الدكتورة سحر سليم تشرح كيف أسهم علم الأشعة في كشف أسرار التحنيط وإعادة كتابة التاريخ

يقدم علم أشعة الآثار إمكانية دراسة الآثار وفحصها، ولكن بطريقة آمنة تحفظ لنا التراث الثمين الذي يسمح لنا بفهم أفضل للحضارة الإنسانية وطريقة معيشة الإنسان منذ آلاف السنين، كالحرف التي امتهنها وحياته الاجتماعية بصفة عامة.

مومياء الصبي الصغير متحف القاهرة
سحر سليم: كشف مومياء الصبي الذهبي هو نتاج تعاوني مع إدارة المتحف المصري بالقاهرة (مواقع التواصل)

لطالما ارتبط اسم الباحثة المصرية الدكتورة سحر سليم، أستاذة الأشعة التشخيصية بكلية طب قصر العيني، والمختصة في علم أشعة الآثار بالبحوث والدراسات حول المومياوات الملكية المصرية القديمة، إذ أصبحت من الخبراء العالميين في هذا المجال والوحيدة في الوطن العربي.

وللدكتورة سحر سليم أيضا مساهمات جليلة في مجال طب الأشعة، فلقد تمكنت من توصيف العديد من التشوهات الخلقية لأول مرة وتحديد السبب الوراثي والطفرات الجينية أو الخلل الكيمائي الذي أحدثها. كما تخصصت في فحص الأجنة بالرنين المغناطيسي في أثناء فترة الحمل، وتمكنت من وضع أول بروتوكول في العالم لفحص قلب الجنين بالرنين المغناطيسي.

عن أسرار المومياوات المصرية الملكية ونشاطها العلمي في مجال الأشعة الطبية، حدثتنا الدكتورة سحر في هذا الحوار عبر البريد الإلكتروني:

في متحف الحضارة مع شاب مصري عمل في محجر نزلة خاطر ب سوهاج منذ ٣٥ الف عام- متحف الحضارة المصرية بالفسطاط-القاهرة
سحر سليم في متحف الحضارة (مواقع التواصل)
  • المعروف أن الأشعة الطبية موجهة للطب، فكيف تحول استعمالها إلى إعادة بناء وجوه وأجسام المومياوات؟

بداية، استخدام الأشعة في دراسة المومياوات يعود إلى وقت اكتشاف الأشعة الغامضة (أشعة إكس) في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 1895 من قبل الفيزيائي الألماني فيلهلم رونتغن.

وبعد عدة شهور على هذا الاكتشاف الكبير، تقرر تجربة الأشعة الغامضة على مومياوات مصرية قديمة لطفل وقطة قبل استخدامها على الإنسان الحي. فأظهرت صور الأشعة ما بداخل المومياوات الملفوفة بالكامل دون الحاجة لفك اللفائف أو تشريحها من أجل دراستها، كما كان معتادا في تلك الفترة، فاستخدام علم أشعة الآثار تزامن مع ميلاد علم الأشعة نفسه.

  • وكيف كانت بداياتك مع هذا التخصص المذهل؟

بدأت في دراسة استخدام الأشعة في دراسة الآثار والمومياوات في أثناء دراستي الطب بجامعة وسترن أونتاريو في كندا. ففي أول يوم دراسة لي في المستشفى تصادف وصول مومياء من المتحف المحلي لعمل فحص بالأشعة المقطعية لها، وحينها التحقت لدراسة أشعة الآثار بجانب دراستي الطب وأصبحت ممارسة لها لأكثر من 19 عاما، أي منذ عام 2004 إلى الوقت الحالي.

تساعد الأشعة المقطعية في عمل مجسم ثلاثي الأبعاد على الحاسوب للمومياء (أو أي جزء منها أو تمثال أو تميمة)، واستخدام الطباعة الثلاثية الأبعاد لعمل مجسم ملموس للمومياء أو الأثر يساعد على دراسة الأثر وإثراء العرض المتحفي. وهذا ما لجأت له في طباعة مجسم لإعادة تركيب وجه الملك توت عنخ آمون، ولطباعة تميمة جعران القلب بداخل مومياء الصبي الذهبي في المتحف المصري بالقاهرة.

