ثمرة 20 عاما من البحوث التفصيلية.. بيت الحكمة يصدر كتابا حديثا يبحث في الأصول الجينية للتونسيين
يضم هذا الكتاب في طيّاته إضاءات حول الاستيطان القديم والحديث للبلاد التونسية وفق ما أثبته علم وراثة المجموعات الإنسانية، وتمّ تقييم وتأريخ الهجرات الاستيطانية لتونس وشمال أفريقيا، استنادا للتنوع الجيني العالي للسكان التونسيين الحاليين.
صدر خلال سبتمبر/أيلول الماضي عن بيت الحكمة بتونس كتاب علمي باللغة الفرنسية أشرفت على إعداده البروفيسورة آمال بن عمار قعيد تحت عنوان "التونسيون من هم ومن أين جاؤوا؟ حقائق من وحي علم الوراثة" (Les Tunisiens qui sont ils? D’où viennent ils? Les révélations de la génétique).
وآمال بن عمار هي مديرة قسم العلوم في "أكاديمية العلوم والآداب والفنون – بيت الحكمة"، ورئيسة الجمعية التونسية للمناعة، وعضو المجلس العلمي لمعهد باستور بتونس.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعلى خلاف الشائع.. الطاعون الأسود لم يفتك بنصف سكان أوروبا
هل حصل البريطانيون على أصول جيناتهم ولغاتهم من فرنسا قبل 3 آلاف عام؟
أصل غير متوقع تكشف عنه جينات شعوب أميركا الجنوبية المفقودة
ويضم هذا الكتاب في طيّاته إضاءات حول الاستيطان القديم والحديث للبلاد التونسية وفق ما أثبته علم وراثة المجموعات الإنسانية، وتمّ تقييم وتأريخ الهجرات الاستيطانية لتونس وشمال أفريقيا، استنادا للتنوع الجيني العالي للسكان التونسيين الحاليين.
20 سنة من البحث المتواصل في أصول التونسيين
تشير البروفيسورة آمال بن عمار قعيد في حوارها مع الجزيرة نت عبر البريد الإلكتروني إلى أن هذا العمل هو حصاد أكثر من 20 سنة من البحث قام به فريق يتكون من 8 من العلماء والباحثين المختصين في علم الوراثة، وهم أعضاء مخبر علم الوراثة والمناعة والأمراض البشرية بكلية العلوم بتونس، كانوا قد أنجزوا ما يقرب من 40 ورقة بحثية علمية منشورة في كبرى المجلات العلمية المرموقة، وقد تم تجميع نتائجها في هذا الكتاب من أجل الحصول على صورة واضحة حول أصول التونسيين لفترة تعود إلى ما قبل التاريخ وبالتحديد بين 15 ألف و20 ألف سنة مضت.
وتوضح قعيد أن العمل استند إلى ملاحظة حول تواتر الأمراض الوراثية في تونس وتنوعها، فكان الهدف هو فهم الخصائص الوبائية المحلية عبر دراسة البنية الوراثية للسكان الأصحاء.
واتجهت الجهود خلال إنجاز الكتاب لجعله مبسّطا وموجها إلى أوسع دائرة من القراء، من ذلك أنه مباشرة بعد المقدمة، نجد فصلا يلخص الكتاب بأكمله بطريقة مبسطة، ثم فصلا آخر يعطي فكرة مبسطة حول أساسيات علم الوراثة.
علم الوراثة السكانية لتحديد الأصول
المنهجية المعتمدة في هذا العمل هي منهجية علم الوراثة السكانية، وهو فرع من علم الوراثة يهتم بالتباين الوراثي لدى السكان. ففي علم الأحياء، يشير السكان إلى مجموعة من الأفراد من نفس النوع الحي، يقيمون في إقليم معين. وهكذا، غالبا ما تؤخذ وحدة المكان كمعيار لتحديد السكان: على سبيل المثال سكان المدينة نفسها أو القرية نفسها.
