الشاهد - السودان .. جدلية الهوية والجغرافيا ج2 - صورة عامة
الشاهد

السودان.. جدلية الهوية والجغرافيا ج2

تتناول الحلقة في جزئها الثاني في جدلية الهوية والجغرافيا في السودان، إلى الجنوب السوداني والذي حلم بالانفصال بعد وحدة دامت زهاء 190 عاماً.

– الحركة المهدية
– مراحل فاصلة في تاريخ السودان

– نظام الحكم في السودان

– انتشار المسيحية

– الهم القبلي

 
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined

أحمد الشيخ: يحتفل هؤلاء السودانيون الجنوبيون في حلم يراودهم بالاستقلال عن السودان بعد وحدة دامت زهاء 190 عاماً، يتعلق كيانٌ آخرٌ وسط القارة السمراء بأهداب النيل ويجري معه، تُرى أكان هؤلاء المنتشون بفرح الاستقلال سيحتفلون ولو أن محمد علي حاكم مصر في القرن التاسع عشر لم يهفو إلى النيل وخير أفريقيا ولم تلتق مصالح بريطانيا العظمى آنذاك مع مصالحه، لكنه التاريخ يجري حيث يجري الماء وحيث يفيض ما في باطن الأرض فتتغير الأحلام والخطط، كما اندفع كلُ من جاءوا إلى السودان، قبله دفع محمد علي بقواته إلى السودان صعوداً عكس تيار النيل إذْ أدرك أن السودان حيويٌ إن كان لمصر أن تصبح الكيان الذي كان يحلم به، وكان هدفه مثل كل فاتحي السودان تأمين الماء وتجنيد الرجال والسيطرة على الموارد، هنا في منطقة شندي ليس بعيداً كثيراً من الخرطوم واجه الجيش الغازي مقاومة من قبيلة الجعليين وهي من أكبر قبائل السودان العربية فقتل ابن محمد على إسماعيل لما أحرق الجعلييون بقيادة المك نمر معسكره، انتقم قادة محمد علي منهم وبسطوا سلطتهم على معظم السودان حتى حدود أوغنده، لما ورث إسماعيل باشا حكمه مصر والسودان عام 1863 كان يغازله طموح جده في السيطرة على منابع النيل فاستعان بـ صمويل بيكر الذي قاد حملة لبسط سيطرة مصر الخديوية على منابع النيل ووسط أفريقيا ففعل وأقام ولاية النيل الإستوائية، خلف تشارلز جورج جوردون صمويل بيكر حاكماً للولاية الإستوائية عام 1874 ثم أصبح بعد ثلاث سنوات حاكما عاماً للسودان، وجوردون الصيني كما لقب كان ذا خبرة استعمارية واسعة اكتسبها في الصين.

الحركة المهدية


أحمد الشيخ: في هذه الظروف أعلن محمد أحمد المهدي دعوته وهو ابن بناء قوارب من دنقلة، تشرب الصوفية على الطريقة السمانية، وما يزال السودانيون يحتفلون بتراثه وسلاحه في متحف خاص بالمهدية بالبيض المعقل الأول للأنصار. هنا في الجزيرة آبا في ولاية النيل الأبيض المعقل الأول للأنصار كان المهدي يتعبد في صباه ويتأمل وهو يرى أوضاع السودان المتدهورة وسيطرة الأجانب عليه، أما هنا فكان المهدي يقيم بعد أن صدع بالدعوة ويخاطب من تحت هذه القبة أتباعه ومقاتليه وقد تحول المكان اليوم إلى جامعة، كتب المهدي لأهل السودان قائلا في رسالة مشهورة إنه شاهد الرسول في منام يأمره بأن يصدع بالدعوة وأن ما من قوة ستقف في وجهه، في ولاية كردفان وجد المهدي أعظم التأييد ومنها بدأ العمل العسكري كان معه الفقهاء الداعون للعودة إلى الدين الحق، وكان معه التجار الذي أُضيروا بالضرائب وكان صفوة مقاتليه من أبناء قبائل البقارة العربية الكارهين أيضا للنظام المركزي وضرائبه، هنا حقق المهدي في نوفمبر عام 1883 أول وأعظم انتصاراته، هنا وقعت معركة شيكان أولى معارك المهدي الفاصلة، إلى هذا المكان استدرج المهدي القوات التركية واستطاع أن يحسم المعركة في زمن قياسي وقتل أنصاره اثني عشر ألف جندي تركي على رأسهم هكس باشا، وقد كانت تلك نقطة تحول رئيسية في حركة المهدي إذ استطاع بعدها أن يحاصر الخرطوم ويدخلها. سارع البريطانيون والمصريون بإعادة جوردون إلى الخرطوم لكن المهديين وصلوا المدينة وفتحوها في السادس والعشرين من يناير عام 1885 وقتلوا جوردون نفسه، ولم تمض إلا خمسة أشهر حتى توفي المهدي نفسه في ظروف غامضة، بعد أن تمكن من توحيد السودان تحت قيادة سوداني منهم لأول مرة وأقام أول كيان قومي سوداني، هنا في أم درمان تولى الخلافة عبد الله التعايشي أول وأكبر مناصري المهدي فلقي من السودانيين التواقين لنصرة الدين تأييداً واسعاً، وما زال منزله حتى اليوم مزاراً للتلامذة يتعرفون فيه على جانب من تاريخ بلدهم، لكن الخليفة لم يكن على دراية كافية بما في العالم من حوله، وما لدى خصومه الغربيين المتنافسين على أفريقيا فيما بينهم من تفوق تكنولوجي لم تجدِ أمامه حماسة الأنصار نفعاً، فتوالت خسارة المهدية للمعارك شمالا وشرقاً إلى أن أعاد الإنجليز والمصريون الخديويون بقيادة هوراشيو كتشنر احتلال الخرطوم في الثاني من سبتمبر عام 1898، فانتقل الخليفة التعايشي إلى النيل الأبيض ليقتل هناك بعد عام وكانت تلك نهاية المهدية.

