"الجزيرة نت" تحاور عالما عربيا خلق فرصا اقتصادية من مخلفات النخيل
من بين القدرات التي يتمتع بها الأستاذ المشارك في كلية الهندسة وعلوم المواد بالجامعة الألمانية والمدير التنفيذي لمركز فالورايزن للبحث والتطوير بالقاهرة، الدكتور محمد الميداني، "العين المختلفة" القادرة على رؤية ما لا يراه الآخرون من فرص اقتصادية في أشياء تطأها أقدامنا كل يوم، ولا نلقي لها بالا.
لا يعلم الميداني كيف تشكلت لديه هذه القدرة، وهل هي نتاج نشأته في أسرة لها تاريخ في عالم المال والاقتصاد، أم أنها موهبة وعطيّة إلهية؟
لكنها في النهاية كانت سببا في تمكين هذا العالم العربي من توظيف علمه كمتخصص في علوم الألياف، لرؤية فرص اقتصادية في الكتلة الحیویة من مخلفات النخيل، بما يساعد على تعزيز الاستدامة وتحسین سبل العیش للجمیع.
وبينما يتوقف كثير من الباحثين عند مرحلة الإنتاج المعملي التي تسمح لهم بكتابة بحث علمي، فإن الميداني يضع عينه دوما في اختياراته البحثية على البعد الاقتصادي، وإذا ما الفكرة التي سينفق من وقته وجهده لتنفيذها يمكن تحويلها إلى منتج ينافس في الأسواق أم لا، وهو ما شجعه بالاشتراك مع آخرين على تدشين شركة تقوم بتحويل المخرجات البحثية في مجال استغلال المخلفات الزراعية، وفي مقدمتها أشجار النخيل، إلى تكنولوجيا نصف صناعية جاهزة لتوسيعها وتطبيقها على نطاق صناعي اقتصادي.
وخلال وقت قصير جدا، حققت تلك الشركة نجاحات عديدة، تكللت بالإعلان في 29 يناير/كانون الثاني الماضي عن حصولها على جائزة خليفة الدولية لنخيل التمر والابتكار الزراعي في فرع الابتكارات الرائدة، وذلك عن ابتكار أول ألياف نسجية من جريد النخيل، كما باتوا قريبين من افتتاح أول مصنع لتحويل مخلفات الشجرة المباركة إلى منتجات، ومنها أوساط زراعية وتربة بديلة.
ويحكي الميداني في حوار خاص مع "الجزيرة نت" تفاصيل تلك الرحلة البحثية التي عالج خلالها واحدة من أهم مشاكل البحث العلمي في العالم العربي، وهي الانفصال بين البحث العلمي والتطبيق، والمطبات التي نجح في تجاوزها خلال تلك الرحلة، وتحدث عن أهم المنتجات القابلة للتسويق التي يمكن الحصول عليها من مخلفات أشجار النخيل.. وإلى نص الحوار.
- من اللافت للانتباه في سطور سيرتك الذاتية أنك سوري الجنسية، لكن تعليمك الجامعي كان في كلية الهندسة بجامعة عين شمس المصرية.. فلماذا اخترت جامعة مصرية؟
لقد نكأت جرحاً عميقا منذ البداية.. نعم أنا سوري الجنسية، لكني ولدت في مصر لأب وأم سوريين عاشا في مصر منذ الستينيات، ولا أحد يعرف جنسيتي إلا عندما أضطر لإخراج جواز سفري السوري لإنهاء مصلحة حكومية، لكني مصري اللهجة والتعليم، وشربت من نيلها كما يقول المصريون، وزوجتي مصرية وأبنائي مصريون بحكم أن أمهم مصرية، ورغم هذا العمر الطويل من الإقامة في مصر فلا يزال حلم الجنسية بعيد المنال، وأضطر كل ثلاثة أعوام إلى تجديد الإقامة، وأواجه تمييزا واضحا عند التعامل مع أي مصلحة حكومية لمجرد أني سوري الجنسية، فلك أن تتخيل أن الشركة التي نجلس فيها الآن والتي تضم شركاء من بريطانيا، تَعطل إجراء تأسيسها كثيرا بسبب رفضٍ أمني على شخصي، بينما لم يكن هناك أي اعتراض على شركائي البريطانيين.
