إدوارد بالتين .. مأساة الغواصة كورسك
مقدم الحلقة | أكرم خزام |
ضيف الحلقة | الأدميرال الروسي إدوارد بالتين |
تاريخ الحلقة | 31/08/2000 |
![]() |
![]() |
أكرم خزام:
بداية أود أن أسألكم عن الأسباب التي تمنع قول الحقيقة عما جرى للغواصة (كورسك).
الأدميرال إدوارد بالتين:
في مثل هذه الحالات يستحيل تحديد السبب الحقيقي، وخلال فترة قصيرة لا نظريا ولا عمليا ربما لاحظتم الكم الكبير من الفروض، وكل واحد من هذه الفروض يتطلب تدقيقا شديدا، علما بأن معظم تلك الفروض ينبغي -في رأيي- أن ننحيها جميعا، إذ يصعب القيام باستخلاصات أو استنتاجات محددة، والرئيس (بوتين) مصيب في دعوته إلى عدم استباق التحقيقات.
أكرم خزام:
أنتم أول من طرح فرضية تفيد بأن الغواصة (كورسك) اصطدمت بغواصة أجنبية، كيف لكم إثبات ذلك؟ وإذا كان ذلك صحيحا فما الذي جرى للغواصة الأجنبية؟
الأدميرال إدوارد بالتين:
أكرر دائما أن هذا افتراضي أنا، ولا أنوي إقناع أحد في أي حال من الأحوال بأن الأمر كان على هذا الوجه حصرا، وقد أعلنت مرارا أن الجسم الآخر يمكن أن يكون غواصة أو سفينة حربية أو تجارية ضخمة، لا يقل جزؤها الغاطس عن ثمانية أو عشرة أمتار.. أجل لقد رسمت تصاميم الافتراضين على الكمبيوتر، والاستنتاج أنه عند اصطدام غواصتين متوازيتين في الحجم، كانت الغواصة العليا على عمق المنظار فقط.. أي في شروط أفضل، ومن المرجح أنها أصيبت بأعطال كبيرة، لكن تصميم الغواصات وبنيتها ومبدأ بناء السفن في العالم واحد.. من هنا فإن كان السبب هو الاصطدام فالغواصة الثانية العليا أصيبت بأعطال كبيرة، وربما تعرضت لفتحة في المقدمة، كذلك يمكن أن يكون قد حدث بها أعطال في المراوح وفي عجلات الدفة، مما أدى عمليا إلى خلل في إحكام سدها، وما يدفع إلى هذا الاستنتاج الأعطال التي أصابت الغواصة (كورسك) إثر اصطدام ديناميكي شديد في المقدمة، إضافة إلى زحف الجسم الثاني على القسم العلوي في الغواصة (كورسك)؛ الأمر الذي ألحق بها أضرارا بليغة تمثلت في فتحات إضافية ليس في الجزء الخفيف من الغواصة فحسب، بل وفي جزئها المتين أيضا.
وبينما اتجه الجسم الثاني إلى الأعلى توجهت (كورسك) إلى الأسفل، وما زاد في سرعة غرقها التيارات المائية التي ضاعفت هذه السرعة مرتين ونصف المرة، الغواصة العليا في هذه الحالة لا تفقد طاقمها، ولا تخسر الطاقة الكهربية؛ ما يؤهلها للجوء إلى ما يسمى (الانتفاخ) في حالة الطوارئ، وإلى تعويم ذاتها، بل وفي مقدورها بعد ذلك ليس الوقوع إلى القاع بل الغطس والاختباء هناك بهدف معالجة بعض الإصابات التي تكون تعرضت لها.
باستطاعة الغواصة بعد ذلك العوم أو التنقل في الماء، يكون ذلك على عمق ثلاثين مترا بفضل ما ذكرته آنفا.. أي بعزل ثقلها إزاء الماء عن طريق الانتفاخ في حالة الطوارئ أو عبر التحرك الأفقي؛ مما يساعدها على الابتعاد وبهدوء عن مكان الحادثة، وافتراضي هذا قادر على الصمود والبقاء.
لنأخذ الآن الافتراض الثاني، وهو الاصطدام بسفينة فوق سطح الماء.. جوانب السفينة عادة ليست في متانة رافدة القص من الأسفل، والتي تقوم عليها السفينة، من هنا إن كان الاصطدام قد جرى مع سفينة، فإن الأخيرة لا تصاب بأي أضرار تذكر، ربما باستثناء المراوح التي تتعرض للعطب في هذه الحالات، كذلك يمكن أن تتعطل عجلة الدفة العمودية. السفينة التي تسببت في الحادث لا تفقد في هذه الحالة قدرتها على الحركة من جراء اصطدام كهذا، أضف إلى ذلك أن بعض العلامات على جسمها الناجمة عن الاصطدام قد لا يلحظها أحد، حتى ولو عمل الغواصون بالكشف عليها، اللهم إلا المراوح، وهذا ما تكشفه التجارب، كذلك الحسابات التقديرية، وأشدد على كلمة التقديرية، وفي ضوء عدم الوضوح المحيط بالحادثة لا يمكن لأحد إجراء حسابات دقيقة لما جرى، وما أقوله يظل تقريبيا.
