ما مصير نظريات ستيفن هوكينغ الجامحة؟ ما ثبت منها وما لم يثبت بعد؟

ستيفن هوكينغ يلقي محاضرة على كرسيه المتحرك المزود بتكنولوجيا حاسوبية متطورة (غيتي)

كان ستيفن هوكينغ من كبار علماء الفيزياء الفلكية في العصر الحديث، وقد اشتهر بظهوره في وسائل الإعلام الشعبية وصراعه مدى الحياة مع المرض الذي أقعده وشل حركته، غير أن تأثيره الحقيقي يتمثل في مسيرته العلمية المرموقة على مدار 5 عقود، وهي مسيرة بدأت بأطروحة لنيل درجة الدكتوراه عام 1966 واستمرت بلا توقف حتى ورقته العلمية الأخيرة في 2018 التي اكتملت قبل وفاته بأيام في عمر الـ76.

كتب أندرو ماي، الحاصل على دكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة مانشستر في المملكة المتحدة، في موقع "لايف ساينس" (Live Science) مقالاً عرض فيه لنظريات ستيفن هوكينغ الغريبة التي أثارت دهشة العلماء وقت طرحها وما زالت تربك العلماء، ابتداء من نظرياته المذهلة عن الثقوب السوداء إلى شرحه لبدايات الكون.

نظريات ثبتت أو عززت وجودها

تجسد أبحاث ونظريات هوكينغ مستويات متقدمة للغاية من علم الفيزياء، ورغم أن نظرياته كانت شاذة وعصية على التصديق في البداية، فإنها بدأت تشق طريقها إلى القبول في الأوساط العلمية مع توالي الأدلة الجديدة التي تعزز صحتها.

رسم توضيحي لتمدد الكون ابتداء من الانفجار العظيم قبل 13.8 مليار سنة (غيتي إيميجز)

نظرية الانفجار الكبير تفوز

إعلان

عندما قدم هوكينغ أطروحة الدكتوراه كان الجدل محتدمًا حول نظريتين متعارضتين لتفسير نشأة الكون هما: الانفجار الكبير والحالة المستقرة. كلتا النظريتين اتفقت على تمدد الكون واتساعه، غير أن الأولى رأت أن الكون يتوسع انطلاقًا من حالة فائقة الكثافة والتركيز في وقت محدد في الماضي، أما الثانية وهي نظرية الحالة المستقرة، فتفترض أن الكون يتمدد منذ الأزل مع استمرار إنشاء مواد جديدة للحفاظ على استقرار الكثافة.

أثبت هوكينغ في أطروحته أن نظرية الحالة المستقرة تناقض نفسها رياضيًا، وقال إن الكون بدأ بنقطة متناهية الصغر، متناهية الكثافة أسماها "حالة التفرد"، واليوم تحظى نظرية هوكينغ بالقبول بين العلماء إلى حد الإجماع.

أول صورة لثقب أسود التقطها تلسكوب "أفق الحدث" ونشرتها المؤسسة الوطنية للعلوم في 2019 (غيتي)

الثقوب السوداء حقيقية

بخلاف كل نظرياته واكتشافاته، ذاعت شهرة هوكينغ وارتبطت بالثقوب السوداء، وهي نوع آخر للمواد في حالة "التفرد" تنشأ عندما يشهد النجم انهيارًا كاملًا بفعل جاذبيته.
والثقوب السوداء ظلت لفترة طويلة افتراضات رياضية نشأت من رحم نظرية أينشتين للنسبية العامة، وقد دار حولها جدل كبير بين العلماء حتى حول هوكينغ انتباهه إليها في أوائل السبعينيات.

تجلت عبقرية هوكينغ عندما مزج بين معادلات أينشتاين الرياضية مع معادلات ميكانيكا الكم، ليحول ما كان في السابق افتراضًا نظريًا إلى ظاهرة كونية حقيقية وموجودة، وقد جاء الإثبات الأخير على صحة هوكينغ في عام 2019 عندما التقط "تلسكوب أفق الحدث" (Event Horizon Telescope) صورة مباشرة لثقب أسود عملاق يكمن في قلب المجرة العملاقة "مسييه 87" (Messier 87).

إشعاع هوكينغ

وسميت بالثقوب السوداء لأن جاذبيتها قوية حتى أن الفوتونات أو جزيئات الضوء لا تستطيع الفكاك والهروب منها. لكن هوكينغ في أبحاثه الأولى حول الثقوب السوداء قال إن الحقيقة أكثر تعقيدًا من هذه الوصف المبسط.

إعلان

طبق هوكينغ النظرية الكمية، خاصة فكرة إنشاء فوتونات افتراضية تلقائيًا من العدم ووجد أن بعض الفوتونات قد تبدو وكأنها نابعة من الثقب الأسود. وتم اختبار صحة هذه النظرية التي أطلق عليها "إشعاع هوكينغ" من خلال تجربة في المختبر في أحد معاهد التكنولوجيا.

واستخدم الباحثون بدلًا من ثقب أسود حقيقي ما يمكن وصفه بأنه ثقب أسود صوتي لا تستطيع موجات الصوت الفكاك منه، ورصدوا ما يعادل إشعاع هوكينغ بالضبط كما جاء في افتراضات هوكينغ.

رسم توضيحي لموجات الجاذبية الصادرة عن ثقبين أسودين يدوران حول بعضهما البعض (غيتي)

نظرية مساحة الثقوب السوداء

في الفيزياء الكلاسيكية، هناك مفهوم اسمه "الإنتروبيا" (Entropy) أو اضطراب النظام الذي يتزايد فقط بمرور الوقت ولا ينقص أبدًا.

