
أزمة العقل البشري في القرن الواحد والعشرين
![]() |
![]() |
ماهر عبد الله:
أعزائي المشاهدين. . سلام من الله عليكم، وأهلاً ومرحبًا بكم في حلقة جديدة من برنامج (الشريعة والحياة).. سيكون موضوع حوارنا لهذا اليوم هو هذه الأزمة التي تواجه البشرية، وهي تدخل قرنًا جديدًا كانت تظن أن العلم فيه سيحل كل إشكالاتها، وسيجيب على كل أسئلتها، لكننا اليوم نفاجأ بأن المؤسسة العلمية، لا سيما في الغرب الذي يفاخر بهذه العلمية، والذي بنى حياته وتصوراته عليها يدخل في أزمة وفي صراع مع نفسه.
البشرية اليوم تبحث عن فلسفة جديدة تحكم علاقاتها المجتمعية تماما كما تحكم علاقاتها مع الكون والطبيعة.
العقل المسلم ليس غائبا، وإن لم يكن بالضرورة مشاركا، إلا أنه ليس غائبا تماما عن هذه الجدلية التي تحكم العلاقة بين العلم والفلسفة، والطريقة التي تتطور بها المجتمعات.
يسعدني أن أناقش هذا الموضوع مع الدكتور مصطفى المرابط المدرس بكلية العلوم في جامعة وجدة بالمملكة المغربية.. الدكتور مصطفى أهلا وسهلا بك في برنامج (الشريعة والحياة).
د. مصطفى المرابط:
أهلاً وسهلا، شكراً جزيلاً.
ماهر عبد الله:
لو ابتدأنا عن مظاهر هذه الأزمة، العالم الغربي يبدو الآن أنه مأزوم، كان يساريًّا ذات يوم، وأصبح كله ليبراليًّا حرًّا يدعو إلى اقتصاد السوق، لكنه الآن يمر بمخاض شديد، يشكك أو يعيد صياغة الأسس الفلسفية التي قامت عليها الحضارة المادية التي أخذت الطابع المادي في المقام الأول.
د. مصطفى المرابط:
بداية شكرا جزيلا على هذه الدعوة الكريمة، في الحقيقة أنه لست أدري إن كانت صدفة أن نقف على مشارف الألفية الثالثة، وأسئلة ضخمة فلسفية وجودية علمية تُثقل كاهلنا، خلاف القرن الماضي عندما دخله دخلته البشرية دخلته بآمالٍ كبيرة، وبملفات واعدة، عكس الدخول
البشري في القرن الـ19 والقرن الـ20،
نحس أن دخولنا إلى القرن الـ21 بأسئلة مُثقلة جدًّا يتبعها التشاؤم والنظرة السوداوية.
لاشك أنه خلال العشرية الأخيرة من هذا القرن قامت هناك.. كانت هناك مراجعات على المستوى الفلسفي وعلى المستوى العلمي لكثير من النظريات التي كانت تؤطر الإنسان والتي كانت تتحكم في مسار الحضارة المعاصرة.
باختصار إن خلاصة هذه المراجعات تتسم بنظرة تشاؤمية وبنظرة سوداوية، لأنه لأول مرة في تاريخ البشرية تقف البشرية على شفا حفرة من التدمير الذاتي بحكم عوامل متعددة.
الميزة الثانية التي نختلف تختلف فيها الإنسانية اليوم مع ما مضى من التاريخ البشري: أن لأول مرة نحس بأن مشاكل حضارة ما التي قد تقودها إلى نهايتها، لسنا ندري كيف ستكون النهاية، لكن نحس أن هذه النهاية لن تكون نهاية حضارة بعينها بقدر ما هي نهاية البشرية بأجمعها.
ماهر عبد الله:
يعني لو سمحت لي هون، نحن منطلقون إذن في النقاش من أننا.. أنت لا تنتقد الحضارة الغربية من باب أننا أصحاب مشروع مغاير ومخالف، نحن منطلقون في حديثنا هذا من أننا شركاء في هذه الإنسانية، ألا يمكن أن يتهم كلامك بداية أو كلام كثير من المسلمين بأننا نتجنى قليلاً كون فيه صراع ما بين الفكر الإسلامي على الأقل في صيغه المعاصرة والفكر الغربي؟
د. مصطفى المرابط:
حتى نرفع اللبس في هذه البداية، في اعتقادي المتواضع أن الإنسانية اليوم كما هي تبدو، كما يصورها كثير من الباحثين محملة في زورق واحد، وعلى كوكب واحد، وهذا الكوكب يا لروعته عندما يُنظر إليه من القمر كجوهرة زرقاء تحمل هذه الإنسانية بأكملها، فالحديث اليوم لم يعد هناك في اعتقادي مجال للحديث عن الأنا وعن الآخر، عن الذات وعن الآخر. فالحدود لم تعد متمايزة بقدر ما أن ما أصاب هذه الحضارة، ولن نحاكم النوايا نحن في صدد الحديث عن المسؤوليات، ولكن ما أصاب الحضارة المعاصرة يطال الإنسانية بأجمعها.
فالمشكلة مشكلة إنسانية بدرجة أولى، فالحديث عن هذه الأزمات ينطلق من هذا الأساس، على أن هناك أزمة، أزمة إنسان معاصر، والمشاركة في هذا الجدال وفي هذا الحوار العابر للقارات، هو من باب البحث عن مخارج، وعن استدعاء الأطراف التي أقلت هذه الباخرة للمساهمة في الابحار بأمان والوصول إلى بر الأمان.
ماهر عبد الله:
طيب لو سألتك باختصار عن مظاهر هذه الأزمة، نحن افترضنا أن أحد مسلمات أسباب هذا النقاش، أن هناك أزمة يواجه الإنسان اليوم، مظاهر هذه الأزمة كما تبدو لك.
د. مصطفى المرابط:
في الحقيقة لا أجد كلمات تعبيرية عن هذا المشهد الذي حاولت أن أتحدث عنه في البداية، مثل الكلمات التي أطلقها المفكر الفرنسي ألبير كانيو بعد كارثة هيروشيما، يقول: إذا كان القرن السابع عشر هو قرن الرياضيات، والقرن الثامن عشر هو قرن العلوم الفيزيائية، والقرن التاسع عشر هو قرن العلوم البيولوجية، فإن القرن العشرين هو قرن الخوف والقلق، إنه قرن الخوف والقلق، لماذا؟ لأن هذا القرن تراكمت فيه جملة التحديات والأزمات التي صاحبت هذه الحضارة -وسنأتي لماذا- لتجعل البشرية أمام سؤال وجودي: نكون أو لا نكون! بحيث إن البشرية لأول مرة أصبحت مهددة في وجودها على مستويين: المستوى البيولوجي والمستوى الثقافي.
المستوى البيولوجي بعوامل متعددة بدأت إرهاصاتها تُرى – وليست خافية على الإنسان – من تراجع في الأنواع البيولوجي الذي يهدد الاستقرار، استقرار الحياة، إلى الأزمة الذي يعانيه نظامنا البيئي، وتخلخل التوازن (الإكولوجي) في الكون من تلوث، ومن الثقب التي أصابت، أصابت الأوزون إلى غيرها، بحيث إنه فعلا أصبحت هناك علامات تهدد الحياة بالمعنى البيولوجي.
الجانب الآخر أو التحدي الآخر الذي يهدد البشرية من الناحية الثقافية، لأن الإنسانية تتميز عن الحيوانات الأخرى بكونها كائنات (بيوثقافية)، لأن الثقافة هي التي تميز الإنسان عن الحيوانات، حتى هذا البعد الذي كان يعطي للإنسان فرادته وتميزه أصبح مهددًا بفعل طبيعة الحضارة المعاصرة التي تنحى منحا تأحيديا نمذجيا يلغي ويدمر كل التنوع الثقافي، بحيث أننا أصبح الآن أصبحنا اليوم أمام ثقافات معدودة بعضها حوّل إلى فلكلورات وبعضها ما زال يقاوم، ولكن ليس من مصلحة الغرب نفسه أن نعيش هذه الأزمة، أزمة تراجع التعدد الثقافي، بل التعدد الثقافي أصبح أحد المخارج الأساسية من الأزمة التي يعيشها الغرب نفسه ويعيشها الإنسان المعاصر.
طبعا للعلم دور أساسي، لمؤسسة العلم دور أساسي، فيما راكمته الحضارة المعاصرة من أزمات، بكون هذا العلم انفرد على أساس أنه المصدر الوحيد للمعرفة، لذلك ليس غريبا أن يقول الفيلسوف الألماني مبكرا أن هذا العلم أعمى، أو مع الفلاسفة المعاصرين أن العلم لا يفكر.
فتتبع هذه الأزمة من طرف بعض حكماء هذه الحضارة، جعلت مثلا علماً من أعلام الفكر الغربي مارتن هيري الفيلسوف الألماني يصيح في آخر حياته عندما وجد نفسه أمام مآزق وجودية تهدد البشرية يصيح بصيحة ما زالت تدوي في أرجاء الكون: "وحده الله قادرعلى أن ينقذنا".
إذن هناك اعتراف ضمني، أن سقف الحضارة المعاصرة مع الأزمات التي تعيشها غير قادرة على أن تبدع بدائل معينة، بمعنى أنها استنفدت أغراضها، فنحن الآن، يعني المتابع للإصدارات داخل الغرب أو للنقاشات والحوارات داخل المؤسسة الفكرية الفلسفية العلمية داخل الغرب، هناك إجماع على أن.. على نقد الحضارة المعاصرة وعلى مسار العلم الحديث، ولكن هناك عجز، عجز ظاهر وبيّن.