أكرم خزام:
وزير الدفاع الروسي المارشال (إيغور سرغييف) تحدث بشكل مماثل وقريب من فرضيتكم، ألا تخشون وعبر هذه الفرضية استعار العلاقة بين روسيا والناتو، علما أنها ليست في أحسن أحوالها؟
الأدميرال إدوارد بالتين:
من الطبيعي أن أي افتراض من هذا القبيل لن يؤدي إلى تقارب، ولابد من ظهور شرخ ما في العلاقات عقب هذه التصريحات، لكن وزير الدفاع الروسي لم يقل حصرا إنها غواصة تابعة للولايات المتحدة أو بريطانيا.. على فكرة أنا أشك في أن تكون الغواصة بريطانية، ذلك أن بريطانيا لم تبد اهتماما كبيرا بمنطقة بحر (بارانس) عبر السنوات الثلاثين الأخيرة، وأنا شخصيا لا أذكر أمثلة على أن الغواصات البريطانية تقوم بدوريات أو عمليات للاستطلاع في تلك المنطقة.
أكرم خزام:
وسائل الإعلام الروسية تشير إلى استمرار فكرة الحرب الباردة التي تتحكم في عقلية العسكريين الروس، ما هو ردكم على هذه القضية؟ وأكرر أن وسائل إعلامكم تتحدث عن ذلك.
الأدميرال إدوارد بالتين:
الحقيقة لا يعجبني ما تقوم به وسائل الإعلام برسم حواجز وخطوط لما بين المجتمع البشري، فهي تقسم البشر إلى أناس ومواطنين، ويسمون غيرهم عسكريين.. فالعسكري هو مواطن وابن لمجتمعه، يتفاعل مع الظروف والعوامل السياسية الداخلية والخارجية المحيطة بوطنه، كما لا تعجبني الأحاديث حول أن العسكريين يحاربون هنا وهناك.. العسكريون لا يشعلون الحروب، فلا الجندي ولا الجنرال ولا الأدميرال يريدون الحرب.. لنكن دقيقين في التعابير، إنهم ينفذون إرادة حكومتهم المدنية، وهؤلاء السياسيون -مشعلو الحروب- تراهم في أحسن حالاتهم، يرتدون أجمل البزات، ويجلسون في المكاتب الوثيرة، تلمع الأزرار الذهبية في قمصانهم، بينما لا يملكون تصورا عن مصاعب الحرب، هذه المصاعب التي تلقي على أكتاف العسكريين والمواطنين بأثقالها.. العسكريون ينهون الحرب في واقع الأمر سواء بتوقيع صكوك الاستسلام أو باتفاقات وقف النار، العسكري مهما كانت رتبته يبقى أحد عمال الحرب.. لقد توصلت إلى هذا الاستنتاج بعد عشرات السنوات التي أمضيتها في الخدمة العسكرية.
أكرم خزام:
انتهت المرحلة الأولى من عمليات الإنقاذ بعد أن تأكد للنرويجيين أن البحارة الروس قضوا، فهذا حدث مأساوي فعلا، لا بل كارثة، ما هو رأيكم؟ هل في استطاعة الغواصين النرويجيين انتشال جثث البحارة؟ وهل صحيح أنهم يستطيعون بالتعاون مع فرق الإنقاذ الروسية رفع الغواصة (كورسك) إلى سطح البحر؟ وكم من الوقت يلزم لتحقيق هذه المهمات؟!
الأدميرال إدوارد بالتين:
أولا: أنت تقول النرويجيون حددوا في تقريرهم أن المقصورات مغمورة بالمياه، وأنا أقول لك: إنه من خلال خبرتي وبعد التحليلات كنت أعرف منذ البداية أن الغواصة قد امتلأت كلها بالماء، وأنا واثق من أن قائد أسطول الشمال قد علم بهذه الحقيقة بعد عمليات الغطس الأولية التي أجريت، ولا أحمّله الذنب عن عدم التفوه بهذه الحقيقة. وفيما يخص النرويجيين كأجانب فإنهم لا يتحملون المسؤولية أمام أُسر الطاقم وأقارب هذا الطاقم الذي قضى أفراده، لذا لا تقع عليهم المسؤولية المعنوية التي ترزح تحتها قيادة أسطول الشمال والقيادة البحرية الروسية، وعندما أسمع أننا لم نذع في حينه هذا النبأ أو ذاك أعود وأذكر إلى جانب المسؤولية هناك الرادع الأخلاقي أيضا، وأرى ضرورة اختيار التوقيت بدقة، بحيث إن الاعترافات والتصريحات تحمل أقل قدر من الألم لأهل الضحايا وللمجتمع.
