
ألان ميشال.. الكفاح من أجل بؤساء العالم
– العمل الإنساني في بولندا والصداقة مع أفريقيا
– مكافحة الحصار في يوغوسلافيا والعراق
– حملة البطاقات وحصار جمعية ميشال
– مساعدة غزة وفتح معبر رفح للمرة الأولى
سامي كليب: مرحبا بكم أعزائي المشاهدين إلى حلقة جديدة من برنامج زيارة خاصة، حين ضرب الحصار الأميركي الجائر العراق حمل ضيفنا إنسانيته وما لديه من إمكانيات متواضعة وذهب يشفي يتيما جريحا أو يطعم طفلا جائعا هذا ما فعله أيضا في غزة وفي البوسنة وفي عدد كثير من دول العالم وحين عاد بصوره القاسية إلى فرنسا مُنِع بث الكثير من هذه الصور وقيل إن منظمته الإنسانية ضُرِبت بضغط أميركي قصته تختصر قصص الكثير من أولئك المناضلين في العالم الذين قدموا إنسانيتهم على كل شيء إنه المناضل الإنساني الفرنسي ألان ميشال.
ألان ميشال: عندما ندرك أننا قادرون على التخفيف من وطأة المعاناة أو على الحول دون وقوعها ولا نقوم بأي شيء إزائها فإننا نصبح بذلك شركاء فيها وفي هذا الظلم وفي كل ما يدمر ذات الإنسان ويجرده من كرامته ومن أسباب عيشه، ففي العراق على سبيل المثال كنا نعلم أن ملايين الأطفال على وشك الموت وأننا غير قادرين على إنقاذهم، مررت بالكثيرين وأنا أعلم أنني سأعود وأنقل لهم المعونة لكنهم كانوا ينتظرون الموت فحسب وأمام هذا العجز يهتز كيان الإنسان ويشعر بالفاجعة في كل مرة لكن هذا هو الواقع، رأيت الأمر ذاته في رومانيا وفي كل مكان آخر وهذا العجز بالذات هو ما يعطينا القوة للعمل على نحو أسرع ولفضح تلك المعاناة وأسبابها.
العمل الإنساني في بولندا والصداقة مع أفريقيا
سامي كليب: هنا في هذا المنزل العتيق جنوبي فرنسا يسكن ألان ميشال وهذا المنزل ليس ملكه وإنما استأجره بسعر زهيد من أحد أصدقائه فألان ميشال المناضل لنصرة الضعفاء والمحتاجين وضحايا الحروب لا يملك شيئا رغم أنه كان بدأ حياته رجل أعمال ومديرا لشركات أو مطابع فقد هجر كل شيء حين اكتشف بالصدفة وفي إحدى رحلاته إلى بولندا أن ثمة أناسا مقبلون على الموت بسبب تجاهل بني البشر لهم، هناك في بولندا بدأت رحلة ألان ميشال صوب العمل الإنساني المحض حصل ذلك عام 1984.
ألان ميشال: ذهبت إلى بولندا عام 1984 في ذلك الوقت كنت أربي الخيل وكانت لدي شاحنة كبيرة وكان القس الذي دفن والدي يريد أن ينقل البضائع والأدوية والطعام إلى أطفال في قرية بولندية كانت ترزح تحت أوضاع رهيبة وكانت بحاجة إلى هذه البضائع لكن لم تكن لديه الوسيلة لنقل تلك البضائع لذلك عرضت عليه تقديم شاحنتي للذهاب إلى هناك، كان هذا القس مسؤولا عن تلك الأبرشية وأخذني في جولة قبل ذلك ببضعة أيام إلى مستشفى الأطفال التي يديرها أحد أصدقائه وكان صديقه طبيبا جراحا يعالج الأطفال والرضع وحديثي الولادة وكان يحتاج للقيام بحقن وريدية وللقيام بذلك لم تكن لديه أية وسيلة أخرى سوى استخدام محقنات تُستعمَل مرة واحدة ومخصصة للكبار ولم يكن بالإمكان تعقيمهما لذلك كان يستخدم محقنات مستعملة على الدوام لعلاج الأطفال وكانت أبر هذه المحقنات كبيرة وتقوم الممرضات بسنها باستخدام المبرد المستعمل في المطبخ، كان الأمر رهيبا فعندما كانت الممرضات تحقن الأطفال كانت أوردتهم تنفجر، كنت قد اصطحبت آلة تصوير كي أوثق ما يحدث وأمام آلة التصوير توفي طفلان رضيعان وسط معاناة رهيبة وهكذا التزمت مع هذا الطبيب الذي كان يبكي يأسه وقلة كرامته فقد كان طبيبا لكنه عاجز عن علاج الأطفال، طرحت عليه سؤالا لماذا تستمر في العمل فالأطفال يموتون بكل الأحوال؟ فأجابني صحيح أنني أستطيع إنقاذ 10% من الأطفال فقط لكنني أنقذهم بالفعل ومن أجل هؤلاء الـ10% استمر في العمل وهكذا تعهدت بأن أحضر له على الفور شاحنة مليئة بمحقنات خاصة بالأطفال ثم عدت إلى فرنسا واشتريت فورا ما يكفى لملأ شاحنة وللقيام بذلك استدنت المال فقد أدركت أنني ما لم أفعل ذلك على الفور فقد تمضي عشر سنين قبل أن أتمكن من جمع المال لذلك أقدمت على العمل فورا ومن دون تفكير وعدت ومعي البضاعة إلى ذلك الطبيب لكن لو أنني بقيت في فرنسا وشرح أحدهم الوضع لي لربما ما كنت سأتحرك قيد أنملة إلا أنني تصرفت حينئذ بما أملت علي عاطفتي فلم أكن قادرا على الاستمرار في الحياة من دون الوفاء بذلك الوعد.
سامي كليب: بعد رحلته إلى بولندا ووقوفه على عذاب الأطفال المرضى والجائعين هناك قام ألان ميشال بمبادرات إنسانية كثيرة لمساعدة ذلك البلد الأوروبي الفقير فأرسل في البداية ألف طن من الأغذية والأدوية ثم بعث بألفي طن من الحليب للأطفال، كانت رحلته إلى بولندا دافعه لتأسيس جمعية إيكيليبر والتي أرادها اختصارا لكلمتي إنصاف وحرية وفي عام 1987 أسس جمعية الصداقة مع أفريقيا حيث ساعد الفقراء والمحتاجين في الكثير من دول القارة السمراء وساعد الطوارق ووقف إلى جانب اللاجئين في مالي وموريتانيا والصحراء وإلى هنا إلى الصحراء القائمة بين موريتانيا ومالي جاء ألان ميشال بصهاريج الماء لتخفيف عطش أو لتخصيب أرض بلون الخضار.