أنا حاليا عضو في مشاريع مهمة تابعة لوزارة السياحة والآثار المصرية، حيث قمت بفحص مئات المومياوات. وقد أسهمت بصفتي عضو اللجنة العلمية لسيناريو العرض بمتحف الحضارة في عمل العرض المتحفي لقاعة المومياوات الملكية، وكذلك هياكل ما قبل التاريخ في متحف الحضارة وغيرها من المشاريع.

الدكتورة سحر سليم في إحدى محاضراتها
الدكتورة سحر سليم خبيرة عالمية تلجأ لها متاحف العالم للمشورة والدعم مثل متحف ميدستون (مواقع التواصل)
  • هل هناك في الوطن العربي من هو متخصص في هذا المجال؟ وما مستوى تقدمه؟

كان لي حظ كبير في دراسة هذا التخصص وممارسته على نطاق واسع مع وزارة السياحة والآثار المصرية لقرابة 20 عاما، مما أكسبني تجربة ثرية وفريدة من نوعها.

على المستوى العربي، لا يوجد ممارس متخصص أشعة دارس لهذا العلم، وأتشرف أن أكون خبيرة عالمية تلجأ لي متاحف العالم للمشورة والدعم مثل متحف ميدستون (Maidstone Museum) في إنجلترا حيث تعاملت مع المسؤولين عنه كثيرا.

  • أين تكمن بالضبط أهمية هذا التخصص وما الإضافات التي قدمها للبحث العلمي العربي؟

يقدم علم أشعة الآثار إمكانية دراسة الآثار وفحصها، ولكن بطريقة آمنة تحفظ لنا التراث الثمين الذي يسمح لنا بفهم أفضل للحضارة الإنسانية وطريقة معيشة الإنسان منذ آلاف السنين، كالحرف التي امتهنها وحياته الاجتماعية بصفة عامة. ويسهم تخصص أشعة الآثار في تجسيد شكل الإنسان ومعرفة الأمراض القديمة مما يسهم في فهم أعمق للأمراض المعاصرة.

كما تسهم أشعة الآثار في إعطاء المعلومات عن الآثار مما يساعدنا في صيانتها والحفاظ عليها، وأيضا في عمل عرض متحفي مميز باستخدام صور الأشعة بجانب المومياوات في تجربة فريدة لزوار المتحف.

  • حدثينا عن مؤلفاتك وخاصة كتاب "مسح الفراعنة" مع العالم زاهي حواس؟ وعن دراساتك العلمية التي ناهزت 55 دراسة؟

وثقت أبحاثي في الطب و أبحاثي في علم الآثار عن طريق نشرها في مجلات علمية محكمة، بالإضافة إلى ذلك لدي مساهمات في العديد من الكتب الطبية وكذلك في علوم الآثار، وكتابي "مسح الفراعنة" (The Scanning the Pharaohs) يسجل عملي في فحص المومياوات (ملوك وملكات مصر القديمة)، وقد حصد الكتاب عديدا من الجوائز العالمية، مثل جائزة "بروز" لأفضل كتاب علمي شعبي من قسم النشر المهني والعلمي للناشرين الأمريكيين – واشنطن العاصمة فبراير/شباط 2017.

صورة لغلاف كتاب مسح الفراعنة
سحر سليم شاركت مع زاهي حواس في إصدار كتاب "مسح الفراعنة" (الجزيرة)
  • تشاركين حاليا مع وزارة السياحة والآثار المصرية في مشروع كبير حول فحص المومياوات، حدثينا عن هذا المشروع، وما تم إنجازه إلى حد اليوم وكم مومياء تمت دراستها؟

اشتركت في عديد من مشروعات دراسة المومياوات بالأشعة، وذلك في مصر وخارجها أيضا مع متاحف عالمية، وكذلك فحص المومياوات في الحفائر في سقارة والمخازن المتحفية، حيث فحصت المئات من المومياوات منذ عام 2004 إلى الآن.