أما حول انتشال الطاقم في الغواصة، فإني أرى سبيلين لذلك، وكل ما عداهما لا يملك أي أساس من الواقع: أولا: إحداث ثغرات في جسم الغواصة إلى كل مقصورة، هذا الاقتراح قدمه النرويجيون، أما الوسيلة الثانية -في رأيي- فهي رفع الغواصة مع طاقمها، لماذا؟! لأن نشر فوهات في جسم الغواصة سوف يستغرق وقتا طويلا للغاية. فمن خلال معرفتي بتركيبة هيكل الغواصة أجزم بصعوبة إجراء هذه العملية تحت الماء، إذ يتطلب الأمر أولا: نزع الغلاف الخارجي المعدني، ثم الغلاف العازل تحته قبل الوصول إلى الجسم الأساسي للغواصة، ولا أدري ولا أتصور أي وسائل للقطع سوف تنجح في هذه المهمة، فالمطلوب أن تكون هذه الفتحات بقطر مترين إلى ثلاثة أمتار، مع العلم بأن الغواصة ليست نفقا فارغا من الداخل، ففي داخل الجسم الصلب هناك أعداد لا تحصى من المعدات وتجهيزات معقدة وأجهزة التحكم المختلفة، إنها ليست فارغة الجدران كما في الشقق السكنية مثلا. وهكذا وبعد نزع الغلاف الخارجي وشق الجسم اللين ثم الجسم الصلب، يجب اختيار النقاط المناسبة لفتح الثغرات، بحيث لا نتعثر من الداخل بالآلات والمعدات التي يستحيل قطعها في الأعماق، وقليلة هي الأماكن التي يمكن العبور منها إلى متن الغواصة، وللأسف تضيع هذه الأمور الدقيقة في غمرة الجدل والنقاش، وكما ترى ألتقي مع النرويجيين في تشخيص الطريقة الأنسب لانتشال الضحايا لجهة فتح الثغرات، لكن النرويجيين لا يعرفون البنية الداخلية للغواصة، فالأخصائيون النرويج يعملون بشكل أساسي في خدمة المنصات النفطية العائمة، ولم تعترضهم مشاكل مماثلة من قبل.
و هكذا.. ووفقا لحساباتي تستغرق هذه العملية منذ بدء عمليات النشل أكثر من ثلاثة أشهر، والنتيجة أنه لن ينتشل الطاقم بأكمله، ثم يبدأ من جديد الضغط النفسي على أهالي طاقم الغواصة، وفي المجتمع أيضا حول تساؤل يقول: لماذا لم ينتشلوا جميع الضحايا؟ وهناك تساؤلات أخرى مشابهة، وهكذا يتجدد الألم النفسي، ولن تنتهي عمليات الإنقاذ على كل حال قبل صيف العام المقبل، إنني أتساءل ما هو الحل الأفضل؟
أقول لك: إن العلاقات التي تجمع بين أعضاء أطقم الغواصات هي علاقات استثنائية في طبيعتها، وتمتاز عن بقية القطاعات في القوات المسلحة، هي علاقات ود وصداقة، لا فرق بين البحار وبين قائد القطعة البحرية، وعندما كنت قائد غواصة كنت أنادي البحارة بأسمائهم، وهو ما يثير استنكار زوار الغواصة من القادة الكبار أو عجبهم، لكني أفخر بأن النظام والانضباط وعمل الآلات المنظم كل هذه العوامل كانت مضمونة على الدوام بفضل أولئك البحارة، وكنت واثقا دائما من أن أي أمرٍ من أوامري ينفذ بدقة وكفاءة متناهيتين، بل أعلم كيفية تنفيذ التعليمات من جانب كل بحار على حدة. وإذا كان كل قائد يعرف طاقمه بهذه التفاصيل، فمن الطبيعي أن تبحر بدون حاجة إلى وسائل الطوارئ.. المعرفة الدقيقة تتطلب طاقما ثانيا في القطعة البحرية، لا يتبدل كل عام -على سبيل المثال- كما يجري اليوم في الأسطول الحربي الروسي، فالاحتكاك اليومي والطويل يولد تفاهما متبادلا بين القائد ومرؤوسيه يغني عن أشياء كثيرة.
