عاشوا هناك قبل 60 ألف سنة.. العلماء يضعون خريطة للمناطق المخفية لسكنى الأستراليين الأوائل
كانت جميع مواقع العصر الجليدي في غرب أراضي أرنيم بالقرب من المحيط، ومن ثم، كانت مستنقعات للأيكة الساحلية في مرحلة ما في أثناء تحوّلٍ لهذه الرقعة الطبيعية من شمال أستراليا.
خلال حقبة العصر البليستوسيني المتأخر، كانت مستويات سطح البحر منخفضة جدًا لدرجة أن أستراليا كانت متصلة بجيرانها الشماليين -بابوا غينيا الجديدة وإندونيسيا- في شبه قارة عملاقة كانت معروفة باسم "ساهول" (Sahul)، ولكن في نهاية العصر الجليدي الأخير ومع ذوبان الصفائح الجليدية منذ نحو 10 آلاف عام غمرت المياه مساحات شاسعة من هذه الأراضي.
مواطن استيطان شعوب أستراليا الأولى
يذكر تقرير نشره موقع "ساينس ألرت" (Science Alert) يوم 30 مايو/أيار الماضي أن شعوب أستراليا الأولى احتلت هذه الأجزاء من شمال أستراليا لما لا يقل عن 65 ألف عام بناءً على الآلاف من الأدوات الحجرية وبقايا الطعام التي تم اكتشافها في ملجأ مادجدبيبي (Madjedbebe) الصخري عام 2010. ويشير وجودهم إلى رحلة رائعة قام بها البحارة المهرة الذين يجتازون البحار والجسور البرية ليسكنوا القارة الأكثر جفافا على وجه الأرض.
ورغم جميع الجهود المبذولة، فإن علماء الآثار لم يعثروا على موقع آخر قديم مثل مادجدبيبي حتى الآن، ولا يرجع السبب في ذلك إلى عدم وجود مثل تلك المواقع، ولكن قد يكون ذلك بسبب أنهم كانوا يبحثون في أماكن خاطئة.
فالمناظر الطبيعية الحالية تحجب المواقع المحتملة المخفية عن الأنظار أو المغمورة تحت الماء، وللمساعدة في البحث قام الباحثون الذين يعملون مع نيانجما رينجرز -وهم الحراس التقليديون لمنطقة ريد ليلي لاغون (Red Lily Lagoon) الكبرى في غرب أراضي أرنيم (West Arnhem Land)- بإعادة بناء منظر طبيعي قديم مدفون تحت السهول الفيضية الموسمية اليوم.
أساليب رائدة
واستخدم العلماء في جامعة فليندرز (Flinders University) التصوير تحت السطحي والمسوحات الجوية، وقد أظهرت هذه الأساليب الرائدة كيف تغيرت هذه الرقعة المهمة من الإقليم الشمالي بفعل ارتفاع مستوى سطح البحر منذ نحو 8 آلاف عام، وتوفر النتائج أيضا طريقة جديدة لفهم الفن الصخري (علامات من صنع الإنسان) في المنطقة، الذي يُعرف عالميا بأهميته وأسلوبه المميز.
ويذكر الباحثون -في بيانهم الصحفي الذي نشر على موقع جامعة فليندرز- أنه من خلال دراسة كيفية تغير الرواسب المدفونة الآن تحت السهول الفيضية بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر، يمكن للباحثين أن يروا كيف أدى تحول ريد ليلي لاغون إلى نمو الأيكة الساحلية، وهي شجيرات تنمو في المستنقعات الساحلية الاستوائية التي تغمرها المياه عند ارتفاع المد، وعادة تكون لها جذور عديدة متشابكة فوق الأرض وتشكل غابات كثيفة، وهو ما دعم الحياة الحيوانية والبحرية في منطقة كان فيها الفن الصخري القديم للسكان الأصليين، وقد أدى هذا التحول بدوره إلى تعزيز بيئة ألهمت الموضوعات والحيوانات في الفن الصخري القديم.