وتوضح البروفيسورة قعيد أنه في معظم المواقع التونسية الـ27 التي تمت دراستها، قام فريق البحث بتناول عينات من المواد البيولوجية للتحليل الجيني لحوالي 50 شخص بالغ غير مرتبطين، يتمتعون بصحة جيدة ويوافقون على المشاركة في الدراسة.
وقد تم تحليل 3 أنواع من الواسمات الجينية؛ تلك الخاصة بالكروموسوم "واي" (Y) التي تنتقل من الأب إلى الابن (الوراثة الأبوية) لتتبع تاريخ الرجال، وتلك الموجودة في الحمض النووي للميتوكوندريا التي تنقلها الأم إلى أبنائها وبناتها (وراثة الأم)، لتتبع تاريخ النساء، وأخيرا العلامات الموروثة من كلا الوالدين لوصف التاريخ المشترك للرجال والنساء.
التنوع في شمال أفريقيا أهم النتائج
تقول البروفيسورة قعيد إنه تم التوصل من خلال هذا العمل إلى مجموعة من النتائج، لعل من أبرزها امتداد استيطان شمال أفريقيا إلى عصور ما قبل التاريخ، حيث وُجد التهجين والاختلاط، وأثرت الأحداث الديمغرافية للعصرين الحجريين القديم والحديث كثيرا في التركيبة الوراثية للسكان الحاليين لتونس، كما أنّ الوافدين على شمال أفريقيا خلال الحقب التاريخية قد أثروا في التنوع الجيني للمرحلة السابقة.
فالتاريخ الاستيطاني مركب، قائم على تهجين قديم متعدّد الاطوار. وما يميز البنية الجينية للسكان التونسيين الحاليين هو طابعها الفسيفسائي القائم على تمايز الأصول الوراثية للسكان دون أي تأثير عرقي أو جغرافي أو ألسني.
وتضيف قعيد، لقد بيّن التأريخ، عن طريق مؤشرات التنوع الجيني، أنّ الأصول الجينية القادمة من أفريقيا جنوب الصحراء تعود إلى أكثر من 20 ألف سنة قبل الحاضر. فالأصول الوراثية الشمال أفريقية الأبوية منبثقة مباشرة من أصل وراثي أفريقي تطور بشمال أفريقيا وأصبح مميزا لهذه المنطقة من العالم.
وينضاف إلى هذه الوفود الأفريقية الأولى العنصر الأيبيري أو الأيبيروموريسي صانع الحضارة الساحلية الأيبيروموريسية. حيث يعود تاريخ الهجرة الأيبيرية لشمال أفريقيا وفق ما تبيّنه الأبحاث إلى ما يزيد على 10 آلاف سنة خلت.
واللافت للنظر حسب الدكتورة قعيد أنّ العنصر الأيبيري الوافد كان حصريا من الإناث. وتجدر الإشارة إلى أنّ التهجين الأيبيروموريسي مع العنصر الأفريقي المحلّي يعتبر دون شك العامل الثاني الذي حدّد الهوية الوراثية لشمال أفريقيا عامّة والبلاد التونسية خاصة.
وتلخص البروفيسورة قعيد النقاط الرئيسة المشتركة بين هؤلاء السكان بالقول إن التحليلات "تشير إلى أن أصول سلالات الأم والأب في تونس مختلفة، من حيث المكونات الأوروبية والشمال أفريقية والشرق أوسطية، وما يعود منها إلى جنوب الصحراء الكبرى. ففي الواقع، 72% من أصول الأب هي شمال أفريقية، في حين أن 70% من سلالات الأمهات أوراسية وخاصة أوروبية (45%)".
