رغم حصولهما على جائزة نوبل قبل 70 عاما.. واتسون وكريك لم يكتشفا الحمض النووي

في عام 1953 توصل واتسون وكريك إلى الشكل الحلزوني المزدوج للحمض النووي (شترستوك)

بدخولنا العام الميلادي الحالي 2023 يكون قد مضى على أحد أهم اكتشافات القرن الـ20 نحو 70 عاما، ففي العام 1953 تمكن عالم البيولوجيا الأميركي جيمس واتسون والفيزيائي الإنجليزي جيمس كريك من اكتشاف الشكل الحلزوني المزدوج للحمض النووي "دي إن إيه" (DNA).

وقد نشر الباحثان -صغيرا السن- آنذاك نتائج دراستهما في دورية "نيتشر" (Nature) المرموقة، واستحق ذلك الاكتشاف حصولها لاحقا في العام 1962 على جائزة نوبل في الفيسيولوجيا أو الطب مشاركة مع موريس ويلكنز.

ويشيع بين عموم الجمهور مفهوم خاطئ مفاده اكتشاف واتسون وكريك الحمض النووي، وهو أمر بعيد تماما عن الحقيقة، فلقد ساهم علماء عدة في اكتشاف الحمض النووي عبر عدة سنوات.

بين عامي 460 و375 قبل الميلاد وضع أبقراط فرضية "شمولية التخلق" (شترستوك)

فرضيات فلاسفة الإغريق

قبل نشوء العلوم الطبية المتخصصة عمد الفلاسفة الأقدمون إلى التأمل ودراسة ما يحيط بهم في الطبيعة، واجتذبت فكرة كيفية انتقال الصفات بين الآباء والأبناء أبقراط المعروف بـ"أبو الطب". وخلال الفترة ما بين عامي 460 و375 قبل الميلاد وضع أبقراط فرضية "شمولية التخلق" (Pangenesis).

وأشارت هذه الفرضية إلى أن انبعاث "بذور خفية" من أعضاء الجسم الخاصة بالوالد، والتي تعمل بمثابة مكونات بنائية مصغرة تنتقل للأم عبر العلاقة الحميمية، ثم تتجمع تلك المكونات لتشكل الجنين في رحم الزوجة.

وأدلى أرسطو لاحقا بدلوه في ذلك الموضوع مؤكدا على أهمية الدم في انتقال الصفات الوراثية، فقد اعتقد أن الدم يوفر "مواد توليدية" (Generative material) لتأسيس كافة أعضاء الجسم الخاصة بالرجل البالغ، وآمن أن سائل الرجال المنوي ما هو إلا دم نقي.

عمل مندل أثناء تجاربه على تهجين أنواع البازلاء المختلفة في حديقة دير سانت توماس (شترستوك)

انطلاق شرارة العلوم الوراثية

اشتغل جريجور مندل -الذي يعود إليه فضل اكتشاف علم الوراثة- وظائف عدة، فقد كان مدرسا، وعالما متخصصا في دراسة النباتات، وراهبا في أحد الأديرة بمدينة "برون" (Brünn) التابعة آنذاك للإمبراطورية النمساوية.

وأجرى مندل في حديقة الدير أهم تجاربه التي استهدفت تعقب الصفات الوراثية عبر أجيال النباتات المهجنة، وقد اختار "نبات البازلاء" (Pisum sativum) لإجراء تجاربه نظرا لسهولة زراعتها، والقدرة على التحكم في عملية التلقيح، إلى جانب امتلاكه سلالات متنوعة يسهل التمييز بينها.

وعمل مندل في أثناء تجاربه على تهجين أنواع البازلاء المختلفة، وخلصت نتائج تلك التجارب إلى أن انتقال الصفات الوراثية من جيل لآخر يعتمد على "وحدات وراثية" ثنائية (أي وحدة وراثية من الأب وأخرى من الأم)، وتتفكك هذه الوحدات الثنائية في أثناء عملية التزاوج (التخصيب)، ويستعاد الربط بينها خلال تكوين الجنين.

وقدم مندل نتائج تجاربه خلال العام 1865 في محاضرتين منفصلتين إلى علماء "ناتشورال ساينس سوسيتي" (Natural science society) بمدينة برون، ونشرت ورقته البحثية بعنوان "تجارب على النباتات الهجينة" في دورية هذا المجتمع العلمي.

فصل ميشر مادة جديدة من نواة كريات الدم البيضاء تختلف عن كل الجزيئات الحيوية المعروفة (دائرة المعارف البريطانية)

اكتشاف الحمض النووي للمرة الأولى

وفي عصر توصل فيه الباحثون إلى أن الخلايا تمثل الوحدات الأساسية للحياة، اهتم عالم الكيمياء الحيوية السويسري فريدريك ميشر بدراسة مكونات تلك الخلايا، ففحص الضمادات الممزوجة بصديد المرضى، وفصل منها كريات الدم البيضاء التي تتميز بامتلاكها نواة كبيرة الحجم.

وفي العام 1869 استطاع ميشر خلال تجاربه فصل مادة جديدة من نواة تلك الخلايا تختلف كل الاختلاف عن الجزيئات الحيوية المعروفة آنذاك، مثل البروتينات، وذلك نظرا لطبيعة تلك المادة الجديدة الحمضية التي تحتوي على عنصر الفوسفور.

وأطلق ميشر على هذه المادة اسم "Nuclein" نسبة إلى "النواة" (Nucleus)، ونظرا لبساطة الأدوات المستخدمة خلال ذلك العصر، لم يستطع العالم السويسري تحديد دورها الفعلي في جسم الإنسان، ونشر نتائج أبحاثه لاحقا في العام 1874.

اكتشافات طورت مفهوم الحمض النووي

وخلال الأعوام اللاحقة توصل باحثون عدة إلى عدد من الاكتشافات المهمة التي أسهمت في اكتشاف حقيقة الحمض النووي، ففي العام 1879 استطاع والتر فليمنج وصف سلوك الكروموسوم في أثناء انقسام الخلايا الحيوانية خلال عملية الانقسام "الميتوزي" (Mitosis)، وتعني انقسام الخلية بكل ما تحتويه من مواد إلى نسختين متطابقتين تماما.

وصف والتر ساتون سلوك الكروموسوم أثناء انقسام الخلايا الحيوانية عام 1879 (شترستوك)

ولاحقا في العام 1902 أكد الأميركي والتر ساتون صحة افتراضات جريجور مندل، عبر ملاحظته تطابق نتائج الانقسام الميوزي (Meiosis) (الانقسام الخاص بخلايا التكاثر الذي يؤدي إلى تكوين خليتين مختلفتين عن بعضها البعض) على أرض الواقع بالنماذج التي قدمها مندل.

وفي نفس العام أثبت الطبيب الإنجليزي أرشيبالد جارود أن مرض البول الأسود أو ألكابتونوريا (Alkaptonuria) -وهو مرض وراثي نادر- ينتقل من الآباء إلى الأبناء طبقا للقواعد المندلية.

التعرف على الجينات

ثم كان أن توصل عالم الأحياء الأميركي توماس مورجان وفريقه البحثي إلى أن الكروموسومات هي التي تحمل تلك الوحدات الوراثية خلال عام 1911، وهي الوحدات التي أطلق عليها "الجينات" من قبل.

وخلال سنوات من العمل المستمر ظهرت الكثير من الحقائق، لعل أهمها توصل الباحثين الثلاثة: أوزوالد أفري وكولين ماكليود وماكلين مكارثي، إلى دور الحمض النووي المهم، وهو التأثير في صفات الخلايا.

واختلف الباحثون عبر سنوات حول الجزيء المسؤول عن نقل الصفات الوراثية، هل هي البروتينات متعددة التركيبات، أم ذلك الحمض النووي الصغير، وحسم الأمر عن طريق تجربة ألفريد هرشي ومارثا تشيس الشهيرة المعروفة.

يُحزَم الحمض النووي داخل أنوية الخلايا بإحكام شديد على هيئة كروموسومات (غيتي)
توصل ألفريد هرشي ومارثا تشيس إلى حقيقة حمل الحمض النووي للصفات الوراثية (غيتي)

رؤية جديدة لعلم ينمو

لم يعثر واتسون وكريك على مادة جديدة، إنما اعتمدا على كل ما سبق -وأكثر- من دراسات من أجل بناء نموذج مجسم ثلاثي الأبعاد يحاكي تخيلهم لشكل الحمض النووي.

ولم يكن هذا الاكتشاف ليحدث إلا بمساهمة الكيميائية روزالند فرانكلين، التي استطاعت تصوير الحمض النووي باستخدام "أشعة إكس" (X-ray Crystallography)، وهي الصورة التي أظهرت شكله المماثل للسلم اللولبي.

وقد أشار الشكل الجديد إلى إمكانية احتواء الحمض النووي على ملايين الجزيئات، وتوضح الأمثلة أن طول الحمض النووي البشري الكامل قد يصل إلى 108 مليارات كيلومتر.

المصدر : مواقع إلكترونية