مراحل فاصلة في تاريخ السودان


أحمد الشيخ: كان هدف البريطانيين من تكريس سيطرتهم على السودان حماية مصالحهم الاستعمارية في أفريقيا في وجه منافسيهم الفرنسيين والألمان والبلجيك، فجاءوا بالسير وينجت الخبير بالسودان حاكماً خلفاً لكتشنر، اتبع وينجت سياسة تهدئة فخفف الضرائب وبدأت تظهر نتائج مرحلة التعليم الحديث بالسودان، كلية جوردون، جامعة الخرطوم اليوم كانت أولى مدارس التعليم الحديث وتخرج منها ومن مدرسة حنتوب بالجزيرة أول نشطاء العمل القومي السوداني، المتعلمون الذين أطلق عليهم السودانيون اسم الخريجيين فشكلوا جمعية لعبت دوراً هاما في الحراك السياسي، والمفارقة أنه كان من أبرز هؤلاء علي عبد اللطيف السوداني الجنوبي من قبيلة الدينكا، الذي آمن بوحدة السودان وشكل جمعية اللواء الأبيض لمقاومة الاستعمار ومات على إيمانه، بلغت مقاومة الوجود الاستعماري أوجها عام 1924 بمظاهرات واسعة قمعها الإنجليز وقضوا على كتيبة سودانية حاولت الدفاع عن المتظاهرين، ومع أن القوات المصرية لم تتدخل لمساعدة الكتيبة السودانية فقد أنهت بريطانيا الحكم الثنائي مع مصر في السودان وظل الوضع كذلك إلى عام 1936 إذ اضطرت إرهاصات الحرب العالمية الثانية بريطانيا بالسماح بعودة المصريين والحكم الثنائي، كانت أم درمان عاصمة المهدية السابقة آنذاك بؤرة النشاط السياسي والحزبي الناشئ في السودان، في هذا المبنى الذي يحتله اليوم فرع لحزب الأمة كان يلتقي أعضاء ومنتسبو مؤتمر الخريجين الذي ناضل من أجل تقرير المصير للسودانيين، ورغم انقسامهم ما بين مهدي وختمي فإن الخريجين نجحوا بقيادة اسماعيل الأزهري في دفع الأمور إلى إنشاء مجلس تشريعي عام 1947 أعاد للسودان لحمته المقطوعة بسبب سياسة المناطق المقفولة التي فرضها الإنجليز منذ عام 1927 ، فأغضب ذلك المصريين فألغوا عام 1951 معاهدة الحكم الثنائي مع الإنجليز ثم وقعوا معهم عام 1953 اتفاقاً لمنح السودانيين حكماً ذاتياً وتقرير مصيرهم بأنفسهم في ثلاث سنوات، هنا بدأت تظهر في جسد السودان دمامل سياسة المناطق المقفولة في جنوب السودان، فتمرد جنود حامية توريت وذبحوا مئات من الشماليين، من المسلمين وكانت تلك بداية تمردات الجنوب وحروبه وربما بداية انفصاله. انتخب أول برلمان سوادني وفي الأول من يناير عام 1956 أٌعلن استقلال السودان وكان إسماعيل الأهزي خاتمي التوجه والمؤيد لوحدة وادي النيل أول رئيس للوزراء، لقيت التجربة الديمقراطية في السودان ترحيباً وتفاؤلاً لكنها جاءت وسط استقطاب ديني ختمي ومهداوي وترهل حزبي انتهازي وفي وقت كانت نكاسات الديمقراطية تعصف ببقية الوطن العربي، فما لبث السودان أن لحق بركب الانقلابات العسكرية حينما أطاح الفريق إبراهيم عبود الحكومة في نوفمبر عام 1958 ، انتعش الإقتصاد في بداية عهد عبود لكن الجنوبيين رفضوا بعض سياساته الإدراية والتعليمية فتمردوا مجدداً وظهرت حركة آنانية بقيادة جوزيف لاغو عام 1963 ليجد السودان نفسه مرهقاً بالحرب فتدهور الوضع الداخلي وعمت المظاهرات فاستقال عبود عام 1964 وسلم السلطة لحكومة انتقالية تبعتها انتخابات حملت حزب الأمة إلى الحكم بقيادة محمد أحمد محجوب لكن انقسام الحزب وتدهور الوضع الإقتصادي أعاد العسكر بقيادة جعفر النميري للسلطة عام 1969، كان هم النميري الأكبر التمرد المستعر في الجنوب، حاور المتمردين ووقع معهم اتفاق أديس أبابا عام 1972 فتوقف القتال واكتسب النميري شعبية وتمكن من تحقيق بعض النمو الإقتصادي، وجد النميري نفسه مضطراً أمام تدهور شعبيته لاحقاً لمغازلة الإسلاميين فأعلن تطبيق الشريعة الإسلامية وأعاد تقسيم الجنوب إلى ثلاث ولايات فأصبح اتفاق أديس أبابا في حكم الملغي بينما كان الجنوبيون يشنون تمردهم الثاني قبل ذلك بقيادة جون جارانج. في الجنوب فشلٌ في الميدان العسكري وفي الشمال تدهور اقتصادي فأطاح العسكر بقيادة الفريق سوار الذهب الرئيس عام 1985 وسلموا في سابقة لم تتكرر في الوطن العربي حتى الآن الحكم للشعب إثر انتخابات أعادت حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي إلى السلطة. لكن هذه التجربة الديمقراطية فشلت فأطاح العسكر من ذوي النهج الإسلامي فجاء عمر البشير وحسن الترابي إلى السلطة في مركب جبهة الإنقاذ الإسلامي، اتخذت الحكومة الجديدة إجراءات لتثبيت سلطتها فحلت الأحزاب وأسكتت الصحافة وعزمت على التصدي بالقوة للحرب في الجنوب، ثم انفرطت في السنوات الأخيرة من العقد الأخير من القرن الماضي الشراكة بين الترابي وتلامذته مثل البشير وبقية العسكر.