ماهر عبد الله [مقاطعا]:
طيب، لو سمحت لي هو في الأخير، ونحن نتحدث عن مسار العلم أن نتحدث قبله عن دور العقل، في الآخر العلم هو إفراز للعقل البشري، الحضارة الغربية تُعَوِّل على العلم كثيرًا وتعطيه حجمًا يبدو للشرقي من أمثالنا أنه أكبر من الدور الطبيعي.. إلى أي مدى التعويل على العقل ووضعه في وضع قد لا يكون بالضرورة هو ما يناسبه؟ هل الحضارة الغربية تعطي العقل دورًا أكبر مما يمكنه القيام به؟
د. مصطفى المرابط:
طبعا، هذا يحيلنا على سؤال عن الأسباب التي كانت وراءه، نحن الآن نتحدث عن النتائج وعن الحصيلة لهذه الحضارة المعاصرة، نحن على مشارف توديع القرن الـ20، طبعا السؤال الأساسي: لماذا هذه، أين تكون الأسباب التي أدت بالحضارة المعاصرة إلى أن تضع الإنسانية بأجمعها في هذا المأزق؟
في رأيي أن التفكير في مثل هذه المسألة تحيلنا أساساً على استنطاق (البنيات الخيالية) أو ما يسمى بـ (المخيال) للحضارة المعاصرة، لأن المخيال ليس هو انعكاس فقط للصورة أو الحقيقة، بل المخيال هو الذي ينتج الصورة وينتج الحقيقة، لذلك استنطاق هذا المخيال سيضع في أيدينا مفاتيح تقربنا إلى فهم هذه الأزمة، وبالتالي التفكير في مخارج وفي بدائل ممكنة، الرجوع إلى نشوء الحضارة المعاصرة نجِد أن العقل خاصة قد اتخذ موقعًا لم تعرفه الحضارات السابقة عن الحضارة الغربية، العقل ليس بدعًا في الحضارة الغربية وليس جديدًا، إنما طريقة استعماله والمكانة التي احتلها في الحضارة المعاصرة هو الجديد في الحضارة المعاصرة، بحيث أن يمكن أن ننظر إلى الأزمة التي عرفتها الحضارة الغربية مع الكنيسة؛ نقطة بداية لإخراج العقل من موقع عرفته كل الحضارات إلى موقع يتصدر، يتصدر القافلة الإنسانية أو القافلة الحضارية، ويتموقع في المكان الذي كان يحتله " الله " في الكنيسة عند الكنيسة، بحيث نجد أن فيلسوفًا إيرانيا (داريو شيغان) يقول: بأن منذ خمسة قرون أي من القرن الـ15 والحضارة الغربية تعرف نمواً سرطانيًا للملكات الذهنية بحيث جعلت هذا الإنسان يتمتع بالعقل وحده ويلغي ما دونه، إلى درجة أنه أصبح مع هذه الملكات التي زادت عن حدها إلى إنسان عُصابي يتميز بالعنف وبالشراسة.. عندما نسائل هذه الفترة التاريخية نجد أن تحول العقل من أداة لفهم الظواهر الطبيعية، وللتفاعل مع الكون، وللتحكم في الذات؛ يتحول إلى إله جديد، حيث اعتبره الفيلسوف الألماني (نيتشه) "صنم الفلاسفة الجدد"، بحيث عُوِّل على العقل أن يحل كل المشاكل الإنسانية.
إذاً هذا الموقع الذي اتخذه العقل تحول من موقع إنساني إلى موقع إطلاقي، أصبح مطلقا، هذا العقل إذاً لابد من أن يعيد ترتيب وتأثيث الحضارة المعاصرة خاصة في جانبها المخيالي حتى يستحق هذه المكانة الجديدة، هذا التأثيث سيجعله يفكر في أدوات واسطة تبشر به كمطلق جديد، هذه الواسطة الجديدة ستتمثل في العلم، والعلم كذلك ليس طارئًا وليس جديدًا في الحضارة الغربية.
ماهر عبد الله [مقاطعًا]:
طيب قبل العلم ما هو الخلل في هذا التعريف؟
د. مصطفى المرابط:
تعريف ايش؟
ماهر عبد الله:
أرادوا أن يُحلوا العلم، العقل عفوا، من مجرد آلة لفهم الذات والطبيعة، وبالتالي محاولة السيطرة عليهما إلى كما سميته إله جديد.. أين الخلل في هذا التوصيف؟
د. مصطفى المرابط:
الخلل هو أن موقع العقل أو ادعاءه على أنه يحيط بكل شيء، وأنه المصدر الوحيد في المعرفة، يصادم طبيعة أو تعقد الإنسان، وتعقد الكون، وتعقد الطبيعة.
نحن أمام أداة أو أمام جهاز يزعم أنه هو الذي يحتوي الطبيعة، في حين أن الطبيعة هي التي تحتوي العقل، نحن نعرف مع تطور العلوم خاصة في مجال علوم الأعصاب أن العقل محدود في إدراك الحقائق والظواهر، ومحدوديته لا تختلف عن الحيوانات الأخرى إلا في مسائل معينة، أما نعرف بأن هذا العقل لا يمكن أن يدرك كل شيء.. وسنأتي أن الهزات التي يعرفها العلم، وبعض الثورات التي تختمر داخل مؤسسة العلم تنادي إلى عودة العقل إلى مركزه، وإضفاء النسبية على دوره، ولا يمكن أن يزعم على أنه إله يدرك كل شيء، هذا هو، هذه هي المشكلة الأساسية في هذا الزمن.
ماهر عبد الله:
طيب إذا عدنا إلى العلم كوسيط استخدمه العقل، كنت قبل قطعتك بالسؤال، كنت ستذكر أن العقل استخدم العلم، وبالعكس حوّل العلم إلى مؤسسة علمية أو علموية يستطيع من خلالها أن نضع ما أسميته بالتصور الجديد عن الطبيعة.
د. مصطفى المرابط:
بالنسبة للعلم كما قلت إنه ليس طارئا، وليس جديدًا في الحضارة الغربية، هناك نقاشات كبيرة جدًّا حول جذور العلم، ومفهوم العلم الذي ظهر في الحضارة الغربية.
إنما الجديد مع الحضارة الغربية أن هذا العلم سيتحول إلى مؤسسة معتقدية أو ما يسميه البعض إلى علموية، هذه العلموية ستتقمص دور الدين الذي كانت تلعبه المسيحية، هذه العلموية ستجعل من نفسها وحيًا مصدرًا وحيدًا للمعرفة، فبجانب العقل الذي تألّه وأصبح مطلقًا، إلى جانب العلم الذي تحول إلى علموية؛ نُفخ في الإنسان روح الاكتفاء، روح الاكتفاء هذه فلسفة يرتكز عليها العلم أو مؤسسة العلم الحديث أنه ليس هناك مصدراً للمعرفة غير العقل عبر طريق المؤسسة العِلموية.
ومبكرا في القرن الـ16 يتحدث (مادلو) في كتابه (الدكتور فوست) وهو يعبر عن هذا الهيجان، وعن هذه الحالة الفكرية التي كانت تسود، ليعطي لنا مؤشرًا عن هذا التحول، وهو يخاطب الإنسان من خلال هذه المسرحية: أيها الإنسان بدماغك القوي كن إلهًا سيدًا لكل العناصر، ولكل الكون.
فالمؤشر على تحول أداة عضو نسبي إلى عضو مطلق، هذه المؤسسة العلموية التي ستتقمص دور المعرفة المطلقة، ستحاول أن تقنع الإنسان بالاكتفاء. والإنسان الآن أمام هذه العلموية الجديدة لم يعد في حاجة إلى مصدر خارجي للمعرفة، وستعمل على إفراغ الكون من أي إحالة على المطلق أو على الدين أو على الله أو على غيره.. ستفرغه من بُعده المُتسامي من بعده الديني من بعده الإلهي، بمعنى أن عملية (العلمنة) ليس كما يشاع في الإنشاءات العربية أنه فصل الدين عن الدولة، يُنظر إليه من الزاوية، بل بالتعريف الذي أعطاه الأستاذ عبد الوهاب المسيري: هو إفراغ الكون من كل بُعدٍ غائي، ومن كل قيمة تربط الكون بخالقه، إذاً إفراغ الكون من هذا المحتوى، وملئه بفلسفة الاكتفاء ستجعل بعض العلماء سينطلقون منذ البداية؛ أن هذا الكون الذي يجب علينا أن نعيد إنتاج صورته، لأن العالم أو صورة العالم لا توجد إلا في علاقة، كل ثقافة وكل حضارة تقدم صورة، لها صورة عن العالم، عن الكون، عن الإنسان، فصورة الحضارة الغربية لم تكن تختلف كثيرًا عن الثقافات الأخرى.
وهنا ستعمل حضارة المؤسسة العلموية على إعادة إنتاج صورة جديدة، تملؤها روح الاكتفاء والعلمنة، وإقصاء كل الأبعاد الأخرى، من هنا سيصيح مثلا عالم مثل (بيل تيرو): أن الكون لم يعد يملك أسراره، وهي بداية لسلسلة من الإجراءات التي ستعمل على إعادة بناء صورة عن الكون وعن الطبيعة وعن الإنسان.
ماهر عبد الله:
باختصار شديد لو سمحت لي بالتلخيص، أن هناك محاولة لإخراج الكتاب المقدس على اعتباره في الحضارة الغربية مصدر علمي مفارق للحياة الإنسانية، ومحاولة وضع العلم مكانه ككتاب مقدس جديد، وبالتالي إخراج الكنيسة الدينية وإحلال كنيسة علمية علموية مكانه.
[موجز أنباء]
ماهر عبد الله:
دكتور مصطفى تحدثنا عن تأليه العقل، لكن مقابل تأليه العقل أيضا كان هناك تمدية [جعل الشيء المعنوي ماديا] لكل شيء، المادة انتقلت في الحضارة الغربية من كونها أحد مكونات هذا الكون إلى جوهر الأشياء في هذا الكون. أليست هذه مرتبطة بأسباب هذه الأزمة التي نتحدث عنها أيضًا؟
د. مصطفى المرابط:
بالفعل، قلنا إن المؤسسة العلمية العلموية لما أفرغت الكون من أبعاده المتسامية والمتعالية التي كان يحضر فيها الإله بشكل كبير، انطلقت في مسيرة جنونية إلى إعادة إنتاج الصورة، وإعادة كتاب الكون المفتوح، من هنا برزت المساعي الموسوعية لاكتشاف لإعادة اكتشاف وقراءة المظاهر الطبيعية، وفي اعتقادي أن الانطلاقة تأسست وارتكزت على مثلث يتكون من النظرية الرياضية (لنيوتن) – سنعود له- ثم فلسفة (ديكارت) التي ستقعّد تحاول أن تأسس لهذا المنحى، ثم المنهج التجريبي لـ (فرنسيس بيكون).