انعكاس البيئة على الفن الصخري
في النتائج التي توصلوا إليها والتي نشرت في دورية "بلوس وان" (PLOS ONE) اليوم، يقول الباحثون إن التغييرات البيئية في البحيرة تنعكس في الفن الصخري لأن الأسماك والتماسيح والطيور ظهرت في الفن عندما تحولت السهول الفيضية، وهي منطقة من الأرض المنخفضة المجاورة للنهر، تتكون أساسًا من رواسب الأنهار وعرضة للفيضانات، لتعزيز موائل المياه العذبة لأنواع حيوانية جديدة.
ويقول الدكتور جاراد نولسار، المؤلف الأول والمساعد البحثي في كلية العلوم الإنسانية والفنون والعلوم الاجتماعية في جامعة فليندرز، إن رسم الخرائط يغير بشكل أساسي فهمنا الأثري للمناظر الطبيعية الخلابة في أراضي أرنيم "هذا مشهد رئيسي لفهم الاستيطان البشري المبكر لأستراليا. تُمكِّن إعادة بناء ريد ليلي لاغون من النمذجة التنبؤية الفعالة للمواقع الحضارية البارزة وتوفر طريقة مهمة لتفسير وجود مواد الحضارة الأصلية ومنشأها".
ويضيف أن "توقيت الفن الصخري يتوافق مع التغييرات البيئية الأوسع التي نعتقد أنها حدثت في هذا المكان. ويتضح هذا من خلال التغييرات في موضوع الفن، مثل ظهور الجرابيات الكبيرة، وظهور أنواع حيوانات مصبات الأنهار مثل الأسماك والتماسيح في الفن. إن إدراج أنواع المياه العذبة، مثل الأسماك والطيور، ينعكس على أحدث الأساليب الفنية لهذه المنطقة، وهذا يعكس مراحل التغير البيئي عندما تكون سهول المياه العذبة هي التي شكلت المناظر الطبيعية".
فهم أفضل للتاريخ القديم
يقول الباحث إنه "بناء على نتائج هذه الدراسة، كانت جميع مواقع العصر الجليدي في غرب أراضي أرنيم بالقرب من المحيط، وبالتالي، كانت مستنقعات للأيكة الساحلية في مرحلة ما في أثناء تحوّلٍ لهذه الرقعة الطبيعية. وهذا له آثار مهمة على الإعدادات الجغرافية القديمة لهذه المواقع، التي يجب أخذها في الاعتبار عند تفسير التغييرات في المصنوعات اليدوية الحجرية، والموارد الغذائية، وتركيب نظائر المواد من هذه الفترة من الأستراليين الأوائل".
من جهته، يقول المؤلف المشارك الأستاذ المساعد إيان موفات إن التصوير المقطعي بالمقاومة الكهربائية (ERT) طريقة سريعة ومنخفضة التكلفة يمكنها رسم خرائط لمناطق كبيرة من الرقع الطبيعية الأسترالية لفهم تاريخها القديم بشكل أفضل "نحن نعرض كيف يمكن استخدام بيانات التصوير المقطعي بالمقاومة الكهربائية لتطوير نماذج المناظر الطبيعية التي تكون مفيدة عندما يتعلق الأمر بفهم المواقع المعروفة وكذلك التنبؤ بالمواقع الأثرية المدفونة".
ويضيف "لقد أثبتنا أنه يمكن رسم خرائط المناظر الطبيعية لهذه المنطقة بشكل فعال باستخدام طرق بسيطة. وهذا له آثار مهمة في تحديد مواقع جديدة، لكن أيضا لتطوير فهم أكثر دقة للجغرافيا الإقليمية، وتأثيرها على السلوك البشري في الماضي".
ويكمل حديثه قائلا "تتمتع ريد ليلي لاغون بأهمية أثرية استثنائية في أراضي أرنيم، حيث تقع في واحدة من أقصى النقاط الشرقية من السهول الفيضية لنهر إيست أليجاتور، حيث يشكل النهر الحديث وهضبة أرنيم حدا مهما بين السهول الفيضية المنخفضة ومرتفعات الحجر الرملي، التي استوطنها البشر لأكثر من 60 ألف عام، وهي موضع لعدد لا يحصى من المواقع المهمة، بما في ذلك بعض اللوحات الفنية الصخرية الأكثر شهرة في أستراليا".