لكن من أبرز المشروعات التي أعمل عليها هو مشروع المومياوات الملكية مع وزارة السياحة والآثار المصرية، الذي فحصت فيه 40 مومياء ملكية بالأشعة المقطعية، ومن بينها -على سبيل المثال لا الحصر- مومياوات الملك توت عنخ آمون وابنتيه، والملك أمنحوتب الأول، ورمسيس الثاني، وتحتمس الثالث.

  • بماذا تتميز المومياوات المصرية عن باقي المومياوات في الحضارات القديمة؟

توجد أجساد محفوظة في أماكن متفرقة بالعالم، مثل بيرو وتشيلي والصين وإيطاليا، لكن تبقى المومياوات المصرية هي الأفضل حفظا حيث حظيت بعمليات تحنيط متقدمة عكس البلاد الأخرى، حيث في معظمها حفظت الأجساد بواسطة الطبيعة.

  • آخر أبحاثك كانت عن مومياء الصبي الذهبي، ماذا كانت نتائجها؟

في الغالبية العظمى من أبحاثي أقوم بدراسات الأشعة للمومياوات وأتعاون في ذلك مع علماء آثار مصريين مثل زاهي حواس ومحمود الحلوجي. لذلك، فدراساتي في الغالب بفرق عمل مصرية خالصة.

وكشف مومياء الصبي الذهبي هو نتاج تعاوني مع إدارة المتحف المصري بالقاهرة لدراسة المقتنيات المغلقة بالكامل والمحفوظة بقبو المتحف المصري بدون أي دراسة.

هذه المومياء تم تخزينها في القبو منذ عام 1916، أي منذ أكثر من قرن من الزمان من دون أي دراسة، وبفحصي لها بواسطة الأشعة المقطعية كشفت أن المومياء لصبي عمره 14 أو 15 عاما. جسده محفوظ جيدا بواسطة عملية تحنيط متقنة، حيث تمت إزالة المخ والأحشاء كالمعتاد مع وضع عدد كبير من التمائم يبلغ عددها 49 تميمة.

مومياء توت عنغ أمون
الدكتورة سحر سليم قامت بفحص 40 مومياء، منها مومياء الملك توت عنخ آمون (مواقع التواصل)
  • قبل ذلك كانت لك أبحاث عن كثير من مومياوات الفراعنة، مثل رمسيس الثاني والمرأة الحامل وأمنحوتب وغيرها من المومياوات، هل يمكن أن تحدثينا عنها وعن نتائجها وما يميزها؟

تتميز أبحاثي بانتهاج المنهج العلمي السليم في البحث والتحليل الدقيق وكذلك المحافظة على الآثار ودراستها بشكل آمن من دون إحداث أي ضرر أو تدمير.

وتمكنني الأشعة، وخصوصا المقطعية، من معرفة الكثير عن المومياوات، وقد أسهمت أبحاثي في كشف أسرار التحنيط مثل تحنيط الدماغ ووضع حشوات تجميلية تحت جلد المومياء شبيهة بعمليات التجميل في الطب الحديث.

كما أسهمت أبحاثي عن المومياوات الملكية في اكتشاف حقائق حول طريقة معيشة الأقدمين وحالتهم الصحية وأسباب وفاتهم، وهذا ساعد في تصحيح كثير من المفاهيم الخاطئة وإعادة كتابة التاريخ.

ومن الأمثلة على ذلك، اغتيال الملك رمسيس الثالث -في ما يعرف بمؤامرة الحريم- فالمعروف أنه تعرض لمحاولة اغتيال لقلب نظام الحكم من قبل إحدى زوجاته وابنه، لكن لم يذكر التاريخ هل تم الاغتيال أم نجا الملك، وعندما فحصت مومياء الملك أظهرت الأشعة المقطعية أنه تم نحر عنق الملك وبُتر الإصبع الأكبر بقدمه اليسرى، وهكذا فقد أعادت الأشعة المقطعية كتابة التاريخ.