هذا المثلث هو الذي سيشكل الأرضية الفلسفية الأيدولوجية العقدية لانطلاق الإنسان لإعادة إنتاج صورة معينة للكون، بعدما تم إفراغ الكون من الأبعاد الأخرى، لم تعد مؤسسة العلموية تعترف إلا بالبعد المادي في هذا الكون لأنها الجزء الوحيد الذي تمتلك اللغة للتواصل معه، ولإخضاعه لمنهجها التجريبي بين قوسين.
فالمادة كذلك ليست جديدة في الحضارة الغربية، فالمادة عرفتها حضارات أخرى ولا تنكرها، ولكن المادة لم تعد ذلك المكون الأساسي بل تحولت إلى جوهر الوجود، إلى فلسفة وجودية يتمحور حولها الوجود بأكمله.
إذاً هذا التحول هو الذي سيجعل العلم لا يقرأ الكون إلا من هذه الزاوية، إلا من هذا المنطلق، لذلك سنعرف تحولاً أو منعطفًا خطيرًا، سننتقل من نموذج الكون الذي كان يُنظر إليه على أنه بمثابة الأم المرضعة في علاقة عضوية في الكون؛ إلى مفهوم آخر أو ما يسمى بـ (البرادجم برادايم) أن الكون آلة، وهنا نجد أن (ديكارت) مبكرا عندما كان يؤسس، اعتبر أن الإنسان سيدا ومالكا للطبيعة، وبحكم موقعه هذا ووظيفته هذا سيُسمح له بإعادة ترتيب هذه الصورة الجديدة التي تتمحور أصلاً على المادة.
فيقول أحد الفيزيائيين الأمريكيين (فلتش أوف كابرا) يقول: إن القاعدة الفلسفية لعلمنة الطبيعة لإفراغها من محتواها الديني، تعود إلى التقسيم الديكارتي بين الروح والمادة، النفس والجسد، الإنسان والطبيعة، العقل والعواطف، إلى آخره، فدخلنا في فلسفة ثنائية تقسم كل شيء إلى درجة أن الأستاذ (غارودي) سماها بالمرض التحليلي، لأن هناك نزوع، وهناك رغبة وهناك شغف لتقسيم كل شيء إلى ثنائية تبتدئ من العقل والمادة إلى الإنسان والله والطبيعة. . إلى غيرها.
التقاط عنصر المادة كجوهر للوجود، جعل الفلاسفة في تلك الفترة يثيرون نقاشات كبيرة جدًّا، هل يمكن أن نعتبر الكائنات الحية بما فيها الإنسان يخضع لهذا (البرادجم) الجديد بأن الكون آلة.. فيقول (ديكارت): أنّا إذا أردنا أن نكون متسقين ومنطقيين مع خيارنا الفلسفي، فلابد أن يدخل كل شيء في هذا المفهوم، ونعرف أنه في القرن الـ18 أحدث كتاب لميتري (الإنسان الآلة) أحدث ضجة كبيرة، بل أصبحت تقليعة فلسفية، فبدأ يُنظر إلى ليس فقط إلى الكون والطبيعة، إنما إلى الكائنات الحية على أنها آلة، بمعنى أن هذه الآلة هذا الكون أُسقطت عليه صورة الآلة التي أنتجها الإنسان، أصبحت الآلة هي النموذج هي الأصل، وأصبح الكون هو صورة سُقطت عليه صورة الآلة.
إذاً إذا أردنا أن نفهم من الناحية العلمية هذا الكون، هذه الآلة، فلابد أن نحللها إلى أجزائها التي تكونها، وكل جزء إلى عناصره الأساسية بمعنى أنه نُظر إلى الأطراف المكونة للكون بمعزل عن بعضيتها.
ماهر عبد الله:
اسمح لي عند هذه اللحظة أن نقطع النقاش قليلاً للسماح لبعض الإخوة المشاهدين بالمشاركة معنا. معي الأخ (عبد الواحد المولوي) من الإمارات.. أخ (عبد الواحد) تفضل.
عبد الواحد:
أهلاً، شكرًا.
ماهر عبد الله:
أهلاً بك.
عبد الواحد:
أهلا وسهلا، بالنسبة للكلام الذي تفضل به الأستاذ الدكتور مصطفى المرابط هو صحيح حتى 1905 عندما أتى (ألبرت آنشتاين) بنظريته في النسبية، وأيضًا حتى سنة 1925 حينما أتى (هنسبيرغ) و(ديراك) وغيرهم في علم الفيزياء الكمومية ليثبتوا عكس النظرة النيوتنية للأمور.. فالنظريتين وهما النسبية والفيزياء الكمومية قلبت رأسًا على عقب الإيديولوجية النيوتنية والديكارتية التي تأسست عليها معظم العلوم سواء الاقتصادية منها مثل (آدم سميث) أو (كارل ماركس) أو (كانت) في النظرية الاجتماعية أو (ستيورت ملث) في علم السياسة، لكن النظريتين خصوصًا نظرية نظرية (آينشتاين) النسبية طبعًا قلبت الفكرة الزمنية المكانية (لنيوتن) رأسًا على عقب. وجاءت بعدها النظرية الكمومية، لتدق الإسفين أو لتدق آخر المسامير في نعش النظرية النيوتنية التي كانت سائدة.
لذلك نجد على أن الفيزياء الكمومية في القرن العشرين أثبتت على أن العقل لا يستطيع أن يلم بجميع الأمور الكونية، لأن وجدت الفيزياء الكمومية على أن الطبيعة بذاتها هي متضاربة، والكتاب الذي ذكره الأخ الدكتور محمد [ويقصد مصطفى] المرابط للكاتب الأمريكي (فلتش أوف كابرا) اللي هو (تايب فيزيكس) معظمه يتكلم عن موضوع تأثير الفيزياء الكمومية في البراداي شفت في القرن العشرين، حيث إننا نرى تضاربًا كبيرًا بين العقلية النيوتنية وما اكتشفته الفيزياء الكمومية.
ثاني شيء وأنا أرجو إني مو قاعد أطول عليكم..
ماهر عبد الله:
تفضل.
عبد الواحد:
ثاني شيء هو أن الفيزياء الكمومية أيضًا قَرَّبت النظرة العلمية للنظرة الدينية، ولذلك عندما نقرأ الكتب الحديثة للعلماء الكبار مثل في الغرب مثل (ستيفن هاتغنز)، (روجر بنغروز)، أو (روبرت شلدريك) في علم البيولوجيا أو (باول ديفز) كلهم علماء كبار حصلوا على جوائز (نوبل) في مجالاتهم، نجد أنهم دائما في جميع الكتب التي كتبوها، فيها فصول كاملة عن علاقة الدين بالعلوم، لأن العلاقة اللي كانت متشنجة في القرن الـ19 أصبحت جدًّا متلاصقة أكثر في القرن العشرين بسبب الفيزياء الكمومية، والفيزياء الكمومية دخلت إلى (الميتافيزكز) حتى و(باك منستر فولر) في كتابه(سولرجي) يجد على أن العلم لم يثبت حتى الآن وجود الكتلة، ولم يثبت وجود خط مستقيم، ولم يثبت وجود السطح، بل في الأخير يقول، وأنا أذكرها وأنا آسف جدًّا باللغة الإنجليزية This world is a mitaphisical world it is a dream world ، فهي كلها، فلذلك في واحد فيلسوف قال Science has become a thought instead of a machine ، زي ما ذكر الأخ الدكتور، فأرجو في الخلاصة وفي النهاية إني أقول: إن العلم اختلف تمامًا من 1905 حتى الآن، هذا الكلام الذي ذكره الأخ الدكتور المرابط بكل احترام أقوله هو صحيح تماما حتى 1905، وخاصة 1925 انقلبت الأمور وبدأت النظرة العلمية تتكسر.
ماهر عبد الله:
شكرًا جزيلاً يا أخ (عبد الواحد)، وإن شاء الله سنعطي للدكتور فرصة للتعليق، معانا الأخ (ميمون مكّاس) من (المغرب). الأخ (ميمون) تفضل، الأخ (ميمون مكاس) من (المغرب).. طيب الأخ (ضياء الحق) من (فرنسا).. الأخ (ضياء) تفضل.
الأخ ضياء:
نعم، أريد أن أتفق مع الأخ (المرابط) فيما ذهب إليه في تصوره نحو تجاه الفلسفة الغربية ولكن السؤال المطروح: ما هو البديل عن الفلسفة؟ أو البديل لفعل الإنسان الباحث العالم تجاه القضايا العلمية بصفة عامة ولن أستثنِ من ذلك، بما في ذلك مسألة الاستنساخ، يعني هو مبحث علمي، هي قوانين وضعها الله في البشر، وعلى الإنسان أن يكتشفها، هذه في النقطة الأولى.
في النقطة الثانية: ما الذي ينقص، هذا من ناحية العلماء، من ناحية البشر بصفة عامة، أرى أن الأخ (المرابط) يلاحظ وكأن هناك شيء ينقص الأداة وهي العقل، يعني هناك شيء، أرى أنه يراه أنه الروح، الروح تتمثل في عالم بطبيعة الحال في الإله وما إلى ذلك، إذن كيف سنضيف هذا الفعل مع العقل الباحث عن المسائل العلمية؟ وشكرًا.