ألان ميشال: قصة مشاتل الصحراء هي قصة جميلة أيضا وهي قصة بدأت عندما علمنا أن شعب الطوارق الذي طرد من مالي يعيش في معسكر للاجئين في موريتانيا وعلمت أن الأطفال والكبار يموتون جميعهم في معسكرات اللاجئين هذه في موريتانيا بسبب نقص الماء وأن الماء الذي لديهم كان ملوثا ولم يكن هناك ماء يكفى للماشية التي كانت تنفق بدورها في كل مكان وتنشر الأوبئة وما إلى ذلك لهذا السبب ذهبت لرؤية ذلك على أرض الواقع وهناك وجدنا وضعا كارثيا فعدت إلى نواكشوط وقابلت..
سامي كليب [مقاطعاً]: مأساوية كيف؟
ألان ميشال [متابعاً]: لأن الأطفال والكبار كانوا يموتون جميعهم بسبب نقص الماء لذا ذهبت إلى نواكشوط وقابلت المسؤول عن هذه المعسكرات في اللجنة العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة وقلت له لماذا لا تنقلون لهم الماء؟ فأجابني من غير الممكن نقل الماء فهذا مكلف جدا حاليا فقلت مكلف جدا وهل للحياة من ثمن لما لا تنقلون الماء باستخدام أموال اللجنة العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة فأجابني خلال خمسة أو ستة أسابيع ستأتي شاحنات إيطالية لتحفر الآبار وسيصبح الماء متوفرا لكن بانتظار ذلك خلال تلك الأسابيع الخمسة أو الستة ماذا نفعل؟ فقال لي لا يمكننا فعل شيء فليمت من يموت.
سامي كليب: هذا كان مسؤولا في الأمم المتحدة؟
ألان ميشال: أجل كان المسؤول عن اللجنة العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، فقلت أسمع علينا إيجاد حل وأنا سآخذ على عاتقي إحضار شاحنات لنقل الماء إلى شعب الطوارق، لا يمكننا الانتظار لستة أسابيع حتى تأتي تلك الشاحنات الأميركية وتبدأ بالحفر وكان معي أحد زعماء الطوارق حينئذ وهكذا أخذت على عاتقي أن أعود بعد أسبوع ومعي الشاحنات وكان ذلك يعني العثور على شاحنات معدة خصيصاً وعلى أشخاص لتقديم المساعدة وأيضاً العثور على المال وغير ذلك وهكذا عدت إلى فرنسا واشترينا مباشرة شاحنات مستعملة مجهزة بغطاء وقمنا بشحنها بواسطة طائرة شحن روسية.
سامي كليب: الإيلوشين.
" قصة مشاتل الصحراء بدأت عندما نقلنا أربع شاحنات من فرنسا إلى موريتانيا لنقل الماء إلى شعب الطوارق وعند وصول شاحنات الأمم المتحدة حفرت الآبار وتوفرت المياه فاقترحنا على الطوارق زرع الصحراء " |
ألان ميشال: الإيلوشين ونقلنا عليها أربع شاحنات لتحميل الماء مع سيارات الجيب والتجهيزات الضرورية والأشخاص الذين يفترض أن يقدموا المساعدة وبعد أربعة أيام على زيارتي إلى موريتانيا كانت الشاحنات قد وصلت وبُدأ بالعمل على توزيع الماء وبعد خمسة أو ستة أسابيع وصلت شاحنات الأمم المتحدة وبدأت بحفر الآبار وعندما أصبح الماء متوفراً للجميع لم يعد لوجود شاحناتنا أي سبب إذا لم نعد نقوم بنقل الماء وهكذا حاولنا عملنا على أرض الواقع واقترحنا على الطوارق وهم شعب بدوي أصبح حضارياً من دون أن يكون لديه ما يسد به رمقه اقترحنا عليهم القيام بمشاتل كبيرة وهكذا بدأ الطوارق يزرعون في الصحراء الطماطم والخس وكل أنواع الخضراوات الأخرى في الصحراء وكنا نحن نسقيها يومياً باستخدام شاحنات نقل الماء وكان ذلك أمراً ممتعاً إذا أذكر أن رجال الطوارق كانوا يأتون في الصباح ويجلسون لمراقبة الخس وهو يكبر.
سامي كليب: وهذا على ما أعتقد خلق نوعا من العلاقة التجارية مع موريتانيا المجاورة أيضاً؟
ألان ميشال: أجل لقد كانت معسكرات اللاجئين الطوارق تلك بالقرب من بلدة كبيرة في موريتانيا مما كان يتسبب بنوع من التنافس واللقاءات غير الودية وكانت العلاقات بينهم صعبة وحتى إنها كانت عنيفة في بعض الأحيان وبما أن الطوارق كانوا يزرعون الخضار بدأ الموريتانيون يأتون شيئاً فشيئاً لشرائها منهم وهكذا بدأت علاقاتهم تتحسن وبدأ الحوار بينهم وصار كل منهم يعترف بالآخر وهذا هو الجميل في الأمر وبعد ذلك تصادق الطوارق مع الموريتانيين وأخذوا يعملون معاً.
سامي كليب: في خلال حديثنا مع الناشط الإنساني الفرنسي ألان ميشال عن موريتانيا ومالي والطوارق لفتني في منزله وجود شاب ذي ملامح صحراوية وكانت طريقته في تقديم الشاي أربع مرات لنا تذكرنا بتلك العادات الموجودة في الصحراء الواقعة بين موريتانيا والجزائر والمغرب وفهمت فيما بعد أن هذا الشاب هو ابن أخ أحد شيوخ قبائل الطوارق وأن ألان ميشال تبناه تقريباً لكي يعلمه في فرنسا، سألت الشاب إنتجرست القادم من بين طوارق مالي ماذا يعني له ألان ميشال؟
إنتجرست: ألان بالنسبة لي يعني الكثير فعندما وصلت إلى موريتانيا كان عمري 12 أو 13 عاماً وكنت قد فقدت والدي قبل ذلك بأعوام فقدته قبيل نزاع الطوارق ومالي والصحيح أن وجودي مع ألان أي عندما وصلت بعد ذلك إلى ليون كون وجودي مع ألان علاقة بين طفل وراشد لكنها تحولت بعد ذلك لتصبح علاقة ابن مع أبيه هذه هي العلاقة التي تربطني بألان.
