجحة.
كان هذا أول اختبار ناجح معروف لاعتراض الأقمار الصناعية منذ سبتمبر/أيلول 1985، عندما استخدمت الولايات المتحدة صاروخ "أي إس إم" السالف الذكر، وهو ما لفت انتباه المختصين في الجيش الأميركي خاصة بعد إعلان الصين عن تجربة ناجحة أخرى عام 2013، أتت تأكيدا على أنها أصبحت إحدى القوى العظمى التي تمتلك أسلحة مضادة للأقمار الصناعية. أما التجربة التالية التي لفتت انتباه المختصين فأتت من قوة آسيوية أخرى هي الهند.
بدأت الهند العمل على صاروخ مضاد للأقمار الصناعية بعد وقت قصير من اختبار الصاروخ الصيني، وفي مارس/آذار 2019، اختبرت الهند السلاح أثناء عملية أسمتها "شاكتي" استهدفت قمرا صناعيا موجودا في مدار أرضي منخفض ضُرِب بمركبة قتل حركية، وهي نموذج معدل لاعتراض الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية. وقد جعل هذا الاختبار الهند الدولة الرابعة بعد الولايات المتحدة وروسيا والصين التي تختبر سلاحا مضادا للأقمار الصناعية. وكان هذا الصاروخ قادرا على إسقاط أهداف تتحرك بسرعة 10 كيلومترات في الثانية على ارتفاع يصل إلى 1200 كيلومتر، لكن اللافت للانتباه في هذا السياق هو دقة الهنود في الاستهداف، فقد ضرب الصاروخ القمر الصناعي بدقة أقل من 10 سنتيمترات؛ مما جعله من أدق الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية في العالم.
تلت ذلك تجربة جعلت الغرب يستعد لنوع جديد من التنافس العسكري، حينما تمكنت روسيا عام 2021 من تنفيذ إطلاق ناجح لصاروخ مباشر مضاد للأقمار الصناعية من النوع "إيه-235 بي إل -19 نودول" (A-235 PL-19 Nudol)، وهو صاروخ مضاد للصواريخ الباليستية مصمم بالأساس لصد هجوم نووي على موسكو وعدة مناطق أخرى داخل روسيا، وصدرت منه نسخ لاستهداف الأقمار الصناعية على ارتفاع أعلى من 450 كيلومترا، وقد ضرب الصاروخ القمر الصناعي الاستخباري "كوزموس 1408".
كان الاختبار علامة فاصلة في تاريخ تطوير الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، فقد أدى تدمير كوزموس إلى ظهور سحابة من الحطام الفضائي هددت محطة الفضاء الدولية، وطُلب من أفراد الطاقم السبعة على متن محطة الفضاء الدولية أن يرتدوا بدلاتهم الفضائية ويحتموا في كبسولات الطاقم حتى يتمكنوا من العودة بسرعة إلى الأرض في حالة ضرب المحطة، حيث كان القمر الصناعي في مدار على ارتفاع 50 كيلومترا تقريبا فوقها. ولا يزال هذا الحطام الآن يدور أعلى الأرض، ويعتقد أنه يمكن أن يتسبب في حوادث تصادم مع بعض الأقمار الصناعية الموجودة على هذه الارتفاعات.
متلازمة كيسلر
لفت هذا الحادث انتباه العديد من العلماء والسياسيين إلى مشكلة كبرى سوف يواجهها العالم مع استمرار تطوير الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، وهو أن حطام هذه العمليات لن يذهب بعيدا، بل سيتخذ مدارا حول الأرض ويستمر في الدوران في مدار أوسع، ومن ثمَّ فيُحتمل أن يضرب أقمارا صناعية أخرى أو المحطة الفضائية الدولية أو الصينية. ومع تصاعد أعداد إطلاقات الأقمار الصناعية سنويا، واهتمام العديد من الشركات الكبرى مثل أمازون وسبيس إكس وأبِل بإطلاق الأقمار الصناعية بأعداد كبيرة إلى مدار الأرض أثناء العقد المقبل، فإن ذلك يمثل تهديدا حقيقيا لكل دول العالم.