وتقول البروفيسورة قعيد، "تكشف دراساتنا عن قاعدة أسلاف متنوعة للغاية لأن البربر الذين يُعتبرون السكان الأصليين هم في الحقيقة نتاج تزاوج متعدد يعود إلى عصور ما قبل التاريخ ويتميز بتنوع كبير، ولم تؤد تحركات السكان على مر التاريخ إلا إلى إبراز هذا التنوع الجيني وهذا ما يثبت الى حد كبير أن الأمازيغ هي ثقافة وليست مجموعة عرقية بالمعنى الوراثي للمصطلح".
وحول الوفود القادمة من الشرق الأوسط والأدنى، يوضح الكتاب أن تلك الوفود تعود إلى عصور ما قبل التاريخ أيضا ومعظمها تزامن قدومها مع انتشار الفلاحة خلال العصر الحجري الحديث، وتتفاوت المساهمات الشرق الأوسطية حسب الجهات بشمال أفريقيا عامة وتونس خاصة.
وعلى مر التاريخ، استمرت التحركات السكانية في البحر الأبيض المتوسط بفضل التجارة البحرية للفينيقيين، حيث يشهد وجود كروموسوم "واي" (Y) الفينيقي في مدينة سوسة، وهي مدينة أسسها الفينيقيون ولم يتم تدميرها خلال الحروب البونيقية، على استمرارية الاستيطان منذ التأسيس.
أما بالنسبة إلى الموريسكيين الذين استقروا في تونس وأسسوا المدن والقرى الأندلسية، فلديهم بنية وراثية في شمال أفريقيا، إذ تشير الدراسة إلى أنهم من نسل البربر والعرب، وتتوافق هذه النتائج مع المعطيات التاريخية، إذ يبدو أنهم أحفاد أولئك الذين فتحوا إسبانيا خلال الفتوحات الإسلامية، وكانوا أساسا من البربر والعرب، وتم طردهم منها بعد 10 قرون.
التطبيقات العملية.. نحو شرح الملامح الوبائية للأمراض الوراثية بتونس وشمال أفريقيا
يكشف هذا العمل وفق البروفيسورة قعيد أن سكان شمال أفريقيا لديهم بنية معقدة بشكل خاص يجب أخذها في الاعتبار بعناية عند دراسة الأمراض الوراثية في هذه المنطقة، سواء في دراسة الحالات أو في استخدام مجموعات التشخيص التي قد لا يتم تكييفها مع سكاننا.
ويقدم هذا الكتاب حججا يمكن أن تفسر خصائص علم الأوبئة الوراثية في شمال أفريقيا بالاستناد إلى عاملين مهمين حسب البرفيسورة التي تقول "نذكر بشكل رئيس السلوكيات الزوجية مثل الزواج الداخلي الذي يؤدي تدريجيا إلى حالة متماثلة الزيجوت للجينات. وعندما تحمل جينات معينة طفرات متنحية مسؤولة عن الأمراض الوراثية، يمكن أن تكون هذه الأمراض شائعة في المناطق ذات الزيجة الداخلية العالية. وعلاوة على ذلك، فإن التأثير التأسيسي سيكون مرتبطا بعدم تجانس الأمراض الوراثية".
هذا ويتم وصف مئات الطفرات الضارة في تونس، والتي قد يكون بعضها خاصا بالسكان التونسيين أو مشتركا مع مجموعات سكانية أخرى. وفي أكثر من نصف حالات الأمراض الوراثية في تونس ليست الطفرات نفسها أو الجينات نفسها هي المسؤولة عن المرض بين العائلات أو بين المناطق.
ويرتبط هذا التباين بالتنوع الأصلي للسكان ويكشف مرة أخرى عن البنية الجينية الفسيفسائية للسكان التونسيين ويتم شرحه على المستوى الفسيولوجي المرضي من خلال إشراك العديد من البروتينات المختلفة لضمان وظيفة.
وعموما تتجلى أهميّة هذه الدراسة في المستوى العملي، أي من حيث تطبيقاتها في مجالات مختلفة كالطب الشرعي، وشرح الملامح الوبائية للأمراض الوراثية بتونس وعلم الوراثة الدوائية.