مكافحة الحصار في يوغوسلافيا والعراق
سامي كليب: علاقة ألان ميشيل النشط الإنساني الفرنسي مع العالم العربي والإسلامي لم تبدأ في موريتانيا أو مع الطوارق وإنما في يوغسلافيا السابقة فهذا البلد الأوروبي الذي أنهكته الحرب ونهشت لحم أبنائه قصده ألان ميشال بشاحنات مساعداته الإنسانية ورغم القنابل المتعددة المصادر التي سقطت عليه وعلى رفاقه ورغم الموت الحاضر يومياً عند كل زاوية وشارع ورغم وفاة إحدى رفيقات ألان ميشال على أرض يوغسلافيا السابقة وهي تقدم المساعدات الإنسانية إلا أنه كان يخترق الحصار لإنقاذ حياة المحاصرين من أشباح الموت والمجاعة والقصف هناك في البوسنة عرف ألان ميشال الإسلام وجزءاً من العالم الإسلامي.
ألان ميشال: عندما اندلعت الحرب بين البوسنة وكرواتيا سرعان ما انعزلت سراييفو عن بقية العالم وكانت المدينة تتعرض للقصف ولنيران القناصة من كل مكان وغادرت جميع المنظمات الدولية سراييفو بما فيها الأمم المتحدة والصليب الأحمر والمنظمات الإنسانية، غادر الجميع ولم يبق هناك أحد وعندها قررت أن أذهب بموكب من أجل السلام إلى سراييفو في البوسنة وناشدت المجتمع المدني في فرنسا مرافقه هذا الموكب وهكذا شكلنا قافلة من سبعين إلى ثمانين شاحنة بما في ذلك السيارات بجميع أنواعها والحافلات وما إلى ذلك وجهزنا مئات الأطنان من المئونة وتوجهنا برفقة مائة وعشرين إلى مائة وثلاثين شخصاً عبروا خط الجبهة بأكمله وصولاً إلى سراييفو لدعمها ودعم الشعب الذي يعيش فيها ولكن على وجه الخصوص لإعادة الربط بين أوروبا وسراييفو التي انعزلت عن العالم جراء القصف وبسبب الصرب.
سامي كليب: المبادرة الكبيرة التي اشتهرت في الواقع في عملك في يوغسلافيا السابقة في البوسنة تحديداً هي حين جئت إلى فرنسا بألف طفل مع عائلاتهم لكي يعيشوا على الأراضي الفرنسية وسط عائلات فرنسية هل كان الأمر صعباً من أجل إدخالهم أولاً إلى فرنسا وإخراجهم من هناك خصوصاً إنه على ما يبدو كان الكثير من الأشخاص ضد هذه المبادرة؟
ألان ميشال: لم يكن الأمر سهلاً فقد نقلنا في الحقيقة ألف ومائة شخص وعبرنا بهم وسط البوسنة التي اندلعت فيها الحرب ولزمنا 27 حافلة عملت ليلاً نهاراً وكان عليها تجنب القصف لكن بالإضافة إلى المخاطر الجسدية ومخاطر الطريق التي لم يكن التعامل معها سهلاً كان الأمر الأكثر تعقيداً هو المعارضة التي واجهتنا وجاءت من الحكومة الفرنسية مثلاً التي لم ترغب برؤية ألف لاجئ يعيشون مع عائلات فرنسية بالإضافة لمعارضة المتطرفين الإسلاميين في البوسنة الذين لم يرغبوا في رؤية هؤلاء الأطفال والنساء يغادرون إلى بلد مثل فرنسا فقد كانوا يقولون إنهم لن يعودوا أبدا لذا وجب علينا مواجهة الجميع لكن هؤلاء الأطفال والنساء كانوا أيتام وأرامل وكانوا يعيشون في معسكرات للاجئين تتعرض للقصف وكانت الحياة فيها صعبة جدا كما كنت أعرف أنه يوجد في فرنسا عشرات الآلاف من العائلات التي تملك منازل فيها غرف فارغة وقادرة على استضافة هذه العائلات ريثما تنتهي الحرب، كانت هذه العملية تدعى آلف طفل في أمان فقد كانوا في مأمن من القنابل والأمراض وهكذا أطلقنا العملية ومباشرة خلال الأيام التالية عرضت عشرون ألف عائلة فرنسية استضافة الأمهات والأطفال إذ أننا لم نفصل الأطفال عن الأمهات وكانت العائلات تستضيف الأم وجميع أبنائها وهكذا قالت الآلاف من العائلات نحن جاهزون لاستضافتهم مهما طالت الحرب وعندئذ أدركنا أن الإنسان في صميمه لديه الرغبة في المشاركة والمساعدة وتقديم العون الإنساني إنما يجب أن تمنحه الفرصة للتعبير عن هذه الرغبة.
سامي كليب: التعبير عن هذا البعد الإنساني تجلى في عمل الناشط الإنساني الفرنسي ألان ميشال خصوصا في العراق فهناك وحين كان العالم بأسره تقريبا خاضعا لمشيئة الأميركيين أو خائفا أو مترددا وصامتا وحين كانت دول عربية كثيرة قابلة بالأمر الواقع ذهب ألان ميشال يتحدى الحصار والمحاصرين تارة يحمل دواء ومساعدات إنسانية وتارة أخرى يبني مدارس أو بيوتا ومرة ثالثة يشن حملة دعائية كبيرة ضد الحصار الجائر وحين زرته عشية تصوير هذه الحلقة كان يطلعني على مكتبته الفيلمية الكبيرة التي تضم مئات الأفلام عن عذاب الأطفال العراق في خلال الحصار فهنا في هذا الشريط مثلا والذي تم منع بثه في الغرب بلغ الأطفال درجة من سوء التغذية جعلتهم عرضة للموت بين لحظة وأخرى أو اُستخدِمت لعلاجهم أنابيب أوسع من أياديهم النضرة الصغيرة فكان في العلاج أيضا سبب مأساة في العراق الذي كان قبل الحرب أحد منارات العلوم والطب والتقدم في العالم.