حسن مكي/ مدير جامعة أفريقيا العالمية: من الغريب أن مجموعة الإنقاد هذه نجحت في التواصل الجغرافي في حركة الاتصالات ولكنها لم تُصب أبداً في التواصل السياسي، التواصل السياسي مأزوم.. لماذا؟ فشلت لماذا.. لأنه هذا يعود أولا إلى مشروع الترابي، أنا أحُمل مشروع الترابي البداية لأن الترابي حينما جاء.. الترابي رجل عنده قدرات واستراتيجية وهكذا، حينما جاء إلى السلطة جمع حوله النشطاء وأبعد أصحاب القدرات الذين كانوا معه في المكتب السياسي لأنه كان يريد مشروع الترابي وكان يريد السمع والطاعة كان يريد طريقة الإمام الخميني والإمام محمد المهدي، أنت تأمر ونحن نسمع..


حسن الترابي/رئيس حزب المؤتمر الشعبي: أنا دائما أوقع اللوم على الشعوب كيف تقومون يولى عليكم، الناس دايما يلومون حكامهم، هذا الحاكم هو الخبيث هو السيء والذي أضر بنا لكن ما بالكم تقعدون هكذا، الله يوم القيامة يحاسب المستضعفين الذين ذلوا للمستكبرين.

نظام الحكم في السودان


أحمد الشيخ: كانت قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان تحقق المكاسب في الميدان، وباتت سيطرة الجيش السوداني مقصورة على المدن الرئيسة في الجنوب. في ضوء ذلك رأى المجلس الثوري الحاكم أن اللجوء للحكم المدني قد يخرجه من المأزق، فأجريت أول إنتخابات تشريعية ورئاسية عام 1996 وأصبح الفريق البشير رئيساً مدنياً للسودان وأُعيد انتخابه عام 2000، في العام نفسه بدأ السودان يصدّر النفط المستخرج من الجنوب، ولاح في الأفق أمل بمورد جديد يساعد في تحسين الإقتصاد المنهك ويخرج البلد المأزوم من حرب طاحنة في الجنوب. غير أن النفط زاد من إصرار الجنوبيين على صيغة جديدة من العلاقات مع الشمال ولم يجد الجانبان وسط عقدة الحرب إلا الحوار طريقاً، فكان الإتفاق التاريخي في نيفاشا على إستفتاء يحدد في 5 سنين مصير الجنوب وحدة أو انفصالاً.

هؤلاء الطلبة في جامعة الخرطوم ما عرفوا في حياتهم إلا نظام حكم واحد في السودان هو نظام المؤتمر الوطني إذ هم بلغوا الرشد الكامل وهو في الحكم. سألناهم إن كان الجنوب سينفصل ومن سيتحمل المسؤولية وكيف ستتأثر أجزاء السودان الأخرى فكان هذ السجال أفصح من كل حوار:

طالب: النعرة دي فرضها الشمال على الجنوب، النعرة دي يعني أول شي بديت من الشمال على الجنوب أد الجنوب الإحساس دا فتداول هذا الإحساس.

