عائلات الأسرى.. زمن مفقود ومعاناة مستمرة
الزمن المفقود، حياة دون إيقاع، وجع يؤسس لحالة من الضياع والفجاج تصيب الأسير وعائلته من لحظة الاعتقال حتى ما بعد الموت.
فالاحتلال الإسرائيلي بقوانينه القمعية -التي تنعدم فيها الإنسانية- ركز جوهر أهدافه على معاقبة الفلسطيني بالحرمان وتجميد الزمن، وقتل العلاقة بين الآباء والأبناء والأزواج والزوجات، وإغراق الطرفين في غياهب العزلة.
فالأسير الفلسطيني لا يرى طفلا ولا يسمع صوت أنثى، يعيش بين أربعة جدران لا تصلها أشعة الشمس، وعائلته تعيش الانتظار والنقص.
كنا ونحن نرسم ملامح هذا العمل الوثائقي نغرق في بحر من الألم، نقرأ ملامح أناس عصرهم الحزن وخطف ما تبقى من أحلامهم وأغرقهم بالفراغ والانتظار، بحر من الوجع، موت مؤجل يحرك العاطفة والوجدان، وأبطال العمل أناس سرقت مساحات من أزمانهم ليحل محلها الفراغ والانتظار.
أطفالهم حرموا من قول كلمة "أبي"، نساؤهم يعشن خريفا أزليا، وغزت أمهاتهم الأمراض، فما بين جفاف الغربة وحنين الاشتياق عوائل تعيش الاحتضار، تغرق في غياهب الزمن المفقود.
هذا الواقع الفاجع المبكي صدمنا بشدة من اليوم الأول للقاء أهالي الأسرى الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر والضفة الغربية المحتلة، فنحن أمام فلسطينيين يحملون جبلا من المعاناة والقهر والحرمان والجفاف، تغيب معاناتهم الفعلية من الخطابات الإعلامية المستهلكة، حيث كان التحدي أمامنا في أن نصنع فيلما عن شريحة حرقتها شاشات التلفزة وأصبحت الكاميرا بالنسبة لها مجرد تقليد يومي، ومع ذلك عليك أن تصنع فيلما بحرفية عالية وبأسلوب جديد يحكي قصتهم، ويوثق معاناتهم بواقعية.
كيف ستقنعهم بأن تلقائيتهم وبساطتهم تعبران عن قهرهم ومعاناتهم؟ وكيف ستقنع المشاهد العربي والعالمي بقضيتهم الإنسانية وبأنهم أناس يتألمون ويشعرون بالمرارة والحرمان؟ كيف ستكسر الجليد الذي سيطر على حياتهم؟ كيف ستجعلهم ينتصرون لمشاعرهم ويعبرون عنها بجرأة ويتحررون من القوالب التي فرضت عليهم؟ كيف ستقنعهم بأن هذا العمل سيستنهض مشاعرهم وسيغوص في أعماقهم لينقل دواخلهم للعالم بشفافية بعيدا عن الشعارات؟
وهنا كانت المعادلة، هل سيستجيبون لرؤيتك وهم نجوم يظهرون يوميا عبر الشاشات؟ وما هو الجديد الذي ستقدمه؟ كيف ستبتكر رؤية جديدة للعمل وأنت تعلم أن هناك حلقة مفقودة وهي أساس العمل، زيارتهم لذويهم في سجون الاحتلال الإسرائيلي الذي يرفض تصويرهم ومتابعتهم، فهو يرفض التصوير داخل السجون الإسرائيلية في زيارات الأهالي وفي أي وقت كان، كما أن الحصار المفروض على غزة والمنع المتكرر لأغلبية أفراد العمل للخروج إلى الضفة الغربية لمتابعة الشخصيات وضعانا أمام تحديات صعبة.
تحد
ولم يكن هذا التحدي الأول لي مع فريق العمل، مع فريق برنامج "فلسطين تحت المجهر"، فقد أخرجت سابقا ضمن البرنامج حلقة "أقوى من الكلام" عن مجتمع الصم في قطاع غزة قبل وبعد العدوان الإسرائيلي عام 2014، وقد ترجمت الحلقة إلى أربع لغات وعرضت على الجزيرة الإخبارية والوثائقية والإنجليزية وشكلت جزءا من موقع "ريمكس فلسطين" التفاعلي.
وفي هذا العمل "الزمن المفقود" اخترنا مجموعة من النماذج ما بين أمهات وزوجات وأبناء وأسرى محررين تم إبعادهم إلى قطاع غزة، وبدأنا معا نقترب من بعضنا أكثر فأكثر إلى أن وصلنا لخلاصة مفادها أن الأسير وأسرته يعيشان حالة اغتراب وفجوات بين بعضهما بعضا.
فالأسرى يتوقف لديهم الزمن منذ لحظة الاعتقال، وكذلك يتوقف الزمن لدى أهالي الأسرى نتيجة الفراق والضغوط النفسية وتحملهم أوجاع ومسؤوليات الحياة التي فرضت عليهم واقعا خاصا جمد مشاعرهم وتحولت الشحنات العاطفية إلى مجرد انفعال لحظي، بعد ذلك أصابها جفاف وجمود قد لا ينهيه حتى خروج الأسير من السجن، ورغم فرحة الجميع فإن الفجوة التي يتركها هذا الفراغ في زمن العلاقة بين الطرفين تبقى كبيرة وقائمة لتحول حياة الطرفين إلى سجن كبير خارج الزمن والمكان.
اكتشفنا أن السجن لا يقضي فقط على ساكنه وإنما يحصر حياة أجيال متعاقبة من النساء والأطفال والشيوخ في مربع الانتظار، في حياة بطل جانب من مأساتها الأسير نفسه، لكن خلف الكواليس يتقاسمه البطولة حطام من تركهم وراءه.
أمهات وأطفال يعيشون النقص، يفيض حزنهم حتى يتحول لصمت مزمن، يذيب الأحاسيس ويقتلها، اجتهدنا خلال سنة كاملة في قراءة واقعهم، عايشنا تجربتهم، فرحنا وبكينا معهم، أرهقناهم رغم حرصنا على ألا نثقل عليهم، وأرهقتنا آلامهم وأحلامهم الصغيرة وأملهم في مجرد رؤية ولمس من يحبون فأتمنى أن يسامحونا، وأخيرا نشكر عائلات الأسرى الرائعين، ونتمنى أن يجسد هذا العمل صدق تجربتهم وينقل للعالم معاناتهم.
المخرج مصطفى النبيه