ألان ميشال: بدأنا في العراق ما أن بدأت الهجرة الكردية عند نهاية الحرب، أعني الحرب الأولى بين الولايات المتحدة والتحالف الأوروبي من جهة والعراق من جهة أخرى في ذلك الوقت بدأت الهجرة الكردية إلى كردستان فقررنا مباشرة أن نسير شاحنات من المؤن إلى معسكرات اللاجئين في كردستان وبعد فترة من الزمن بعد مرور بضعة أشهر غادرت المنظمات الإنسانية وتركت كردستان على حالها نوعا ما، بقيت بعض المنظمات هنا وهناك لكنني لم أر أحدا عينيا فقلت لا يمكنني المغادرة إن يجب أن يترك شهودا على الأرض يجب أن نقوم نحن المراقبون الدوليون بعمل يسمح لنا بمراقبة التطورات بدقة.
سامي كليب: إذاً ذهبت في المرة الأولى عام 1991؟
" عملية أرض الواقع في قرية حلبشة بدأت باتفاق بيننا وبين المسؤولين في القرية إذ يقومون ببناء المدارس وتوفير الأساتذة على أن نؤمن الطعام للأطفال بشكل يومي " |
ألان ميشال: هذا صحيح في العام 1991 وهكذا أطلقنا عملية أرض الواقع في قرية حلابشة التي تعرضت للدمار جراء القصف بالأسلحة الكيماوية، قمنا بذلك لأن جميع المدارس كانت مدمرة ولم تبق هناك منازل أو مدارس ولم يكن لدى الأطفال ما يسدون به رمقهم وهكذا عقدنا اتفاقا مع المسؤولين في القرية وقلنا لهم إن أعدتم بناء المدارس وعاد الأساتذة لتدريس الأطفال فيها فسنأخذ على عاتقنا تأمين الطعام للأطفال كل يوم فوافقوا على ذلك وهكذا بدأت العملية وكان في تلك المنطقة خمسة آلاف طفل أو بين ثلاثة وخمسة آلاف طفل فقمنا بتأمين الطعام لثلاثة آلاف طفل يوميا ثم حقق البرنامج نجاحا كبيرا وأعيد بناء المدارس وعاد الأطفال إليها كما بدأ المعلمون يُدرِسون من جديد وبدأت جميع القرى والعائلات بالعيش مع هذه القرية.
سامي كليب: من الذي كان يمول؟
ألان ميشال: في البداية أعضاء المؤسسة شارك جميع الأصدقاء وقاموا بجمع الأموال اللازمة لبداية المشروع لكننا افتقرنا للمال وبما أن العملية حققت نجاحا كبيرا قالت لنا منظمة اليونيسيف التي كانت موجودة حينئذ هذه العملية رائعة لذلك سنقوم بتمويلكم لتأمين الطعام لعشرة آلاف طفل إضافي ثم ارتفع العدد إلى خمسة عشر ألف وأخيرا وصلنا إلى خمسة وعشرين ألف طفل وفي السنة التالية قمنا بتأمين مائة وستين ألف وجبة طعام كل يوم.
سامي كليب: هل الدول العربية كانت تساعد منظمتكم أو تساعد العراقيين من خلالكم؟
ألان ميشال: لا لم يصلنا المال منهم قط ولم يكن لدينا أبدا شركاء عرب للقيام بهذه العمليات، كان البحث عن التمويل يجري دائما مع الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والحكومات المختلفة كالفرنسية والبلجيكية والأسبانية وغيرها لكن لم يأت التمويل قط من البلاد العربية رغم أننا طلبنا منهم ذلك.
سامي كليب: لم يقتصر عمل الفرنسي ألان ميشال على كردستان العراقية ولكن عمله في تلك المنطقة إلى جانب الأكراد منعه من الذهاب في بداية الأمر إلى المناطق العراقية الأخرى في خلال الحصار وبعد جهد جهيد وتدخلات ووساطات حصل من النظام العراقي السابق على تأشيرة للدخول إلى بغداد والبصرة حيث عاد بصور مرعبة من هناك حين كان الحصار يفتك بربيع أطفال العراق.
ألان ميشال: تطلب حصولي على تأشيرة لدخول بغداد فترة طويلة ولدى وصولي إلى هناك رأيت الأمور التي عرضتها عليك في أشرطة الفيديو وكانت أمورا مروعة، لم أستطع أن أبقى غير مبال حيالها وانطلاقا من تلك اللحظة بدأنا بتحضير برنامج ضخم من أجل العراق وبتنظيم موكب من الشاحنات لخرق الحصار الاقتصادي، فقد كان هناك حصار اقتصادي يمنع حتى مرور المعونات الإنسانية، وصلنا إلى العراق وقمنا بتطوير العمليات وأردت أن أنشر تلك الأفلام لدى عودتي إلى فرنسا عام 1995 لكن عندما عرضتها لم تقبل أي محطة تلفزة أو أية وسيلة إعلامية أن تنشرها رفضوا عرضها.
[فاصل إعلاني]
سامي كليب: في الواقع هذا هو السؤال الأساسي يعني حين نشاهد مثل هذه الصور صور خطيرة في الواقع يعني أطفال يموتون على أسرة المستشفيات يعني ما الذي يمنع نشر مثل هذه الصور في وسائل الإعلام الفرنسية أو الغربية هل هناك نوع من الرقابة التي مورست على وسائل الإعلام آنذاك في خلال حصار العراق؟
ألان ميشال: بالتأكيد كانت هناك رقابة فالأمور التي صورتها على الأفلام في العراق والتي أثارت غضبى وهزت كياني كنت قد رأيتها بحرية تامة لم يتلاعب بي أحد إطلاقا، كنت حرا تماما في رحلتي تلك إلى العراق حتى أنني قابلت بعض المسؤولين في المستشفيات الذين لم يكن لديهم علم بزيارتي وحدث ذلك في أماكن مختلفة وعندما عرضت هذه الأفلام على المحررين والصحفيين تحمسوا كثيرا للفكرة حتى أن بعضهم أعد قصة بناء عليها لكنني كنت دائما أواجه رفض الإدارة فقد كانت تفرض دائما حظرها على نشر هذه الصور لماذا؟ برأيي لأنه إن رأى الشعب الفرنسي والأميركي هذه الأفلام لكانت أثارت غضبه وربما كانت ردة فعل تلك الشعوب ستكون قوية ضد حكوماتها التي لم تكن تتمتع بأية شرعية للإبقاء على الحصار الاقتصادي على العراق، بالطبع رفضت جميع محطات التلفزة الفرنسية عرض تلك الأفلام رفضا قاطعا باستثناء محطة واحدة وهي (Canal+) التي قبلت بأن تعرض أجزاء من تلك الأفلام خلال مقابلة، كانت تلك المحطة الوحيدة التي قبلت عرض تلك الأفلام، هذه الأفلام تظهر الحقيقة التي تم اكتشافها قبل بضعة أشهر كما أظهرت تلك الأفلام جليا عدم قدرة ذلك البلد على تطوير أسلحة كيمائية أو جرثومية أو أسلحة دمار شامل، قلنا ذلك في كل مكان وكتبت عن ذلك في كل مكان منذ أعوام 1995 و1998 وهكذا أطلقنا تلك الحملة ضد الحصار الاقتصادي المفروض على العراق لكننا تعرضنا للرفض باستمرار وتبين لاحقا أن كل ما قلناه في تلك الفترة كان صحيحا لكن قوله حينئذ كان مبكرا جدا.
