رقائق دقيقة تساعد على اكتشاف أسرار الحياة الميكروبية الموجودة في التربة
تحتوي التربة على تنوع فريد من الكائنات الدقيقة يعجز العلم عن وصفه، غير أن دراسة هذه المجتمعات في بيئتها الأصلية قد تمكنا من سبر أغوارها
تحتوي ملعقة شاي من التربة على كائنات دقيقة أكثر مما يوجد من بشر على الأرض. وقد اهتمت العديد من الدراسات باستكشاف أشكال الحياة الميكروبية الموجودة في عينات التربة التي يتم جمعها.
غير أن هذه الدراسات تتم في معزل عن بيئة التربة الأصلية، إذ تُجمع عينات التربة وتُدرس في المختبرات، مما يشوه من التركيب الهيكلي الدقيق لمكونات التربة، ومن ثم فإن هذه الدراسات تقف عاجزة عن وصف الواقع الفعلي الذي توجد عليه الكائنات الدقيقة داخل ممالكها الجوفية في باطن الأرض.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعلماء البيئة يحذرون: الزراعة الأحادية كارثة على التربة والماء
عكس المتوقع.. الأراضي القاحلة لا تزداد جفافا بفضل رطوبة التربة
يحرك حمولة 8 مقطورات نقل كل عام.. قنفذ النمل يقلب التربة ويغرس البذور
دفع ذلك التحدي علماء من "جامعة لوند" (Lund University) في السويد إلى تطوير طريقة للتجسس على الحياة المجهرية الموجودة في التربة دون الإخلال بموائلها الهشة، إذ كشفت الدراسة التي نشرت في دورية "كوميونيكيشنز بيولوجي" (Communications Biology) في 20 يوليو/تموز الجاري عن مدن مظلمة ورطبة داخل التربة تؤوي تلك المجتمعات الميكروبية.
كما أشارت الدراسة إلى وجود متاهات من طرق سريعة وناطحات سحاب وجسور وأنهار تمكن الكائنات الدقيقة من اقتيات الطعام، وأحيانا توفر لها الحماية، الأمر الذي يفتح نافذة جديدة ترينا ما يحدث في العوالم الدقيقة تحت الأرض.
تربة "سايبورغ"
وبحسب التقرير الصحفي الذي نشره موقع "ذا كونفرسيشن" (The Conversation)، فإن العلماء قد طوّروا تربة مزيجه نصفها طبيعي ونصفها الآخر اصطناعي. وقد أطلقوا عليها اسم "تربة سايبورغ" (Cyborg soil).
تتكون "تربة سايبورغ" من رقائق دقيقة يتم دفنها في البيئة الأصلية للتربة، أو تُحضَّن مع التربة في المختبرات حيث تترك لوقت كاف حتى تظهر المدن الميكروبية. وتعتبر هذه الرقائق الدقيقة بمثابة نوافذ شفافة للتربة المعتمة. ويتم ثقب هذه الرقائق لتحاكي المسامات المكونة للتربة الأصلية.
وبمجرد أن تغرس هذه الرقائق في التربة يمكننا مشاهدة الميكروبات وهي تنتقل من خلالها. وكذلك يمكنها الكشف عن التفاعلات التي تقوم بها الميكروبات وعن شبكاتها الغذائية وعن الكيفية التي تتبناها الميكروبات لهندسة موائلها الدقيقة.
الطرق السريعة الفطرية
وعندما قام الفريق بدراسة أولى الرقائق التي تم غرسها لاحظوا وجود مجموعة وافرة من الكائنات وحيدة الخلية والديدان الخيطية والمفصليات الصغيرة وأنواع من بكتيريا التربة. وقد تغلغلت الخيوط الفطرية (Fungal hyphae) -والتي تشق التربة كما تفعل جذور النباتات تحت الأرض- بسرعة في أعماق "تربة سايبورغ"، مما ساعد على إنشاء اتصال فعال ومباشر بين التربة والرقائق الدقيقة.
وقد أشارت الدراسات السابقة -التي أجريت على التربة في المختبر- إلى أن الخيوط الفطرية تعمل بمثابة طرق سريعة لنقل البكتيريا، غير أن ذلك الأمر لم يبرهن على صحته في بيئات التربة الأصلية.
ولأننا نعرف أن البكتيريا تنتقل عادة عبر الماء، فقد يمكننا اختبار صحة هذا الأمر الآن، إذ قام العلماء بجعل بعض الرقائق مليئة بالهواء. هنا لاحظ العلماء نفور البكتيريا من هذه الرقائق ومحاولتها إيجاد مسام أخرى تلامس أذرع الخيوط الفطرية.
كما اكتشف العلماء مجموعة كبيرة من الطلائعيات (Protists) -وهي كائنات أحادية الخلية لا تصنف ضمن المملكة الحيوانية أو النباتية أو الفطريات- التي تملأ بشكل استثنائي الفراغات الموجودة حول الخيوط الفطرية. يبدو أن هذه الطلائعيات تقطع رحلة هي الأخرى عبر الطرق السريعة الفطرية، وهي ظاهرة غير مكتشفة حتى الآن.
وبعد دراسة المئات من مسارات الطرق السريعة الفطرية، فإن العلماء يعتقدون أنها تعمل كوصلات ناقلة تستخدمها الكائنات الدقيقة للانتشار من خلالها، مما يساعدها في البحث عن الطعام.
مهندسو المدن الميكروبية
كما حاول العلماء معرفة الكيفية التي تُصمَّم بها المدن الميكروبية. فعندما جفت الرقائق المغروسة في التربة، بدأت التربة بامتصاص مزيد من الماء من خلال مسامها. مما نشأت عنه حركة للمياه في التربة نجم عنها خلق مجرى مائي محاكٍ لمجرى الأنهار في عالمنا الأكبر.
وهناك عوامل أخرى غير فيزيائية تلعب دورا في هندسة المدن الميكروبية، إذ تعمل الفطريات على شق ممرات وغلق أخرى وذلك نظرا لما تمتلكه من خيوط فطرية تتغلغل في أعماق التربة. وبالتالي فإنها تضطلع بهندسة البيئة الميكروبية من خلال شق الطرق وبناء الجسور وتشييد الممرات التي تربط تلك المدن الميكروبية.
كما كانت هناك بعض الكائنات الأخرى التي تعمل على تغيير التركيب المجهري للتربة، إذ تجرف الهدبيات (Ciliate) -بما تملكه من أهداب تشبه الشعيرات الدقيقة- التربة بحثا عن الطعام.