ماهر عبد الله:
طيب، دكتور لو بدأنا بالسؤال تبع الأخ (عبد الواحد)، نعتقد يمكن إحنا لأنو ما ختمناش النقاش، أعتقد أنه فهم أنك تقول: إن الحضارة الغربية والفكر الغربي يسير في خط مستقيم مبتعد عن الدين، وهو يعتقد أنو هناك منحى معاكس لذلك تمامًا، إن تطورات الفيزياء وتداخلاتها مع الميتافيزيقا تقرّب بين النظرة العلمية والنظرة الدينية؟
د. مصطفى المرابط:
الأخ المتدخل الكريم الأول الذي أثار هذه المسائل استبق النقاش، أنا لم أكن أتحدث من الناحية التاريخية بقدر ما أحاول أن أبحث عن مكونات هذا المخيال الذي أنتج هذه الصورة. سآتي إلى أن العلم الحديث الآن أو العلم المعاصر بالثورات أو الرجات التي يعرفها داخليًا، بدأ شيئًا فشيئًا يطلّق الصورة القديمة التي نحن نتحدث عنها، هو فقط استبقني إلى 1905، إنما فقط المسألة التي كنت أتحدث عنها لا شك أنه محق، وسنأتي على ما ذكره من قطيعة مع العلموية، وهناك نفس جديد داخل مؤسسة العلم لتطليق تلك الصورة القديمة.
قلنا إنه لما نُظر إلى المادة كجوهر للكون على أن الطبيعة أو الكون بما فيها الكائنات الحية أصبحت مثل الآلة، نجد علما من أعلام هذا المثلث الذي تكلمت عنه يوصي العلماء بكيفية التعامل والتواصل مع الكون، فنجد أن ثابت العنف حاضر في النظرة النهضوية، لظاهرة العنف أو ثابت العنف كمؤطر للعلاقة بين الإنسان وبين الطبيعة.. يقول (فرنسيس بيكون): إن هذه الطبيعة عدوة للإنسان، وزيغها قوي، فلابد أن نسيطر عليها.
لاحظ نجدها عند (ديكارت) سيدًا ومالكًا، ونجدها عند (فرنسيس بيكون) لابد من السيطرة والتحكم فيها واستعبادها.
هذا الثابت الذي يعبر عن خلفية فلسفية سنجد تمظهراتها في مواضع أخرى حضارية، ستتبع الحضارة المعاصرة، لذلك سنجد مثلا، كما ذكرت، (بيا تورو) يقول أن الكون لم يعد يملك أسرارًا لأنه مثل الآلة، بل (كوبرنيك) نفسه سيجرؤ على تخيل نفسه فوق الشمس يتفرج على الكون.
ماذا تعطي لنا هذه الصورة أو هذا الانطباع، هذا الانطباع سيعطي لنا أن الفكر العلموي لمّا أعاد بناء صورة العالم لم يكن يعتقد أنه جزء منها، بل كان يعتقد أنه يملك تلك الصورة، أن الكون بأكمله في قبضته، فهو ينظر إليه من الخارج، إنما دوره هو في التحكم وإخضاعه ومراقبته واستنطاقه للقيام بما يعود على الإنسان بالنفع.
إذن فكرة أن العلاقة بين الإنسان والطبيعة والعلاقة بين الإنسان والكون علاقة عدوانية ستنعكس على مناهج البحث في العلم بكل تخصصاته وتفرعاته، عندما تقول لي بأن الطبيعة عدو، فالعلاقة إذن علاقة صراعية، هذه العلاقة الصراعية ستنتهي بغالب ومغلوب، الغالب سيحاول أن يفعل في خصمه ما يبرهن على قوته.. بمعنى لابد من أن يترك علامات تبرهن على قوة هذا الخصم من تشويه ومن تمثيل إلى غيرها، إلى درجة أننا نجد فيلسوفا (ميشيل سيفل) المعاصر.. له قراءة لطيفة جدًّا لظاهرة التلوث يقول: إن التلوث ليس فعلاً لاإراديًا بل التلوث تعبير على المؤسسة العلموية أن الكون ملك لها، كيف؟ يقول: بأن الإنسان عندما يملك شيئًا ما ويحس أن هناك أطرافا تتنافس على امتلاكه كذلك، فإذا نافستني على هذا الكأس، وأريد أن أمتلكه لنفسي، فلابد من أن أغير ماءه، فيقول -استسمح- فأبصق في الماء حتى لا تقترب إليه، والبصق هنا ليس تلوث بقدر ما هو علامة على امتلاكي لهذا الشيء ولا تقدر أنت على التقرب إليه.
كما يمكن أن نقرأ التلوث كعلامة بارزة أحدثتها المؤسسة العلموية لتبرهن على قوتها في إخضاع عدوها في هذا الإخضاع ، الآن أمام هذه التحولات التي بدأت تبرز، العقل الذي تقلد منصب الإله ثم العلموية مكان الكنيسة أو الوحي، والمادة جوهر الطبيعة.. الآن كيف ستنظر المؤسسة العلموية إلى الإنسان؟ هذا الإنسان ستعمل (البيولوجيا) التي أتت متأخرًة على التقعيد العلمي لهذه الفلسفة، بمعنى أن الإنسان لن ينجو من هذه القاعدة، أن الإنسان آلة، فلفهمه لابد من تجزيئه إلى مكوناته الأولية، ثم ندرس كل جُزَيء ثم نكون صورة معينة.
لكن هذا الإنسان كذلك، يلتقط منه البعد المادي في هذا الإنسان، البعد المادي، لكن مشكلة المؤسسة العلموية ستجد نفسها أمام إشكال وجودي، هذا الإشكال الوجودي كيف ستضمن استمراريتها كدين جديد يُقنع الإنسان أن الدخول في أحضانها كفيل بأن يحقق سعادته؟ إذا تم إفراغ الكون من كل محتوياته التي تُحيل على الدين، الأبعاد المتسامية، فإنه يتم الأمر كذلك بالنسبة للإنسان، سيُختزل الإنسان في بعده المادي، الذي عبر عنه بتعبير دقيق وشيق منذ أواخر الستينات (هاربر ماركوس) بالإنسان ذو البعد الواحد.
من هنا هذا الإنسان ذو البعد الواحد، سنجد أن الحضارة الغربية ستجعل هذا الإنسان ينام فيه كل شيء إلا غرائزه، لأنها هي التعبير الوحيد عن هذا البعد، وسيضمر البعد الروحي والبعد العاطفي إلى غيره، لأن مثل هذه المسائل لا يعترف بها قاموس مؤسسة العلموية، ولكن إذا كان البعد الواحد المتحكم في الإنسان هو الذي تعترف به مؤسسة العلموية، وأيقظت فيه غرائزه وجعلته إنسانًا شرهاً يبحث عن تلبية هذه الرغبات بشكل نهِم، المشكل المطروح أمام مؤسسة العلموية: كيف يمكن أن تضمن استمرارية تلبية رغبات هذه الغرائز؟ مع الأخذ بعين الاعتبار أن الكائنات الحية تتكاثر حسب متتالية هندسية، في حين أن الإمكانات أو الموارد الطبيعية تتكاثر حسب متتالية حسابية.
إذن كيف يمكن أن يتم التوفيق، هنا ستسعى المؤسسة العلموية إلى ابتكار تشريع جديد، منظومة قيمية جديدة، ستسعى إلى تأطير هذا الإنسان، ومحاولة البحث عن مصادر تضمن هذه الاستمرارية، لأن المؤسسة العلموية كدين إذا أرادت أن تثبت جدارتها، وتستمر في اعتبارها كذلك، فلابد من أن تضمن بشكل مطرد ما يلبي البعد الواحد في البعد المادي في الإنسان.
ماهر عبد الله:
طيب، سؤال الأخ (ضياء الحق) عن البدائل سنؤجله لأنه سيأتي في ضمن سياق طبيعي، لنعد مرة أخرى إلى الإخوة المشاهدين، والأخ (محمد أبو يونس) من (فرنسا). أخ (محمد) تفضل.
محمد أبو يونس:
السلام عليكم.
ماهر عبد الله:
عليكم السلام.
محمد أبو يونس:
أنا عندي نظرة عملية حول الموضوع
ماهر عبد الله:
تفضل
محمد أبو يونس:
لحد الآن كان الأمر نظري أكثر مما هو عملي، فأقول أننا لا يجب علينا أن نحلم أن الحضارة الغربية على وشك الاندثار، فهذه الحضارة هي قوية في حد ذاتها، لأنها تتعظ من أخطائها، رغم خطورة الأخطاء التي تقع فيها، فهي تتعظ من جراء أخطائها، وهي تعيش في تغيير مستمر، فهو عندهم كل شيء يتغير إلا التغيير، ولذلك تجد عندهم تحول في الفكر فهم انتقلوا من فكر تحليلي إلى فكر نظامي، وفي الاقتصاد كذلك الآن.. تحولات كثيرة، وكذلك في التعاملات العامة والخاصة في الاقتصاد وفي الشركات إلى غير ذلك.
فهو عالم مَرَّ من مراحل إفراط ومراحل تفريط، ولكن الآن يبحث عن حلول وسطية، فهناك كثير من الفلاسفة، كثير من المفكرين، وكثير من الناس اللي عندهم القدرة على القرار يبحثون عن حلول وسطية، لذلك العقل عندهم لازالت له المكانة التي كانت له من قبل، لكن يجب عليه أن يقوم بدور آخر، بدور يجعل في فكره كل الأمور التي نسيها أو أراد أن ينساها في الماضي، لهذا يأتي دور الحضارة الإسلامية لأننا تكلمنا عن الحضارة الغربية، وكأننا نعيش في سفينة الغرب.
لكن هناك دور للحضارة الإسلامية في هذا الشأن، وهو أن الحضارة الإسلامية قادرة على أن تعطي للغرب ما ينقصه، وما ينقصه حقيقة هو الأزمة التي يعيش فيها هي أزمة فقط أخلاقية وروحية، لذلك الحضارة الإسلامية قادرة على أن تعطي لهذه الحضارة ما ينقصها، وتعيش كذلك مع هذه الحضارة وسوف لا تقوم على أنقاض هذه الحضارة، بل ستكون تلقيح لهذه الحضارة.
إذن ملخصًا أن الحضارة الغربية ليست حضارة سوف تندثر، ولكن حضارة سوف تبقى، وإن شاء الله سوف تستغل فرص الحضارة الإسلامية لأن الحضارة الإسلامية قدمت دور للعلم فيما قبل، والآن لها دور آخر وهو أن تعطي دروسًا لهذه الحضارة حول الأخلاق وحول الروح والله تبارك وتعالى.
