"وهم الزمن".. هل إحساسنا بالبعد الرابع حقيقي؟
مقدمة للترجمة
"إنني أكبر وأنفق جُل وقتي كي أفهم الزمن، فلا أفهمه، لذا أشعر أنه عدوي الخفي الذي يضرب دون أن يكون باستطاعتي درء ضرباته عني. لا أعرف كيف يمضي، ولِمَ يمضي، وكيف أننا نحيا فيه ونعجز أن ندركه كما ينبغي له، أهو شيء يمرّنا ونمرّه، أم حال تعترينا؟ وإذا مضى، فإلى أين يمضي؟ أين تذهب كل أعوامنا التي تغادرنا؟ ولِمَ لا يمكن أن نحتفظ بها في مكان ما كثيابنا وأشيائنا العتيقة؟"
"ليلى الجهني، من كتابها (في معنى أن أكبر)"
ما الزمن؟ ولماذا يبدو كأنه يتدفق؟ وكيف يمكن أن يتغير إدراكنا له في بعض الأحيان، فيبدو أحيانا بطيئا وأحيانا سريعا؟ والأهم من ذلك، ما العلاقة بين الزمن الذي نعيشه والزمن الذي تصفه قوانين الطبيعة؟ يأخذنا البحث عن إجابات حول طبيعة الزمن إلى منطقة ضبابية وخطيرة بين علم الأعصاب والفيزياء، يحاول دانييل كوسينز، الكاتب من نيو ساينتيت سبر أغوارها في هذه المادة.
نص الترجمة
قبل فترة من الزمن، كُلِّف طلاب في جامعة تينيسي بالولايات المتحدة بمهمة غريبة بعض الشيء، فقد طُلب منهم أن يتخيلوا أنفسهم أقزاما (مثل سكان ليليبوت في رواية رحلات جاليفر). كان أمامهم نموذج مصغر لردهة تجمعهم، تتضمن أثاثا وتماثيل صغيرة، وطُلِب منهم أن يتخيلوا أنفسهم مكان هؤلاء الأقزام جالسين على الكراسي الصغيرة، يحتسون القهوة في أكواب صغيرة. بعد ذلك، تعين عليهم أن يحددوا اللحظة التي راودهم فيها شعور بأن 30 دقيقة قد مرت.
بالنسبة للطلاب الذين تخيلوا أنفسهم أقزاما، بدا الوقت وكأنه يمر أسرع مما هو عليه في الواقع، بمعنى أن تقديراتهم للوقت كانت أقصر بكثير من الوقت الفعلي الذي مرّ، أما الأمر الأكثر إثارة للانتباه فكان الإحساس بتسارع الوقت الذي تناسب مع حجم النماذج المصغرة التي عُرضت عليهم، فكلما كان النموذج أصغر، زاد إحساسهم بأن الوقت يمر أسرع.
من حين لآخر، يستشهد علماء الأعصاب بهذه النتيجة الغريبة التي نُشرت في مجلة ساينس عام 1981 للإشارة إلى أن الدماغ قد يعالج الزمان والمكان بطريقة مترابطة ومتشابكة، مشابهة للطريقة التي يربط بها الكون بينهما في إطار نظرية النسبية العامة لأينشتاين. وتُعتبر هذه التجربة أحد أهم الأمثلة التي تُظهِر مدى مرونة إدراكنا للوقت ومدى الغموض الذي يكتنفه.
ربما يكون الزمن هو أحد أكثر الجوانب المحورية في تجربتنا الإنسانية، ومع ذلك لم تَحسِم الفيزياء الحديثة بعد ما إذا كان الزمن خاصية أساسية من خصائص الكون. وهو ما يفتح الباب لأسئلة عميقة على غرار: ما الزمن؟ ولماذا يبدو كأنه يتدفق؟ وكيف يمكن أن يتغير إدراكنا له في بعض الأحيان، فيبدو أحيانا بطيئا وأحيانا سريعا؟ والأهم من ذلك، ما العلاقة بين الزمن الذي نعيشه والزمن الذي تصفه قوانين الطبيعة؟
يأخذنا البحث عن إجابات حول طبيعة الزمن إلى منطقة ضبابية وخطيرة بين علم الأعصاب والفيزياء، وتكشف هذه المنطقة عن حدود قدرتنا البشرية على فهم الواقع كما هو حقا؛ ما يجبرنا على مواجهة فكرة أن الوقت ربما ليس خاصية حقيقية للعالم الخارجي، بل هو ناتج عن الطريقة التي يعالج بها دماغنا المعلومات.
