تطوير "لسان إلكتروني" يحاكي حاسة التذوق البشرية
منذ سنوات تعمل الفرق البحثية حول العالم على تحسين جودة "اللسان الإلكتروني" للوصول لنسخة قريبة من حاسة التذوق البشرية، غير أن تحقيق هذا الحلم واجهته تحديات، ويزعم فريق بحثي من كوريا الجنوبية أنه نجح في التغلب عليها، بوصوله إلى أقرب نسخة إلكترونية تحاكي تعقيدات حاسة التذوق البشري.
و"اللسان الإلكتروني" يمكنه التمييز بين المذاقات المختلفة، وتقييم الميزات التفصيلية بشكل كمي، بما يجعله أداة محتملة لتطوير منتجات جديدة ومراقبة الجودة، ويتكون من:
- أولا- أجهزة استشعار: وهي المكونات الأساسية له، وتحاكي براعم التذوق الموجودة على اللسان البشري، وهي مصممة لاكتشاف مركبات التذوق المختلفة، ويمكن أن تختلف تلك الأجهزة بناء على التطبيق المحدد، ولكنها تشتمل غالبا على أنواع مختلفة من أجهزة الاستشعار الكيميائية أو البيولوجية الحساسة للأذواق مثل الحلاوة والملوحة والحموضة والمرارة، وتولّد هذه المستشعرات إشارات استجابة لوجود وتركيز مركبات طعم معينة.
- ثانيا- نظام الحصول على البيانات: فيقوم هذا الجزء بجمع الإشارات من أجهزة الاستشعار، ويشمل تقنيات تُحول إشارات الاستشعار إلى بيانات رقمية.
- ثالثا- أدوات تحليل البيانات: فبمجرد جمع البيانات تخضع للتحليل باستخدام خوارزميات متطورة وتقنيات التعلم الآلي، وتفسر هذه الخطوة استجابات المستشعر، وتقارنها بملفات تعريف التذوق المعروفة، وتحدد مركبات التذوق الموجودة في العينة.
تحديات على طريق الإنجاز
ووفق هذا المفهوم للسان الإلكتروني نجحت فرق بحثية حول العالم في إنتاج نسخ منه تُستخدم في صناعة الأغذية والمشروبات، لمراقبة الجودة واختبار التذوق وتقييم مكونات الأطعمة والمشروبات وتحليل النكهات والكشف عن الملوثات ومراقبة عملية الإنتاج.
كما تم توظيفه في تقييم طعم الأدوية وتركيبها بما يساعد في تطوير التركيبة، وضمان اتساق المذاق، والكشف عن أي اختلافات أو شوائب.
وتستكشف بعض الأبحاث استخدامه في مراقبة جودة المياه وتقييم العينات البيئية، وتحديد وقياس المركبات المختلفة الموجودة بها، مما يساهم في جهود مراقبة التلوث، كما تستكشف بعض الأبحاث استخدامه في التشخيص الطبي مثل اكتشاف المؤشرات الحيوية في سوائل الجسم أو تقييم مذاق الأدوية الفموية للمرضى الذين يعانون من مشاكل في إدراك التذوق.
وفي حين أن "الألسنة الإلكترونية" أظهرت نتائج واعدة في هذه المجالات، فإن اعتمادها على نطاق واسع لا يزال محدودا، حيث لا تزال تلك التقنية تواجه عده تحديات أبرزها:
- تعقيد إدراك التذوق: فإدراك التذوق البشري معقد، ويتضمن تفاعلات بين مركبات التذوق التي يمكن أن تخلق تأثيرات تآزرية أو قمعية، ويعد تكرار هذا التعقيد بدقة في النظام الإلكتروني أمرا صعبا.
- الموثوقية في الظروف الديناميكية: ويمثل ضمان نتائج متسقة وموثوقة في الظروف المتغيرة أو الديناميكية تحديا كبيرا، ويمكن أن تؤثر العوامل الخارجية مثل درجة الحرارة أو تغيرات الرقم الهيدروجيني أو وجود مواد متداخلة على دقة اكتشاف المذاقات.
- تفسير البيانات ومعالجة الأخطاء: فيمثل تحليل بيانات التذوق بدقة وكفاءة تحدياً كبيرا يتطلب التمييز بين المذاقات، وخاصة الاختلافات الدقيقة، ومعالجة الأخطاء أو التناقضات في البيانات، وهو ما يحتاج إلى خوارزميات متقدمة.
- الانتقائية والحساسية: فيعد تحقيق انتقائية وحساسية عالية في اكتشاف مركبات أو أنماط طعم معينة مع تجنب التداخل من مواد غير ذات صلة تحديا آخر، وقد يكون التمييز بين الأذواق أو المركبات المتشابهة أمرا صعبا.