ماهر عبد الله:
مشكور يا أخ (محمد). معنا الأخ (مصطفى الراسي) من المغرب، أخ (مصطفى) تفضل .
مصطفى الراسي:
السلام عليكم.
ماهر عبد الله:
عليكم السلام.
مصطفى الراسي:
بداية أود أن أشكر الأخ (عبد الله) على استضافة الأستاذ الدكتور (مصطفى المرابط)، وأنا من المعجبين به والمتتبعين لكتابته من خلال مجلته (المنعطف)، وسؤالي باختصار: الأستاذ (مصطفى المرابط) يعرف الكثيرين من المفكرين الغربيين سواء منهم من أسلم ومن لم يسلم.. هل هناك محاولات أو مجالات للالتقاء على مستوى المفكرين الغربيين مع الإسلاميين؟ كي يقع هناك تبادل في الأفكار وتلاقح حتى يطرح المسلمون وجهة نظرهم لإنقاذ الحضارة الغربية أو الحضارة الإنسانية ككل من توجهها هذا العلمي المادي البحت، ولكم جزيل الشكر.
ماهر عبد الله:
مشكور جدا يا أخ (مصطفى).. طيب، لو بدأنا بسؤال الأخ (محمد يونس) من (فرنسا، أنا أعتقد أنو تعليقه صحيح ومبني على يمكن فهم جزئي لما قلته، إحنا أعتقد لم نقل بعد في هذا النقاش أن الحضارة الغربية آيلة للسقوط، نحن اعتبرنا أنفسنا في سفينة واحدة مع الحضارة الغربية، لو بديت لك.. بلا شك هي حضارة الآن ناقدة لذاتها، الحضارة الغربية، بلا شك أنو فيها منحى تحليلي، لو انتقلنا للجزء الأخير من تعليقه، وهو دور الحضارة الإسلامية.. هل تتفق معه أولاً أن ما ينقص الحضارة الغربية هو فقط القضية الأخلاقية والروحانية، هي تعاني من أزمة في هذا الجانب؟ ثم هل يمكن للحضارة الإسلامية أن تقدم هذا النقص أو تعوضه ثم تتعايش معه لا على أنقاضه؟
د. مصطفى المرابط:
تقريبًا فكرته النهائية تلتقي مع الفكرة الأولى أنه لا يمكن تصور بديل من خارج هذه الحضارة، وأن نتصور أنفسنا أننا نعيش بمعزل عن هذه الحضارة، بل نحن أردنا أم لم نرد نعيش في كوكب واحد أو في سفينة واحدة، لكن المشكلة قبل أن نطرح الأزمات أو أزمة الغرب ونقول إن أزمة الغرب تكمن في هذا الجانب فقط، أعتقد أنه منزع تبسيطي نوعًا ما، لأن الأزمة في جوهرها أزمة وجودية -كما قلت- وهذه الأزمة الوجودية تتصل مباشرة بقضية النموذج أو البرادجم الذي تحدثت عنه.. صحيح أن هناك الآن تيارات داخل الغرب نفسه بل ومساعي لمحاولة تصحيح هذا المسار، لكن هؤلاء الباحثون أنفسهم يعترفون بأن سقف الحضارة المعاصرة لا يسمح لهم بتصور إمكانية بديل للبرادجم الحالي، لذلك المسألة أساسية في فهم الجذور المعرفية والعقدية للأزمة المعاصرة من مدخل المؤسسة العلموية، قد يكون الأخلاق جانب من الجوانب، الجانب الروحي جانب من الجوانب، لكن هذه المكونات ترتبط بمحور أساسي محور حضاري.
ماهر عبد الله:
خليني أسالك: إنت كررت المؤسسة العلموية، وأنا أتفق معك في أن هناك مؤسسة، لكن كيف، قد يكون من المناسب أن نميز بين العلم من حيث هو علم محايد لا ارتباطات له أيديولوجية ولا فكرية ولا.. وبين المؤسسة العلموية، يبدو لي أن هناك توظيف للعلم، المؤسسة العلموية كما تسميها هو الأقدر على توظيف العلم، وليس بالضرورة بالطريقة المجردة التي يجب أن تكون.. فهل لك أن توضح؟
د. مصطفى المرابط:
العلم هي وسيلة من الوسائل لفهم الظواهر الكونية والتواصل معه كما سنأتي في الإرهاصات الآن التي يعيشها العلم، إذن وسيلة أساسية ومن أبرز ما ابتكره الإنسان للتواصل مع هذا الكون وفهمه والتفاعل معه، ولكن مع الغرب سيزيغ أو سينزع منزعًا إطلاقيًا ويتحول إلى علموية، بمعنى أنها لن تكتفي بدور فهم الظواهر وتجريبها وتوظيفها، إنما اعتبرت نفسها مصدرًا وحيدًا للمعرفة، مؤسسة معتقدية تشرّع للإنسان مطلق الإنسان.
ماهر عبد الله:
طيب، لو رجعنا لسؤال الأخ (مصطفى الراسي) وأنا أعتبر أنه كان تطور منطقي للسؤال السابق. والسؤال السابق عن الحضارة الإسلامية هل هي قادرة على تقديم ما ينقص؟ هو سؤاله شويه عملي: هل هناك محاولات، هل جرى لقاء بين مفكرين غربيين ومفكرين مسلمين للتباحث في هذه القضايا الفلسفية من أجل إنقاذ الإنسانية في همومها المشتركة؟
د. مصطفى المرابط:
يعني كسؤال عملي، هناك محاولات عديدة ليس فقط بين المفكرين الغربيين والمفكرين المسلمين، بقدر ما هناك الآن ملتقيات تقريبًا دورية بين هؤلاء الذين أسميهم بحكماء الحضارة المعاصرة، واستدعاء ممثلين عن الحضارات أو الثقافات الأخرى التي تعيش على الهامش أو التي كانت تسمى حضارات أو ثقافات الأطراف.
وهناك جدال، وهناك حوار، هناك تبادل الآراء، هناك مواجهة فكرية أو تدافع فكري بدأت تبرز نتائجه، خاصة لمّا نحاول أن نطل على إشكالات العالم المعاصرة من زاوية حضارية وجودية، فهناك ملتقيات تصدر لها كتب، وبدأت الآن تزيد على عشرة كتب تنقل لنا هذه الأجواء التي يعيشها هؤلاء الباحثين والعلماء داخل هذه الملتقيات، وهي مؤشر إيجابي في الاتجاه الصحيح.
لكن.. مع القول بهذا الأمر أو الاعتراف بهذا الأمر، نعتقد اعتقادا جازما مع المرحوم العالم الباكستاني (عبد السلام) حيث يندهش ويطرح سؤالاً مدهشًا، نجد أن كل الأطراف الثقافية والحضارية المختلفة قد بادرت إلى المساهمة والمشاركة في هذا الحوار العابر للقارات حول أزمة عالمنا وعصرنا، وأن العلم قد بدأ يأخذ مكانة محترمة في كل الثقافات وكل الحضارات، إلا عند المسلمين والمجتمعات الإسلامية مازال العلم يُنظر إليه بازدراء، ويلعب دورًا هامشيًا داخل هذه المجتمعات، فنحن نتساءل كذلك: ما هي الأسباب التي جعلت المسلمين ضعيفي المشاركة في هذا الحوار الحضاري؟ رغم أننا نعرف أن في كل المختبرات الأوروبية والأمريكية جزء كبير من العاملين ومن الباحثين؛ من جذور عربية مسلمة، ورغم ذلك ليست هناك مشاركة فعالة مثلما نجده مثلاً مع المنتمين للحضارات الآسيوية المختلفة أو الإفريقية أو حتى جنوب إفريقية.
هذه مسألة تستجوبنا وتسائلنا بشكل كبير، لأن في اعتقادي أن هذا الغياب لا يبرره، ليس له مبرر يمكن أن تفسر به هذا الغياب المذهل، هذا الغياب المذهل نتحمل مسؤوليته بدرجة أولى، قد يكون ربما لطبيعة تكويننا في هذه المؤسسات العلمية، وقد يكون كذلك لنسق الأسئلة التي نطرحها كتيارات تروق إلى التغيير، فهذه المساءلة مساءلة المنظومة العلمية بما تفرزه من نتائج مذهلة الآن تسائلنا تساؤل المنظومة الإسلامية..
ماهر عبد الله [مقاطعا]:
تتحدانا
مصطفى المرابط:
تتحدانا التي لا أشك في عظمتها في تقديم أجوبة ليست مطلقة، ولكن على الأقل بإمكانها أن تساهم مساهمة إيجابية في هذا النقاش الحضاري.
ماهر عبد الله:
طيب، لنعد للمشاهدين مرة أخرى، معي الأخ الدكتور (مجدي موافي) من (بريطانيا)، أخ مجدي تفضل
مجدي موافي:
السلام عليكم.
ماهر عبد الله:
عليكم السلام.
مجدي موافي:
لو سمحت، والله أنا عاوز أعمل مداخلة بالنسبة للحضارة الغربية والناحية الدينية فيها، الحضارة الغربية بيمثلها الناحية الدينية الدين المسيحي، لما بنجد إنه تدريجيًا خاصة في الـ20 سنة اللي فاتوا أنها تراجعت، الكنيسة تراجعت والدين المسيحي تراجع في الغرب لدرجة أنو هو بحاول يؤقلم نفسه دلوقتي حسب الوضع العلماني، ونجد حاليًا مثلا بعض المظاهر: بسماح الزواج للمطلقين تاني في الكنيسة، وتعيين سيدات كقسيسات، واللي عندهم شذوذ جنسي، أنا أقصد أقول: حتى في احتفال الألفينات الألفية الثالثة كبير الأساقفة الإنجليزي رئيس الكنيسة الإنجليزية لم ما كان الموضوع اللي تكلم فيه حوالي ثلاث دقائق فقط بخصوص الاحتفال العلماني ده كله، أقصد أقوله: إن الحضارة الغربية من غير الدين المسيحي سوف تنكمش، لو حصل هذا في الحضارة الإسلامية، حتكون طبعًا مدعاة أنوا إحنا نتخاذل، وأشك في هذا، ده اللي عاوز أنا أقوله في مداخلة الحضارة الغربية.
