إكسير الحياة.. تطبيقات علمية عديدة لحياة صحية مديدة

تعد محاربة الشيخوخة وإطالة العمر من العلوم الحديثة التي لم تتخذ شكلها الحالي سوى خلال عقود قليلة مضت، لكن البحث عن خلود البشر ظل أمرا يشغل أذهان الفلاسفة ومن بعدهم العلماء عبر العصور

حلم الشباب الدائم راود البشر منذ فجر التاريخ مما دفع الفلاسفة والعلماء إلى البحث عن كيفية تحقيق ذلك (شترستوك)

راود حلم الشباب الدائم البشر منذ فجر التاريخ، وتعود أقدم تلك المحاولات إلى علماء الصين القديمة الذين استخدموا الأعشاب والوخز بالإبر، واعتمدوا على ممارسة التأمل والأنشطة الرياضية، ولجؤوا إلى "الخيمياء" التي تعد علما بدائيا استغله الأقدمون محاولين تطوير ما عرف باسم "إكسير الحياة" عبر خلط مواد مختلفة مثل المعادن، لكنهم لم ينجحوا في محاربة أضرار تقدم العمر.

وفي اليونان القديمة نحو عام 400 قبل الميلاد صنف الفيلسوف أفلاطون الإصابة بالمرض والأعراض المتعلقة بتقدم السن ظاهرتين مختلفتين، واقترح أن عيش حياة صحية يسهم في حماية الجسم خلال مرحلة الشيخوخة.

وعلى العكس من ذلك اعتقد تلميذه أرسطو أن التقدم في العمر مرض طبيعي يصيب الإنسان ويؤثر سلبا في رجاحة العقل.

وبدأ الاهتمام بعلوم محاربة الشيخوخة وإطالة العمر (Anti-aging and Longevity Sciences) في القرن الـ16 حينما ألف الإيطالي لويجي كورنارو كتاب "فن العيش الطويل" (The Art of Living Long) الذي أشار خلاله إلى أهمية الحفاظ على حيوية الجسم أثناء أعوام الشيخوخة بالتزام تناول الغذاء الصحي وعيش حياة منظمة.

وفي القرن الـ19 أجرى الأطباء في مستشفيات باريس دراسات عدة أشارت إلى حدوث تغيرات فيسيولوجية عديدة داخل جسم الإنسان عند وصوله إلى مرحلة الشيخوخة، وذلك عبر متابعة التغيرات التي تصيب الخلايا مع تقدم السن، الأمر الذي كشف أن فقدان الجسم حيويته لا يؤثر وحده في الصحة العامة خلال العمر المتقدم، مما يعني أن قضاء سنوات صحية مديدة يستدعي ما هو أكثر من مجرد اتباع أنظمة غذائية صحية ورياضية.

أفلاطون اقترح أن عيش حياة صحية يسهم في حماية الجسم خلال مرحلة الشيخوخة (شترستوك)

معدل الوفيات وارتباطه بالنظام الغذائي

وفي بدايات القرن العشرين اتجه الباحثون إلى دراسة معدلات الوفيات الخاصة بالكائنات أحادية الخلية (مثل بعض أنواع البكتيريا والفطريات) والفئران والبشر، فلاحظوا وجود تشابه بين تلك المعدلات في مختلف الكائنات، وهو زيادة احتمالية الوفاة مع تقدم العمر.

واستنتج العلماء أن تقدم العمر أمر واجب الحدوث، لكنه بالإمكان إبطاء معدله عند تطبيق تدخلات معينة، أحدها الحد من السعرات الحرارية (Caloric Restriction)، وقد أجريت تجارب عدة لاختبار هذه الفرضية على الفئران، أهمها دراسات كلايف ماكاي.

خلال التجارب خصص ماكاي للفئران وجبات ذات سعرات حرارية أقل مع إمدادها بالفيتامينات والمعادن اللازمة للنمو، وقد أشارت النتائج المنشورة عام 1935 إلى أن تلك الفئران عاشت حياة أطول بنسبة 40% مقارنة بالأخرى التي تناولت الطعام بحرية.