دفع ذلك بالعلماء إلى إعادة النظر فيما يسمى "متلازمة كيسلر" (Kessler Syndrome) التي طرحها الفلكي الأميركي دونالد كيسلر عام 1978 في ورقة بحثية بعنوان "ترددات تصادم الأقمار الصناعية: نشأة حزام من الحُطام"، وافترض فيها أن حطام الفضاء قد يعمل بطريقة الدومينو، بحيث نصل إلى لحظة لن يكون بمقدورنا فيها إطلاق أيّ أقمار صناعية جديدة إلى الفضاء إلا بعد تنظيف الحزام من الحطام. وفي سيناريو كيسلر النظري، فإن مدارا واحدا مكتظا بالحطام الفضائي يرفع احتمال اصطدام الأقمار الصناعية، وكل قمر صناعي يتعرض للتصادم سيتحول بالتبعية إلى حطام إضافي، ومن ثمَّ ترتفع كمية الحطام فيرتفع احتمال التصادم، وهكذا دواليك حتى تُدمَّر كل الأقمار في هذا المدار وتمتنع الدول عن إرسال المزيد من الأقمار إليه.
لكن ذلك كما يبدو لن يوقف متتالية تطوير الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية التي بدأت منذ الخمسينيات من القرن الماضي، بل أصبح واضحا أنها جزء من تطوير الدفاع الجوي في العموم. فمثلا يرى الخبراء أن الجيل الجديد من نظام الدفاع الجوي الروسي "إس-500"، المُقرر دخوله إلى الخدمة في غضون عام، يستطيع اعتراض الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى في الفضاء، ومن ثمَّ يُمكنه شن عمليات الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية. وإضافة إلى ذلك، فإن الروس كما يبدو مستمرون في اختباراتهم على نطاق واسع، حيث رُصِدَت مناورات للأقمار الصناعية الروسية خرجت خلالها "حمولات" من داخل تلك الأقمار. والواقع أن السلاح الجديد الذي رصدته الاستخبارات الأميركية ربما ينضم إلى تلك الآلية في تشغيل السلاح المضاد للأقمار الصناعية، وهناك اعتقاد لدى بعض الخبراء بأنه يستخدم التفجير النووي لإيجاد نبضات كهرومغناطيسية تُعطِّل الأقمار الصناعية المحيطة من دون الحاجة إلى تدميرها.
بحسب تحقيق مفتوح المصدر نشره موقع "ذا سبيس ريفيو" حلَّل صور الأقمار الصناعية المتاحة للعامة إلى جانب عدد من وثائق المقاولين الصناعيين، يعمل الروس في منشأة كرونا الفضائية التابعة لوزارة الدفاع الروسية بالقرب من مدينة زيلينشوكْسكايا في أقصى جنوب غرب روسيا، على بناء نظام ليزر مصمم للحرب الكهروضوئية، وهو ليزر يمكنه أن يعمي الأقمار الصناعية المعادية بشكل دائم عن طريق تسليط نبضات ليزر شديدة السطوع عليها تتلف أجهزة الاستشعار البصرية فيها.
ويشير التحقيق الذي صدر منتصف عام 2022، ويتضمن وثائق براءات اختراع ومشتريات روسية، إلى أن منشآت الليزر الروسية تتميز بنظام تتبُّع منفصل مع بصريات تكيُّفية تساعد على تخفيف الاضطرابات الجوية بشكل أفضل. ولا يقتصر الأمر على روسيا، بل يعتقد الخبراء أن الصين تعمل على تطوير أشعة الليزر المضادة للأقمار الصناعية، وأنها تشبه في تخطيطها نظام الدفاع الجوي الليزري المنخفض الارتفاع "سايلنت هانتر" الصيني الذي صمم بالأساس لاستهداف المُسيَّرات، وهو نظام تكتيكي مثبت على سيارة، إلا أن النظام الجديد المضاد للأقمار الصناعية أكبر بكثير وأقرب في الحجم للتركيب على السفن البحرية.