- عذرا إن كان سؤالي أثار شجونا تبدو واضحة على وجهك، فحواري يهدف في الأساس إلى تقديم تجربتك الناجحة في استغلال مخلفات نخيل التمر، والتي تكللت مؤخرا بجائزة دولية.
لا أبدا، أنا سعيد بالسؤال، لعل صوتي يصل من خلالكم، فأنا مصري المولد والإقامة والتعليم، وكان بإمكاني الاستمرار في الولايات المتحدة الأميركية أثناء حصولي على الدكتوراة من جامعة نورث كارولينا، ولكني فضلت العودة لمصر رغم محاولة مشرفي بالجامعة ذي الأصول المصرية إثنائي عن هذا القرار، والحمد لله لم أندم على قراري، واستطعت تحقيق قصة نجاح رغم أن الطريق مليء بالمطبات ولم يكن ممهدا.
- هل يمكن تلخيص فصول تلك القصة، لعلها تكون مفيدة للباحثين الشباب؟
نشأتُ في أسرة ميسورة الحال، ولم أكن طيلة سنوات التعليم الابتدائي والإعدادي من الطلاب المتفوقين، لكن في مرحلة الثانوية العامة أعطيت اهتماما أكثر للتعليم، وأثمر ذلك عن الحصول على درجات مرتفعة أهلتني للالتحاق بكلية الهندسة التي اخترت الدراسة بها، وتحديدا في قسم الهندسة الميكانيكية، حتى أتمكن من تقديم إضافة إلى "البيزنس" الخاص بعائلتي، حيث كان لدينا "بيزنس" في مصر بمجال الغزل والنسيج.
وأنهيت سنوات الدراسة الجامعية بالحصول على الترتيب الثالث بين زملاء دفعتي، غير أن جنسيتي السورية حرمتني من التعيين معيدا بالجامعة، وهذا بطبيعة الحال لم يكن طموحي وقتها، لأني كما أخبرتك اخترت الدراسة في الهندسة، حتى أكون داعما لـ"بيزنس" العائلة في مجال الغزل والنسيج.
لكني فوجئت أن الدراسة في كلية الهندسة جامعة عين شمس لم تكن مفيدة بالشكل الكافي للهدف الذي دخلت الكلية من أجله، وربما تكون الميزة الأهم في الدراسة بالكلية هي تعرفي على مدرسة الدكتور حامد الموصلي أستاذ هندسة الإنتاج بالكلية وصاحب التجربة الرائدة في استغلال المخلفات الزراعية -أو كما يحب أن يسميها بـ"البواقي الزراعية"- في إنتاج منتجات ذات قيمة اقتصادية.
واتجه تفكيري إلى البحث عن فرصة للحصول على الدراسات العليا في الخارج، وحصرت اختياراتي في جامعات بأميركا يكون لديها برنامج متخصص في الغزل والنسيج، وتقدمت إلى كل الجامعات حتى وفقت للحصول على فرصة في جامعة نورث كاورلينا التي لديها كلية متخصصة في المنسوجات هي "كلية ويلسون للمنسوجات"، وحصلت على الماجستير في تكنولوجيا وإدارة المنسوجات والملابس (2012).
ورغم نصيحة مشرفي ذي الأصول المصرية الدكتور عبد الفتاح صيام باستكمال الدراسات العليا في الجامعة، فإن الاستمرار في مجال البحث العلمي والعمل الجامعي لم يكن غايتي، وكنت أظن أن هدفي قد تحقق، وهو التسلح بالعلم الذي يعينني على دعم "البيزنس العائلي" في مجال الغزل والنسيج، وبالفعل اكتفيت بالماجستير وعدت إلى مصر عام 2012.