طالب: لكن النعرة دي من سنة كم من سياسة المناطق المقفولة لو جينا سياسة المناطق المقفولة الاستعمار قال إيه إذا الجنوبي يتكلم باللغة العربية يقلق هذا الاستعمار..

طالب: بعد الإستعمار أكبر فترة حكم تمددت فيها الحرب الدموية كانت فترة المؤتمر الوطني..

يا أخي نجرب الإنفصال إذا كان حل للمشكلة نشوف إن شاء الله يفيد الناس لقدام لو فشل نرجع نشوف طرق ثانية..

طالب: الإنفصال ممكن إحنا نجرب إن يكون في إنفصال وبعدين إحنا نرجع لأنه وقت أنه حصل إنفصال ما رج نقدر نرجع تاني إحنا رايدين أصلاً إنه يكون في وحدة عشان إحنا نقدر مع بعضينا سودانا يعني إحنا يحل مشاكله لكن إذا حصل إنفصال حيكون في شعب هنا وشعب هنا وشعب هنا يعني الدولة الكبيرة اللي هي أكبر دولة في إفريقيا حتبقى حي صغير شديد إحنا ما نقدر وإحنا قدامنا وجداننا وجدانا إفريقي ..


أحمد الشيخ: معظمهم مع الوحدة، سواء هنا في الخرطوم، أو في جامعة حنتوب وإن كان أفراد منهم يقبلون بالانفصال..

طالبة من جامعة الإمام المهدي: شيماء ابراهيم ياصيف، المستوى الثاني، شريعة، جامعة الإمام المهدي، الجزيرة أبا.. أولاً أنا الوحيدة اللي كنت الإنفصال لكن بشوف الإنفصال أحسن أو لأنه طال منه نفسنا الطيبة ما حيكون في سلام لقدام يعني إحنا مشكلتنا بس الجنوب ينفصل عن الشمال كده ده الحل هو مو الحل أكيد لأنه أكيد يا رب أكيد أن قول الوحدة هنا من هناك دايما بتساعد بالتنمية وبتساعد في تطور البلد لكن ما بنلاقي إتفاق بين الجنوبيين والشماليين.


أحمد الشيخ: ذكرتني شعارات هؤلاء الطلبة بأيام الجامعة حين كنا نحلم بالوطن السليب ونتغنى به كلٌ على ليلاه. حين تتحدث مع الناس في السودان كما في كل الوطن العربي ثمة إخفاق للحلم وللدولة القُطرية التي ما بلغت حد النضوج، ولكن من يتحمل مسؤولية إحتمالات إنفصال الجنوب. يكاد يكون هناك إجماع بين السودانيين الشماليين على أن المسؤولية تشمل الجميع.


غازي صلاح الدين/ مستشار الرئيس السوداني: لا شك إن السياسات الإستعمارية هي التي أوجدت مشكلة الجنوب في البداية، هذا مُسلم به، ولكن أيضاً ينبغي أن نسلم أن السياسات الوطنية سياسات الحكومات الوطنية التي أهملت أهالي الجنوب عقدت القضية وأفضت بها إلى أن تصل إلى هذا الحد. لا شك أن الأثر الخارجي ظل من خلال بعض القوى التي ظلت في الغرب تنظر إلى القضية في السودان باعتبارها قضية ثقافية وقضية دينية.


الصادق المهدي/ رئيس حزب الأمة: النظم الديكتاتورية التي حكمت السودان في 40 سنة من 50 سنة استقلال، هذه النظم حاولت أن تفرض هوية عربية إسلامية في البلاد، بلغ هذا الموضوع أقصاه في الإنقلاب الذي استولى على السلطة في عام 1989، هؤلاء أصلاً فرع من الإخوان المسلمين سوداني، واستولوا على السلطة بالإنقلاب وحاولوا فرض هوية إسلامية عربية. هذا الفرض لأول مرة تم بصورة فوقية ومنهجية، ما أدى إلى مطالبة الجنوبيين مباشرة كردة فعل لهذا النهج بتقرير المصير.


أحمد الشيخ: أما هؤلاء الجنوبيون الذين يتراقصون طلباً للإنفصال قبل أن يحين آوانه فلم تتحول أحلامهم إلى كوابيس، إذ لم يقيموا بعد دولتهم القطرية. في هذه المدرسة في جوبا كانوا يحيّون علم الجنوب حتى قبل أن يُستفتوا وينفصلوا. وفي هذه وجدناهم وقد تخلوا عن اللغة العربية التي ربطتهم بالشمال قرابة 200 عام، وأخذوا يدرسون أبنائهم في الصفوف الإبتدائية باللغة الإنجليزية، علهم ينبتون عن السودان وهم يشتكون من ظلم الشمال.


طالب مدرسة: لأن هنالك مظالم تاريخية لأبناء الجنوب تتمثل في أشياء كثيرة، حتى أنا، أنا قادم من الخرطوم عندما كنت في الخرطوم لم أرى شيئاً يعني يقود إلى الوحدة وكل الأشياء ضدنا، حتى يعني أبسط شيء المواطن البسيط لا يتساوى أنا أستغرب لماذا..