وتمتلك هذه النوعيات من الأسلحة عدة مزايا، أولها أنها تتجنَّب خطورة متلازمة كيسلر، وكذلك فإنها رغم التكلفة المبدئية الكبيرة أرخص بفارق كبير على المدى الطويل، مقارنة بالحاجة إلى تشغيل دفعة صاروخية في كل مرة. ولكن الأهم مما سبق أن دولًا مثل روسيا والصين تحاول حاليا الاستثمار بقوة في النطاقات السيبرانية كي تتمكن من امتلاك قوة غير متماثلة ضد الولايات المتحدة إذا شاءت الأقدار أن تندلع حرب بين الأخيرة وبين إحداهما.
تعرف الحرب غير المتماثلة بأنها تلك التي تنشأ بين خصمين متحاربين تتفاوت قوتهما ومواردهما العسكرية أو خططهما الإستراتيجية والتكتيكية، وعادة ما يُنظر إلى هذا النوع من الحروب على أنه ينشأ بين جيش نظامي ومليشيات مسلحة/مقاومة. وتحاول الأخيرة معادلة القوة مع الجيش الأقوى من جهة الموارد عبر استخدام إستراتيجيات وتكتيكات غير معتادة لإيجاد درجة من التوازن مع التفوق التقني والعسكري في أرض المعركة.
ورغم ذلك فإن دولا كبرى مثل الصين أو روسيا يمكن أن تتخذ نهجا شبيها لمقاومة التفوق العسكري الأميركي، خاصة أن الجيش الأميركي يعتمد أكثر من خصومه على الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، بدءا من المراقبة واكتشاف إطلاق الصواريخ إلى الملاحة في البحر والجو، والقنابل الموجهة بنظام تحديد المواقع العالمي، والاتصالات في ساحة المعركة. وهنا تبرز أهمية السلاح المضاد للأقمار الصناعية. وعادة ما تتكون البنية التحتية للأقمار الصناعية لأي دولة من عدد صغير نسبيا من الأقمار الضخمة والمكلفة، التي يصعب استبدالها بسرعة. وهذه الميزة تجعل الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية علاجا مُغريا للتفوُّق العسكري الأميركي بالنسبة لدول مثل روسيا والصين، خاصة أن الأقمار الصناعية بطبيعة الحال توجد في موقع ضعيف دفاعيا، فهي مكشوفة وسهلة الاستهداف وغير مُدرَّعة.
أضف إلى ذلك أنه إذا كان لدى موسكو أو بكين عدد كبير من الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية المنتشرة على الأرض أو في الفضاء، فهذا يعني أن أنظمة الأقمار الأميركية أصبحت في خطر مستمر من شأنه أن يمثل نفوذا سياسيا في وقت السِّلم، كما يُعَد ميزة بالغة الأهمية في حالة نشوب الصراع. ومع أن الولايات المتحدة تمتلك بالفعل قدرات كبيرة في مجال الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، ويمكن أن تنتقم بسرعة إذا واجهت عملا عدوانيا في الفضاء، فإنها تظل أكثر اعتمادا من غيرها على الأقمار الصناعية؛ مما يجعلها أكثر تضررا.
ولذا وصف وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو اختبار كوزموس 1408 بأنه "نظام أسلحة مستقبلي متطور" لتعزيز الردع والدفاع الروسي ضد محاولات الولايات المتحدة تحقيق "ميزة عسكرية شاملة" في الفضاء. ويأتي ذلك في سياق مخاوف روسية من أن الولايات المتحدة تمتلك أسلحة يمكنها تجاوز منظومة الردع الروسية. وفي مؤتمر عُقد عام 2013 حدد نائب رئيس الوزراء الروسي دميتري روغوزين خمسة سيناريوهات للصراع يمكن أن تواجهها روسيا في المستقبل يتضمن أحدها حربا مع خصم متقدم تقنيا دون مواجهة مباشرة. في هذا السيناريو، ستضرب الولايات المتحدة الأراضي الروسية، مستفيدة من أسلحتها الدقيقة السريعة للغاية باستخدام الأقمار الصناعية والملاحة، ومن ثمَّ فإن الحاجة لتطوير سلاح مضاد للأقمار الصناعية يعد بالنسبة للروس ضرورة ملحة.
