التكلفة الخفية للأزياء السريعة.. كيف تدمر حياتك؟
بالنسبة لشركة مثل "شي إن" الصينية للملابس والإكسسوارات -التي يحتل تطبيقها المرتبة الثانية عالميا من حيث مرات التنزيل- يتم تحميل ما يقدر بنحو ألف شكل جديد يوميا على موقعها الإلكتروني، مع وجود تكهنات بأن هذا الرقم قد يكون أقل من الواقع بشكل كبير.
ومع متوسط عدد كل قطعة ملابس يتم تصنيعها يتراوح بين 50 و100 قطعة وفقا لموقع منصة البيع الإلكترونية العملاقة ينتج عن ذلك ما لا يقل عن 50 ألف قطعة ملابس جديدة يتم تصنيعها كل يوم، فماذا يعني ذلك للبيئة وحقوق الإنسان؟
لماذا نملك الكثير ونرتدي القليل؟
يستمتع الناس من جميع الأجيال بالتسوق عبر الإنترنت والعثور على مجموعة واسعة ومتنوعة من المنتجات، خاصة الملابس الرخيصة والجذابة، والتي تتبع أحدث اتجاهات الموضة، مع توصيلها إلى عتبة بابهم في أسرع وقت بمعدل غير مسبوق.
وفي السنوات الـ15 الماضية تضاعف إنتاج الملابس بسبب العديد من العوامل، مثل تزايد عدد سكان الطبقة المتوسطة في جميع أنحاء العالم، وزيادة القوة الشرائية في البلدان النامية، وزيادة نصيب الفرد من المبيعات في الاقتصادات الناشئة، وظاهرة الموضة السريعة.
وتُعرف الموضة السريعة بأنها "تحول سريع في الأنماط الجديدة، وزيادة عدد مجموعات الملابس المعروضة سنويا، وانخفاض الأسعار بشكل كبير"، أي أنها ملابس غير مكلفة يتم إنتاجها بسرعة من قبل تجار التجزئة في الأسواق الكبيرة استجابة لأحدث اتجاهات الموضة.
لذلك لم تعد تشكيلات الملابس تتغير حسب الموسم، بل مرات عدة في الموسم الواحد، وعادة ما تكون أنماط الملابس مستوحاة من الاتجاهات الحديثة التي شوهدت على المشاهير وكذلك على وسائل التواصل الاجتماعي.
وعلى الرغم من الطلب والاستهلاك المتزايد لملابس الموضة السريعة واهتمام الناس الواضح بالموضة فإنهم يشترون المزيد، في حين يرتدون عددا أقل من العناصر التي يمتلكونها.
وبلغة الأرقام، ووفقا لكبير مسؤولي التصميم في "كاليفورنيا كلوزيتس" الشركة المصنعة للخزائن المخصصة في المنازل، فإن الشخص العادي يرتدي نحو 20% فقط من الملابس الموجودة في خزانة ملابسه بشكل منتظم، ويشتري الناس أكثر من ضعف عدد الملابس التي كانوا يشترونها قبل 10 سنوات بفضل انخفاض التكاليف وتبسيط عمليات الشراء وارتفاع الإنفاق الاستهلاكي.
وتنطبق نسبة الـ20% بشكل خاص على النساء اللاتي يرتدين هذه الملابس في 80% من الوقت، واللاتي هن أكثر عرضة لعمليات الشراء الاندفاعية المبنية على العواطف، حيث إن 9 من كل 10 أشخاص يقومون بعمليات شراء اندفاعية في كثير من الأحيان، وفقا لاستطلاع أجرته شركة "إم إيه آر سي" الأميركية المتخصصة في أبحاث التسويق والاستشارات.
وعادة ما تكون الملابس -خاصة في الأزياء السريعة- التي يتم شراؤها منخفضة السعر وذات جودة منخفضة جدا، مما يعني انخفاض عمرها بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة وصعوبة الاحتفاظ بها.
خزانة متغيرة
وتشير بعض التقديرات إلى أن المستهلكين يتعاملون مع الملابس الرخيصة على أنها يمكن التخلص منها تقريبا، ويتخلصون منها بالفعل بعد 7 أو 8 مرات فقط من ارتدائها لأنهم اختاروا الكمية على الجودة.
وعلى الرغم من تضاعف إنتاج واستهلاك الأزياء وتزايد المبيعات فإن استخدام كل قطعة من الملابس مستمر في الانخفاض بشكل كبير، خاصة في سياق عالم وسائل التواصل ومشاهيره الذين يروجون لتلك المنتجات يوميا.