بالنسبة لنيوتن، كان الزمن مفهوما مطلقا وثابتا، أشبه بـ"ساعة رئيسية" تعمل بانتظام خارج الكون، وتحدد إيقاع جميع الأحداث. ووفقا لذلك، أعلن نيوتن ذات مرة قائلا: يمكن لحركة الأجسام أن تتغير، أي قد تتسارع أو تتباطأ، لكن "تدفق الزمن المطلق" يظل ثابتا وغير قابل للتغيير. وهكذا كان الزمن بالنسبة إليه هو نفسه في كل مكان.
ولكن ما إن ظهرت نظرية النسبية لألبرت أينشتاين حتى انهارت فكرة الزمن المُطلَق التي تبناها نيوتن. وفقا لنظرية النسبية، فإن الزمان والمكان ليسا كيانين منفصلين، بل هما كيانان متحدان في نسيج رباعي الأبعاد يُعرَف بـ"الزمكان"، وهو وسطٌ مشوّه بفعل الجاذبية والحركة، وهو ما يؤدي إلى أن يصبح الزمن نسبيا وليس مطلقا. ومن ثم، لا يمكن لشخصين مراقبين أن يتفقا دائما على توقيت حدث معين.
كما أوضحت النسبية أن الماضي والحاضر والمستقبل تعتمد على وجهة نظر كل مراقب، وليست حقائق عالمية ثابتة. وبناء على ذلك، أصر أينشتاين على أن تدفق الزمن ليس سوى "وهْم مستمر ومستعصٍ". ويؤكد العديد من علماء الفيزياء اليوم على أن مفهوم "الآن" الموضوعي، كما نفهمه في حياتنا اليومية، ليس له وجود حقيقي في الكون.
في السياق ذاته، يقول كارلو روفيلي، عالم الفيزياء النظرية بجامعة إيكس مرسيليا في فرنسا: "إنني مثل الجميع، أشعر بهذا التناقض بين الطريقة التي تصف بها المعادلات الزمن، والطريقة التي ندرك بها الزمن في حياتنا اليومية". فهل يمكن التوفيق بين هذين المنظورين المختلفين للزمن؟
للبحث عن تفسير لطبيعة الزمن، نبدأ عادة بالنظر إلى تلك الكتلة الرمادية (الدماغ البشري)، ومع ذلك، يختلف الزمن عن غيره من الأشياء التي ندركها بحواسنا، فهو ليس مجرد شيء خارجي نشعر به، بل هو جزء لا يتجزأ من كل ما ندركه في حياتنا.
وعلى عكس الحواس الأخرى، مثل البصر والشم واللمس والسمع والتذوق، لا يوجد عضو حسي مخصص أو مسار عصبي معين مسؤول عن إدراك الزمن. كما أنه لا توجد حالة سريرية معروفة يفقد فيها الشخص تماما قدرته على إدراك الزمن، على عكس فقدان القدرة على الرؤية أو السمع مثلا. وهو ما يجعل دراسة الزمن في الدماغ أمرا مستعصيا.
ينطوي الدماغ البشري على مجموعة معقدة من الآليات العصبية التي تعمل على تنظيم الزمن وترتيب الأحداث بترتيب زمني معين. ومع ذلك، يوضح ديان بونومانو، أستاذ علم الأعصاب بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، أن الدماغ لا يحتوي على جهاز واحد ومحدد، مثل ساعة اليد التقليدية، لقياس الزمن بصورة موحدة، بل هناك مجموعة من الآليات العصبية المختلفة التي تعمل معا لقياس جوانب مختلفة من الزمن. فمثلا، يمكن اعتبار الدماغ كما لو كان ورشة لصنع الساعات في العصر الفيكتوري، زاخرة بأنواع مختلفة من الآلات والأدوات التي صُممت كل منها لقياس جانب مختلف من جوانب الزمن.
