من خلال وصف خسوف القمر.. كيف أخبرنا رهبان العصور الوسطى عن شدة النشاط البركاني آنذاك؟
كلما كان الخسوف أكثر إشراقا كان الغلاف الجوي أكثر وضوحا في ذلك الوقت، حيث يشير الخسوف الداكن إلى مستوى أعلى من جزيئات الهباء في الغلاف الجوي العلوي، وهو مؤشر على النشاط البركاني الذي حدث في تلك الفترة
قبل أن يبدأ البشر بتسخين الكوكب عن طريق حرق الوقود الأحفوري في القرن الـ19 مرت الأرض بفترة باردة استمرت لقرون عدة وعرفت باسم "العصر الجليدي الصغير".
ويعتقد العلماء أن موجة البرد هذه قد تكون ناجمة جزئيا عن الانفجارات البركانية التي جعلت الغلاف الجوي أكثر ضبابية، مما أدى إلى حجب بعض أشعة الشمس.
وتعتبر سجلات هذه الانفجارات البركانية قليلة، إضافة إلى أن جزءا كبيرا من معلوماتنا عنها -التي تكون منقوصة أو متناقضة في بعض الأحيان- يرجع إلى ما تم الاحتفاظ به في كل من الجليد القطبي وحلقات الأشجار.
وفي دراسة جديدة نشرت في دورية "نيتشر" (Nature) وجد فريق دولي من الباحثين بقيادة سيباستيان جيليت من جامعة جنيف طريقة أخرى للتعرف على هذه الانفجارات البركانية التاريخية، وذلك من خلال دراسة أوصاف خسوف القمر في مخطوطات العصور الوسطى التي كتبت باللاتينية من قبل رهبان أو رجال دين أوروبيين.
خسوف داكن
ووفقا لما ورد في مقال نشره بعض باحثي الفريق على موقع "ذا كونفرسيشن" (The Conversation) يوم السادس من أبريل/نيسان الجاري، فقد جمع الباحثون مئات السجلات عن خسوف القمر من جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط وآسيا، ووثقوا 187 حالة خسوف بين عامي 1100 و1300.
واستهدف فريق سيباستيان الأوصاف التي توفر معلومات عن سطوع ولون القمر أثناء الخسوف، وصنف الباحثون لون وسطوع القمر المذكور في كل خسوف كلي، ووجدوا أنه كلما كان الخسوف أكثر إشراقا كان الغلاف الجوي أكثر وضوحا في ذلك الوقت، حيث يشير الخسوف الداكن إلى مستوى أعلى من جزيئات الهباء في الغلاف الجوي العلوي، وهو مؤشر على النشاط البركاني الذي حدث في تلك الفترة.
وقارن الباحثون بيانات الخسوف مع سلوك جزيئات الهباء في الغلاف الجوي ورصد الأقمار الصناعية الحديثة، إضافة إلى الأدلة المناخية من سجلات حلقات الأشجار التاريخية، ليتمكنوا بعدها من تقدير توقيت الانفجارات بشكل أكثر دقة من السجلات الجليدية السابقة ومن تحديد الانفجارات التي وصلت إلى طبقة الستراتوسفير التي يرجح أنها تسببت بتأثيرات تبريد مناخية.
خسوف القمر وحالة الغلاف الجوي
عندما تتحاذى الشمس والأرض والقمر بشكل مثالي فإن كوكبنا يمنع أشعة الشمس المباشرة من الوصول إلى سطح القمر، ومع ذلك فإن الغلاف الجوي للأرض يحرف ضوء الشمس عن كوكبنا، ونتيجة لذلك يصل بعض ضوء الشمس إلى القمر حتى أثناء الخسوف الكلي.
يعمل الغلاف الجوي للأرض على تشتيت ضوء الشمس، ويعمل كمرشح لوني عملاق بحيث كلما زادت زرقة الضوء زاد تبعثره، وهذا قد يفسر سبب زرقة السماء في النهار واحمرار الشمس عند الفجر والغسق.