وفي المتوسط، انخفض متوسط عدد مرات ارتداء الملابس قبل التوقف عن استخدامها بنسبة 36% خلال 15 عاما، وهذا يعني أن الكثير مما يتم شراؤه لا يتم ارتداؤه كثيرا، مما يزيد الهدر الهائل في صناعة الأزياء.
ونظرا لانخفاض تكلفة وجودة ملابس الموضة السريعة ومدى سرعة ظهور الاتجاهات والأذواق واختفائها فإنها تبلى بسهولة أو أنها لن تعود مفيدة للناس بعد الآن، وبدلا من التبرع بها يقوم العديد من الأشخاص بالتخلص منها بعيدا دون التفكير في التأثير البيئي.
ووفقا للتقديرات، فإن أكثر من نصف الأزياء السريعة المنتجة يتم التخلص منها في أقل من عام، ففي الولايات المتحدة مثلا يتم ارتداء الملابس بنحو ربع المتوسط العالمي فقط، وينشأ النمط نفسه في الصين، حيث انخفض استخدام الملابس بنسبة 70% على مدى السنوات الـ15 الماضية.
كارثة في مكب النفايات
تُصنع معظم الأزياء السريعة من مواد صناعية رديئة ورخيصة مثل البوليستر والتي تمثل موردا غير متجدد، كما أنها مختلطة الأصباغ الكيميائية، مما يجعل من المستحيل أن تتحلل.
وتساهم الجودة الرديئة لملابس الموضة السريعة في قصر عمر الملابس بشكل كبير، وغالبا ما تشجع أيضا على إهدار قدر كبير من النفايات، فمن بين كل 5 قطع ملابس يتم إنتاجها ينتهي الأمر بما يعادل 3 في مكب النفايات أو حرقها كل عام.
وتشير تقديرات أخرى إلى أنه من بين 100 مليار قطعة ملابس يتم إنتاجها كل عام، وينتهي الأمر بـ92 مليون طن في مدافن النفايات.
ولوضع الأمور في نصابها الصحيح فإن هذا يعني أن ما يعادل شاحنة قمامة مليئة بالملابس ينتهي بها الأمر في مكب النفايات في كل ثانية، وإذا استمر هذا الاتجاه فإن من المتوقع أن يرتفع حجم نفايات الأزياء السريعة إلى 134 مليون طن سنويا بحلول عام 2030.
ووفقا لتقرير نشرته مؤسسة "إلين ماك آرثر" للاستدامة (الهيئة الرئيسية لوضع مبادئ الاقتصاد الدائري في جميع أنحاء العالم)، فإنه من بين الملابس التي تم شراؤها وارتداؤها بالفعل من قبل المستهلكين تذهب 87% منها إلى مكب النفايات أو الحرق، وهذا يؤدي إلى خسائر متعددة: خسارة القيمة المادية، وفقدان مساحة مكب النفايات، فضلا عن خسارة المال.
والجانب الأسوأ في ثقافة التخلص من الملابس هو أن الأغلبية العظمى من الملابس التي يتم التخلص منها كل عام لا يتم إعادة تدويرها، فمن المواد المستخدمة في صناعة الملابس تتم إعادة تدوير أقل من 1% إلى ملابس جديدة، مما يؤدي إلى خسارة تزيد على 100 مليار دولار كل عام، ويعود جزء كبير من المشكلة إلى طبيعة المواد التي تصنع منها الملابس وعدم كفاية التقنيات لإعادة تدويرها.
وعلى الصعيد العالمي، يخسر العملاء ما يصل إلى 460 مليار دولار سنويا بسبب التخلص من الملابس التي يمكنهم الاستمرار في ارتدائها.
وهناك أيضا تكاليف مرتفعة للغاية مرتبطة بالتخلص من الملابس في مواقع دفن النفايات، حيث بدأت العديد من البلدان في فرض ضريبة على مكبات النفايات.
وتسببت الزيادة الكبيرة في إنتاج ماركات الأزياء السريعة في زيادة نفايات المنسوجات قبل وبعد الإنتاج، حيث يتم إهدار كمية كبيرة من المواد لا يمكن استخدامها أكثر من ذلك.