والآن، دعنا نتحدث عن الآليات المختلفة في الدماغ التي تتحكم في إدراك الزمن على مستويات مُتعددة. أولا، هناك "الساعة البيولوجية الرئيسية" التي تقع في منطقة النواة فوق التصالبية، وتنظم الإيقاع اليومي الذي يساعد الجسم على التكيف مع دورة الليل والنهار.
تعتمد هذه الساعة على تذبذبات تشبه حركة البندول داخل البروتينات؛ ما يساعدنا على التزامن مع الإيقاعات الشمسية. ثم هناك مجموعات من خلايا الدماغ التي تتحكم في التوقيت السريع للأحداث التي تبزغ في فترات زمنية قصيرة جدا، مثل ردود الفعل السريعة للأفعال الجسدية. ومن بين أولئك الذين أظهروا هذا هو ديان بونومانو، الذي أثبت أن أي مجموعة من الخلايا العصبية يمكنها تتبع أجزاء من الثانية عن طريق إطلاقها لأنماط متكررة من النشاط العصبي؛ ما يشير إلى أن جميع خلايا الدماغ قد تمتلك القدرة ذاتها على قياس الزمن.
النظام داخل الدماغ
ولكن لا يمكن لأي من هذه الظواهر تفسير الإحساس المعتاد أو المألوف بمرور الزمن، أو الإحساس بأننا نمر بالأحداث وكأننا ننجذب عبر تيار زمني. وعن ذلك، يقول إدوارد موزر من معهد كافلي لعلوم الأعصاب في النرويج: "تعتمد تجربتنا للعالم على ترتيب الأحداث التي نعتبرها متسلسلة وسببية، وتحدث على مدار ثوانٍ ودقائق وساعات".
ويحدد الدماغ ما يحدث في الوقت الحقيقي ليتمكن من خلق الذكريات العرضية (وهي ذكريات شخصية وفردية تتضمن تفاصيل حول الأحداث التي عايشها الشخص، مثل الذكريات التي تتعلق بمكان معين، أو شخص معين، أو موقف معين مر به*)، وبدون هذه الذكريات لا يمكن للمرء تذكر الماضي، أو الإحساس بمرور الزمن. ومن جانبه، يؤكد موزر: "لكي نفهم كيف يعمل هذا، يتعين علينا أن نفهم كيف يخلق دماغنا التسلسلات، أو بمعنى أدق كيف ينظّم الأحداث في تسلسل زمني".
في عام 2014، فاز كل من "إدوارد موزر" وزوجته "ماي بريت موزر" بجائزة نوبل في الطب عن دورهما في اكتشاف "الخلايا الشبكية" التي تتعقب موقع الفئران في المكان لتساعد في بناء خريطة تنقل داخل الدماغ؛ ما يسمح للفئران بالتنقل في البيئة. وفي الآونة الأخيرة، اكتشف موزر وزوجته نوعا آخر من الخلايا العصبية، التي يعتقدان أنها مكافِئة للخلايا الشبكية، والمسؤولة عن ترتيب الأحداث وفقا للزمن.
وبالتعاون مع ألبرت تساو، الذي يعمل الآن في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا، سجل الباحثون نشاط مجموعة من الخلايا العصبية أثناء بحث الفئران عن قطع من الشوكولاتة في متاهة. في البداية، لم يكن هناك نمط واضح أو قابل للتفسير في النشاط العصبي لهذه الخلايا، ولكن في نهاية المطاف تمكن الباحثون من ملاحظة أن النشاط العصبي للخلايا كان يتغير وفقا لما يمر به كل فأر. إلا أنه لم يظهر نمط متكرر في النشاط العصبي إلا عندما وضعوا فأرا في حلقة على شكل الرقم 8، ليجبروه على العودة إلى المكان ذاته من جديد للحصول على الشوكولاتة، ومن هنا بدأ يظهر نمط متكرر في النشاط العصبي لهذه الخلايا.