وبالنسبة للمومياء المصرية المحفوظة في متحف وارسو ببولندا، زعمت دراسة أن المومياء حامل، ولكن اتضح لي بعد دراسة المقالة المنشورة وجود خطأ في نتيجة البحث مع افتقاره للمعرفة بفنون التحنيط والطب الشرعي، فما تم اعتباره جنينا بداخل المومياء ما هو إلا حشوات تحنيط ولا تحمل أي صفات تشريحية لجنين.

  • ما الأبحاث التي تعملين عليها حاليا؟

أعمل حاليا على تحليل نتائج لعدة مومياوات ملكية وغير ملكية كنت قد فحصتها مؤخرا بالأشعة المقطعية، وأستكمل عملي في حفائر سقارة بفحص المومياوات داخل آبار الدفن على عمق 30 مترا تحت الأرض باستخدام أجهزة أشعة نقالة، وذلك للحفاظ على المومياوات من التدمير في حال نقلها من البئر إلى الخارج.

صورة بالاشعة المقطعية لمومياء الصبي الصغير
سحر سليم استخدمت الأشعة المقطعية والطباعة الثلاثية الأبعاد لدراسة المومياوات المصرية (مواقع التواصل)
  • وكيف يمكن استخدام تطبيقات التعرف على المجرمين في دراسة المومياوات؟

إعادة تركيب تفاصيل الوجه على الجمجمة بتقنية الأشعة المقطعية هو ما يتم استخدامه بواسطة المحققين في الجرائم للتعرف على الجماجم التي يتم العثور عليها ويُعتقد أنها من جرائم قتل.

وقد قمت باستخدام التقنية نفسها لإعادة تركيب وجه الملك توت عنخ آمون، والملك رمسيس الثاني، وذلك عن طريق عمل مجسم ثلاثي الأبعاد بصور الأشعة المقطعية للجمجمة، وبعدها يقوم علماء الأنثروبولوجيا الشرعية بتركيب عضلات الوجه على الجمجمة باستخدام قياسات علمية محددة تختص بكل عرق وجنس.

وقد تم ذلك على مجسم بطريقة الطباعة ثلاثية الأبعاد لتركيب الملك توت عنخ آمون، وإلكترونيا بواسطة الحاسوب لتركيب وجه الملك رمسيس الثاني. وفي حالة الأخير، استطعنا عمل تصور لشكل الملك رمسيس الثاني في عمر وفاته في التسعين، وكذلك في سن الـ54 عاما أي في ذروة مجده العسكري.

  • لديك أيضا أبحاث في التخصصات الطبية عن التشوهات الخلقية للدماغ، ما النتائج والآفاق؟

أبحاثي في الطب متعددة وتشمل فحوصات الدماغ والجهاز العصبي، إذ استطعت مع زملائي توصيف عديد من التشوهات الخلقية لأول مرة وتحديد السبب الوراثي والطفرات الجينية أو الخلل الكيمائي الذي أحدثها.

كما تخصصت في فحص الأجنة بالرنين المغناطيسي في أثناء فترة الحمل، وتمكنت من وضع أول بروتوكول في العالم لفحص قلب الجنين بالرنين المغناطيسي. وكذلك تمكنت من وصف العديد من التشوهات الخلقية للأجنة في الدماغ وغيره من أعضاء الجنين.

كما أسهمت في أبحاث متقدمة في العلاج الجيني للأجنة المصابة بأمراض في المخ، مثل مرض "متلازمة جوبير" (Joubert Syndrome) التي نجحت على مستوى التجارب على الفئران، مما قد يفتح بابا لعلاج الإنسان.

المصدر : الجزيرة + مواقع التواصل الاجتماعي