ماهر عبد الله:
طيب، مشكور جدًّا يا أخ (مجدي) معي الأخ (عمار فتيتي) من (ألمانيا)، الأخ (عمار) تفضل.
عمار فتيتي:
السلام عليكم.
ماهر عبد الله:
وعليكم السلام.
عمار فتيتي:
والله في البداية الدكتور انطلق من منطلق أنثروبولوجي وجودي، وكان في ودي لو توسع أكثر في هذا الموضوع، وقبل هذا أقول نحب في الواقع نسجل براءتي، وأقول: إن الخوض في هذا الموضوع -بصفة عامة- موضوع لا يهم الأمة الإسلامية، لا باعتباري معارضًا للفلسفة الإسلامية، ولكن أنا في الحقيقة في عُمق هذا الموضوع، إلا أن الخوض في حيثيات الفلسفة عموما هي تقود إلى مشاكل لا صلة لنا بها، أقول هذا لا من باب الهروب من الواقع بل هذه الحقيقة، والأستاذ يتضح من خلال كلامه أنه أستاذ فلسفة وهو أعلم بذلك.
المنطلق، ذكر الدكتور أن المشكلة هي مشكلة الإنسان من حيث هو إنسان، وكان بودي أن يوضح هذا الموضوع أكثر، وأنا أتساءل: هذا الطرح طُرح مِن طرف ماركس؟ باعتبار يعتبر أن المسألة تهم الإنسان من حيث هو إنسان، نفس الطرح، طرح هذا الطرح (كارل يلغا) الفيلسوف الألماني، وطرحه (مَارتين هرتيقا) الذي ذكره الدكتور، (مَارتين هرتيقا) و (نيتشه) هما في حد ذاته لا يلتقيان في هذا الطرح على الرغم أنهم يطرحون الطرح نفسه، وبصفة أعمق وأغرب، يطرح هذا الطرح (بيل كلينتون) اليوم أي (ماركس) و(بيل كلينتون) يلتقيان في نفس (المصب).. أي المشكلة هي مشكلة عولمة.. ماذا تعني العولمة؟
النظرة إلى الإنسان من حيث هو إنسان كيف يمكن ذلك؟ ثم موضوع العقل، ذكر الدكتور موضوع العقل وموضوع تأليه العقل، وهلم وجر.
الحقيقة أنه ليس هناك عقل بل هناك عقول، هناك عقل الفيلسوف وعقل العالم، والعقل الذي نوقش اليوم – في الحقيقة – لا ينسحب على مفهوم العقل باعتبار أن الذي اُهتم به اليوم هو موضوع (التكنولوجيا) والسلوك التكنولوجي، لا يحسب على العلم إطلاقا، والتلوث وإذلال الطبيعة وهلم جرا، كل هذه الأمور مسائل مناط بعهدة التكنولوجيا، وهي في حقيقة الأمر التي سببت هذه الفاجعة، والعلم قد تدخّل ولو بصفة متأخرة نسبية، لينقذ ما يمكن إنقاذه اليوم، أي المسائل التي حُسبت سلفا على العقل هي في الحقيقة العقل منها براء، ولا أنزه هنا العقل.
وأعود، وأقول: إن العقل محدود جدًّا، والدكتور يعلم أن مكونات المعرفة، وهي بطبيعة الحال أهم مراحل أو المهمة الأساسية أو الدور الأساسي للعقل في إدراك الإنسان لمحيطه وذاته؛ تبين هذه الحقيقة.. يعني أن العقل محدود جدًّا باعتباره يستمد مدركاته من محيطه، ومن ثَمَّ يصبح فعلا الحد من التبجح بقدرة العقل على إدراك كنه الوجود واللاوجود من باب الغباء.
كل ما في الأمر أنه لا يعني أنني أناقض نفسي هنا، وأريد أن أشير إلى الفصل بين منتوج التكنولوجيا والمنتوج العلمي والمنتوج العقلي، أي هنا مرحلة ثالثة للعقل، أي عقل الفيلسوف، أي هناك الفيلسوف عقل الفيلسوف عقل العالم والمنتوج التكنولوجي أو التقني وهناك فوارق عدة.
نقطة أخرى بالنسبة لدعوة.. هناك دعوات شتى لوجود ديانات كبديل للدين المسيحي، في الحقيقة لا غرابة في ذلك أن باعتبار أن المسيحية هاته هي دين خاوٍ، ولا أقول هذا من باب السب أو التطاول على الغير، ولكن باعتبار أنا أدرس هنا في الغرب، والذين يلقنونني هذه العلوم هم فلاسفة مسيحيين تاريخيًا، وقد يوجد من بين الحين والآخر كذلك من يعتقد إلى حد اليوم بضرورة الدين لا بضرورة المسيحية. إلا أنه الدعوة إلى وجوبه في الحقيقة لوجوبه، أو الاعتراف بحقيقة الدين كضرورة حتمية في الحياة العامة، فنجد مثلاً هناك من يدعو إلى الفلسفة كبديل لهذا الدين (كارل يلغا) ونجد من يدعو كذلك إلى (الكابيتاليزم) لتحل محل الدين، ففي الحقيقة هنا الدعوة إلى تأليه العقل أو وجود دين، لا كدعوة للمسيحية التي عفا عليها الدهر، ولكن فقط لحتمية لا فرار منها، أي أن الدين في حياة البشر ضرورة لابد من وجودها. بالنسبة للفكر المادي..
ماهر عبد الله [مقاطعًا]:
طيب يا أخ (عمار) ممكن باختصار شديد لأنو فيه عندا إخوة آخرين أيضا على الهاتف مداخلتك قيمة…
عمار فتيتي:
نعم، نقطة أخيرة
ماهر عبد الله:
تفضل
عمار فتيتي:
نقطة أخيرة فقط، بالنسبة هناك أخ من (فرنسا) قال: إن الدعوة إلى الوسطية في حقيقة الأمر هي في حد ذاتها حركة عقلية بحتة، يعني الرجوع إلى الوسطية.
يبقى في النهاية تمامًا أن الفكر المادي، ربما هنا مفاجأة غير سارة للمسلمين، أنا أقول الفكر المادي وجوده في الغرب هو في الواقع صُدرت من الإسلام أو من الفلسفة الإسلامية، وربما الدكتور يعلم (هانس بلو) قد كتب في ذلك كثيرًا، والسلام عليكم.
ماهر عبد الله:
طيب مشكور جدًّا يا أخ (عمار)، معي الأخ (عبده السطو) من (سوريا)، الأخ عبده تفضل.
عبده السطو:
الأستاذ (ماهر عبد الله) السلام عليكم، وتحية للأستاذ (مصطفى)
ماهر عبد الله:
حياك الله.
عبده السطو:
لي مداخلة حول هذا الموضوع لو سمحتم.
ماهر عبد الله:
تفضل.
عبده السطو:
الدكتور (مصطفى) عُرف الفكر الغربي البشري بالنظرة المادية والعقلية، وعُرف الفكر الشرقي الهندي والفارسي الوثني بالنظرة الحدسية، وعجز كل من الفكرين أن يجمع بين العقل والقلب، والروح والجسد، فأصبح كل فكر معادي للآخر، من ثم فإن كل المذهبين قد حطم الإنسان وهو يدعي تكريم الإنسان، حطمه الفكر الغربي المادي بأن أنكر إرادته ومسؤوليته.
وقد جاء الإسلام محررًا للناس من الفكر البشري في اضطرابه وفساده، كاشفًا عن انحراف كل من المسيحية واليهودية عن طبيعتها، وأعلن الإسلام تحرير عقل الإنسان وفكره وتحطيم القيود والأغلال المتراكمة، فما رأي الدكتور (مصطفى) في مستقبل الحضارة الغربية؟ وما هو مستقبل الإسلام في الغرب من وجهة نظر الدكتور (المرابط) ؟ شكرًا لك أستاذي (ماهر) وشكرًا لك دكتور مصطفى.
ماهر عبد الله:
مشكور جدًّا يا أخ عبده، أنا أعتقد نبدأ بهذا السؤال أولا.. من وجهة نظرك.. ما هو مستقبل الحضارة الغربية ومستقبل الإسلام في الغرب؟
د. مصطفى المرابط:
هو ربما قد أشرت في البداية إلى بعض المآلات الآن التي تخيم على البشرية، ولكن رغم هذه النظرة السوداوية، لكن هناك العالم اليوم والحضارة الغربية حُبلى بإمكانات واردة في الخروج من هذا المأزق، على أساس الاعتراف بالتعدد الثقافي والتنوع الثقافي واستدعاء كل الأطراف التي تمثل البشرية من جهة، ومن جهة أخرى -وهذا الذي لم نتحدث عنه- استدعاء كل الأشكال المعرفية التي تميز الإنسان.
نحن رأينا في مسألة العلم أن الفلسفة العلموية تقوم على أساس اعتبار اللغة الرياضية هي اللغة الوحيدة للتفاعل والتواصل كمفتاح لفهم الكون، في حين أنه الآن هناك اكتشافات علمية داخل الفيزياء وداخل البيولوجيا تنحى منحى مغاير لهذا المنطق، لا يمكن أن نفهم الإنسان في بعده المادي فقط. يقول الأستاذ (عزت بيغوفيتش) وهو يعلق على هذه النظريات: إن الكون لم يفصل على طراز (نيوتن) والإنسان كذلك لم يُفصّل على طراز (دارون)، هناك نظريات، العالم البيولوجي الفرنسي (جون رستون) يقول: "بأن النظرية تمر، ولكن الضفدعة تبقى".. النظريات هي (تخمينات) مجرد (إسقاطات) ذهنية على واقع ما، إذا كانت إسقاطات بمعنى أنها نسبية، وبالتالي هناك دعوى إلى مراجعتها وعدم اعتبارها إطلاقية.