يعتقد موزر وزوجته أن هذه الخلايا تعمل على ترتيب الأحداث في تسلسل زمني، إذ تنسجم هذه الفكرة مع بنية الدماغ في المنطقة التي توجد فيها هذه الخلايا. فالقشرة المخية الأنفية الجانبية المسؤولة عن ترتيب الأحداث الزمنية، والقشرة الدماغية الأنفية الوسطى حيث توجد الخلايا الشبكية (المسؤولة عن تمثيل المواقع المكانية)، ترسل كلاهما إشارات مباشرة إلى الحُصين المجاور، وهو المركز المسؤول عن تكوين الذكريات.
وفقا للزوجين موزر، فإن هذه الآلية تسمح للدماغ بدمج تمثيلات الزمان والمكان التي تنتجها الخلايا المتخصصة؛ ما يتيح لنا تكوين تجربة موحدة عما حدث، وأين حدث، ومتى حدث بالضبط. ومن جانبه، يؤكد إدوارد موزر أن هذا الترتيب منطقي للغاية، لأن المكان والزمان هما عنصران أساسيان في تكوين الذكريات العرضية (التي تربط الأحداث بمواضعها الزمنية والمكانية*).
ولكن هذا يثير تساؤلا آخر، وهو: ما طبيعة الوقت الذي تدركه أدمغتنا؟ في اجتماع عُقد حول موضوع المكان والزمان في الدماغ، أشار عالم الأعصاب "جورجي بوزاكي"، من جامعة نيويورك، مرارا وتكرارا إلى أن الزمن الذي يدركه الدماغ ليس الزمن الذي تقيسه الساعات، فالساعات هي اختراع ثقافي صنعه الإنسان، ومن غير المرجح أن تكون الخلايا العصبية قد تطورت لتتبع هذا النوع من الزمن.
وبدلا من ذلك، يبدو أن الزمن الذي ندركه بصورة حدسية يشبه الزمن الذي أشار إليه نيوتن على أنه يتقدم بمعدل ثابت ومنتظم، ويوفر خلفية يمكن للدماغ من خلالها تتبع تسلسل الأحداث. يبدو أن أدمغتنا تطورت لإدراك الزمن بصورة بسيطة ومنتظمة، لأن هذا يناسب حياتنا اليومية وحركاتنا البطيئة. لم يكن هناك حاجة تطورية لإدراك التأثيرات الغريبة للزمن كما في نظريات أينشتاين، لأنها لا تؤثر على حياتنا العملية أو تقدم أي ميزة للبقاء.
ولكن ثمة أسباب تدعو للاعتقاد بأننا ندرك بعض الجوانب "النسبية" للزمن كما وصفها أينشتاين، وخاصة العلاقة الوثيقة بين الزمان والمكان، بمعنى أن الزمن بالنسبة لنا يعتمد اعتمادا كبيرا على الحركة، تماما كما هو الحال في نظرية أينشتاين للنسبية.
أما ديان بونومانو فيصف هذا المفهوم "بتجسيد الزمن في شكل مكاني"، أو بمعنى أبسط "إضفاء الطابع المكاني على الزمن" مثل استخدامنا لعبارات (كـ"الزمن يمر"، على سبيل المثال*).
بالإضافة إلى ذلك، أشارت دراسات التصوير الدماغي إلى أن التمثيلات العصبية للزمان والمكان تنشأ في المناطق الدماغية ذاتها. كما توجد دلائل على أن بعض الخلايا العصبية يمكنها تشفير كل من الزمان والمكان معا. ويبدو أن الخلايا الشبكية لدى الفئران، على سبيل المثال، قادرة على قياس الزمن المنقضي أثناء جريها على جهاز المشي.
عامل التشوه
توجد بعض الدلائل التي تشير إلى أن إدراكنا للحركة يمكن أن يشوه أو يؤثر على إدراكنا للزمن (بعبارة أخرى، عندما نكون في حالة حركة، فإن ذلك قد يغير الطريقة التي نشعر بها إزاء الوقت، سواء بجعله يبدو أطول أو أقصر مما هو عليه في الواقع*)، إذ أثبتت العديد من التجارب -على سبيل المثال- ما يُسمى بتأثير كابا، حيث يميل الناس إلى المبالغة في تقدير الزمن بين حدثين بصريين متكررين إذا زادت المسافة المادية بينهما، فكلما بدا الحدثان أبعد في المكان، شعرنا أن الزمن بينهما أطول.