- بالطبع، لم تكن الأجواء مشجعة عند العودة في عام 2012، بسبب ما أعقب ثورة 25 يناير 2011 من اضطرابات واعتصامات.
هذا ما حدث بالضبط، لكن الحقيقة أن أحداث الثورة وما تلاها من اضطرابات، كانت فصلا من فصول قصة تدهور صناعة الغزل والنسيج في مصر، وبدأت أولى تلك الفصول مع انضمام مصر لاتفاقية التجارة العالمية (الغات)، والتي تقضي بنودها برفع القيود الجمركية على السلع المستوردة، ومن بينها المنسوجات، وكانت هذه الاتفاقية أعطت لمصر فترة سماح لمدة 10 سنوات لتوفيق الأوضاع قبل أن يتم تطبيق بنودها، فبدأت صناعة الغزل والنسيج تدخل في منافسة "غير متكافئة" مع المنتجات الواردة من الخارج، إذ يتعين على تلك الصناعة منافسة دول مثل الصين ذات تكاليف عمالة أقل، وتكنولوجيا أكثر تقدما، في الوقت الذي يتم فيه استيراد كل مدخلات الصناعة من الخارج بالعملة الصعبة التي شهدت بعد الثورة تقلبات كبيرة، وكل ذلك أثر بالطبع على الحصة السوقية للمصانع العاملة في مصر وحدّ من قدرتها التنافسية، فلم أتمكن من الاستمرار طويلا في هذا المناخ المحبط، وسعيت للعودة مجددا لأميركا، وتواصلت مع مشرفي في الماجستير الدكتور عبد الفتاح صيام الذي ساعدني على العودة لاستكمال الدكتوراة في "كلية ويلسون للمنسوجات" بجامعة نورث كارولينا.
- وهل تغير تفكيرك عند هذه المرحلة فشعرت أن الصناعة تواجه تحديات صعبة، وأنه من الأفضل لك الاهتمام بالجانب البحثي والأكاديمي؟
لا بالعكس، فقد أيقنت حينها أنه وقت الأفكار المبتكرة لتطوير الصناعة، لذلك سعيت في الدكتوراه للاتجاه أكثر إلى الجانب البحثي، على عكس الماجستير الذي كان يميل للجانب التكنولوجي والإداري.
وخلال تلك المرحلة، أعجبني نموذج الأستاذ الجامعي في أميركا والذي يكون وقته مقسما بين التدريس في الجامعة وإجراء أبحاث علمية والتعاون مع الصناعة، ورغم أني كنت كارها للتدريس، فإنني بدأت أتعلق به بسبب طريقة بروفيسور أميركي في التدريس.
وانطلقت أول شرارة في ذهني للبحث عن الأفكار المبتكرة لتطوير صناعة النسيج بالاعتماد على خامات جديدة أثناء مشاركتي في الإشراف على طالبة ماجستير من البرازيل كانت تعمل على استخراج ألياف من إحدى مخلفات الأشجار في بيئتها المحلية، فقلت لنفسي حينها، ولماذا لا أبحث في بيئتي المحلية عن خامة شبيهة، فاهتديت إلى أن مخلفات نخيل التمر هي الأفضل، وكنت أثناء الإجازات أجمع بعضا منها وأسافر به إلى أميركا لأجري أبحاث على تلك المخلفات، قادتني في النهاية إلى الإقرار بأننا أمام كنز نضيعه دون أن نستفيد منه.
وبعد حصولي على الدكتوراه عام 2016، فوجئ مشرفي الدكتور عبد الفتاح صيام برغبتي في العودة مجددا إلى مصر، وقد كان ذلك قرارا غريبا في ذلك التوقيت، ففي الوقت الذي كان فيه الباحثون يشدون الرحال إلى الغرب وأميركا بعد أن أصبحت الأوضاع الاقتصادية صعبة، كانت لدي فرصة للاستمرار في أميركا، لكني فضلت العودة، والسبب أني وقعت في غرام مخلفات النخيل، وبالطبع لن أجد في البيئة الأميركية تلك الخامة.