لذلك هناك الملفت للانتباه إلى مسألة النظر في الحضارة الإسلامية أو التأمل والتدبر، هناك آيات كثيرة تدعو الإنسان، تدعوه بإلحاح إلى أن ينظر، ويتأمل، ويتدبر، لأن العلاقة التي تربطنا بالكون علاقة اندهاش، علاقة إعجاب، النظر يتولد عنه الاندهاش، ولكن هذا النظر عندما يتحول إلى نظرية نُحنّط النظر نُحنّط الظاهرة في لحظة معينة، يُفتقد الاندهاش، في حين أن النظر المتكرر، هذه الدعوة التي تدعو الإحساس حتى لا يتبلد إلى النظر ينتج عنه الاندهاش، هذا الاندهاش حتى لا يأخذ الإنسان ويُفقده صوابه، يقول الإنسان المسلم أمام الاندهاش: سبحان الله، يستحضر بُعدًا غائياً في هذا الكون، عندما يقول: سبحان الله، يجب أن يستحضر عظمة هذا الخالق الذي أبدع هذا النظام، فيقول الحمد لله، يحمد الله على أن مكّنه من ملاحظة ولحاظ هذه اللحظة لحظة الاندهاش وما أجملها، عندما ينظر إليها العالم أو الشاعر أو الفيلسوف لا شك أن انطباعهم يختلف، فالحمد لله هو اعتبار أن هذه الظاهرة ظاهرة تدل على قوة الخالق.
وحتى لا تتحول هذه الظاهرة إلى مطلق يجب أن يستحضر الإنسان المسلم أن هذه الظاهرة منها ما هو أكبر، ولذلك المناداة بالله أكبر يعني أن هذه المسألة التي أنظر إليها رغم جماليتها، رغم رونقها، رغم اتساقها من الناحية العلمية، هناك من هو أكبر منها، يعني هذه المسألة التي أكيد أنها تُحيلنا على الدين، ولكنها في صميم العلم، لأنها تضفي سمة النسبية على نظر الإنسان، وعلى فهم الظواهر.. هذه الثورة الآن التي تحدث عنها الآن الأخ الذي تدخل في البداية حول الثورة الفيزيائية خاصة (الكوانتية).. الفيزياء الكوانتية اكتشفت بأن الواقع لا يوجد لذاته، وبأن الكون ليس آلة، فعوض النظر إلى الشيء في ذاته، لابد أن نلتفت إلى شبكة العلاقات التي تربطها، فالشيء لا يوجد لذاته، وإنما يوجد في علاقة. والعلم مطالب إلى أن ينظر إلى هذه العلاقة، لذلك أسرع العلماء إلى إضفاء النسبية على نظريتهم أو على نظرياتهم، فالنظريات هي مجرد تخمينات لمقاربة حقيقة ما، لذلك أنه في البداية كان هناك خلاف كبير بين (آينشتاين) و(نيل بور) اللذان ساهما في هذه الثورة الفيزيائية.
(آينشتاين) كان يعتقد بوجود حقيقة أو بوجود الواقع مستقل لذاته، في حين أن (بور) لم يكن يعتقد بهذا الزعم، بل كان يعتبر أن لا نرى الحقيقة ولا نرى الواقع، إنما نرى تمظهره.
ونتساءل مع (كابرا) أين يكمن السبب مع أنهما فيزيائيان وشاركا في إبداع هذه الثورة؟ عندما نبحث عن الأسباب التي كانت وراء هذا الاختلاف في مقاربة ظاهرة ما، و(آينشتاين) نفسه يعترف بأن لما اكتشف أو أحدثت الثورة (الكوانتية) يقول: كأن الأرض انشقت تحت قدمي، ولم أعد أجد متكئًا أقف عليه، لأن عقله الديكارتي لم يسعفه في تمثل هذه الثورة.
هذا الفيزيائي الباحث (فرتش أوف كابرا) وهو يتتبع أسباب هذا الخلاف، وجد أن (آينشتاين) كان قد استطاع أن يتجاوز (نيوتن) في مقاربته للكون، لكن بقي سجينا للعقل الديكارتي، في حين (نيل بور) استطاع أن يتجاوز الاثنين معًا، لماذا؟ لأن (آينشتاين) بقي حبيس النظرة الغربية، في حين أن (نيل بور) انفتح على الثقافة الصينية التي تجمع بين المتناقضات، ومنحت له قدرة على مقاربة هذه الحقيقة التي تبشر بها الفيزياء الكوانتية، لذلك نجد فيزيائيًّا كبيرًا مثل (برنارد) الأسباني يقول: بأن الحقيقة أو الواقع محجب، وأن نظرتنا العلمية أو مقارباتنا العلمية تزيح جزئيًا بعض الحجاب عن جزء من هذه الحقيقة. فالذي ندرسه هي حقيقة ظاهراتية، وليست حقيقة لذاتها، لذلك نجد حامل جائزة (نوبل) (بليغوجي) يقول: بأن الطبيعة تجيبنا حسب السؤال الذي نطرحه، بمعنى أن حجم الجواب بحجم السؤال، ويختم بأنه ليس هناك شيئا أبدعه الإنسان مثل العلم ليحتل مكانة للإنصات الشعري وللتحاور مع الطبيعة.
[موجز للأنباء]
ماهر عبد الله:
دكتور (مصطفى) كان الأخ (عمار)، لو سمحت لي بداية بس أذكر الأخ (عمار) أن الدكتور (مصطفى) هو في الحقيقة دكتور في (البيولوجيا الجزئية) هو عالم أحياء في المقام الأول، وليس دكتور في (الفلسفة) كما اعتقد الأخ (عمار).
فيه جزئيتين في كلام الأخ (عمار) أثاروا انتباهي، الجزئية الأولى ذكرها في بداية كلامه، أنه يجب علينا عدم الخوض في هذه الجوانب الفلسفية باعتقاده والمشاكل الفلسفية لأنها لا صلة لنا بها، كان بودي أسأله، لكن لم تتح الفرصة لأنه كان سيواصل، في اعتقادك لماذا وصل إلى هذه النتيجة أنه لا صلة لنا بالمباحث الفلسفية؟
د. مصطفى المرابط:
لا نستطيع أن نقوّله ما لم يقله، ولكن أعتقد أن زاوية النظر إلى مشكلات العالم هي مصدر الخلاف، بمعنى أن تقويمنا لأوضاع المسلمين ولأوضاع الإنسان تختلف، أنا قلت في البداية إنه لم يعد هذا الفصل واردًا، في سنوات مضت كنا نتحدث عن الصراع الحضاري بين حضارة قوية، وحضارة تريد أن تنهض، هناك صراع، الآن في اعتقادي أنه انتقلنا من الصراع الحضاري إلى الصراع الوجودي، لأن الأزمات التي تراكمت والمشكلات التي تلوح في الأفق لا تستهدف المسلمين فقط كحضارة، إنما تستهدف الإنسان من حيث هو إنسان، ومساءلة هذه المنظومة ليس ترفًا فكريًّا بقدر ما نريد أن نبحث عن الجذور التي ولَّدت لنا هذه الصورة.
إذن معرفة هذه الجذور ستمنح لنا المفاتيح لفهم عمق الأزمة، كما قلت وأشرت في البداية لأول مرة في التاريخ البشري أن حضارة ما لا تجني ما ارتكبت من أخطاء تجنيه لوحدها، إنما شدّت إليها الإنسانية بأكملها بحكم طبيعة هذه الحضارة التي تعتمد على الإخضاع وعلى التبعية، أحكمت سيطرتها على العالم بأسره وحملتنا معها في هذه الباخرة، وأعتقد أن ليس هناك أروع لوصف هذه الحالة أوهذه الزاوية التي أنظر منها إلى أزمة الإنسان المعاصر، مثل الكلمات أو القبسات التي وردت في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيه كمثل قوم استهموا على سفينة، بعضهم أصاب فوقها والبعض أصاب أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مروا على من فوقهم وآذوهم، فقالوا لو خرقنا في نصيبنا لم نؤذِ من فوقنا"، ويستطرد الحديث: "إذا تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا، وإذا أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا".
وأعتقد أن نموذج السفينة كما جاء في هذا الحديث، يسعفنا على فهم ما نتحدث عنه اليوم من القرية الكونية والعولمة، وكذلك ربط الإنسانية بأجمعها في مسار الحضارة الغربية، إذن نحن كذلك مسؤولون إذا أردنا ألا نُهلك ليس فقط ألا نُهلك كمسلمين، وإنما ألا يُهلك الإنسان مطلق الإنسان، فلابد أن نأخذ على أيدي من يثقب في هذا الكون.
ماهر عبد الله:
طيب، في كلامه أيضا في معرض كلام الأخ (عمار) في النهاية، ذكر عندما تحدث عن الوسطية هي حركة عقلية بحتة، لكن الغريب كان أن الإسلام هو الذي صَدَّر المادية إلى العالم الغربي، وأنه الأساس المادي للحضارة الغربية، هل هناك أي..
د. مصطفى المرابط [مقاطعًا]:
أنا لم أفهم هذا السؤال جيدًا.
ماهر عبد الله:
للأسف ليس معنا لنسأله، في حيثيات الكلام ذكر أن هناك عقل الفيلسوف، وهناك عقل العالم، الحقيقة هو ذكَّرَني بكلام يقوله بعض العلمانيين العرب اليوم: أن العقل البشري تدرج في بداياته الأولى، في بدايات الطفولة البشرية، اعتمد الإنسان على ما يسمونه بالعقل الديني، ثم ارتقت البشرية، فانتقلت إلى العقل الفلسفي، ثم هي اليوم تعيش في مرحلة العقل العلمي، واضح أن التتالي هو المقصود، وله مرامٍ عقائدية وأيديولوجية واضحة، لكن أنت من خلال صلتك بهذا المواضيع، ونحن نتحدث في جوهر وصميم هذا الموضوع. تعليقك على هذا التقسيم، العقل الديني ثم الفلسفي ثم العلمي؟
د. مصطفى المرابط:
هذا التقسيم جاء به (أوغست كونت) في مراحله الثلاثة، نتفهم الخلفية الفلسفية التي ظهرت فيه مثل هذه الاتجاهات.
