عامٌ من طوفان الأقصى وأسلحة محرمة تفتك بأبناء القطاع جسديا ونفسيا
سنة كبيسة أعاد فيها طوفان الأقصى القضية الفلسطينية لواجهة الأحداث العالمية، إذ شن الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة حملة عسكرية وصفت بالأكثر دموية في العقود الماضية، أسفرت عن استشهاد أكثر من 41 ألف مواطن أكثر من نصفهم من النساء والأطفال، ونزح حوالي 75% من سكان القطاع، وأصيب حوالي 95 ألفا، وفق منظمة الصحة العالمية.
وتسببت هذه الحرب في أزمة صحية وكارثية، نتيجة استخدام الاحتلال الإسرائيلي مواد سامة ومحرمة دولياً، نتج عنها أمراض جسدية ونفسية ألمت بأبناء القطاع، ويفاقم من ذلك الملاجئ المكتظة وصعوبة الوصول إلى الغذاء والمياه الآمنة والنظيفة، وتردي المرافق الصحية.
سنة من المواد المحرمة دولياً
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 يستخدم الاحتلال الإسرائيلي كل أساليب التجويع وقطع الوقود والأدوية عن قطاع غزة، وتعمد أيضا استخدام مواد سامة تفتك بالإنسان، إذ أدخل أسلحة جديدة في حربه المستمرة حتى اليوم.
إذ كشف تحقيق لمنظمة العفو الدولية عن استخدام الاحتلال الإسرائيلي مادة الفسفور الأبيض معتمدة على شهادات أطباء ومرضى تعرضوا للحروق، وفيديوهات تم التحقق منها بواسطة مختبر أدلة الأزمات التابع للمنظمة، أكدت نتائجه استخدام جيش الاحتلال هذه المادة.
ويعد الفوسفور الأبيض مادة كيميائية صلبة شمعية مائلة للصفرة أو عديمة اللون، تتسبب في حروق عميقة تخترق العظام، وهي قابلة للاشتعال من جديد أثناء العلاج الأولي أو بعده إذا تعرضت للأكسجين، وتستخدمه الجيوش لإضاءة ساحات القتال، وتوليد ستار من الدخان، وعند اشتعاله يلتصق بالأسطح مثل الجلد والملابس.
إلى جانب الفسفور الأبيض، فقد لاحقت إسرائيل اتهامات باستخدام عدة أنواع من الذخائر المحرمة دولياً والتي يمنع استخدامها ضد البشر، مثل القنابل الفراغية، واليورانيوم المنضب.
تشكل القنابل الفراغية نوعا من أنواع القنابل المتفجرة هوائيا، إذ تحدث عند انفجارها غيمة تفجيرية ينتج عنها كرة نارية كبيرة، وتحدث ارتفاعا في درجات الحرارة تصل لنحو 3 آلاف درجة مئوية، أي ضعف ما تحدثه القنابل العادية.
ويتسبب هذا النوع من القنابل في إفراغ المحيط من الأكسجين، مما يؤدي لهلاك جميع الكائنات الحية خنقا واحتراقا، ومن لم يقتل بفعل القنبلة يمضي حياته أعمى أو مصابا بارتجاج الدماغ، وتمزق طبلتيْ الأذن، بالإضافة إلى انسداد المجاري الهوائية وانهيار الرئتين، وإصابات أخرى خطيرة جدا.
أما اليورانيوم المنضب فيعتقد الكثير من علماء الفيزياء والأطباء أنه يسبب مشاكل صحية في الجهاز التنفسي والكبد والكلية وفقدان الذاكرة والصداع والتعب المستمر والحمى وانخفاض ضغط الدم، إذ تستخرج من اليورانيوم الطبيعي، ويعبأ بها نوع من القنابل تطلق من المدافع أو تلقى من الطائرات المقاتلة، وله قدرة عالية على إذابة المواد الصلبة الخرسانية والمدرعة.
ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، فإن التعرض لهذه المادة يزيد من خطر الإصابة بأمراض مزمنة مثل السرطان وأمراض الجهاز التنفسي بنسبة تصل إلى 40%، خاصة لدى الأفراد الذين يتعرضون لها بشكل متكرر.
ليست المرة الأولى
وهذا ليس بجديد، ففي عام 2010 عرضت وزارة الصحة الفلسطينية دراسات وأبحاثا أجراها باحثون إيطاليون، تؤكد وجود مواد سامة خطيرة بنسب عالية في أجساد سكان غزة جراء الحرب الإسرائيلية على القطاع التي بدأت نهاية عام 2008.
وبعد فحص أجساد عينة شملت 15 شهيدا وجريحًا من ضحايا الحرب، إضافة إلى عينة أخرى من 95 شخصا من سكان القطاع، أظهرت نتائج الفحص وجود 30 عنصرًا سامًّا ثقيلاً من أبرزها اليورانيوم بنسب أعلى بكثير من معدلاتها الطبيعية.
وبحسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، فإن إسرائيل أسقطت أكثر من 25 ألف طن من المتفجرات على قطاع غزة حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بما يعادل قنبلتين نوويتين.
وأبرز الأورومتوسطي -في بيان- اعتراف جيش الاحتلال الإسرائيلي بأن طائراته استهدفت أكثر من 12 ألف هدف في قطاع غزة، مع حصيلة قياسية من القنابل بحيث تتجاوز حصة كل فرد 10 كيلوغرامات من المتفجرات، وهي كمية هائلة إذا ما نظرت إلى أن وزن القنبلة اليدوية أقل من 400 غرام.