وبحسب فريق من باحثي مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية الأميركي، فإنه رُغم تقدُّم القدرات الفضائية الأميركية عن الدول الأخرى، تحقق الصين وروسيا تحديدا تقدما في الأسلحة الفضائية المضادة بشكل أسرع من الولايات المتحدة، مع طفرة فيما يتعلق بزيادة مرونة التدابير الفضائية المضادة، خاصة في ظل محاولات حثيثة لتطوير قدرات الحرب السيبرانية. إن النقطة الأخيرة غاية في الأهمية، فبالنظر إلى الحرب الأخيرة في أوكرانيا، نجد أن روسيا استخدمت بالفعل مجموعة متنوعة من الأساليب القتالية غير المعتادة، مثل الهجمات السيبرانية والتشويش، لعرقلة الاتصالات عبر الأقمار الصناعية مع الأوكرانيين. ومن المعروف أن الروس ينفقون بسخاء على مجال الحرب السيبرانية، وهو ما سيكون له تأثير في حروب الفضاء إن نشبت في المستقبل.
سباق جديد
لكن المشكلة الكبرى في هذا السياق تتعلق بحروب التسلح والتسلح المضاد. لقد رأينا ذلك من قبل في الحرب الباردة حينما قام كل من السوفيت والأميركان بتطوير سلاحهما النووي وزيادة عدد الرؤوس النووية. والآن -حتى بعد التهدئة- يصل عدد الرؤوس الحربية النووية في العالم إلى قرابة 15 ألف رأس، وهو عدد كفيل بإدخال الأرض في حالة انقراض واسعة إذا استخدم في وقت واحد، والأهم من ذلك أنه يضع الكوكب كله في حالة حذر دائم من لحظة الإطلاق الأولى.
ينطبق الأمر ذاته على السلاح المضاد للأقمار الصناعية، فإذا بدأ الروس استهداف أقمار صناعية أميركية سيبدأ الأميركيون الرد عن طريق أسلحة أقوى. وقد يدخل الصينيون إلى المعركة إذا تأثرت أي من أقمارهم الصناعية، وهو ما قد يؤدي إلى ردّ من الهند، وهكذا تستمر قطع الدومينو في التساقط واحدة تلو الأخرى، خاصة أن الفضاء نطاق غير مُتحكَّم فيه بشكل تام، ويمكن بسهولة أن يحدث فيه خطأ دون أن يدرك فاعله. فإذا تحطم قمر صناعي باكستاني مثلا على إثر عملية هندية، فإنه لا يوجد وقت ولا مجال للنقاش حول سبب ما جرى وهل كان حادثا غير مُدبر بسبب الحطام الفضائي أم كان ضربة عسكرية متعمدة؟
سيدفع ذلك بالباكستانيين مثلا إلى تطوير قوة فضائية بأسرع ما يمكن، في محاولة لردع الهنود عن التفكير في الأمر. وإذا تتبعت الفكرة فستجد أنه في غضون عقد من الزمن ستمتلك الكثير من دول العالم أسلحة مضادة للأقمار الصناعية، كل هذا ولم نتحدث بعد عن تكديس السلاح النووي في الفضاء؛ مما يعني إمكانية رفع أعداد الرؤوس الحربية النووية حول العالم. والأهم مما سبق أنه يمكن للأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، أو الحطام الفضائي الناتج عن استخدامها، أن يُفعِّلا بسهولة أكبر الأقمار الصناعية التي تختص بعمليات الإنذار المبكر. فقد يتم على سبيل المثال إطلاق إنذار من أعلى مستوى في أروقة البنتاغون بسبب استشعار خطر باليستي قريب، في حين أن الأمر لا يعدو كونه قطعة من الحطام الفضائي ضربت القمر الصناعي، لكن ضيق الوقت وتوتر الأجواء السياسية قد يفتح الباب لاحتمالات غاية في الخطورة.
مثل كل سلاح نشأ على كوكبنا بأيدي أبناء الجنس البشري، فإن أول استخدام له يوجِد حالة من الفوضى، ومن ثم تتطور الأمور نحو توازن بارد حينما يصبح هذا السلاح في حوزة الجميع ويُدرك الجميع شدّة خطورته، ولكنه توازن عادة ما يكون محفوفا بالأخطار، ويُمكن كسره في لحظة بشكل يضر الجميع، حتى من لم يشاركوا في الصراع.