أما في التجربة التي تخيل فيها الطلاب أنهم أقزام، اتضح أن الطريقة التي نُدرك بها الزمن ترتبط مباشرة بالطريقة التي ندرك بها حجم الأشياء أو المسافات بينها. بعبارة أخرى، يتغير الزمن في عقولنا بناء على المقياس المكاني الذي ندركه. ومع ذلك، يحذر ديان بونومانو من المبالغة في تفسير هذه الظواهر، إذ يوضح أن الزمن بالنسبة لنا نسبي بالفعل، لأن الدماغ يتفاعل مع كل المؤثرات المحيطة به، لكنه يؤكد أن هذه النسبية لا تتطابق مع نسبية أينشتاين (بدلا من ذلك، هي نتيجة الطريقة التي يعالج بها الدماغ المعلومات المتعلقة بالمكان والزمان معا*).
والواقع أن إحساسنا بالزمن لا يتأثر فحسب بالحركة أو المقياس المكاني، ولكنه يتأثر أيضا بالعوامل النفسية والشعورية التي تعترينا، فعلى سبيل المثال يبدو الوقت كأنه يمر سريعا عندما نستمتع به، بينما يبدو بطيئا عندما نشعر بالملل. ويصبح الأمر أكثر وضوحا أثناء الخوف الشديد أو التوتر، كما في حالات تجربة الاقتراب من الموت أو حتى في حادث سيارة بسيط، حينها يتملكنا شعور بأن الزمن يمر ببطء شديد.
إدراكنا للزمن يتأثر بعوامل متعددة، أهمها التركيز، فكلما قل انشغالنا أصبحنا أكثر وعيا بمرور الوقت، وهو ما يجعلنا نشعر كأنه يمر ببطء. غير أن المشاعر تلعب دورا أعمق في هذا التأثير وفقا لعالمة النفس سيلفي دروا فوليت، بجامعة كليرمون أوفيرن في فرنسا، حيث أظهرت أبحاثها أن الناس يميلون إلى المبالغة في تقدير مدة الأحداث القصيرة عندما تكون مشحونة بالعواطف، فمثلا مقاطع الفيديو العاطفية أو المثيرة تجعلنا نشعر كأنها تدوم لفترة أطول مما هي عليه في الواقع. ويصبح الأمر أوضح مع أفلام الرعب، إذ تؤدي المشاعر القوية على غرار الخوف إلى تمديد إحساسنا بالوقت.
الترابط العميق والمعقد بين مفهومي الزمان والوجود
في واحدة من أشهر التجارب لمعرفة ما إذا كان شعورنا ببطء الزمن أثناء المواقف المثيرة أو المخيفة له تفسير علمي أم لا، طلب ديفيد إيغلمان، الذي يعمل الآن في جامعة ستانفورد، وفاني بارياداث من المعهد الوطني لتعاطي المخدرات في ماريلاند؛ من المتطوعين القفز من برج عالٍ إلى شبكة أمان أسفلهم على ارتفاع 30 مترا.
ارتدى المتطوعون شاشة صغيرة على معصمهم تعرض رقما يومض بسرعة كبيرة (20 مرة في الثانية)، وهي سرعة لا يستطيع الإنسان تمييزها بالعين أو إدراكها ما لم يتمكن الوقت بطريقة ما من التباطؤ في أدمغتنا في لحظات معينة. فإذا كان الزمن يتباطأ فعليا في دماغ الإنسان أثناء الخوف أو الإثارة، فمن المفترض أن يتمكن المشاركون من قراءة الرقم أو ملاحظته أثناء السقوط.
وبالفعل أفاد المشاركون أن السقوط استمر لفترة أطول من الوقت الفعلي الذي استغرقه، وهو ما يعني أن الزمن قد تباطأ في أذهانهم أثناء التجربة، لكن المثير للانتباه أنهم رغم ذلك لم يتمكنوا من تمييز الرقم الذي يومض سريعا على الشاشة (هذا يعني أن الوقت في عقولهم لم يتباطأ فعليا بالمعنى الحرفي*).