ماذا فعل الكوريون؟
وفي إطار السعي لتحسين التقنية عبر التغلب على هذه التحديات، أعلن الباحثون من معهد "دايغو جيونجبوك للعلوم والتكنولوجيا" بكوريا الجنوبية والمعهد الكوري المتقدم للعلوم والتكنولوجيا، نجاحهم في الوصول لأقرب نسخة إلكترونية من اللسان البشري، وأعلنوا نتائج ما توصلوا له في دراسة نُشرت بدورية "إيه سي إس أبلايد ماتيريالز آند إنترفيسس".
ويكمن سر الإنجاز الذي حققه الباحثون الكوريون في ثلاث مزايا، كشف عنها بيان صحفي نشره الموقع الإلكتروني لمعهد "دايغو جيونجبوك للعلوم والتكنولوجيا"، وهي:
- أولا: دمج أجهزة الاستشعار والتعلم العميق
فقد نجحت فرق البحث الكورية في إنشاء نظام يدمج بشكل فعال مستشعرات التذوق مع تكنولوجيا التعلم العميق، ويسمح هذا التكامل بقياس متزامن ودقيق للملوحة والحموضة والمرارة والحلاوة. وفي المقابل ركزت المحاولات السابقة بشكل أكبر على الجانب الاستشعاري دون التكامل العميق مع التعلم الآلي المتقدم أو خوارزميات التعلم العميق لتحليل التذوق.
- ثانيا: تحسين الدقة والموثوقية
فقد تناول البحث الكوري القيود في الدقة والموثوقية التي شوهدت في الدراسات السابقة من خلال تقديم خوارزمية مخصصة للتعلم العميق لتحليل التذوق، وأدى هذا إلى تعزيز قدرة التقنية بشكل كبير على تصنيف الأذواق المختلفة باحتمال يزيد عن 95%. وكانت التقنيات السابقة تفتقر إلى مثل هذه الخوارزميات المتقدمة، مما أدى إلى قيود في تمايز التذوق وتقييمه.
- ثالثا: إمكانات التطبيق
ويسلط البحث الكوري الضوء على قابلية تطبيق النظام على نطاق واسع في مختلف الصناعات، بما في ذلك الأغذية ومستحضرات التجميل والأدوية، وهو ما لم يتحقق مع النسخ السابقة، حيث لم تكن تحقق هذا التنوع في الاستخدام عبر مختلف الصناعات.
واختبر فريق البحث النسخة الخاصة بهم مع ستة أنواع مختلفة من النبيذ، وأُجريت عليها تجارب تحديد المذاق. ونجحت نسختهم الجديدة في تصنيف أنواع النبيذ الستة المختلفة بدقة تزيد عن 95%، وهو ما يثبت قابلية التطبيق الواسع لهذه النسخة، حيث من المتوقع أن تتوسع إمكاناتها لتشمل مجالات مختلفة مثل تطوير الأغذية والمشروبات ومستحضرات التجميل والأدوية.
ويقول الأستاذ بقسم الروبوتات والهندسة الميكانيكية والإلكترونية في معهد دايغو جيونجبوك للعلوم والتكنولوجيا كيونغ إن جانغ: "لقد أكدنا أن نسختنا الجديدة يمكنها تمييز المذاقات باحتمالية عالية من خلال الاختبار مع النبيذ، وسنواصل اختبارها في صناعة المواد الغذائية ومجالات متنوعة، مثل مستحضرات التجميل أو صناعة الأدوية".
إشادة مستحقة.. وجهد إضافي
ووفق ما توصل له الباحثون من نتائج في الدراسة الكورية، يبدي أستاذ التغذية بمركز البحوث الزراعية المصري محمود محمدي، إعجابه بالخطوات الكبيرة التي أُحرزت في التغلب على التحديات التي تواجهها تكنولوجيا اللسان الإلكتروني، حيث يعد الدمج بشكل فعال بين مستشعرات التذوق وتكنولوجيا التعلم العميق لتفسير المذاقات المختلفة، خطوة جديرة بالإشادة باتجاه السعى نحو محاكاة التذوق البشري.
ورغم هذه الإشادة المستحقة، فإنه يرى أن الجذم باقتراب النسخة الأحدث من إمكانيات حاسة التذوق البشري، يحتاج لجهد إضافي من الباحثين لإجراء مزيد من التجارب. ويقول محمدي في حديث هاتفي مع "الجزيرة نت": "هناك حاجة لاختبار عدد أكبر من المركبات وتوسيع مجموعة البيانات للاختبار وإجراء تجارب تطبيقية أكثر شمولا في العالم الحقيقي تتجاوز تجارب التذوق التي أجراها الباحثون".
ويؤكد أيضا أن القول بإمكانية التطبيق في مختلف الصناعات، بما في ذلك الأغذية ومستحضرات التجميل والأدوية، يحتاج إلى دراسات إضافية، ولا يمكن الخروج بهذه النتيجة بناء على ما تحقق في التجربة التي نفذت بالبحث الكوري.
ويضيف: "قد تكون هناك جوانب لم يتم استكشافها بالكامل فيما يتعلق بإمكانية نقل هذه التكنولوجيا عبر قطاعات متنوعة، ولا يمكن اكتشاف ذلك إلا من خلال تجارب عملية".