سامي كليب: الغريب فيما يقول الناشط الإنساني الفرنسي ألان ميشال هو أن امتناع التلفزات الفرنسية عن بث هذه الصورة المأساوية عن العراق تحت الحصار ترافق مع معارضة فرنسا للحرب على العراق فمن هي إذاً تلك الجهة التي كانت تمنع بث الصور لا بل من هي تلك الجهة التي حاربت ألان ميشال نفسه حين كثف اهتمامه بالعالم العربي والإسلامي؟ فقد شرح لي أنه جال بهذه الصور للأطفال العراقيين وأمهاتهم على معظم التلفزات ولم يقبل بها أحد. بالأمس حين كنت أشاهد الأشرطة لديك حول العراق حول أطفال العراق يموتون لم أستطع أن أتحمل حتى مجرد المشاهدة كيف استطعت أن تتحمل كل ذلك وأنت تشاهد الموت عن قرب على الأراضي العراقية؟
ألان ميشال: لا أدرى، أعتقد أن الأمر قد تملكني لم أحتمل ما رأيته واعتقد أنني كنت أبكي عندما كنت أصور لكن ربما يكون ما ساعدني على احتمال تلك المشاهد هو ذلك الغضب من رؤية الأطفال وهم يموتون ورؤية تلك المعاناة معاناة الأمهات اللواتي كن يرين أطفالهن يموتون من دون معرفة السبب، وصفني الناس بأنني منحرف بسبب قيامي بالتصوير قالوا لي كيف يمكنك تصوير أفلام كهذه هذا غير معقول إنه انحراف لكنني أجبت لا، لا يمكنني أن أصور كما لا يمكنني أن أتغاضى عن هذا بعدم تصويره وسأفعل ذلك لأنقل شهادتي وأقول للعالم كله انظروا ماذا يجرى هناك والجميع متفق على الإبقاء على الحصار الاقتصادي، ما كنت لاحتمل أكثر وقلت لنفسي يجب أن أصور سأنشر هذه الصور وسيساعدني ذلك في إحضار المعونات وفي توعية الناس تجاه هذا الوضع وهذا الظلم وامتناعي عن تصوير ذلك كان سيعني تواطؤ من جانبي رغم أننا لم أكن أحتمل لأرى إلا أنني اضطررت لاحتماله كي أتمكن من فعل شيء وكي أستطيع أن أغير الواقع وكذلك كي تتملكني تلك الأمور بحيث تعطيني القوة لكي أستمر وأجهز المواكب والقيام بالعمليات في العالم كله، اصطحبت معي إلى العراق عشرات الصحفيين كي يروا بأم أعينهم ويشهدوا بذلك ومن ثم كي يمارسوا مهنتهم كصحفيين ويظهروا ما يجري.
سامي كليب: في عام 1995 قلت بصوت عالي أنك ضد هذا الحصار على العراق، استخدمت عبارة تقول وفق ما قرأتها بالضبط نقلاً عنك إنه وسط معمعة سلاح الدمار الشامل أو سلاح الردع أو سلاح المعتدي كما تسميه والذي يتمتع به أو تتمتع به الشرطة العالمية فإن سلاح الحصار هو بدون أدنى شك الأكثر جبناً ما هي الصورة الأكثر قسوة التي شاهدتها في خلال الحصار على العراق؟
ألان ميشال: رأيت الكثير وأعتقد أن الصورة التي أثرت في أكثر من غيرها وأردت وضعها على البطاقة كانت لامرأة تضع طفلها المتوفى على ركبتيها وبين ذراعيها وإلى جانبها كان يقف طبيب المستشفى الذي كان يجهش بالبكاء لأنه بلا حول أو قوة وأعتقد أن هذه الصورة التي تضم تلك المرأة التي تعاني من فقدان طفلها بالإضافة إلى الطفل المتوفى والطبيب العاجز بسبب الحصار وبسبب بلداننا التي تقول إنها متحضرة، أعتقد أن هذه الصورة الهمجية هي أكثر ما أثر فيها وتجعلني حتى اليوم عازماً على عدم الاستسلام وعدم القبول بالظلم أبداً.
حملة البطاقات وحصار جمعية ميشال
سامي كليب: في الواقع بسبب مواقفك ضد الحصار وبسبب هذه الحملات الدعائية أو العمل الإنساني على الأراضي العراقية ضد الحصار أنت تعرضت للحصار وعلى ما يبدو إنه المساعدات الأوروبية قُطِعت عن جمعيتك الإنسانية إيكيليبر وتوقفت عن العمل رغم أهميتها آنذاك ما الذي حصل وهل فعلاً أن الأميركيين هم الذين ضغطوا على الأوروبيين لوقف المساعدات لمنظمتك الإنسانية؟
ألان ميشال: أجل أجد نفسي مضطراً للموافقة وقد اقتنعت بذلك لعدة أسباب إذ حدث ذلك بعد 15 يوم من حملة البطاقات في أوروبا تلك التي كُتِب عليها أيجب قتل أطفال العراق نعم أم لا؟ وخلف إجابة نعم هناك محطة وقود وخلف إجابة لا هناك طفل حي، تم تصميم تلك الحملة كي نستطيع تقديم شكوى ضد مجلس الأمن في الأمم المتحدة الذي كان قد فقد شرعيته بالكامل جراء الإبقاء على الحصار الاقتصادي وما جرى خلال الأيام والأسابيع التالية لتلك الحملة هو أنه تم تعليق كل المساعدات المالية التي تردنا وهي في الحقيقة لم تكن مساعدات مالية بل تبرعات للعمليات التي نقوم بها في العراق وبلدان أخرى بما تنص عليه أهداف جمعيتنا إيكيليبر وقد تم تعليق هذه المساعدات وفي ذلك الوقت كان لدينا الآلاف من الموظفين الدائمين يعملون في حوالي عشرين دولة وبين ليلة وضحاها كنت غير قادر على دفع أجورهم والسبب الذي أعطونا إياه هو أنهم يفتقرون للنقود السائلة اللازمة لتشغيل هذه المنظمة وهذا أمر سخيف ففي العام السابق كانت الأموال المتوفرة أقل من الأموال المتوفرة هذا العام وكانوا يثنون على عملنا ويقولون إنه مرضٍ ومميز وإن فرق العمل نشطة جداً وهكذا وبسبب انعدام الأموال والتبرعات لم يتم تسديد نفقات البرنامج وبالمناسبة مازالت الدعوة قائمة بيني وبين الاتحاد الأوروبي لكن خلال الأشهر الثلاثة التالية كنت مجبراً على إعلان إفلاس المنظمة وإيقاف جميع العمليات عملياً بين ليلة وضحاها، حدث ذلك بسبب ضغوط سياسية فأنا أتذكر نقاشاً أجريته مع مدير مكتب رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك حيث قلت له لكن كيف يعقل هذا إيكيليبر هي أفضل سفير لفرنسا إلى دول العالم فهناك مائتي شاحنة تخترق جميع أشكال الحصار وتزود المعسكرات في البوسنة وغيرها فقال لي صحيح لكن لو لم تكن تلك الحملة قائمة لكنا زودناكم بالمال إنما تلك الحملة ضد الحصار الاقتصادي هي عملية معادية لأميركا ولا يمكننا دعم عملية كهذه.
