الانتقال اللحظي.. العبث في الزمكان وعجائب فيزياء الكم
كثيرا ما ألقت الأعمال الفنية والأدبية ظلالا من الخيال العلمي على حبكاتها المشوّقة، وكان الانتقال اللحظي من نقطة إلى أخرى يتربّع على عرش تلك الشَطحات الخيالية، ففي سلسلة روايات الفانتازيا "هاري بوتر" للكاتبة البريطانية جاي. ك. رولينغ كان لأبطال القصّة قدرة خاصة على التخفّي والظهور في مكان آخر لحظيا، وعادة ما تكون هذه العملية مقرونة بصوت قرقعة، وتعد إحدى وسائل التنقّل في عالم السحرة، ووفق القوانين المنتهجة، فإنّ استخدام هذه الوسيلة لا يعد مشروعا إلا بترخيص من وزارة الشعوذة والسحر، فحالها كحال قيادة السيارات والعربات وما يمكن الإخلال بالأمن والنظام العام.
ورغم الآلية المبهمة في الرواية الخيالية لحدوث ذلك الانتقال الآني، سعى عدد من الفيزيائيين إلى ترجمة هذا النوع من الخيال العلمي على أرض الواقع بطرق علمية معقدة. ففي عام 1993 نشر الفيزيائي الأميركي تشارلز بينيت ورقة بحثية بعنوان "الانتقال الآني لحالة كمومية غير معروفة عبر القنوات الكلاسيكية المزدوجة" وذلك عقب المؤتمر السنوي للجمعية الفيزيائية الأميركية ذلك العام، وفيها برهن رياضيا على أنّ قوانين فيزياء الكم غير المألوفة تسمح بهذا النوع من الانتقال اللحظي، لكن على المستوى الذرّي وما دونه فحسب.
فأجريت التجارب الفيزيائية تباعا حول العالم لتحقيق هدف صعب المنال، وظهرت أولى النتائج بعد فترة وجيزة تشير إلى إمكانية حدوث ذلك، وقد كان الفريق النمساوي بقيادة الفيزيائي أنطون تسايلينغر أول من نجح في تحقيق انتقال آني ناجح على مستوى الفوتون، وهو جسيم أوّلي معني بنقل الأشعة الضوئية.
وما كان قد حدث بالفعل هو انتقال المعلومات الكمومية من فوتون إلى آخر تفصل بينهما مسافة دون وجود أيّ روابط فيزيائية، وهذا الانتقال الكمومي للمعلومات، أو بمعنى آخر انتقال الحالة الكمومية من فوتون إلى آخر، يحدث فقط عند وجود ما يُعرف بالتشابك الكمّي (Quantum Entanglement).
ويعبّر التشابك الكمّي عن علاقة وثيقة على مستوى الخصائص والصفات بين زوجين من الجسيمات الذرية، مثل البروتونات والإلكترونات، وينشأ التشابك الكمي عن طريق التفاعلات المباشرة وفقا لمبادئ ميكانيكا الكم، كما يمكن إجراء هذا التشابك مخبريا، ومهما بلغت المسافة الفاصلة بين الجسمين الذريين المتشابكين، فإنّ التغيرات التي تطرأ على حالة وصفات الجسيم الأوّل تنعكس على الآخر.
تصوير التشابك الكمّي
وفي دراسة مفاجئة أعلن عنها من جامعة أوتاوا الكندية وجامعة سابينزا الإيطالية نُشِرت في مجلة "نيتشر فوتونيكس" في 14 أغسطس/آب الماضي، تمكن الباحثون من تطوير تقنية قادرة على التقاط صور أزواج متشابكة من الفوتونات؛ تسمح لهم هذه التقنية مراقبة الدالة الموجية للنظام الكمي، والتي توفر معلومات مفصلة عن الحالة الكمومية لكافة الجسيمات المعنية.