وقد دفع هذا إيغلمان وبارياداث إلى اقتراح أن هذا الإحساس بتمدد الزمن كان من صنع الذاكرة، ففي المواقف المكثفة، تمتص أدمغتنا كمية أكبر من التفاصيل الحسية؛ ما يؤدي إلى ترسيخ ذاكرة أكثر ثراء، وهو ما يفسر لماذا تبدو التجربة كأنها استغرقت وقتا أطول مما كانت عليه في الواقع.
وفي تجربة أخرى أجراها كل من مارك ويتمان من معهد الدراسات المختص بعلم النفس والصحة العقلية في فرايبورغ بألمانيا وزملاؤه، أثبت الفريق كيف يمكن للخطر أن يؤثر على إدراكنا للزمن في الوقت الحقيقي. فأثناء التجربة، حاكى الباحثون شعور التهديد الذي قد يحدث في مواقف مثل حوادث السيارات، لذا عُرضت على المشاركين دوائر على شاشة، بعضها كان يكبر تدريجيا؛ ما أعطاهم انطباعا بأنها تقترب منهم، فيما تصغر الدوائر الأخرى لتبدو كأنها تبتعد.
عندما شاهد المشاركون الدوائر التي تبدو كأنها تقترب منهم، بالغوا في تقدير الزمن الذي مرّ مقارنة بما حدث في الواقع (هذه النتيجة تدعم فكرة أن إدراكنا للزمن يمكن أن "يتباطأ" أو يبدو أطول في المواقف التي نعتبرها تهديدية*). لذا، فإن إدراكنا للزمن يتأثر كثيرا بالعواطف التي تجتاحنا عندما نمر بمواقف معينة، وهذه العواطف ليست مجرد إحساس عابر، بل هي ردود فعل جسدية تحدث في أجسادنا نتيجة لتفاعلاتنا مع العالم من حولنا. بمعنى آخر، مشاعرنا هي في الحقيقة نتيجة لتغيرات فسيولوجية في الجسم بسبب المواقف التي نواجهها.
على الجانب الآخر، كشفت العديد من الدراسات باستخدام الرنين المغناطيسي الوظيفي عن وجود علاقة بين مقدار الوقت الذي ندرك أنه مر، والنشاط العصبي في القشرة المعزولة في الدماغ، وهي المنطقة التي تعالج الإشارات الجسدية. وهذا يشير إلى أن الزمن الذاتي (الزمن الذي نشعر به) يتشكل بناء على الأحاسيس الجسدية وفقا لويتمان، فمثلا الأفراد الأكثر وعيا بنبضات قلبهم، لديهم القدرة على تحديد مدة الصوت الذي سمعوه مؤخرا بدقة أكبر من غيرهم. وعندما يشاهد الناس أفلام رعب ويخالجهم شعور بأن الزمن يتباطأ، يزداد شعورهم بهذا البطء أكثر عندما يركزون على أحاسيسهم الجسدية (مثل نبض القلب أو التنفس).
كل هذا يشير إلى أن معدل ضربات القلب، أو ربما مجموعة من الحالات الجسدية الأخرى، قد تعمل بصفتها مؤشرا داخليا لقياس المدة الزمنية لنشاط ما. بمعنى آخر، يمكن للدماغ أن يستخدم عدد ضربات القلب أو التغيرات في العمليات الجسدية (مثل التنفس أو مستوى التوتر) لقياس الزمن، فعندما تزداد نبضات القلب في حالات التوتر أو الإثارة، قد يشعر الشخص بأن الزمن يمر ببطء أكثر مما هو في الواقع، أي أن الدماغ قد يسجل مرور الوقت بناء على التغيرات الجسدية؛ ما يجعلنا نشعر بأن الزمن يتباطأ في اللحظات التي تزداد فيها الاستجابة الجسدية.
إن إدراكنا للزمن يتماشى مع مفهوم الزمن الثابت الذي أشار إليه نيوتن على نحو أفضل من الزمن النسبي الذي تحدث عنه أينشتاين. ومع ذلك، يقول ويتمان إن قدرتنا على الإحساس بالزمن وتغييره لا تحتاج إلى أي من هذين المفهومين المجردين، ويضيف قائلا: إن إدراكنا للزمن يُحدَّد وفق حالة عاطفية طبيعية أو متوازنة، فعندما ننتقل فجأة إلى حالة عاطفية مفرطة أو شديدة، نميل إلى المبالغة في تقدير الوقت الذي مضى مقارنة بحالتنا العاطفية المعتادة.