وعودة إلى السؤال المطروح أقول: إن عملية الانتشال تتطلب وقتا طويلا، وتتألف من مراحل عدة: التنظيم، والتحضير، والاستعداد التقني، وإعداد الطاقم البشري لرفع الغواصة، ناهيك عن التكلفة العالية لرفع هذه الغواصة من مكانها، ومهما كان هذا الكلام مؤلما، فإن كل غواصة غارقة تتحول إلى مقبرة جماعية لأفراد طاقمها، فليرقدوا سوية وينتظروا ساعة رفع الغواصة، بحيث ينتشل أفراد طاقمها جميعا، ويحظون بمراسم التأبين الواحدة دونما تفريق. وأنا واثق أن رئيس (روسيا) سوف ينظم هذه العملية، أنا أعرف كم من التماثيل التذكارية أُعدت إحياء لذكرى البحارة، فلينظم دفن رمزي لأفراد طاقم (كورسك) وعند انتشال الضحايا فليدفن كل واحد منهم وفقا للتقاليد والعادات المتبعة لدى أهله وذويه.. هذا في رأيي هو الحل الأنسب والمخرج الأنسب، ويجب تحضير أهل الضحايا والرأي العام الروسي لتقبّل هذا الحل.
أكرم خزام:
لا يمكنني تجنب الحديث حول المفاعلين النوويين في الغواصة (كورسك)، خاصة في ظل وجود أقاويل عن خطورة تسرب إشعاعات نووية من الغواصة، ما هو رأيكم؟ ما حقيقة الأمر بشأن هذه المخاطر؟
الأدميرال إدوارد بالتين:
الجميع يطرحون هذا السؤال، إنني لست ضد جماعات البيئة على الإطلاق، إنما نرى أنه في بلدان عديدة يأتي إلى هذا الحقل من لم يجد له مكانا في حقول أخرى، فمن أسهل الأمور انتقاد البشر والظواهر، هم يقولون إن المحطات النووية لتوليد الطاقة مضرة بالبشرية، مع العلم بأن أمام هذه المحطات مستقبلا كبيرا، فالخامات ليست أبدية، والكرة الأرضية صغيرة جدا جدا أمام الكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية، وهكذا لا يمثل المفاعل النووي على متن الغواصة (كورسك) أي خطر على الإطلاق اليوم.
ثم ردا على القائلين بأن نسبة الإشعاع من المفاعل قد بلغت حدا مرتفعا أقول: إنه في البحر حيث تتبدل وتتغير التيارات المائية لا يمكن من حيث المبدأ أن يكون مستوى الإشعاع واحدا، وأورد مثالا آخر: هناك جزر في المحيط يقطنها ملايين البشر، لم تعرف يوما الأسلحة أو الإفرازات النووية، ومع ذلك يزيد مستوى الإشعاع النووي في هذه الجزر بثلاث أو أربع مرات عن المعدل الموجود في أوروبا الغربية مثلا. والأمر الذي يسترعي الانتباه أن سكان تلك الجذر وهم سمر البشرة يتمتعون بميزات جسدية رفيعة، ويبلغ طول الفرد حوالي (180) سنتمترا، ويبدو على الأرجح أنهم قد تأقلموا تاريخيا مع هذا المجال الحيوي والطبيعي.
أكرم خزام:
الرئيس (بوتين) تحدث عن أوضاع صعبة يواجهها الأسطول البحري الروسي، هل لكم أن تحدثونا عن واقع الحال في الأسطول؟ وكيف ترون مستقبله خاصة بعد الكارثة التي تعرضت لها الغواصة النووية (كورسك)؟
الأدميرال إدوارد بالتين:
لا يجوز إطلاق الأحكام استنادا إلى حادثة معينة واحدة جرت في أي سلاحٍ أو أية دولة.. من الواضح أن الأسطول البحري يعيش ظروفا صعبة، وهذا ليس ذنب الرئيس الحالي، فقد بدأت الصعوبات في الأسطول منذ أيام (غورباتشوف) الذي كان يكثر من الكلام ولا يفعل شيئا في واقع الأمر، وأعتذر عن هذا التعبير. وبسبب غبائه عانى الأسطول وانهارت دولة عظمى، ولا تصدق الأقاويل من أنها لم تعد قادرة على البقاء، فنحن ما زلنا نعيش على الاحتياطات الموجودة منذ عهد تلك الدولة العظمى، بما في ذلك الأسطول والتقنية الحربية، ومنذ مجيء (غورباتشوف) إلى السلطة وحتى اليوم لم يتجدد أي شيء، ونحن نعيش على الاحتياطي المكدس منذ عهد الركود كما يحلو للبعض أن يسميه بهذا الاسم.
أكرم خزام:
أعزائي المشاهدين إلى اللقاء في حلقة قادمة من برنامج (لقاء اليوم)، ها هو أكرم خزام يحييكم، ويتمنى لكم أطيب المنى.