أحمد الشيخ: هل يمكن للجنوبيين أن ينفضوا عن أنفسهم علاقة مع الشمال العربي الأفريقي المسلم بسهولة..في هذه المدرسة للمرحلة الإعدادية وجدنا الطلبة يفتتحون يومهم ببعض من آيات الذكر الحكيم ومن الإنجيل. تعايش درجوا عليه سنوات طويلة وهم يطالعون كل صباح خريطة السودان الموحد، ويستفتحون بسم الله وبالثالوت. وحتى ما على الجدران من حكمة وشعر يحفظونه تمتد جذوره أبعد من السودان إلى بلاد الشام.

[فاصل إعلاني]

انتشار المسيحية


أحمد الشيخ: على أن جذور انتشار المسيحية في جنوب السودان ومحاولات تصفية الثقافة العربية فيه تعود إلى الاستعمار البريطاني الذي فرض في منتصف عشرينيات القرن الماضي ما يُعرف بسياسة المناطق المقفولة. إذ فُتحت مناطق الجنوب وجبال النوبة على مصارعها أمام الإرساليات التبشيرية وحُظر على العرب الشماليين الدخول ومُنع التحدث باللغة العربية، وأصبحت الإنجليزية هي اللغة الرسمية، ومُنع إرتداء الأزياء العربية، وظل هذا قائماً إلى عام 1947، ويُجمع السودانيون الشماليون على إختلاف مشاربهم السياسية اليوم، على أن هذه السياسة هي الأساس الذي أدى إلى ما نراه اليوم. للكنيسة على ما يبدو دورا نشطا في الجنوب سياسةً واجتماعاً، وهي على تعاون تام مع الكنائس الغربية والعالمية، في هذه الكنيسة نفسها يُقام قداس الأحد باللغتين العربية والإنجليزية، والمنشدون من الإنجيل في القداس الإنجليزي ذوو بشرة مختلفة. وحتى في السياسة الحالية والمقبلة لجنوب السودان تقوم الكنيسة العالمية بدور واضح، فلم يمضِ يوم في جوبا حتى صادفنا إجتماعاً للكنائس من مختلف الطوائف بحضور رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت، والمفارقة أن كير ميارديت وأقطاب الحركة الشعبية كثيراً ما انتقدوا النظام الأصولي في الشمال، واتخذوا من ذلك ذريعة للإنفصال لكن ها هو الرئيس العتيد يتحدث عن الجنوب وسياسته ومستقبله أمام الأساقفة ويتقبل من ممثل الكنيسة الإنجيلية الأميركية وممثلي الكنائس الغربية الهدايا والتهنئة بميلاد أمة جديدة. لكن حين وقف الأسقف الأميركي متحدثاً لم يكن هناك من بدٍ لمن يترجم قوله للعربية، فما زال التغريب بدل التعريب في بداية الطريق وقد لا يصيب هذه المرة أيضاً النجاح السريع. رغم عدم توفر إحصائيات دقيقة فإن قرابة ثلث سكان الجنوب من المسلمين، وإن كان ساسة الجنوب يقولون إن العدد أقل بكثير. يمارس المسلمون حتى الآن عباداتهم في مساجد جوبا وغيرها بحرية يأملون في أن تستمر بعد الإنفصال.


عبد الله دينغ/ نائب رئيس حزب المؤتمر الشعبي: لا أخشى، لأن الإسلام في الجنوب ليس محل صراع بيننا والآخرين لأن الأسر الجنوبية مكونة من كل هذه، من النصارى، أو مسلمين، وغيرهما، يعني في الأسرة الواحدة في مسلمين، في أسرة واحدة يعني لأب وأم واحدة تجد المسلم والمسيحي والذي لا يؤمن بهاتين الديانتين، فإذن من أين يأتي الصراع إذا كان أنت وأخيك تختلفان في الديانة وتعيشان في منزل واحد وتقبل الآخر، نحن نعزز ثقافة قبول الآخر، والتسامح الديني، والتعايش.