إن تجربتنا للعالم ذاتية بطبيعتها (أي أنها تعتمد على إدراكنا الشخصي وتفسيرنا للأشياء*). لذا، من غير المتوقع أن نكون قادرين على إدراك الواقع الموضوعي بصورة دقيقة تماما، بل نراه تقريبا غامضا أو مشوها. في هذا السياق، لا يتدفق الزمن لأن أدمغتنا تقيسه استنادا إلى مفاهيم علمية مثل الساعات أو المعايير الدقيقة، بل لأن خلايا الدماغ تطورت لتتبع تسلسل الأحداث.
بمعنى آخر، نحن نخلق الزمن بأنفسنا عبر إدراك الأحداث وترتيبها، دون الحاجة إلى استخدام الزمن الميكانيكي (مثل الساعات) لفهم تجاربنا. وعلى نحو مماثل، فإن إحساسنا بالزمن يتسارع أو يتباطأ في المقام الأول بناء على مشاعرنا أو حالتنا العاطفية، وتتأثر هذه المشاعر بدورها بردود أفعالنا الجسدية تجاه البيئة المحيطة بنا، ومن ثم فإن إحساسنا بالزمن يرتبط بإحساسنا بذواتنا أكثر من أي شيء آخر.
الزمن بوصفه حقيقة ملموسة
لكن هذا لا يعني أن أدمغتنا قادرة على إعطائنا صورة كاملة أو دقيقة تماما عن العالم حولنا، فحتى الحواس التي نفهمها جيدا لا تنتج نسخة مطابقة تماما للواقع، وهو ما يجعلنا عرضة للأوهام البصرية التي قد تخدع عقولنا. يعتقد كارلو روفيلي، عالم الفيزياء النظرية بجامعة إيكس مرسيليا في فرنسا أن إدراكنا للزمن قد لا يعكس الواقع الكامل للزمن كما هو في الكون. بمعنى آخر، ربما يكون فهمنا للزمن محدودا أو مشوها بسبب طريقة عمل عقولنا.
يزعم علماء الفيزياء هذه الأيام أن تدفق الزمن ينتج عن القانون الثاني للديناميكا الحرارية، والذي ينص على أن الفوضى الكلية، المعروفة باسم الإنتروبيا، تزداد دائما في النظام المغلق (والنظام المغلق هو نظام لا يتبادل الطاقة أو المادة مع محيطه الخارجي*).
ومع ذلك، فإن الكون ليس بالضرورة نظاما مغلقا بالكامل. وحتى لو كان الأمر كذلك، فإن بعض الناس يشككون في الافتراض القائل بأن الإنتروبيا كانت منخفضة (أي انخفاض العشوائية) إلى هذا الحد في الماضي البعيد. لهذا السبب، سعى روفيلي إلى إيجاد إجابات أكثر إرضاء داخل تلك الشكوك المتأصلة في عالم الكم، وهو أعمق مستوى توصلنا إليه عن الطبيعة، والذي انبثق منه العالم الكلاسيكي الذي نراه وندركه.
يشير روفيلي إلى أن إدراكنا لتدفق الزمن ليس بالضرورة صورة دقيقة للواقع كما هو في الحقيقة، بل هو نتيجة لوجهة نظرنا الخاصة عن الكون، وعن ذلك يقول روفيلي: إننا نعيش على كوكب يدور حول نفسه، ولكننا لا ندرك دورانه، بل كل ما نستطيع ملاحظته هو أن النجوم هي التي تتحرك في السماء. ويبدو هذا النوع من الإدراك أشبه بالوهم، إلا أن روفيلي يفضل أن يصفه بأنه التقريب الأكثر صلة بواقعنا المادي. إن إحساسنا بتدفق الزمن ليس جزءا حقيقيا من طبيعة الكون، بل هو تصور أو وهم ناتج عن وعينا دون أن يكشف لنا عن الطبيعة الحقيقية للكون.