سامي كليب: وهكذا وبسبب حملته ضد الحصار على العراق مُنِع الناشط الإنساني الفرنسي ألان ميشال من مواصلة عمله ومُنِع من توزيع الملصقات المناهضة للحرب وتعرضت منظمته الإنسانية إيكيليبر للإفلاس، كانت فرنسا تخشى الضغوط الأميركية ولكن هذا ليس كل شيء فاللافت في تجربة ألان ميشال هو أنه حين كان يعمل لصالح الدول الأوروبية غير العربية والإسلامية كانت المساعدات تتدفق عليه ولكن حين غاص في المشاكل الإنسانية والاجتماعية للعالم العربي والإسلامي تعرض للضغوط والمحاكمات والملاحقة.
ألان ميشال: العلاقة واضحة فطالما أننا كنا نهتم بدول أوروبا الشرقية مثل أرمينيا ورومانيا وبولندا وأفريقيا باستثناء البوسنة وطالما أننا كنا نهتم بالدول الأوروبية هذه والأفريقية أيضا لم تكن هناك أية مشكلة، كنا نحظى بالدعم والمساعدة وكانت الصحافة تقف إلى صفنا وكان الجميع سعيدا بعملنا لكن ما أن بدأنا ندافع عن القضية البوسنية أي المسلمين وما أن بدأنا بالعمل في لبنان ومع الفلسطينيين في غزة وفي العراق عندها اختفت المساعدات في الكثير من المجالات، بقينا نحظى بدعم أوروبا إذ أن الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة كانت بحاجة إلى عملنا الإنساني من الناحية السياسية لكن توقف كل الدعم السياسي والإقليمي وبدأنا نواجه مشاكل ضخمة، علمت بعد سنوات أن السبب في ذلك يعود لاهتمامنا بالعالم العربي الإسلامي وما أريد قوله هو أنه بدل أن يحبطنا ذلك الموقف فإنه حفزنا أكثر لتطوير مجالات هذه المساعدات، تحدثنا قبل قليل عن الدعوى القضائية إذ لابد من الدعاوى عندما تكون هناك مؤسسة يعمل فيها عدة آلاف من الأشخاص، رفعنا دعاوى صغير ومتوسطة الحجم ودعاوى اقتصادية وقد ربحناها جميعها فقد كان الحق إلى جانبنا لكن بدأنا نهتم بالعالم العربي الإسلامي خسرنا جميع الدعاوى رغم أنها كانت أمتن من التي سبقتها لكن كنا نخسرها بشكل تلقائي.
سامي كليب: خسارة الدعاوى والتعرض لهجمة شرسة وإفلاس جمعيته الإنسانية كل ذلك لم يمنع الناشط الإنساني الفرنسي ألان ميشال من الاستمرار بالاهتمام بمآسي الناس أينما كانوا ولكن خسارة المصادر المالية أثرت عليه وعلى عمله ففي كردستان مثلا كان يوظف أكثر من ألفي شخص وكذلك الأمر في دول عديدة أخرى لا بل حين زرته وجدت عنده شابا آخر يعمل معه وعلمت أن هذا الشاب كان يعيش مشاكل اجتماعية ونفسية عديدة وتعاطى المخدرات قبل أن يجد خلاصه في العمل الإنساني مع ألان ميشال ويصبح أحد أشهر سائقي الشاحنات في العالم فخاطر بحياته وذهب إلى حيث العمل الإنساني أنقذه من آفات المخدرات وأعطى حياته بعدا آخر.
شاب فرنسي: ساعدني العمل على السفر وأمور كهذه على معرفة ذاتي وعلى أن لا أؤذي الآخرين فهذا ليس أمرا سهلا لكن أكثر ما ساعدني هو معرفة إعطاء الآخرين ما هم بحاجة إليه وهذا أصعب شيء على الإطلاق أن يتجاوز المرء نفسه هو أصعب الأمور وقد وجدت أنني استفدت أكثر بكثير من خلال العمل الإنساني مما أفدت الآخرين.
سامي كليب: أود أن أعرف من هم الذين يساعدوك بشكل عام يعملون معك في هذه النواحي الإنسانية خصوصا إنه وفق ما قرأت هناك بعض الأشخاص من الذين كانوا يتعاطون المخدرات توقفوا عن المخدرات حين وجدوا كما تقول مخدرا أهم هو العمل الإنساني وأيضا شخص كان معاقا ووظف إعاقته من أجل مساعدة معاقين مثله يعني من أين تأتي بهم؟
ألان ميشال: كان هناك جميع الفئات فقد عمل معنا أناس من جميع الطبقات الاجتماعية من مهندسين عمارة إلى أطباء وممرضات وحتى سائقين، كان هناك من جميع الفئات وحتى الموظفين الإداريين لكنني رأيت أنه من المهم بما كان أن يكون معنا أناس جريؤون وخاصة للمهمات الصعبة، أناس يعيشون في أصعب الظروف فمثلا كان لدينا المدمنون على المخدرات على أعلى مستوياتها فقلت لهم تعالوا معنا فلعل لدينا ما يثير اهتمامكم وعندما جاؤوا معنا وذهبوا لمساعدة المحتاجين وأخذوا لهم الطعام وما إلى ذلك اكتشفوا أن الآخرين هناك من هم بحاجة إليهم فهؤلاء قد عانوا ويمكنهم تشاطر معاناتهم مع الأشخاص الذين سيقابلونهم.