طرح هوكينغ بالتعاون مع جيكوب بيكنشتاين نظرية ترى إمكانية قياس الإنتروبيا في الثقب الأسود من خلال المنطقة السطحية لأفق الحدث المحيط (أفق الحدث هو حد موجود في الزمكان، كمنطقة تحيط بالثقب الأسود أو الثقب الدودي).

أثبت اكتشاف موجات الجاذبية الصادرة عن زوج من الثقوب السوداء يدوران حول بعضهما بعضا أن هوكينغ كان محقًا مجددًا، تمامًا كما أثبت صحة افتراضات أينشتاين لموجات الجاذبية نفسها.

وفي لقاء مع هيئة الإذاعة البريطانية، قال هوكينغ بعد رصد موجات الجاذبية لأول مرة في 2016 إن "الخصائص المرصودة للنظام تتسق مع افتراضاتي عن الثقوب السوداء التي أعلنتها في السبعينيات"، وأن مساحة الثقب الأسود الناتج أكبر من مجموع مساحتي الثقبين الأسودين الأوليين. كما قدمت عمليات الرصد الحديثة تأكيدًا جديدًا لنظرية هوكينغ حول المساحة.

نظريات وافتراضات جامحة تنتظر التأكيد

رغم أن عالم الفيزياء بدأ يواكب افتراضات ستيفن هوكينغ المذهلة، ما زالت هناك افتراضات ونظريات تنتظر التأكيد بصورة أو بأخرى منها:

رسم توضيحي للأشياء التي تسقط في ثقب أسود (غيتي)

معضلة المعلومات المحذوفة

إعلان

تؤدي ظاهرة إشعاع هوكينغ إلى مشكلة خطيرة لواضعي النظريات الفلكية، إذ يبدو أن هذه الظاهرة هي العملية الوحيدة في الفيزياء التي تحذف المعلومات من الكون للأبد، فالخصائص الأساسية للمواد التي تسقط في الثقب الأسود تختفي للأبد، فالإشعاع الصادر لا يخبرنا شيئًا عنها، مما أدى إلى نشأة معضلة المعلومات التي يحاول العلماء حلها لعقود.

وافترض هوكينغ في ورقة نشرها عام 2016 أن المعلومات -في واقع الأمر- غير مفقودة، فهي مخزنة في سحابة من الجزيئات صفرية الطاقة محيطة بالثقب الأسود وأسمى هذه السحابة "الشعر الناعم"، وما زال افتراض هوكينغ واحدًا من عدة افتراضات، ولا يعلم أحد الإجابة الصحيحة حتى الآن.

رسم توضيحي للمادة المظلمة والثقوب السوداء في المنتصف (غيتي)

الثقوب السوداء الأزلية

نشأت الثقوب السوداء من الانهيار الناتج عن الجاذبية للمادة القائمة بالفعل مثل النجوم، ومن الممكن أيضًا أن تكون بعض الثقوب السوداء قد نشأت بالتزامن مع بدايات الكون أو بعد الانفجار الكبير بقليل.

وكان هوكينغ أول شخص يتطرق إلى نظرية الثقوب السوداء الأزلية بتعمق، إذ يرى أن كتلتها قد تكون أي مادة خفيفة كانت أو ثقيلة، وربما تبخرت الجزيئات الضئيلة وصارت إلى العدم بسبب التبخر الناتج عن "إشعاع هوكينغ".

ومن الاحتمالات التي طرحها هوكينغ أنه ربما أبخرة الثقوب السوداء الأزلية هي التي تشكل المادة المظلمة الغامضة التي يعتقد علماء الفلك بأنها تتخلل الكون.

لكن الأدلة القائمة على الرصد تبين أن كلا الافتراضين غير محتمل، ولا توجد أدوات رصدية في الوقت الحالي لرصد الثقوب السوداء الأزلية أو الزعم بأنها تشكل المادة المظلمة.

رسم توضيحي لنظرية الكون المتعدد (غيتي)

نظرية الأكوان المتعددة

من الموضوعات التي تطرق إليها هوكينغ في آخر حياته نظرية الأكوان المتعددة، التي تزعم أن الكون الحالي منذ بدايته مع الانفجار العظيم ما هو إلا واحد من عدد لا نهائي من الأكوان الفقاعية المتجاورة والمتعايشة مع بعضها بعضا.

إعلان

ولم يكن هوكينغ سعيدًا في البداية بافتراض قدمه بعض العلماء بأن أي موقف سخيف أو غير معقول يخطر على بالك من المؤكد أنه يحدث في مكان ما في هذه الأكوان اللانهائية.

وفي آخر ورقة علمية قدمها في 2018 سعى هوكينغ لتطويع نظرية الأكوان المتعددة، قائلًا إنها أكوان محدودة وليست لامحدودة، غير أنه لا توجد أي وسيلة ممكنة لاختبار صحة افتراضات هذه النظرية.

توقعات نهاية البشرية

في سنواته الأخيرة، طرح هوكينغ بعض التنبؤات القاتمة حول مستقبل البشرية التي ربما لم يكن جادًا بشأنها -كما يبدو- ومن هذه التنبؤات تسبب جزيء "هيغز" (Higgs) في حدوث فقاعة تبتلع العالم بأكمله، وحدوث غزو من الفضاء، وهيمنة الروبوتات والذكاء الاصطناعي.

ورغم أن ستيفن هوكينغ كان محقًا بشأن بعض التوقعات، فإننا نأمل أن يكون مخطئًا بشأن هذه التوقعات القاتمة.

المصدر : لايف ساينس

إعلان