أحمد الشيخ: أما أطفالهم فيتشربون الثقافة الإسلامية كما يفعل الشماليون في مثل هذه الخلاوي..استأذنا شيخهم الذي لاقى وجه ربه بعد سفرنا، فصورناهم يحفظون كتاب الله في أوضاع تنفطر من هولها القلوب من شدة فقرهم. قال الشيخ الراحل زاهداً في الكاميرا هذه الخلوة هنا منذ 40 عاماً، وما التفت لمساعدتها أحدٌ من المسلمين. يُطالع الجنوبيون كل صباح الشعارات الداعية للإنفصال في كل مكان، كما يُعاينون ما خلفته الحروب منذ عام 1955، من فقر وبؤس، ويتأملون الخطوة الأخيرة قبل الإستقلال لعل الغد يكون أفضل كما وعدوا. هذه الساعة من فنون بناء الدول أو تقسيمها كما قد يقول بعض السودانيين، كانت هذه الساعة تعد لأبناء الجنوب قبل الإستفتاء بالدقيقة، والساعة، واليوم، كم بقي قبل أن يصبح الجنوب دولة مستقلة، لكن ما قد ينتظره الجنوبيون هو ساعة أخرى تعد كم قطعوا في طريق التنمية والسلم الإجتماعي، وهذه ساعة ربما تكون دقائقها أبطأ وأصعب كثيراً. عند أطراف جوبا يكسب هؤلاء الناس عيشهم من تكسير الصخور وتفتيتها حصيات تصلح للبناء وأعمال الطرق. وجدناهم رجالاً، ونساءً، وفتياناً يبدأون يومهم مع الفجر في هذا العمل الشاق ولا يستريحون إلا حين تقيض الشمس، وما أن تميل في كبد السماء يعودون، ولا يزيد دخل الواحد منهم في يومه عن بضع دولارات. أما جوبا العاصمة العتيدة للجنوب فقد حرمها الصراع المرير من مقومات العاصمة، بضعٌ من شوارعها معبدة وما فيها من عمار حقيقي هو دوائر الحكومة أو بيوت كبار المسؤولين. والبنية الصحية مجرد مستشفيين صغيريين بُنيا بأموال عربية كويتية. ولا يسيطر المواطنون الجنوبيون حتى الآن على مفاصل إقتصادهم، فمعظم المحلات ملك لتجار شماليين مع تغلغل واسع هذه الأيام لرجال الأعمال الأوغنديين القادمين من الجنوب يحمل المسؤولون في حنوب السوادان مسؤولية التخلف للشمال كأن الحرب خاضها طرف واحد فحسب.


باغان أوموم/ الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان: خذ مثلاً مدينة جوبا لم يوجدفيها في خلال خمسين سنة من الاستغلال واحد كيلو متر من الإسفلت، الآن بنت حكومة جنوب السودان ما يقارب الـ 200 كيلو متر من الإسفلت، كل هذا جديد في خلال خمسة سنوات، انظر إلى أنه كل حكومات السودان لم تبن ولا عشرة كيلو مترات من الإسفلت، بنت حكومة الجنوب 200 كيلو متر هل أعتبر ذلك تقدما؟ صحيح هي مساحات كثيرة ولكن إذا قارنا فترة الخمس سنوات نجد أن مستوى التنمية بدأ حقيقةً في جنوب السودان.


أحمد الشيخ: غير أن معارضي الحركة الشعبية لتحرير السودان التي خاضت الحرب أيضاً من الجنوبيين أنفسهم يتهمونها بالفساد والتزوير حتى قبل الاستقلال ويتساءلون أين ذهبت مداخيل النفط التي حولت للجنوب منذ اتفاق نيفاشا.


ديفيد جاك نيال/ حزب جبهة الإنقاذ الديمقراطي المعارض بجنوب السودان: نحن في جنوب السودان عدنا أزمة كبيرة جداً وهي الحركة الشعبية، السلطة الموجودة هي بالنسبة لنا كارثة لأن إذا رجعت إلى المستوى بتاع الفساد في جنوب السودان بتلاقيه يعني فوق 100% فساد، الفساد دي تلقى الواحد الليلة يعني يشيل الكمية بتاع القروش يصدرها عن طريق مطار جوبا وأي مطارات من هنا أو عن طريق الحدود يشيل قروشهم ويخمهم ويوديهم بره، عشان يمشي يفتح بتاع عند بنوك خارجية ، لازال أصلاً لما أجوا الجنوب هنا لقوا نفسهم أصلاً أنهم كانوا أجانب، كل دول شايلين الجنسية بتاع أستراليا، جنسية أميركية معظمهم الآن البرلمان 90% أجانب شايلين جوازات أخرى بتاع دول ثانية.


باغان أوموم: ظاهرة الفساد هي ظاهرة موجودة، نحن انضمينا لدولة تعتبر أسوءأ دولة فاسدة في إفريقيا وفي الوطن العربي هي السودان على حسب الشفافية العالمية لعدد من سنوات أسوء دولة فاسدة في هذه المنطقة، وبالتالي انضمينا لنظام فاسد ونحن نقر بوجود فساد كمرض يجب مواجهته ومحاربته، والحركة الشعبية عندما انضمت للحكومة، تشكيل الحكومة الجديدة رفعت موقفاً سياسياً بعدم السماح بتحمل الفساد وبدأنا نحارب الفساد.