كيف أثرت أسلحة الاحتلال على الصحة النفسية؟
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فقد تتسبب أصوات الانفجارات الناجمة عن الصواريخ والأسلحة التي يستخدمها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة بفقدان الشابة منال قويدر حاسة السمع بالأذن اليسرى، إذ تقول إن شمال غزة (المنطقة التي توجد بها) تعرضت لوابل من الصواريخ وخاصة الحزام الناري.
وقد استخدم الاحتلال الإسرائيلي سياسة الحزام الناري مع أبناء القطاع، وهو عبارة عن قصف عنيف ومتواصل لساعة كاملة، حيث تقول قويدر في حديثها للجزيرة نت إن هذه الأنواع من الأسلحة ينتج عنها أصوات مرتفعة تتسبب في حالة من الهلع والتوتر، في حين يصيبها عند إطلاقه حالة تشنج وانكماش حاد لدرجة عدم قدرتها على التحرك، وعدم النوم لأيام عديدة.
ومن جانبه، يقول الخبير النفسي عبد الرحمن مزهر إن استخدام الأسلحة ينتج عن أضرار نفسية مباشرة وغير مباشرة و"أضرار مباشرة تتمثل في حالة من الهلع والخوف نتيجة أصوات الانفجارات والصواريخ. ومن المعروف أن الأسلحة تؤثر على الجهاز التنفسي، وبالتالي يصاب المريض بضيق نفس يشعره بحالة هلع، وأضرار غير مباشرة تتمثل في تسبب المواد السامة كالفسفور الأبيض في ندوب بالجسد باعتباره مادة حارقة بعمق، فإذا وصلت هذه الندوب للوجه أو لليدين سيبقى الإنسان يتذكر الموقف باستمرار ولو كان المصاب طفلاً فقد يتعرض للتنمر".
ويضيف مزهر -في حديثه للجزيرة نت- أن الاحتلال الإسرائيلي استخدم أسلحته للتعذيب من خلال إطلاق مواد تستمر في الانفجار لمدة طويلة من الوقت، وهذا الأسلوب يستخدم في السجون والمعتقلات لجعل المعتقلين في حالة توتر وقلق.
وتؤكد بيانات هيئة الأمم المتحدة للمرأة نصيب من المعاناة، حيث إن الحرب على غزة ألحقت خسائر فادحة بالصحة النفسية للسكان. ومن بين 305 نساء شملهن الاستطلاع، أبلغت نسبة 75% عن الشعور بالاكتئاب في كثير من الأحيان، و62% لا يستطعن النوم غالبًا، و65% يعانين التوتر والكوابيس غالبية الوقت.
ويتفق مزهر في ذلك، فمن خلال الاستشارات النفسية التي يقدمها لأبناء القطاع عبر الإنترنت يقول إن اضطرابات النوم وسرعة الانفعال والتوتر المستمر من أبرز الأعراض التي يلاحظها على الحالات، وهي نتيجة مباشرة للحرب.
الأمراض تفتك بأبناء غزة
يأتي ذلك في سياق آخر مهم، حيث استهدفت الضربات الاسرائيلية البنية التحتية لغزة بشكل كامل، كما دفعت السكان للتزاحم في مناطق ضيقة نسبيا، الأمر الذي كانت له آثار صحية وخيمة، وكشفت نتائج تقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة عن انتشار الأمراض المعدية بالأماكن المكتظة، حيث ارتفعت معدلات الإصابة بأمراض مثل اليرقان والتهاب الكبد الوبائي (أ) والإسهال وتسجيل مئات الآلاف من حالات التهابات الجهاز التنفسي الحادة، وخاصة بين الأطفال والنساء.
وكشف تقرير حديث لهيئة الأمم المتحدة للمرأة -نشر في سبتمبر/أيلول 2024- أن اكتظاظ الملاجئ وعدم كفاية المياه ومرافق الصرف الصحي أدى إلى حدوث مئات الآلاف من حالات التهابات الجهاز التنفسي الحادة واليرقان والإسهال والطفح الجلدي. وتشكل النساء أكثر من ثلثي الحالات المبلغ عنها من أمراض الجهاز الهضمي والتهاب الكبد الوبائي "أ".
وثمة ارتباط وثيق بين المواد السامة التي استخدمها الاحتلال وبين الأمراض التي ظهرت في قطاع غزة، إذ يقول الباحث المختص بالمناخ والصحة، رفيق فحماوي، إن بعض الأمراض التي ظهرت بالقطاع وخاصة التي ترتبط بالجهاز التنفسي ناجمة عن الاستخدام المكثف للمواد السامة والاكتظاظ في الملاجئ.
ويقول فحماوي -في حديثه للجزيرة نت- أن نتائج تقارير منظمة الصحة العالمية تشير إلى زيادة بنسبة 300% في حالات التهابات الجهاز التنفسي الحادة خلال الأشهر الأخيرة فقط، مما يعكس الخطر الذي يشكله الاكتظاظ ونقص التهوية، وهذه الأرقام الصادمة والتقارير الدولية تدق ناقوس الخطر حول الحالة الصحية لسكان غزة: تلوث في البيئة، نقص الرعاية الصحية، الظروف المعيشية الصعبة، وكلها عوامل تساهم في تفاقم الوضع الصحي.