وقبل العودة، تواصلت مع جامعات أجنبية تعمل في مصر حتى أؤمن لنفسي مسارا أكاديميا، لأنني كما أخبرتك أصبحت أثناء العمل على الدكتوراه مفتونا بنموذج الأستاذ الجامعي الذي يجمع بين التدريس والبحث العلمي والعمل بالصناعة، ووُفقت لفرصة في الجامعة الألمانية بدعم من عميد كلية الهندسة آنذاك، والذي صار رئيسا للجامعة حاليا الدكتور ياسر حجازي.
ولكني فوجئت بأن الجامعات الأجنبية العاملة في مصر تستهلك أغلب وقت الأستاذ في التدريس، فكان قراري أن أعمل معهم بنظام "البارت تايم" رغم أنه لا يوفر دخلا كبيرا حتى أستطيع تحقيق ثلاثية "التدريس والبحث العلمي والصناعة".
- وهل عدت لـ"البيزنس العائلي" من رحلة الدكتوراه بأفكار جديدة لتطويره؟
الأمور كانت للأسف تدهورت أكثر خلال سنوات دراسة الدكتوراه، فقررتُ أن يكون اتجاهي لـ"البيزنس" الخاص بي، وقد تلاقت رغبتي هذه مع رغبة صديقين من مصر تعرفت عليهما في كلية ويلسون للمنسوجات بجامعة نورث كارولينا، فأسسنا شركة لتقديم الاستشارات للصناعة، ثم أسسنا شركة بالتعاون مع شركاء بريطانيين تعمل في مجال استغلال المخلفات وتحويلها إلى منتجات ذات قيمة.
- رغم أن الشركة ليست مخصصة فقط للعمل على مخلفات نخيل البلح، فإنني ألاحظ من "المنشور" الذي أعطيتني إياه أن أغلب المنتجات التي تسعون لتسويقها مصدرها مخلفات النخيل؟
أنا والحمد لله أتمتع بعين قادرة على التقاط الفرص الاقتصادية والسعي لاستثمارها، فبينما أسير في الطريق، لا تتوقف عيني عن البحث والتقاط الفرص التي قد تطأها الأقدام ولا ندرك قيمتها.
- من المؤكد أن النشأة في عائلة تمتلك "بيزنس" خاص ساعد على ذلك، ولكني أسأل تحديدا عن أسباب الاتجاه لـ"مخلفات النخيل"، ولماذا لم تفكر مثلا في مخلفات أشجار الموز أو مخلفات زراعة الأرز (قش الأرز)؟
كنت أبحث عن الخامة الأكثر انتشارا، ليس في مصر فقط، ولكن في العالم العربي، لأني كنت أفكر في الانطلاق لآفاق أوسع وأرحب، ولا يوجد في عالمنا العربي خامات أكثر انتشارا من مخلفات نخيل التمر، والسبب هو الانتشار الواسع لتلك الشجرة المباركة والتي نمت المساحة المزروعة بها من 200 ألف هكتار (الهكتار يعادل 2.4711 فدان) في الستينيات، إلى ما يزيد على مليون هكتار حاليا، وتستوعب هذه المساحة 140 مليون نخلة تتركز أغلبها في العراق والسعودية والإمارات ومصر والجزائر وسلطنة عمان والسودان وليبيا، وهذه الأعداد الكبيرة من النخيل لا تنتج تمرا فقط، لكن ينتج عنها نواتج التقليم السنوية من جريد وعرجون، والتي تقدر بنحو 4.8 ملايين طن (وزن جاف)، ونستخلص منها الخامات المفيدة، وأهمها ألياف النخيل عالية الآداء.