الهم القبلي


أحمد الشيخ: القبيلة هي هيكل المجتمع في جنوب السودان وقد يحدد السلم القبلي مستقبل جنوب السودان مستقل إذ إن ماضي تلك العلاقات تكتنفه النزاعات والحروب، تحاول السلطات الجديدة في الجنوب أن تبث في الناس روحاً أخرى وأن تمسح على الهم القبلي بكفٍ حداثية، كان القوم يحتفلون باختيار ملكة جمال الجنوب ويعرضون في وقتٍ متأخرٍ من الليل فسيفساء مجتمعهم القبلي، لكل قبيلة زيها وتراثها وفنونها ولغتها، الدينكا هي الأكبر والآخرون يتهمونها من الآن بالاستحواذ على مقاليد الأمور، وهناك قبيلة النوير التي ينتج معظم نفط الجنوب من أرضها في ولاية الوحدة، وقبيلة الشلك وما خاضته في السابق مع القبيلتين الأخريين من قتال دامٍ، وهناك قبائل الباريا والزامبي والمنداري وعشرات غيرها لم يجمع بينها قبل الآن نظام سياسي مركزي، أردنا أن نتلمس الحياة خارج جوبا فمضينا في طريقٍ غير ممهد إلى تلكاكا موطن لقبيلة المنداري، لا يجد هؤلاء الفقراء من تلكاكا غير أقدامهم وسيلة نقلٍ تقلهم إلى جوبا على بعد ستين كيلو متراً أو يزيد، والمنداري ليسوا من القبائل الكبيرة في جنوب السودان وحياتهم عمادها الأبقار بما لها من قداسية، من حليبها يشربون ومن روثها المحروق يحنون رؤوسهم، قالوا لنا إن هذه حمسة آلاف رأس ملك لرجلٍ واحد يرعاها إخوانه وأولاده وزوجاته، يقول هؤلاء المنداري إن المسلحين من الدينكا وقبائل أخرى هاجموهم وقتلوا رجالهم واغتصبوا نسائهم وسلبوا ماشيتهم منذ عهدٍ قريب من دون أن تهب حكومة الحركة الشعبية التي نزعت سلاحهم لوقف ذلك، لكن الحكومة تنفي وتقول إنه تآمر من جانب الخرطوم.


مواطن: بعد نزع سلاحنا جاء مسلحون من ولاياتٍ أخرى فقتلوا أناساً كثيرين، فنحن فقط نزع سلاحنا وكنا نعيش هنا في هذه الولاية ونحن تركنا أماكن عيشنا ونعاني الآن من الجوع لأننا تركنا كل شيءٍ خلفنا ومازال الذين هاجمونا يغزون مناطقنا ومازالت آثار المنازل المحروقة موجودةً حتى اليوم.


أحمد الشيخ: تلكاكا نفسها مجرد بلدةٍ النظرة الأولى إليها تغني عن السؤال عن أحوالها، المدرسة الوحيدة فيها بنيت كما قالوا من أيام الفريق عبود، يدهشك قسم الأرض والماء الوفير فتحتار مما يتدفق النيل الأبيض كالبحر من هنا لكنه ساحر خلاب، ظللت والقارب يتمايل بنا على خد النيل أتمنى وأنا ابن فلاحٍ خبرت كفه الخشنة خير التراب لو أن لي هنا بقعة من الأرض، نحن الآن في جنوب السودان قبل ظهور نتائج الاستفتاء حول مصيره، هنا ترى المناخ المناسب للجهد الاستثماري، الأرض الخصبة والمياه الوفيرة والسواعد المفتولة، ترى أما كان يجدر بأصحاب المال في الوطن العربي أن يتنبهوا إلى هذه المنطقة فيستثمروا فيها بعض أموالهم، لو حدث ذلك ربما لكان الأمر مختلفاً،أردنا أن نستطلع أحوال المجموعات الصياده التي تعيش على النيل ومعه، لا شأن لهؤلاء القوم بالعالم إلا ما يجود به النهر العظيم وما تجود به أرضه عند ضفته، كبارهم وشبانهم يلقون بشباكهم ويعودون بأسماكٍ تكاد تظن إنها بحجمها هذا لابد عاشت في محيطٍ شاسع، يجففون منها بأساليبهم البدائية ما يزيد عن حاجتهم ثم يبيعون، ومن الأرض موز وفاكهة استوائية ودخن للخبز والمشروب، تعيش النساء معاً ينجبن ويعتنين معاً بالبنين وتتلقى الصبايا الخبرة من العجائز في سحق الدخن وتحويله إلى مشروب وإن زرتهم فلا بد من صورةٍ مع صباياهم وأنت الطارئ الغريب الذي قلما يطرق النواحي، هذه أحوال بعض مواطني جنوب السودان الذين سيتعين على الكيان الوليد أن يعتني بهم وأن ينقلهم إلى القرن الحادي والعشرين وقد لا يكون هذا بالأمر اليسير، وليس كذلك بالهين في أعالي النيل حيث تسفك دماء خلقٍ كثير في نزاعاتٍ بين القبائل الإفريقية نفسها ويخشى من اندلاع قتالٍ بينها وبين القبائل العربية، في بلدة كويك لا يفصل بين عرب قبيلة بني سليم في الشمال والشلك في الجنوب إلا مئة مترٍ أو أقل واللغة هنا هي ما سمعناه في أبيي الأرض لي وليست لك.


مواطن سوداني: بني سليم كلها كل الحلال إللي بتعايل ده كله، الناس إللي فيها كلهم بني سليم ما في حاجة اسمها شلكانة ولا حاجة.


مواطن آخر: ما في زول يملك قوطية من شلوك ما في زول بيملك قوطية يقول لي قوطية من هنا أو هنا ما في.