العلم الآن بنفسه يعترف بأنه لا يمكن أن نتحدث عن العقل بالألف واللام بالمفرد، إنما يجب أن نتحدث عنه في صيغة جمع، بمعنى أن لكل حضارة ولكل ثقافة منطقها وعقلها، لأن العقل يخضع لمنظومة من المعايير يقيس بها ويتفاعل معها، مع الخارج ومع الذات، فمن بين المؤاخذات الآن التي تؤاخذ على المؤسسات العلموية أنها وضعت (الكوجيتو الديكارتي) كشكل وحيد للعقل.. وبالتالي هذه الثورات الآن لم تستطع أن تخرج من أثر المعادلات الرياضية إلى أن تتأثر في المجتمع، وتُتداول في اللغة اليومية، أنا ذكرت مأزق (آينشتاين) عندما لم يستطع أن يتمثل هذا الاكتشاف الكبير، لأن السقف الذي وضعته (الديكارتية) لا يسمح، لأن اللغة الوحيدة التي تعترف بها هي اللغة الرياضية، فالعلم اليوم يبدو أكثر نسبية، وأكثر أكثر تواضعًا، لم يعد كما قال (بير توللو) أن هدف العلم هو انتزاع الأسرار من الطبيعة.. فهدف المعرفة اليوم هو التفاعل مع الكون في مستويات متعددة، بمعنى أن مقولة (لابلاس) عندما أهدى كتابه (الميكانيكا الكونية) أو الشمسية (لنابليون) سأله (نابليون) بتعجب، وهو ينظر إلى هذا الكتاب الضخم، كيف ألّفت هذا الكتاب دون أن تشير ولو مرة واحدة إلى مبدعه، فقال (نابليون) [ويقصد لابلاس] بعجرفة: لم أكن يا سيدي في حاجة إلى هذه الفرضية.
العلم اليوم يقول العكس أن الإنسان في حاجة إلى معايير أخرى تتسامى عن المنطق الرياضي وعن المنطق الديكارتي أصلاً، لذلك ذكرت الخلاف بين (بور) وبين (آينشتاين)، وممكن أن نتحدث عن الفرق بين (نيتشه) وحوارهما الشيق بين (آينشتاين) و (تاغور) أن الإنسان الذي خارج، ينتمي إلى حضارة خارج الحضارة الغربية ينفتح ويعرف عن الآخر ربما أكثر مما يعرف عن نفسه، ولكن الإنسان الغربي يتقوقع في مركزيته، لاعتقاده أنها هي الإطلاق، أنها هي الحضارة بالألف واللام، وبالتالي من الصعب أن يكون هناك حوار على المستوى العام.
في اعتقادي أن الخطوات التي يجب أن تعتمد في النظر إلى هذه الاختمارات التي تحكم بها المؤسسة العلموية نفسها، هو يكمن في التساؤل التالي: لماذا رغم هذه الثورات التي بدأت مع الفيزياء والآن البيولوجيا بدأت تقوم بثورتها خاصة بيولوجيا علوم الوراثة الجزئية أو بيولوجيا الأعصاب، رغم اعترافهما بأن العقل الديكارتي هو عائق، تقرأ مثلاً من عناوين الكتب الصادرة مؤخرًا: "هل يجب إحراق ديكارت؟" أو عالم أعصاب يقول: إن الخطأ لديكارت وأنه ليس هناك مسرحا ديكارتيا في عقولنا.
لماذا رغم هذا الاعتراف وهذا الإدراك، لن يستطيع هذا التيار أن يتجاوز العقلية الديكارتية؟
في رأيي، وهذه دعوة إلى التأمل والتفكير في هذه المداخل، تعود إلى ثلاثة أمور أُجملها: الأمر الأول هو ارتكاز المؤسسة العلموية على اعتبار أن الإنسان مقياس كل شيء، مركز ومقياس كل شيء، هذه المركزية التي سمحت للإنسان أن يتألّه بعقله، فبدأ يقيس أو يفصِّل الكون على مزاجه. هذه المركزية عائق بل نحن في حاجة إلى نظام معايير يتجاوز الإنسان، إلى نظام معايير يحتوي العقل ولا يحتويه العقل كما هو شأن الفلسفة الديكارتية.
العائق الثاني هو اعتماد اللغة الرياضية كلغة واحدة لتفسير الكون، حيث نجد أن مؤسسي العلوم الحديثة أن الكون كآلة، فالنظر إليه من خلال لغة الأرقام والأشكال الهندسية فقط، هذه اللغة الرياضية عائق من العوائق التي تمنعنا من النظرة الشمولية للكون.
ماهر عبد الله [مقاطعا]:
والعائق الثالث.
د. مصطفى المرابط:
ربما قد نتساءل: ما هي اللغات الأخرى؟ إذا لم تكن اللغة الرياضية، في اعتقادي، وهذا ما يعترف به العلم، أن اللغة الرياضية هي اللغة من اللغات التي تسمح لنا بمقاربة جزء من ظاهرة الحقيقة أو ظاهرة الواقع.
فكما أن اللغة الرياضية تسمح لنا بالمقاربة المنطقية، فإن اللغة الشاعرية تسمح لنا بالإنصات الشعري للكون، فالكون يبعث إلينا إشارات ورموز تحتاج إلى من يفسرها ويترجمها. كما أن اللغة الفنية تسمح لنا بالإنصات الجمالي للكون، تسارع وتكامل هذه اللغات ستسمح لنا أو ستجعل الطبيعة تكشف عن جزء كبير، تكشف حجابها عن ظاهرة الواقع، بمعنى أنه كلما تعددت لغات مساءلة الطبيعة، إلا الأجوبة تكون أكثر شمولية.
والعائق الثالث هو مركزية الحضارة الغربية، اعتبار أن الحضارة الغربية هي سقف البشرية هي الحضارة بالألف واللام؛ عائق من العوائق التي لا تسمح من مقاربة الطبيعة والكون والإنسان مقاربة شاملة. بمعنى أن مركزية الحضارة الغربية فوتت عنها فرصة التنوع والتعدد الثقافي، إذا كان تعدد اللغات ضرورة من ضرورات الكشف عن الحجب التي تحجب عنا ظاهرة الحقيقة، فإن التنوع الثقافي هو تعدد في الشاشات التي تنعكس عليها هذه الصور. فعندما تتعدد الثقافات أو تتنوع، لتخاطب وتسائل بمنطقها -لأننا قلنا لكل ثقافة عقلها ومنطقها- ستسمح لنا بمقاربات متعددة ستسمح لنا بتشكيل صورة أكثر شمولية وأكثر اقترابًا للحقيقة.
وهنا ممكن أن نستحضر المثال الذي ذكرته بين (آينشتاين) و (نيل بور) إن التعدد الثقافي أو الانفتاح على الثقافات الأخرى سمح (لبور) أن يتحرر من سجن (الكوجيتو الديكارتي) في حين ظل (آينشتاين) حبيسًا له.
ممكن أن نذكر مثال العالم اللساني (وندري وولف) هذا العالم اللساني كان يعمل مع قبيلة (المايا) لتفكيك رموز حضارة المايا، فاكتشف بأن إنسان (المايا) ليس في حاجة إلى أن يدخل الجامعة ليدرس ويستوعب بجهد جهيد النظرية الكوانتية، وليتحدث عن الزمان والمكان كمتصلين، بل أن لغته العادية تربط بين الزمان والمكان، الشيء الذي لا تستطيعه اللغة الغربية أو الثقافة الغربية أن تفعله بحكم طبيعة مقاربتها لهذه الحقيقة.
إذا لم نترجم هذه الحقائق العلمية إلى لغة رياضية لا نفهمها، يعني تمثلها لحد الآن يشكل عقبة، كيف يمكن لعامة الناس مثلاً أن نفسر تداخل الزمان والفضاء، في حين أن إنسان (المايا) يستوعبها بشكل عادي في لغته اليومية.
ماهر عبد الله [مقاطعًا]:
طيب، خلينا نختصر اختصارًا شديدًا، لأنو شارفنا، وأنا هنا لابد لي من الاعتذار للإخوة الذين مكثوا معنا على الهاتف طويلا، مضطرين ألا نأخذ مكالمات، لأنو للحقيقة لم يبق وقت، ولابد من إنهاء هذا النقاش.
دعني أسألك السؤال اللي وردنا في أوائل الاتصالات، إنو في ظل هذه الأزمة واضح أنه ليست هناك بدائل جاهزة، لا للفلسفة الديكارتية، يعني هناك نقد للفلسفة الديكارتية صحيح، لكن لا يمكن إلقائها من الشباك والاستغناء عنها تمامًا.
هل هناك حديث كون يتحدث عن حضارة ناقدة لذاتها؟ فرصة زمنية محدودة جدًّا، دقيقة أو أقل، هل هناك بدائل مطروحة؟
د. مصطفى المرابط:
نعم، يحضرني الآن كلمة لشاعر أسباني يقول "بأنه ليس هناك طريق موجود مسبّقًا للمشي، إنما المشي هو الذي يصنع الطريق"، بمعنى أنه ونحن نتحدث عن منظومة الإسلام في قيمه العظيمة، أن الإسلام يسكن المستقبل، لأن القيم تتعالى عن معايير العقل، تشمل العقل ولا يشملها العقل، لأنها من خالق يعرف دقائق الحياة والوجود والكون، إذا كان الإسلام يسكن المستقبل بالقوة فإن المسلمين مطالبون إلى تحويل هذه الظاهرة بالقوة إلى الفعل. وهذا يترتب علينا كما قلت أن هذه المسائل تساءلنا بدرجة أولى: كيف يمكن أن نساهم في هذا النقاش العابر بقيمنا العظيمة؟
ماهر عبد الله:
اسمح لي دكتور (مصطفى) أن نبقي هذا السؤال مطروحًا ومفتوحًا، وأنا أعتقد أن فيه إيحاءات بالإجابة، لكن أعزائي المشاهدين لم يبق معنا كثير من الوقت إلا أن نشكر الضيف ونشكركم على متابعتنا وإلى اللقاء في الأسبوع القادم.