استخدم فريق البحث تقنية "التصوير بالتجسيم الرقمي" (Digital Holography)، وهي تقنية شائعة الاستخدام تعمل على تصوير الأجسام ثلاثية الأبعاد عبر ضوء مبعثر، وبتركيب موجات الفوتونات المتشابكة مع موجات مرجعية (Reference Waves) يصبح ممكنا فك تشفير الحالة الكمومية. وكانت الصورة الناتجة للدالة الموجية للفوتونات المتشابكة تشبه الرمز الصيني الشهير "اليين واليانغ"، وهو مشهد يجسّد حقيقة نمط التشابك الكمّي بين الفوتونات في الدراسة.
تطبيقات عملية مرتقبة
وفي ما يتعلّق بالتطبيقات العملية، أقدم مجموعة من الباحثين الصينيين عام 2017 على تطوير نموذج يسمح بنقل حالات كمية بين الجسيمات على مسافات شاسعة تعدت حاجز 1400 كيلومتر، وأجريت تجاربهم على نطاق الفضاء الخارجي في مجال التطبيقات الحاسوبية مثل الإنترنت الكمي، إذ اُستخدمت أقمار اصطناعية ومحطات أخرى على الأرض لإجراء التجربة. وقد نجحوا في نقل معلومات كمومية من مرصد أرضي إلى قمر اصطناعي يقبع في مدار أرضي منخفض؛ مما فتح الباب على إمكانية الاتصال الكمّي في بقاع مختلفة من العالم، وحتى على مستوى الكواكب، والذي يُعد حالة نموذجية ومتطوّرة للغاية في عالم الاتصال والإنترنت.
ولاحقا أكد العلماء والباحثون على قدرتهم على نقل المعلومات بين الفوتونات الموجودة على رقائق الحاسوب حتى في ظل غياب الروابط المادية والفيزيائية بين الفوتونات. ووفقا لدراسة حديثة صادرة عن جامعتي "روتشستر" و"بوردو" الأميركيتين، فإنّ الانتقال اللحظي للبيانات بين الإلكترونات بات أيضا ممكنا، وهذا يُعد قفزة هائلة في عالم الحواسيب الكمية، فقدرة الاتصال وسرعة نقل البيانات ومعالجتها سيفوق قدرة الدوائر الكهربائية التقليدية بمراحل.
وقد شهدت السنوات الأخيرة تطورا متواترا في مجالات عدّة كالمجال الطبي والعسكري للبحث عن إمكانية تطويع تقنية الانتقال اللحظي من خلال توفير معالجات وأجهزة استشعار أسرع وأعلى كفاءة. ورغم أنّ الانتقال اللحظي بين الجسيمات ظاهريا ممكن؛ بسبب طبيعة قوانين فيزياء الكم، يقف العلماء عاجزين عن الإجابة عن إمكانية حدوث الانتقال الآني على مستويات أكبر من الجسميات الذرية، على مستوى الإنسان على سبيل المثال.
فثمّة عدة عقبات لتحقيق ذلك والأمر أقرب للاستحالة بالنظر إلى العدد المهول من الذرات التي يتكوّن منها الإنسان، والتي يبلغ متوسطها نحو 7 مليارات مليار مليار ذرّة في جسم الإنسان الطبيعي، فإنّ تحليل ونقل هذا الكم الكبير من المعلومات يتطلّب طاقة عظيمة لا يمكن لأيّ حاسوب استيعابها.
ومعضلة أخرى تتمحور حول تبعات الانتقال الآني وهي عند إنشاء نسخة جينية جديدة في مكان ما من الكون تحتوي على جميع الذكريات والأفكار والطباع والسمات الخلقية والأخلاقية، فإنّ ذلك يستوجب تدمير النسخة الأصلية بكل ما تحتويه من ذرات، وهذه مسألة أخلاقية مختلف عليها في الأوساط العلمية، هذا فقط إذا تمكن الإنسان من اجتياز العقبة الأولى.
وجدير بالذكر أن جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2022 قد مُنِحت إلى علماء فيزياء الكم الفرنسي آلان أسبكت والأميركي جون كلاوسر والنمساوي أنطون زيلينجر في إطار بحثهم وإنجازاتهم في ما يتعلّق بالانتقال اللحظي والتشابك الكمّي على مستوى ميكانيكا الكم، وهو ما يعد بمستقبل حافل.