وتشير التقديرات إلى أن نحو 10-15% من جميع الأقمشة المستخدمة في إنتاج المنسوجات والملابس يتم إهدارها أثناء عملية القطع، تخيل ما يعادل قطعة واحدة من كل 10 قطع من الملابس في خزانتك كنفايات ناتجة عن القصاصات.
البيئة التي تئن
وبمجرد أن ينتهي الأمر بهذه الملابس في مكب النفايات فإنها تسبب تأثيرا ضارا على الصحة العامة والبيئة كمواد سامة، بما في ذلك إطلاق غاز الميثان، وهو أقوى بـ28 مرة على الأقل من ثاني أكسيد الكربون، حيث يخرج عند حرق مدافن النفايات، وبالتالي يساهم هذا بشكل كبير في ظاهرة الاحتباس الحراري.
ويمكن أن تستغرق الألياف الصناعية في هذه الملابس سنوات عديدة لتتحلل في مواقع دفن النفايات، مع بقاء مادة البوليستر في المتوسط لمدة 200 عام على الأقل.
وبعد سنوات من التحلل تتسرب الأصباغ والمواد الكيميائية من الملابس إلى التربة والمياه الجوفية، مما يؤدي إلى انبعاث الغازات الدفيئة إلى الغلاف الجوي.
وبالإضافة إلى تحللها في مدافن النفايات أو حرقها أصبحت ملابس الموضة السريعة أيضا مصدرا سيئ السمعة للمواد البلاستيكية الدقيقة في البيئات البحرية، لأن الكثير منها مصنوع الآن من النايلون أو البوليستر، وكلاهما متين ورخيص.
وتشير التقديرات أيضا إلى أن المنسوجات مسؤولة عن نحو 9% من الخسائر السنوية للمواد البلاستيكية الدقيقة التي تشق طريقها إلى المحيطات والحيوانات البحرية، كما تعد صباغة المنسوجات أيضا ثاني أكبر ملوث للمياه على مستوى العالم.
ليس هذا فحسب، ولكن عند غسيل الأقمشة المصنوعة يدويا منخفضة الجودة فإن هذه الألياف البلاستيكية الدقيقة تنتهي في السلسلة الغذائية البشرية وإمدادات المياه لدينا، وفي كل دورة تجفيف تتخلص الملابس من الخيوط الدقيقة التي تتحرك عبر أنظمة الصرف الصحي، وينتهي بها الأمر في المجاري المائية.
وتشير تقديرات برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى إطلاق نصف مليون طن من هذه الملوثات سنويا من الملابس المغسولة، أي أكثر بـ16 مرة من المواد البلاستيكية الدقيقة من مستحضرات التجميل، وهذا يعادل التلوث البلاستيكي لأكثر من 50 مليار زجاجة.
وأظهرت دراسة أجرتها جامعة بليموث في إنجلترا أنه يتم إطلاق 700 ألف قطعة من الألياف البلاستيكية الصغيرة في مياه الصرف الصحي أثناء كل استخدام للغسالة المنزلية، ومن المحتمل أن يصل حجمها إلى 22 مليون طن بحلول عام 2050، وينتهي الأمر بالحياة البحرية الفقيرة بتناول هذه الألياف التي يمكن أن تكون سامة وضارة.
الجانب المظلم للأزياء السريعة
تعتبر المنسوجات ذات الأصل الحيواني مثل الصوف مسؤولة عن انبعاثات الغازات الدفيئة وتلوث المياه وفقدان الموائل على نطاق واسع بسبب إزالة الغابات وتحويل الأراضي العشبية وغيرها من الأضرار التي تلحق بالحياة البرية.
وبطريقة سريعة، يتم عادة خلط الصوف مع الألياف المشتقة من الوقود الأحفوري وتغليفها بالمواد الكيميائية، مما يزيد التكلفة البيئية لإنتاج هذه الملابس والتخلص منها.
ولسوء الحظ، فإن الصباغة والتشطيب (العمليات التي يتم من خلالها تطبيق اللون والمواد الكيميائية الأخرى على الأقمشة) لهما أكبر التأثيرات على استنزاف الموارد، وذلك بسبب العمليات كثيفة الاستخدام للطاقة غير المتجددة مثل النفط والغاز، فعلى سبيل المثال يتم استخدام أكثر من 70 مليون برميل من النفط لإنتاج البوليستر كل عام.
وإلى جانب كونها مصدرا كبيرا لأكثر من 20% من تلوث المياه العالمي تساهم الموضة السريعة أيضا في إهدار كميات هائلة من المياه يوميا، حيث تستخدم صناعة المنسوجات نحو 93 مليار متر مكعب من المياه، مما يساهم في حدوث مشكلات في بعض المناطق التي تعاني من ندرة المياه.