سامي كليب: أعطني بعض الأمثلة.
ألان ميشال: شخصان مدمنان على المخدرات على سبيل المثال تحولا تماما عندما ذهبا إلى أرمينيا واكتشفا أن لحياتهما معنى وأن الآخرين بحاجة إليهما قالا لقد اكتشفنا مخدرا أكثر فعالية من الكوكايين أو الهيروين، اكتشفنا أننا يمكن أن نصبح ذوي نفع والآن نحن موجودان فعادا فيما بعد وبدأ العمل كي يتمكنا فعلا من أن يكونا نافعين وجاهزين تقنيا لتقديم المساعدة في العمل الإنساني على نحو محترف وهناك مثال آخر وهو أحد أصدقائي كان مشلولا تمام وكان يجلس في كرسي متحرك كان فعلا معاقا جسديا فقلت له لو رغبت أريد أن تساعد معاقا آخر وهو مدمن على المخدرات في أعلى درجاتها وأريدكما أن تذهبا معا في مهمة إنسانية ثم ذهبت لرؤية المدمن على المخدرات وقلت له هل توافق على ذهابي إلى بنجلاديش في شاحنة ومساعدة أحد المعاقين جسديا.
سامي كليب: الشخص الذي تتحدث عنه لم يكن يتعاطى المخدرات وإنما كان معاقا؟
ألان ميشال: لا لم يكن مدمنا على المخدرات إطلاقا كان مشلولا لم يكن قادرا على تحريك شيئا سوى يده، قلت له أنت معاقا جسديا يجب أن تساعد معاقا ذهنيا وقلت للمعاق الذهني يجب أن تساعد معاقا ذهنيا وعليكما الذهاب معا في شاحنة إلى بنجلاديش وهكذا ذهبا الاثنين إلى بنجلاديش وعاشا تجارب مذهلة وساعد كل منها الآخر وهكذا تخلص المدمن من إدمانه ومعاً قام ببناء ورشة صغيرة لتصنيع الأعضاء الاصطناعية للمعاقين في بكاك في بنجلاديش لكنهما سافر لمدة شهرين وعبر بلدان كثيرة وصلوا إلى هناك، كان هناك ثلاث شاحنات وما إلى ذلك لكنهما ذهبا في شاحنة واحدة معا.
مساعدة غزة وفتح معبر رفح للمرة الأولى
سامي كليب: المشكلة التي يعاني منها الناشط الإنساني الفرنسي ألان ميشال اليوم تمكن في أن معظم هؤلاء الذين أمنوا بعمله وعملوا إلى جانبه فقدوا أعمالهم حين تم القضاء على جمعيته الإنسانية ولكن ذلك لم يحُل دون تكثيف اهتمامه بالدول العربية والإسلامية لا بل أنه ذهب إلى قلب هذا العالم إلى فلسطين المحتلة متحديا الحصار الإسرائيلي وحاملا المساعدات الإنسانية، قصد غزة وفتح للمرة الأولي معبر رفح بين مصر وفلسطين أمام الشاحنات الإنسانية رغم أن المعبر كان مقفلا لسنوات طويلة.
ألان ميشال: أجل كان هذا الموكب إلى غزة هو الأول وذلك عام 1995 وتبعته مواكب أخرى وفيما بعد استقر في غزة وعملنا هناك لسنوات طويلة في الوقت الذي كانت فيه عملية السلام على وشك أن تتوقف تماما، قلت لنفسي يجب أن نقوم بعمل مذهل مهما كلف الأمر كي لا تتوقف عملية السلام تماما، كان ذلك أشبه بوضع القدم أمام الباب لمنعه من الانغلاق تماما، فكرنا فيما يمكننا أن نفعل وقررنا نقل الغذاء وعلى الأخص الذهاب في شاحنات إذ أن الشاحنات تجلب الأنظار وهي مذهلة ونقلنا فيها عيادات متنقلة لطب الأسنان فجميع الأطفال في غزة كانوا يعانون من مشاكل في أسنانهم شأنهم شأن أقرانهم في جميع البلدان التي تعيش أوضاعا صعبة وهكذا ذهبت لرؤية ياسر عرفات وأخبرته ما أرغب بفعله وسببه فاستجاب بدهشة وقال إن ذلك مذهل وإنه عملا جيد وهكذا تعارفنا ثم ذهبت بعد ذلك لرؤية شيمون بيريز وعمرو موسى فقد كنا نريد عبور الحدود عند معبر رفح قادمين من مصر.
سامي كليب: كان آنذاك عمرو موسى وزيرا لخارجية مصر.
ألان ميشال: كان في ذلك الوقت وزير الخارجية المصري وبعد محادثات وافق الثلاثة القيام بما يلزم وتقديم موافقتهم وما إلى ذلك وهكذا تابعنا جهزنا موكبا وحضرنا كل شيء، حينئذ لم يكن أحد يعتقد بأننا سننجح كانوا يقولون إن الوصول إلى غزة مستحيل وإننا سنتعرض لهجوم سيارات انتحارية فقلنا أننا سنحاول كما أننا معتدون على تحقيق المستحيل وهكذا قلنا إن ذلك مستحيلا فعلينا به وهكذا تمكنت من مقابلة وزير الخارجية الإسرائيلي عدة مرات وكذلك الحال مع ياسر عرفات وقد أصبحنا صديقين على المستوي الشخصي ولست أتكلم عنه كرجل سياسي وإنما علاقتنا كانت شخصية وفي النهاية وصلنا ودخلت الشاحنات ويوم دخولنا إلى غزة..
سامي كليب: كانت المرة الأولي منذ سنوات طويلة يدخل فيها أي شيء إلى غزة عبر ذاك المعبر.