وهذه النواتج الثانوية للنخيل كان يتم الاستفادة منها في صناعات شعبية مثل الأقفاص والحصير والسلال، ولكن مع الحداثة وما ترتب على ذلك من تراجع الاهتمام بهذه المنتجات، فقدت تلك النواتج الثانوية قيمتها، بل أصبحت المسبب الرئيسي لحرائق أشجار النخيل، حيث يكون وجودها بالقرب من الأشجار وقودا لتلك الحرائق، كالتي نشبت في قرية "الراشدة" بمحافظة الوادي الجديد المصرية عام 2018، وتسببت بخسارة 20 ألف نخلة، وحدثت حرائق مماثلة في مناطق مختلفة من العالم العربي، مثل حرائق في مدينة "دلقو" عام 2014 بالسودان، ومدن بالسعودية: تبوك 2018 والجوف 2019، ونجران 2020، ومدينة "ورقلة 2020 بالجزائر، ومدينة تازربو 2020 بليبيا.
وبدلا من أن تكون تلك النواتج سببا للحرائق، بحثتُ في الاستفادة منها لإنتاج منتجات ذات قيمة اقتصادية، فاهتديت بمساعدة فريق بحثي يضم شركائي تامر حمودة من المركز القومي للبحوث بمصر وأحمد حسنين من جامعة الإسكندرية والباحثة بالجامعة الألمانية لبنى الصيفي، إلى إنتاج ألياف نسجية من جريد النخيل (بالم فل)، وقد حصلنا مؤخرا على جائزة خليفة الدولية لنخيل التمر والابتكار الزراعي، في فرع الابتكارات الرائدة، عن هذا الابتكار.
- ربما تكون الميزة الواضحة في منتجكم هي نجاحكم في توفيره من خامات رخيصة، ولكن ماذا عن الجودة، والقدرة على المنافسة مع الألياف الأخرى المستخلصة من مصادر طبيعية؟
(يخرج هاتفه المحمول لاستخراج صورة وهو ينفذ تجربة عملية بأحد المؤتمرات لاختبار متانة ألياف جريد النخل).. كما ترى فهي ألياف متينة، وفي نفس الوقت خفيفة الوزن وتتمتع بصفات العزل الحراري، لذلك فإنها لا تقل كفاءة عن ألياف الكتان وساق القنب (نبات يُصنع منه مخدر الحشيش)، وهما الخامتان الأكثر استخداما في تصنيع أجزاء من السيارة.
- لأول مرة أعرف أن ألياف ساق القنب تدخل في تصنيع أجزاء من السيارات.
(يخرج هاتفه مره أخرى لاستخراج صورة تشرح عملية التصنيع).. كما ترى فإن هذا السقف الداخلي للسيارة والجزء الداخلي من الأبواب والحقيبة الخلفية، يتم تصنيعه من مركبات بوليمر، غير أنه مؤخرا ظهر توجه لاستخدام الألياف النباتية باعتبارها مواد تسليح لتلك المركبات.
وفي البداية لجأت شركات السيارات إلى استخدام الخشب الحبيبي، ولكن لم يرُق لهم الاستمرار في استخدام تلك الخامة لحاجتهم إلى حلول أخف وزنا، فاستخدموا مركبات البوليمر المدعمة بالألياف الزجاجية، ولكنها ليست صديقة للبيئة لكونها غير قابلة للتحلل والتدوير، وهذا تسبب للشركات المصنعة للسيارات بمشكلة بسبب وجود اشتراطات بيئية تلزمهم بنسبة من مكونات السيارة قابلة لإعادة التدوير، فوجدت الشركات ضالتها في مركبات البوليمر المدعمة بألياف نباتية، وتَستخدم الشركات في هذا الإطار ألياف الكتان عنصرا رئيسيا، والألياف المستخرجة من ساق نبات القنب.
ولأن الكتان في العالم العربي يُستخدم في صناعات نسيجية أخرى، وبالطبع غير مسموح بزراعة القنب في كثير من الدول حتى لو كانت هناك فائدة من أليافه، فإن الألياف النسجية الطويلة المستخرجة من جريد النخل تمثل بديلا جيدا كما ترى في هذه الصورة، حيث صنعنا نفس الأجزاء من السيارة باستخدامها.