ومن أجل التوصل إلى توافق بين الفيزياء وعلم الأعصاب، سيتطلب الأمر فهما أفضل لكلا المجالين. لمعرفة كيف يمكن أن يكون هناك شيء أكثر من مجرد الواقع الذاتي (أي إدراكنا الشخصي للزمن)، سيتعين على علماء الأعصاب حل لغز كيفية خلق الدماغ للوعي، بينما يجب على علماء الفيزياء التعامل مع حقيقة أن الأنظمة الكمومية يمكن أن توجد في حالات متعددة في الوقت ذاته (تُسمى "التراكب الكمومي")، ولكنها "تتخذ" حالة معينة فقط عندما نرصدها نحن. وفي كل الأحوال، من الواضح أن هذا الأمر سيتطلب وقتا طويلا.
هل تؤثر اللغة على إدراكنا للزمن؟
قد تؤثر اللغة على طريقة تفكيرنا وإدراكنا للزمن، ففي العديد من اللغات نستخدم استعارات مكانية للتحدث عن الزمن، فمثلا نقول إننا "ننتظر" أو "نترقب" الأحداث المستقبلية، وأننا نترك الماضي "وراءنا"، كما نعتبر أن الزمن "يمر بسرعة" أو "يقترب" ككائن أو شيء مادي يتحرك نحونا. ولكن الاستعارات المكانية التي نستخدمها تختلف من لغة إلى أخرى، ويعتقد البعض أن هذه الاختلافات اللغوية قد تؤثر على كيفية إدراك الناس للزمن.
لا تزال فكرة أن اللغة قد تؤثر على طريقة تفكيرنا مثيرة للجدل، إذ ينتقد البعض هذه الفكرة ويؤكدون على أن الكلمات التي نستخدمها ما هي إلا انعكاس للأفكار الموجودة بالفعل في عقلنا. ومع ذلك، عند مقارنة التصورات الذهنية للزمن لدى متحدثي لغات مختلفة، تظهر دلائل على أن اللغة قد تؤثر بالفعل على طريقة تفكير الناس بشأن الزمن.
في اللغة الصينية (الماندرين) على سبيل المثال، يشار إلى الأحداث السابقة باستخدام كلمة "أعلى"، والأحداث المستقبلية باستخدام كلمة "أسفل". وقد اكتشفت ليرا بوردوتسكي، عالمة الإدراك في جامعة كاليفورنيا، سان دييغو، أنه عندما يُطلب من الأشخاص ترتيب صور تعرض تسلسلا زمنيا، فإن المتحدثين بالصينية يميلون إلى ترتيب الصور على نحو عمودي أكثر من المتحدثين باللغة الإنجليزية، الذين يفضلون ترتيبها من اليسار إلى اليمين. والأكثر من ذلك، أن الأشخاص الذين يتحدثون اللغتين الصينية والإنجليزية يميلون إلى ترتيب الزمن ترتيبا عموديا إذا أُجري الاختبار باللغة الصينية.
من الصعب معرفة ما إذا كانت اللغة تشكِّل طريقة تفكيرنا حول الزمن وتؤثر على كيفية إدراكنا له، أم أنها مجرد أداة تعبيرية تعكس أفكارا حول الزمن تشكّلت سابقا في أذهاننا، لكن بوردوتسكي تقول إن أقوى دليل يأتي من دراسة أجرتها في عام 2017 حينما علَّمت متحدثين باللغة الإنجليزية استعارات جديدة للزمن، بتصوير يوم الثلاثاء على أنه يقع "أعلى" في ترتيب الأيام من يوم الأربعاء. وعندما اختبرتهم على مدى وعيهم بمرور الزمن، اكتشفت أن أداءهم قد تغير بطريقة تشير إلى أنهم تعلموا أيضا طريقة جديدة لتصور الزمن.
كما هو الحال دائما، لا يزال هناك الكثير من العمل المطلوب. ومع ذلك، فإن مثل هذه الدراسات تُذكِّرنا بأن القدرة على خلق تصورات ذهنية لشيء مجرد مثل الزمن، والذي لا نستطيع رؤيته أو لمسه، تظل واحدة من أعظم ألغاز العقل البشري.
* إضافة المترجم
هذه المادة مترجمة عن مجلة نيوساينتست ولا تعبر بالضرورة عن الموقف التحريري للجزيرة نت