أحمد الشيخ: وبعضهم اختلطت دمائهم وانتمائاتهم ولا يدرون أين يذهبون، وحتى رقصات المردوم لا تخفي ما في النفوس من خوفهم من المجهول، أما في فشودا الميناء النيلي الذي أراد الفرنسيون في القرن التاسع عشر أن يقيموا عليه سداً يمنع الماء عن الشمال فثمة قصة مؤلمة أخرى، فشودا موطن للشلك الذين يحمل بعضهم السلاح اليوم في وجه حكومة جوبا وجيشها بعد أن سقط المئات منهم أو أكثر بسلاح الجيش ومقاتلي الدينكا، حرقت قراهم واغتصبت نساؤهم كما يقولون، وجيء برثهم السلطان للصلح بحضور كبار الضباط الذين يتهمون الشمال بتدبير المشاكل ويطالبون الشلك بتسليم السلاح، لقد أنفقت الحركة الشعبية في السنوات الماضية جزءاً كبيراً من مداخيل النفط على تجهيز جيشها إذ هو أداتها في فرض السيطرة في الداخل أو في مواجهة الشمال إن تفاقمت النزاعات الحدودية إلى حرب، وإن وقعت فإن أبناء أحلام الاستقلال ستغوص أقدامهم أعمق في مستنقعاتها خاصةً إذا انزلقت حكومة جوبا المستقلة إلى أوحال نزاعاتٍ أخرى تثقل خطى السودان كما في دارفور، ومع أن دارفور قصة تستحق معالجة موسعة سنتصدى لها بعد وقت فإنها اليوم جرح آخر ناكأ في بدن السودان وإن اختلفت في طبيعتها مع قصة الجنوب.


غازي صلاح الدين: مشكلتان مختلفتان تماماً في مبدئيهما، في طبيعتهما، في عواملهما المحركة، الجنوب ليس مثيلاً لدارفور، دارفور هي في ضمن إطار الثقافة الإسلامية العربية الشاملة، دارفور مطالبها لم تكن كمطالب الجنوب ليس فيها مطالب ثقافية مثلاً، هنالك قضية دينية، هنالك..


أحمد الشيخ: يطالبون الآن بحق تقرير المصير وهذا أمر خطير جداً


غازي صلاح الدين/ مستشار الرئيس السوداني لا يطالبون لأني لا أسمع بشخص ذي بال، يطالب بتقرير المصير في دارفور، إذا كنت تتحدث عن عبد الواحد، عبد الواحد شخص هو اختار التطرف واختار من المواقف السياسية أكثرها تطرفاً ليظهر في الإعلام أكثر من أي شيء آخر ولكنه لا وزن له في دارفور ولا يطالب بما يطالب به أهالي دارفور، الآن نحن نفاوض أهل دارفور لا يطرحون قضية تقرير مصير، أصلاً في أي مائدة تفوض .


أحمد الشيخ: على أن السودانيين يجمعون على أن نظامهم لم يحسن التعامل مع أزمة دارفور قبل أن تستفحل، لقد استقبلت دارفور القبائل العربية المهاجرة منذ مئات السنين حتى أصبحت ضحيةً للقبلية التي تغلب على المجتمع السوداني، قبائل عربية راحلة دفعها الجفاف جنوب الصحراء تصطرع مرةً أخرى مع قبائل إفريقية على الكلأ والماء وإن كانوا جميعاً على الإسلام خلافاً للوضع في الجنوب فتأكل نار الحرب الإنسان والزرع والضرع، وما تزال الأصابع حتى اليوم على الزناد إذ تخفق كل محاولات السلام ويظل باب الحرب مفتوحاً لتدخل منه أطراف أخرى وتثار قضية تقرير المصير لجزءٍ آخر من السودان، العرق والقبلية وربما ما في باطن هذه الأرض الخلابة والتدخل الخارجي أساس الصراع في دارفور والجنوب، وإذ يتعمم جبل المرة في دارفور بالسحاب وتتدفق في جنباته الشلالات يتمنى المرء لو أن في القوم رجلاً رشيداً يبسط السلام فنزور هذا الجبل سياحاً بعد أن يقبل جميع السودانيين التنوع في بلادهم ويحسنون إدارته، فحتى الزي الذي تزهو به السودانية أينما كانت تتنوع آرائهم في أصله، ولا يختار جنوب السودان لنفسه زياً مستقلاً لصنواته وثقافته وحسناواته فإن السودان سيظل يستدفئ بنار الخلاوي وبها يستنير وعلى وقعها يتمايل وفيها يذكر وينشد وسيظل يتلفع بزيه الجميل ويضمد به جراحه، هكذا بدا لنا السودان من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، فيه كل القبائل والشعوب، فيه العرب والزنج والفنج والهاوزة والفلاني والهرن والفور وفيه عاش أول من خلق الله، أشواقه عربية متوسطية ووجدانه الغالب مسلم وجذوره راسخة في القارة السمراء، إنه متلازمة أفريقيا نجاحه يبشر بنجاحها وأزمته تنذر بأزمتها ذلك هو السودان..