- إذن فالقصة على ما يبدو ليست منافسة بين خامة وأخرى، لكن الهدف هو توفير حلول أخرى؟
أكثر من 80% من الألياف النباتية تأتي من محاصيل الجوت (نبات عشبي) والكتان وجوز الهند، وبالمثل نحصل على 80% من أليافنا النباتية من 4 دول فقط هي بنغلاديش والهند وفرنسا وفيتنام، وبالتالي كان زيادة معدل الإنتاج العالمي من الألياف النباتية بطيء للغاية على مدى العقود الماضية، حيث وصل إلى حد الثبات بمعدل نمو سنوي مركب؛ من عام 2011 وحتى 2018 لم يتجاوز 0.6%، ولهذا السبب فإن ألياف النخيل تملك فرصا واعدة للانتشار، لأنها لا تقل كفاءة عن أنواع الألياف الأخرى، بل تزيد، فهي لها قوة شد نوعية أعلى بمقدار خمس مرات من الفولاذ الهيكلي، وهي تساوي تلك الموجودة في الكتان والقنب، ولها قدرة عالية على امتصاص الاهتزازت، كما أن لها قدرة عزل صوتي أعلى من الألياف الزجاجية والكربونية، بالإضافة إلى كفاءة عالية في العزل الحراري تفوق مثيلتها من الألياف الكربونية، وتتمتع بنسبة سيليلوز عالية تصل إلى 70٪، كما أن لها ثباتا حراريا يصل إلى 226 درجة مئوية.
ومع كل هذه المزايا، فإنها خفيفة الوزن، حيث إنها أخف بنسبة 50٪ من الألياف الزجاجية، وبنسبة 8٪ من الكتان والقنب، وتحتوي على ألياف دقيقة جانبية بارزة تخلق تداخلات ميكانيكية عند استخدمها في تدعيم المواد المركبة مما يساعد على عملية الترابط.
- هل كنتم أول من فكر في استخراج ألياف نسجية طويلة من جريد النخل، أم سبقكم آخرون لهذا التوجه؟
نحن أول من فكر في استخراج ألياف نسجية طويلة، ولذلك لدينا براءة اختراع مسجلة في المملكة المتحدة، وأخرى دولية عن هذا الاختراع، وكانت هناك محاولات سابقة لتوظيف ألياف النخيل، ولكن بطريقة لم تحفظ مزاياها، حيث استُخدم مفروم جريد النخل بنسبة لا تزيد عن 5% كحشو للبلاستيك في صناعات مثل صناعة الكراسي البلاستيكية، وكان هذا المفروم يتكون من 46% ألياف سيلوزية لم تعد بطبيعة الحال طويلة بعد فرمها، وليست نقية لأنها مختلطة باللجنين والهيميسليلوز ومواد طبيعية شبيهة بالصمغ، وقيمة ما فعلناه أننا نجحنا في استخلاص تلك الألياف بدون فرم، بما يحافظ على طولها الذي يؤهلها للاستخدام في العديد من الصناعات.
- وكيف نجحتم في ذلك؟
هذا هو سر الاختراع، ولذلك سأتحفظ عن الخوض في التفاصيل الفنية الدقيقة ضمانا لعدم ضياع جهدنا، ولكن سأوضح لك بشكل عام ما فعلناه، حيث تعتمد التكنولوجيا الخاصة بنا على استخلاص ألياف نسجية طويلة لها درجة نقاء عالية من نواتج التقليم الثانوية لنخيل التمر مثل الجريد والعرجون، وتعتمد هذه العملية على إزالة الليجنين والهيمي سيليلوز الملاصقة للحزم الليفية الوعائية بنواتج التقليم، وتفصيص الحزم الليفية إلى ألياف دقيقة والتخلص من التجويف الداخلي دون التسبب بأي ضرر أو تكسير للألياف.