واستنتج ماكاي أن الحد من السعرات الحرارية يؤخر تطور معاناة الأمراض المقترنة بتقدم السن، واهتم بتطبيق فرضياته على أنواع مختلفة من الكائنات والبشر أيضا.

وقبل ذلك بعدة أعوام درس عالم الميكروبيولوجي الروسي إيليا متشنيكوف آلية عمل جهاز المناعة، ورجح أن تقدم العمر عملية تنتج من وجود بكتيريا ضارة في المعدة، وأشار إلى أن تناول الأطعمة المتخمرة مثل الزبادي قد يسهم في إطالة العمر لأنها تعزز وجود البكتيريا المفيدة.

وحصل متشنيكوف على جائزة نوبل عام 1908 في الطب والفسيولوجيا لاكتشافه آلية "البلعمة" (Phagocytosis)، وتعني قدرة بعض خلايا الجسم على ابتلاع الأجسام الغريبة المسببة للأمراض.

التيلوميرات تسلسلات من الحمض النووي في نهاية كل كروموسوم لحماية أطرافه من التشابك وضمان سلامته (شترستوك)

تطورات متعاقبة في محاربة تقدم السن

وفي منتصف القرن العشرين توصل عالم الأحياء الأميركي ليونارد هايفليك إلى أن خلايا جسم الإنسان الطبيعية تمتلك قدرة محدودة على الانقسام، أي أنها تنقسم لفترة معينة ثم تتوقف خلال فترة الشيخوخة، وهي الفرضية التي عرفت باسم "حد هايفليك" (Hayflick Limit)، ولا تؤدي شيخوخة الخلايا (Cellular Senescence) إلى موتها، إنما تسبب بقاءها وإطلاقها مواد كيميائية تزيد حدة الالتهابات.

ومن الإسهامات المهمة في مجال محاربة تأثير تقدم السن اكتشاف "التيلوميرات" (Telomeres)، وهي تسلسلات الحمض النووي الموجودة بنهاية كل كروموسوم، ووظيفتها حماية أطراف الكروموسومات من التشابك، مما يضمن الحفاظ على سلامتها، ومع انقسام الخلايا تصير التيلوميرات قصيرة حتى تصل إلى الحد الذي يمنع ذلك الانقسام فتموت الخلايا.

وأجرت الباحثة إليزابيث بلاكبيرن وزملاؤها أبحاثا عدة بين عامي 1982 و1989 لدراسة آلية عمل التيلوميرات ودراسة إنزيم "تيلوميريز" (Telomerase) المسؤول عن إصلاح عيوب التيلوميرات، وهي الأبحاث التي ساعدت على اكتشاف العلاقة بين تلك المواد وشيخوخة الخلايا.

وقد حازت الباحثة على جائزة نوبل عن اكتشافاتها في العام 2009، ومهدت تلك الاكتشافات طريقا جديدا نحو استخدام "تيلوميريز" في إطالة عمر الخلايا.

وفي تسعينيات القرن الماضي اكتشف الباحثون السيرتوينات (Sirtuins)، وهي مجموعة من البروتينات الموجودة في مختلف الكائنات الحية، أولها اكتشاف "سير 2" (Sir2) المسؤول عن عدة وظائف مهمة بالجسم، منها إصلاح الحمض النووي، والحفاظ على استقرار الكروموسومات، ويعتقد العلماء أن الحفاظ على تلك البروتينات أو تنشيطها قد يسهم في إطالة أعمار البشر، ويعد البروفيسور ديفيد سنكلير أحد أشهر الباحثين في هذا المجال.