وخلال الخسوف الكلي للقمر يقوم الغلاف الجوي للأرض بتصفية ضوء الشمس الواصل إلى القمر، مما يؤدي إلى إزالة الكثير من الضوء الأزرق والأصفر.
وتتحكم حالة الغلاف الجوي للأرض لحظة الخسوف الكلي للقمر في مقدار الضوء الذي يتم ترشيحه.
كيف تؤثر البراكين على خسوف القمر؟
تخيل حدوث خسوف كلي للقمر أثناء اندلاع حرائق الغابات في الخارج، وستضخ الحرائق الدخان والغبار في الغلاف الجوي للأرض، مما يجعل القمر أكثر احمرارا وأكثر قتامة أثناء الخسوف.
وهو ما يقودنا إلى تأثير البراكين، حيث تضخ أكبر الانفجارات البركانية كميات هائلة من المواد في طبقة الستراتوسفير الأرضية، والتي يمكن أن تبقى معلقة في تلك الطبقة لعدة أشهر.
ووفقا لما ورد في تقرير نشره موقع "ساينس ألرت" (Science Alert)، فقد وجد الباحثون أن درجة سطوع القمر أثناء خسوفه تعتمد على كمية المواد الموجودة/ المعلقة في الستراتوسفير، وهكذا نستنتج أن خسوف القمر سيكون أغمق بشكل ملحوظ من المعتاد في الأشهر التي تلي انفجارا كبيرا.
كيف تؤثر البراكين على المناخ؟
يمكن للانفجارات البركانية أن تقذف كميات هائلة من الرماد وثاني أكسيد الكبريت وغازات أخرى في الغلاف الجوي، كما يمكن أن تسبب الانفجارات إما التبريد أو الاحترار (بشكل مؤقت)، وتعتمد شدة التأثير على ما يقذفه البركان ومدى ارتفاع العمود وموقع البركان أيضا.
وإذا وصل ثاني أكسيد الكبريت إلى طبقة الستراتوسفير فإنه يتفاعل مع بخار الماء لتشكيل حجاب/ ساتر طويل الأمد من رذاذ الكبريتات، ويعمل هذا الهباء مع الرماد البركاني على منع الإشعاع الشمسي وتبعثره، مما يؤدي غالبا إلى تبريد سطح الأرض.
وعلى سبيل المثال، أدت الانفجارات البركانية الكبيرة مثل ثوران جبل بيناتوبو في الفلبين عام 1991 وثوران بركان تامبورا عام 1815 في إندونيسيا إلى انخفاض طفيف في درجة الحرارة العالمية في السنوات التي أعقبت ثوران البركان، حيث شهدت أوروبا وأميركا الشمالية "عاما بدون صيف" في عام 1816عقب ثوران بركان تامبورا.
من ناحية أخرى، فإن لبخار الماء وثاني أكسيد الكربون اللذين ينبعثان من الانفجارات البركانية تأثيرا مسببا للاحترار، ولكنه يعتبر قليلا نسبيا مقارنة بثاني أكسيد الكربون المنبعث من الأنشطة البشرية، حيث إن جميع الانبعاثات البركانية الحالية تنتج أقل من 1% مما تنتجه الأنشطة البشرية.
ماضي ومستقبل البراكين والخسوف والمناخ
في هذه الدراسة أتاح الجمع بين الملاحظات التاريخية وسجلات الجليد وإعادة بناء نماذج المناخ من حلقات الأشجار إمكانية تحديد توقيت أكثر دقة لتلك الانفجارات البركانية القديمة.
وسمح لنا أيضا بفهم أفضل لتأثيرها المحتمل على المناخ خلال العصور الوسطى الأوروبية، ويمكن أن تساعدنا هذه المعلومات على فهم الدور الذي ربما لعبته هذه الانفجارات في الانتقال إلى العصر الجليدي الصغير.
ويمكن القول إنه لحدوث كسوف "مظلم" في المستقبل سيتطلب الأمر حدوث ثوران بركاني أشد لوضع كميات كبيرة من الهباء الجوي في طبقة الستراتوسفير التي يزداد ارتفاعها مع زيادة درجة حرارة الغلاف الجوي.