ألان ميشال: كنا بذلك أول شاحنة نقل تجارية تدخل عبر هذا المعبر رغم أن القوانين الإدارية كانت موجودة إلى أن الإسرائيليين لم يرغبوا في طرح ذلك على الفلسطينيين وكذلك الحال بالنسبة للفلسطينيين أنفسهم أما أنا فلم أكن فلسطينيا أو إسرائيليا ولست يهوديا أو مسلما وهكذا كنت أتمتع بحيادية سمحت لي بأن أطلب من كلا الطرفين تطبيق الاتفاقيات الإدارية ووصلت الشاحنات إلى غزة وفي تلك الليلة أقام ياسر عرفات احتفالات للترحيب لقدومها وبهذا الانفتاح وما إلى ذلك وقلت له إذاً يا سيدي الرئيس أكنت تظن أن الشاحنات ستنجح في العبور إلى غزة؟ فقال لي لا لقد راهنت على عدم تمكنك من ذلك كنت متأكدا أن ذلك غير ممكن، فقلت له لكن لماذا لم يكن ذلك ممكنا؟ فقال لي لأنني كنت أعرف أنك لن تحصل على الإذن من الإسرائيليين، فقلت له إذا لماذا أعطيتني أنت تصريحات الدخول ولماذا دعمت مشروعي؟ فقال لي لأنك كنت تبدوا مقتنعا به للغاية ولم أرغب في تخييب أملك لذلك أعطيتك التصاريح لكن الآن بعد أن وصلت بدأت أؤمن من جديد بعملية السلام وفي اليوم التالي ذهبت برفقة المسؤولين عن الموكب لمقابلة شيمون بيريز فقال لي الشيء ذاته تماما.
سامي كليب: هذه العلاقة التي بناها الناشط الإنساني الفرنسي ألان ميشال مع الإسرائيليين والفلسطينيين سمحت له لاحقا بالاتجاه نحو الاهتمام بالسلام بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي فكان أن أسس جمعية باسم (كلمة بلغة أجنبية) أو رجال الكلمة وأسس لأول لقاء بين رجال دين مسلمين ويهود وحين زرته في منزله الفرنسي العتيق كان يستعد للمؤتمر الثاني الذي عقده في برشلونة جامعا فيه رجال الدين من الشعبيين الذين يعتقد أن اقترابهما من بعضهما البعض ومجرد تحادثهما قد يعطي ثمارا أهم من ثمار لقاء السياسيين.
ألان ميشال: لأنني أظن أن أكثر ما تعاني منه الشعوب هو غياب الحوار واللقاءات والتبادلات والاعتراف بالآخر تعتمد اليوم آراء الناس ببعضهم على المعلومات التي يتلقونها، يظن اليوم الجميع في العالم أن الإسلام يتعارض اليهودية أو حتى المسيحية في بعض الأحيان وهذا خطأ جسيم لأنني رأيت كيف أن الشعوب والغالبية العظمى من رجال الدين مستعدون لمقابلة بعضهم البعض ومستعدون للنقاش والحوار والعمل معا لإحلال السلام وجمعهم معا أمر مؤثر جدا فهم لا يلتقون أبدا، بالطبع هناك الآلاف المبادرات البسيطة والمستقلة لكن الجميع سواء إسرائيليون أو فلسطينيون يهود أو مسلمون يعتقدون أن الديانتين متعارضتين وأن كلتيهما تدعوان إلى التفريق والكراهية لذلك فإن إظهار الأئمة والحاخامات للعالم أجمع هم يتعانقون ويعملون ويأكلون سويا ويعيشون سويا لأيام عديدة ويعترفون ببعضهم البعض إظهار هذا كله للعالم يمكن أن يغير جذريا عقلية ومشاعر الناس وإن غيرت الشعوب آراءها عندها ستكون الآمال كبيرة فعندئذ ستتقبل الشعوب بعضها البعض وتعمل معا.
سامي كليب: في الواقع ما يلفت في هذه التجربة تحديدا في جمع الأئمة المسلمين مع الحاخامين اليهود هو أنك شخصيا لا تؤمن كثيرا برجال الدين ولا تؤمن برجال السياسية فكيف تستطيع أن تبرر جمع هؤلاء من جهة وعدم الإيمان بما يفعلوه من جهة ثانية؟
ألان ميشال: سبب تنظيمنا لهذا المؤتمر بين الأئمة والخامات هو أنهم يتمتعون بسلطة حقيقية لا شك أن سلطتهم على العالم اليوم هي الأكبر برأيي باستثناء السلطة الاقتصادية لكن هذه الأخيرة لم يمكنها فرض نفسها من دون السلطتين السياسية والدينية وهذه السلطة شأنها شأن السلطة الدينية تؤثر على الشعوب كما تفرض تأثيرها أيضا على المواقف السياسية، اليوم يملك كل من الأمة والحاخامات فكرة مغلوطة تجاه الآخر لذلك إن جمعناهم معا ستتوالد عندهم بالطبع نظرة أكثر صحة.
سامي كليب: ولكن هل هناك من مثال واحد على ما تغير في عقلية الأئمة المسلمين من جهة أو الحاخامين اليهود من جهة ثانية حين جمعت الطرفين قبل ثلاث سنوات مثلا؟
ألان ميشال: بالطبع هناك أمثلة كثيرة محددة، بعد هذا المؤتمر الأول للأئمة والحاخامات اجتمع مرة أخرى للعمل معا وتغيير الوضع ومن بين الأمثلة الأخرى هو إنشاء معاهد مشتركة تعيد تأويل النصوص المقدسة ويجتمع الأئمة والحاخامات فيها لتقديم تفسيراتهم لكل كلمة وجملة وآية سواء التوراة أو الإنجيل أو القرآن الكريم وهكذا يعطون تأويلاتهم معا كي يصلوا إلى رؤية موحدة ورؤية للسلام لا رؤية تضارب وحرب، أسس رجال الدين مبادرات في الجامعات والمدارس للقاء الإسرائيليين والفلسطينيين وعندما رأى الناس صور رجال الدين يتعانقون ويعملون معا قالوا لأنفسهم إن كان ذلك يمكن حدوثه بين الأمة والحاخامات فنحن أيضا يمكننا القيام به بين عائلاتنا وبين الطلاب وتم تأسيس أمور كثيرة لانعقاد هذا المؤتمر.
سامي كليب: ربما يثمر لقاء رجال الدين المسلمين واليهود نتائج طيبة وربما يتعرض الناشط الإنساني الفرنسي ألان ميشال إلى ضغوط تمنعه من الاستمرار في عمله للسلام تماما كما منعته من العمل لرفع الحصار عن العراق ولكن الأكيد أن ألان ميشال ينام كل ليلة قرير العين مطمئن البال لأنه لم يكتف بالنظر إلى مآسي طفل جائع أو عجوز مشرد ومحاصر وإنما ساعد وناضل وقال كلمته ومشى.