- ركزت حديثك على توظيف تلك الألياف في صناعة أجزاء من السيارة، فهل يوجد توظيف آخر لهذه الألياف؟
(يعود إلى صور هاتفه المحمول مجددا).. كما ترى، فهي يمكن أن تدخل في أعمال البناء والتشييد لتدعيم أعمال الجبس، والبطانات العازلة للحرارة، والسجاد وأغطية الأرضيات، كما يمكن أن تدخل في صناعة الأدوات الرياضية كألواح ركوب الأمواج وألواح التزلج على الجليد واليخوت والزوارق، وفي مجال التعبئة والتغليف، ويمكن أن تدخل في صناعة الأجولة وأقمشة الخيش وعبوات الأطعمة والمشروبات، وتدخل أيضا في صناعة الحبال والدوبار وأنواع مختلفة من الأوراق، مثل الأوراق النقدية والزخرفية والترشيح (الفلتر).
- بالإضافة إلى الألياف، هل توجد فرص استثمارية أخرى من مخلفات النخيل؟
(يعود لهاتفه المحمول مجددا، ولكن للتواصل مع الطاقم الإداري للشركة طالبا إحضار أصيص صغير من الزرع).. كما ترى هذا الأصيص المزروع بفسيلة نخيل صُنع باستخدام ألياف النخيل، والتربة الجاهزة المستخدمة داخله جُهزت من مخلفات شجرة النخيل، وهذه مناسبة جيدة لأخبرك بأن شركتنا ستفتتح قريبا أول مصنع من نوعه لإنتاج التربة الجاهزة من مخلفات نخيل البلح، وسيكون هذا النشاط نواة للبدء تباعا بإنتاج منتجات أخرى قائمة على مخلفات النخيل، مثل إنتاج الألياف النسجية من جريد النخيل على نطاق تجاري واسع.
- قبل سنوات، أجريت حوارا مع الدكتور حامد الموصلي الرائد في مجال البحث عن فوائد من المخلفات الزراعية، وطلبت منه في نهايته تلخيص تجربته المهنية في عبارة واحدة، فقال "أنا سفير مخلوقات الله المهملة"، فماذا لو طلبت منك نفس الطلب؟
(يصمت فترة طويلة).. تستطيع أن تصفني بالباحث عن الفرص الاقتصادية في المخلفات الزراعية.
- أشعر أن تجربة شركتكم تبدو أكثر سعيا للربح من تجربة الدكتور الموصلي التي تبدو أكثر ميلا نحو النواحي الاجتماعية؟
الدكتور الموصلي أستاذي في كلية الهندسة جامعة عين شمس، وهو مؤسس المدرسة العلمية لاستغلال المخلفات، أو كما يحب أن يسميها بـ"البواقي الزراعية"، ولذلك فقد قررنا أن نطلق اسمه على المبنى الرئيسي في مصنعنا الجديد، ولكن نقطة الخلاف بيننا وبينه هي ما أوضحته في سؤالك، فأستاذنا الدكتور الموصلي يميل إلى الجوانب الاجتماعية التي تجعل التكنولوجيا التي يُتوصل لها متاحة على المشاع لكل من يريد أن يعرف تفاصيلها، لذلك لم تكتب للمشروعات القائمة عليها الاستمرار طويلا، بينما نحن نؤمن بأن التكنولوجيا يجب أن تكون ملكا لأصحابها، ويتم توجيهها لخدمة المجتمع، ولكن تحت إشراف أصحابها.
- ولكنكم تسعون للربح، بينما الدكتور الموصلي لا يسعى لذلك؟
وما المشكلة في سعينا للربح طالما أن المجتمع سيربح أيضا، فنحن عندما قررنا افتتاح مصنع، هل سنكون وحدنا المستفيدين؟!، فالمصنع سيوفر فرص عمل للمجتمع المحلي هناك، كما سيحصل المزارعون على دخل مادي نظير تزويدنا بنواتج تقليم أشجار النخيل، فهل الأفضل أن تأخذ الأفكار شكل "البيزنس" حتى تحيا وتتطور، أم تأخذ الشكل الاجتماعي الذي تموت معه الأفكار؟