وإذا كان من الصعب تصور ذلك ففكر فقط في أن هناك حاجة إلى نحو ألفي غالون من الماء لصنع بنطال من الجينز، كما يستغرق صنع قميص واحد فقط نحو 2700 لتر من الماء، وهو ما يكفي لشخص واحد للشرب لمدة 900 يوم، وعلاوة على ذلك تستهلك دورة الغسيل الواحدة من 50 إلى 60 لترا من الماء، ولهذه الأسباب أصبحت صناعة الأزياء الآن واحدة من أكثر الصناعات الضارة بالبيئة.
وفي الواقع، تنتج صناعة الأزياء 10% من انبعاثات الكربون في العالم، وتمثل الآن ثاني أكبر صناعة ملوثة في العالم بعد النفط، وينتج كل طن من الملابس يتم إرساله إلى مكب النفايات 445 كيلوغراما من مكافئ ثاني أكسيد الكربون.
وبشكل مجمل، تنتج صناعة الأزياء 1.2 مليار طن من انبعاثات الكربون على مستوى العالم سنويا، أي أكثر من تلك المنبعثة من جميع الرحلات الجوية الدولية وسفن الشحن البحرية مجتمعة، مع ارتفاع هذا العدد بشكل ملحوظ كل عام.
وتشير التقديرات بحسب مؤسسة ماكينزي للاستدامة إلى أنه إذا تمكن 80% من سكان الاقتصادات الناشئة من تحقيق نفس مستويات استهلاك الملابس التي حققها العالم الغربي بحلول عام 2025 ولم تصبح صناعة الملابس أكثر كفاءة من الناحية البيئية فإن البصمة البيئية لصناعة الملابس ستصبح كبيرة إلى حد خطير.
وإذا ساد سيناريو العمل كالمعتاد في السنوات المقبلة وهذا يعني عدم اتخاذ أي إجراء للحد من هدر الموضة السريعة فمن المرجح أن تزيد الانبعاثات العالمية لصناعة الملابس بنسبة 50% بحلول عام 2030 بحلول نهاية العقد، وفقا لشركة "كوانتيس" لاستشارات الاستدامة البيئية.
وحذر تقرير لمؤسسة "ماك آرثر" نشر في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 من أنه "إذا استمرت صناعة الأزياء على مسارها الحالي فبحلول عام 2050 يمكنها استخدام أكثر من 26% من ميزانية الكربون السنوية في العالم".
وعلاوة على الاستغلال البيئي الذي يسمح بأسعار رخيصة للأزياء السريعة فإن العامل المساهم الآخر هو استغلال العمالة البشرية، حيث يعمل أكثر من 300 مليون شخص على طول سلسلة قيمة صناعة الملابس التي تتبع أحدث الاتجاهات إلى المستهلكين، خاصة في البلدان المنخفضة الدخل حيث توجد المصانع.
وتقوم معظم هذه الشركات باستئجار المصانع الموجودة في الدول النامية لإنتاج هذه الملابس، ولا تتمتع هذه المصانع بظروف عمل مقبولة، حيث يحصل العمال في كثير من الأحيان على أجور غير عادلة، ويُجبرون على العمل لساعات طويلة في ظروف مروعة.
ليس هذا فحسب، بل إن 75% من عمال الملابس في هذه المصانع هم من النساء الشابات، وهذا أمر مهم لأن هناك الكثير من الاعتداءات الجنسية والتحرش التي تحدث في ظروف العمل هذه، ولن يتحدث عمال الملابس خوفا من فقدان وظائفهم.
وفي النهاية فإنه على الرغم من أن صانعي الأزياء والمستهلكين أشاروا إلى أن الاستدامة تمثل أولوية فإن الموضة السريعة تمثل سوقا غير مستدام على نحو متزايد ويستمر في النمو دون رادع نسبيا.
وإذا واصلنا شراء الملابس بالمعدلات الحالية فسوف تصل المبيعات إلى 160 مليون طن في عام 2050، وهو ما يعادل 3 أضعاف الكمية الحالية اليوم.
ومع زيادة الطلب وانخفاض الاستخدام والتأثير العالمي المتزايد باستمرار فإن من الضروري التفكير في حلول مبتكرة للتغلب على التأثير البيئي الذي ننتجه.