شينيا ياماناكا حصل على جائزة نوبل نظرا لتطويره وسيلة تعيد برمجة خلايا جلد الفئران إلى خلايا جذعية (شترستوك)

تعديل الجينات والأدوية وإعادة برمجة الخلايا لحياة أطول

كما وجد باحثون عدة مجموعة من الروابط بين الجينات وشيخوخة الخلايا، منهم عالمة الجينات سينثيا كينيون التي استطاعت تعديل أحد جينات الديدان من فصيلة "سي إليغانز" (C. Elegans)، وقد أدى ذلك التعديل إلى مضاعفة أعمار تلك الديدان وعيشها حياة صحية، مما لفت الانتباه إلى إمكانية تعديل الجينات لمحاربة الشيخوخة.

ومع بدايات القرن الـ21 طور الباحثون دواء "راباميسين" (Rapamycin) لعلاج بعض أنواع السرطانات، إضافة إلى تثبيط المناعة للحد من رفض الجسم الأعضاء المزروعة.

وقد أشار بحث منشور في دورية "ساينس" (Science) إلى أن هذا الدواء بإمكانه إطالة أعمار بعض أنواع الفئران في ظروف معينة، الأمر الذي دفع الباحثين إلى إجراء مزيد من الدراسات حوله.

وفي العام 2012 حصل العالم الياباني شينيا ياماناكا على جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا، نظرا لتطويره وسيلة لإعادة برمجة خلايا جلد أحد أنواع الفئران إلى خلايا جذعية غير ناضجة.

وتمكن ياماناكا من تحقيق ذلك الإنجاز من خلال التعرف على بعض الجينات وتفعيلها لعكس عملية نضوج الخلايا.

للعلماء العرب إسهامات مميزة في أبحاث الشيخوخة

بدوره، أسهم البروفيسور شريف الخميسي نائب مدير معهد "هيلثي لايف سبان" التابع لكلية العلوم الحيوية بجامعة شيفيلد البريطانية ومدير مركز علوم الجينوم الأسبق بمدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا والابتكار المصرية في عدد من الدراسات المرتبطة بعلوم محاربة الشيخوخة وإطالة العمر، لعل أبرزها الدراسة المنشورة بدورية "نيتشر نيوروساينس" (Nature Neuroscience)، والذي اكتشف وفريقه البحثي خلالها آلية موت الخلايا العصبية لدى مرضى "التصلب الضموري الجانبي" (Amyotrophic Lateral Sclerosis) أو "إيه إل إس" (ALS).

الخميسي يعمل على تطوير أدوية سينوليتكس التي تكافح البروتينات السامة التي تفرزها الخلايا المسنة (جامعة برادفورد)

وأشار الخميسي خلال حواره مع الجزيرة نت إلى نتائج تلك الدراسة قائلا "تفرز الخلايا العصبية لدى مرضى "إيه إل إس" بروتينات سامة، وتلتهم خلايا الجسم تلك البروتينات طبيعيا خلال عملية تسمى "الالتهام الذاتي" (Autophagy).

وما وجدناه أن خلايا الجسم قد تلتهم أيضا الجزيئات المسؤولة عن إصلاح الحمض النووي البشري المتضرر، مما يزيد تضرر الحمض النووي ويؤدي إلى موت الخلايا العصبية.

وعن دراساته المقبلة يقول الخميسي "نسعى حاليا إلى اكتشاف الأسباب المشتركة للإصابة بالأمراض المقترنة بتقدم السن محاولين تأخير ظهورها وتفاقمها، ونعمل إلى جانب عدة مختبرات على تطوير أدوية تسمى "سينوليتكس" (Senolytics) تهدف إلى مكافحة البروتينات السامة التي تفرزها "الخلايا المسنة" (Senescent Cells)، لأن تلك البروتينات معدية، أي أنها تعزز إفراز الخلايا المجاورة مزيدا من البروتينات السامة".

وخلاصة الأمر أنه حتى الآن لا يمكن الجزم بوجود علاج أو وسيلة تساعدنا على عيش حياة مديدة، وقد أسهم تقدم تكنولوجيا الصحة في إطالة أعمار البشر، لكنه تسبب أيضا في إصابتهم بأمراض عدة ربما لم يختبرها الأقدمون، لذا يظل البحث عن كيفية الحد من تلك الأمراض أمرا يهم الباحثين.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية