صناعة الإسمنت.. إلى أي حد تضر بالبيئة وكيف نحد من هذا الضرر؟
بسبب أهمية الإسمنت في تشييد مختلف المشروعات وعدم القدرة على الاستغناء عنه يبحث العلماء جاهدين عن وسائل لتخفيف أضراره المؤثرة في درجة حرارة الأرض
يشهد العالم حاليا زيادة ضخمة في عدد سكانه، فقد وصل إلى ما يزيد على 8 مليارات نسمة، الأمر الذي يشير إلى حاجة أولئك البشر إلى إقامة المزيد من المشروعات العمرانية مثل المساكن والمصانع والشركات، إلى جانب طرق النقل.
ولضمان تأسيس أبنية قادرة على مواجهة مختلف الظروف الطبيعية، مثل الزلازل وعوامل التعرية، وعلى الاستمرار أعواما طويلة دون الحاجة إلى إعادة بنائها، يعتمد البشر على الخرسانة، تلك المادة التي طالما استخدمت عبر العصور لتشييد المباني المتنوعة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsتقرير أممي جديد: زيادة في استهلاك الطاقة والانبعاثات من قطاع البناء والتشييد
دراسة جديدة.. الطين أفضل الوسائل لتنقية الجو من الميثان
بينما تستمتع دول الشمال الغنية بالمنتجات تعاني دول الجنوب بسببها من الانبعاثات
وتتميز الخرسانة بسهولة التصنيع وانخفاض تكلفة الإنتاج، إلى جانب متانتها المعهودة، إلا أن تصنيعها صار محط أنظار كل المهتمين بالحفاظ على جودة الحياة في كوكبنا، لأن تصنيع الإسمنت (المادة الرئيسة المكونة للخرسانة) يؤثر سلبا على المناخ، مما يهدد كافة المجهودات المبذولة للحد من تأثير التغيرات المناخية والتكيف معها.
الإسمنت لاعب أساسي في التشييد
منذ أكثر من ألفي عام، اعتمد اليونانيون والرومانيون على الإسمنت لتشييد المباني، وصنعوه عبر خلط الجير مع الرماد البركاني والماء لينتج عن هذا الخليط مادة صلبة تسمى الإسمنت الهيدروليكي.
ويعتقد البعض أن استخدام الإسمنت بدأ منذ أكثر من 8 آلاف عام في كل من سوريا والأردن. ومع تقدم العصور ظهر الإسمنت البورتلاندي (Portland cement) الذي طوره جون سميتون لأول مرة عام 1756، وقد استخدمه أثناء تشييد منارة إديستون بإنجلترا.
ولاحقا تطورت صناعة الإسمنت عبر إحراق مادة الجير الطينية في إنجلترا وفرنسا خلال القرن الـ 17، وفي الولايات المتحدة اعتمد تصنيع الإسمنت على إحراق مادة طبيعية عرفت باسم صخرة الإسمنت (Cement rock").
وينسب تطوير الإسمنت البورتلاندي عادة إلى جوزيف أسبدين الإنجليزي الذي حصل على براءة اختراع للمادة التي طورها عبر مزج الحجر الجيري والطين، ويعود اسم "بورتلاند" إلى أحد أنواع الأحجار الجيرية التي استخدمت في البناء بإنجلترا.
صناعة الإسمنت والانبعاثات
وطبقا لمعهد الأبحاث والدراسات "تشاتام هاوس" (Think tank Chatham house) تتسبب صناعة الإسمنت في نحو 8% من الانبعاث الكربوني حول العالم، مما يتخطى ضعف الانبعاثات الناتجة عن أنشطة الطيران والشحن، وهو يعد ثاني أكثر المواد استخداما في العالم بعد الماء.
ويبلغ الإنتاج العالمي السنوي نحو 4 مليارات طن إسمنت، لإقامة المشروعات المختلفة. وتعتبر الصين الأكثر تصنيعا للإسمنت، وما زالت عملية تصنيعه في زيادة مستمرة، خاصة الدول النامية، مثل بلدان جنوب شرق آسيا، وبعض دول الشرق الأوسط.
ويقول تقرير نشرته منصة "بي بي سي" (BBC) الإخبارية إن إنتاج الإسمنت عبر العالم تضاعف نحو 4 مرات مقارنة بالعام 1990، وإن الصين والهند والولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي وفيتنام وتركيا ومصر هي أكثر الدول إنتاجا للإسمنت.
لماذا يصدر الإسمنت كل تلك الانبعاثات؟
وتعتمد صناعة الإسمنت على خطوات بسيطة، تتضمن خلط الحجر الجيري والطين وطحنهما، ثم إضافة بعض المواد لهذا الخليط مثل الحديد، ومن ثَم وضع المزيج داخل أفران ذات درجة حرارة تقارب 1400 درجة مئوية لإنتاج مادة "كلنكر" وبعد تبريدها تطحن وتخلط بالجبس والحجر الجيري.
وخلال هذه العملية يصدر الكربون مرتين، الأولى خلال تسخين الخليط داخل الأفران اعتمادا على الوقود الأحفوري للوصول إلى درجة الحرارة المرتفعة تلك، والثانية أثناء تكون "كلنكر" إذ يتم ذلك عبر تفاعل كيميائي ينتج عنه غاز ثاني أكسيد الكربون.
وتقدر كمية الغاز الناتجة عن كلتا المرحلتين بنحو 600 كيلوغرام لكل طن من الإسمنت، وهي كمية كبيرة تعيق المجهودات المبذولة لتجنب عدم زيادة متوسط حرارة الكوكب.
وقد أوصت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (Intergovernmental panel on climate change – IPCC) بضرورة خفض الانبعاثات الكربونية كي لا تتخطى درجة الحرارة 1.5 درجة مئوية، مما يعني ضرورة خفض تلك الانبعاثات بنسبة 45% مطلع عام 2030 مقارنة بكمية الانبعاثات الصادرة عام 2010.
محاولات متعددة على نطاق محدود
واستجابة لدعوات خفض الانبعاثات الناتجة عن الإسمنت، ظهرت محاولات ومبادرات مختلفة لحل المشكلة، منها شركة "بيوماسون" "BioMason" الأميركية التي تهدف إلى تصنيع الكتل الخرسانية عبر وضع الرمال في قوالب، ومن ثم حقنها بكائنات دقيقة دون الحاجة إلى التسخين باستخدام الوقود الأحفوري، وهي عملية مشابهة لعمليات تكون الشعاب المرجانية.
وفي السويد أجرت شركة فاتنفال "Vattenfal" دراسة أشارت إلى إمكانية تصنيع الإسمنت اعتمادا على الكهرباء بدلا من الوقود الأحفوري، وفي فرنسا استطاعت إحدى الشركات الاستفادة من الكربون المنبعث عبر التقاطه (Carbon capture).
وفي حديث خاص للجزيرة نت عبر الإيميل، أشار بول فينيل -الأستاذ بقسم الكيمياء الهندسية بجامعة إمبريال كوليدج لندن الإنجليزية- إلى أهمية الاعتماد على تطبيق تقنيات التقاط الكربون وتخزينه (Carbon capture and storage) من أجل الحد من الانبعاثات الناتجة عن صناعة الإسمنت، مؤكدا أنه "لا يوجد بديل حقيقي آخر نظرا للطريقة المتبعة في صناعة الإسمنت".
الحل الأمثل لإسمنت صديق للبيئة
وفي دراسة منشورة بدورية جول "Joule" بعنوان "إزالة الكربون من صناعة الإسمنت" يشير البروفيسور فينيل وفريقه البحثي إلى أهمية تشييد مصانع الإسمنت المدعومة بتقنيات التقاط الكربون وتخزينه، والاعتماد على استخدام النفايات الصلبة البلدية التي تنتج انبعاثات كربونية أقل.
وبسؤاله عما إذا كان يتم تطبيق تلك التقنيات الوقت الحالي، أجاب بأن "العديد من مصانع الإسمنت تعتمد حاليا على إحراق النفايات الصلبة، وتطبق بعض الشركات تقنية التقاط الكربون، مثل شركتي "كالكس" (Calix) و"نورتسم" (Norcem).
وعن إمكانية تطبيق تلك التقنيات بالدول النامية، يقول "بالتأكيد، إلا أن الاعتماد على تلك التقنيات قد يرفع من سعر الإسمنت بعض الشيء".