فلسطين تحت المجهر

معركة الأمعاء الخاوية.. سلاح الفلسطيني لمقاومة الإذلال

يتعرض الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال لكل أشكال التعذيب اليومي والإذلال، دفعتهم لخوض معركتهم بأمعاء خاوية. وسلطت حلقة 15/4/2015من “فلسطين تحت المجهر” الضوء على عذاب هؤلاء الأسرى.

في 17 مارس/آذار 2013، وصل الأسير المحرر أيمن الشراونة الى قطاع غزة منهيا إضرابه عن الطعام والذي استمر 261 يوما، ليحصل بعدها على حريته من سجون الاحتلال الإسرائيلي.

درجت العادة عند فريق عملنا أن نوثق التجارب الإنسانية وبعض الأحداث المهمة من حولنا قدر الإمكان، لكن انشغالنا في تلك الفترة بإنهاء بعض الأفلام التي بين أيدينا جعلنا أقل تحمسا للذهاب الى أيمن ولقاءه وتوثيق تجربته.

بعد قرابة شهر ذهب زميلي محمد الصواف لتوثيق تجربة أيمن الشراونة، ورغم مضي شهر كامل على خروجه، إلا أن علامات الإعياء الشديد كانت ظاهرة عليه، إضافة إلى عدم قدرته على تحريك أذرعه أو المشي إلا بصعوبة بالغة بطريقة ملفتة للانتباه، لكن لم تكن هذه المفاجأة بقدر ما كانت في التفاصيل المؤلمة التي فاجأنا بها والتي كان يسردها كواقع يومي من حياة أسير معروفة للكل وكأننا نعلم بهذا الكم المريع من المعلومات الصادمة والغير معروفة بهذا النحو لنا.

بعد المقابلة، شعرنا بالألم الكبير من عدم الإدراك الكافي لهذه المعلومات عن واقع الأسرى الذي لا يطاق داخل السجون، وكان السؤال هل نحن وحدنا من يجهل هذه المعلومات الصادمة!

المفاجأة أن جميع من سألناه من حولنا كان يمتلك فقط الصورة العامة دون إدراك التفاصيل والتي هي أهم بكثير من عموميات القضية. فالجميع يتحدث عن قضية الأسرى بطريقة مكررة وبصور أرشيفية تستخدم نفسها في كل مناسبة متعلقة بنقاش هذه القضية، فأدركت أننا كاعلاميين وصانعي أفلام لم نبذل أي جهد حقيقي في نقل ما يحدث، و ما يثير الحرج أكثر هو أننا كنا فقط بحاجة الى الاستماع الجيد لاصحاب هذه التجربة ونقلها كما هي و من دون استخدام أي عبارت تثير العاطفة، لان تفاصيل هذه التجربة بشكلها المجرد كفيلة بإحداث هزة عنيفة لأي انسان يدركها.

لذا كان من الطبيعي أن تبدأ رحلتي مع فريقي الرائع في إصرار لصناعة فيلم وثائقي وظيفته فقط نقل هذه الحقائق، ومن هنا كان التحدي الحقيقي كيف سنصنع فيلما بطريقة تجعل المشاهد يعي ويدرك هذه التفاصيل المؤلمة.

 لا أبالغ إذا قلت أني كنت أفكر في كيفية صنع ذلك خلال يقظتي، ومن ثم أشاهد أفكار يقظتي صورا في أحلامي و أنا نائم (وإن كانت أحلاما صعبة و قاسية) لقرابة أكثر من شهر على هذا الحال، الى أن أنهيت تصوري لانجاز هذا الوثائقي بطريقة مختلفة.

كان ملفتا للاهتمام تشابه ظروف وعناصر تجربة الإضراب للطعام التي مر بها الأسرى الفلسطينيون وتلك التي خاضها نظرائهم في العالم، وكانت أهم رسالة للمشاركين في كل تلك التجارب هو محاولة لفت الأنظار إلى أن هناك ظلماً شديداً يقع بهؤلاء الأسرى داخل أقبية السجون، ومن هنا اخترنا أن تكون التجربة الإيرلندية في الإضراب عن الطعام حاضرة خلال هذا الفيلم لتوثق مع التجربة الفلسطينية أحد أهم أشكال التضحية الانسانية لدفع الظلم الواقع بالانسان بأمعاء خاوية تواجه أدوات البطش والقهر والظلم.

بعد دراسة تفاصيل تجربة أيمن الشروانة وهناء شلبي وسامر العيساوي الذين منحونا وقتاً كبيرا لتزويدنا بتفاصيل تجربتهم، اتفقنا مع أيمن الشروانة على اعادة تمثيل تجربته تماما كما مر بها، لتكون الصور هي شهادة حية ومصدر معلومات لإخبار المشاهد بتلك التفاصيل وتسهيل إدراكه لها، لذا بذلنا اهتماما مضاعفا في دقة المعلومات المصورة للحفاظ على واقعية كل ما سيتم تصويره ليكون متطابقا مع ما يحدث داخل السجون حتى في التفاصيل الصغيرة والدقيقة. ومن هنا كان الأنسب أن يتم تصوير هذه المشاهد في سجن حقيقي استخدمه الاحتلال، وكان الخيار الوحيد هو سجن غزة المركزي المشهور بالسرايا والذي استخدمه الاحتلال الإسرائيلي في اعتقال الفلسطينيين لمدة 27 عاما وشهد عدة اضرابات عن الطعام.

لكن اختيار هذا السجن في غزة وضعنا أمام تحدي جديد، حيث ان الإحتلال قام بقصف هذا السجن وتدميره بشكل كبير، ولم يتبقى الا جزء بسيط من زنازينه والتي كانت بحاجة الى اعادة بناء وترميم لإعادتها كما كانت زمن الاحتلال، والتحدي هو الحصول على مواد البناء اللازمة والتي يمنع الاحتلال وصولها الى قطاع غزة منذ حصاره المشدد لها عام 2007.

بصعوبة بالغة نجحنا في تأمين ما يلزم لاعادة الترميم ، و بدأنا مع أيمن بزيارة المكان بعد ترميمه للاستعداد لبدء تصوير مشاهد إعادة التمثيل ، وكان من أصعب هذه المشاهد: مشهد إعادة تمثيل عملية التفتيش العاري ، فقمنا بإيجاد ممثل بديل لتنفيذ هذه المشاهد، وخلال مراجعتي مع أيمن الشراونة من تفاصيل المشاهد للتأكد أن ما سنقوم باعادة تمثيله مطابق بكل تفاصيله لتجربته داخل السجن ، أبلغته ان هناك ممثل يشبهه سيقوم بمشاهد اعادة تمثيل التفتيش العاري (حيث يتم تجريد الأسير تماما من ملابسه)، فسألني لماذا ممثل بديل.

ثم سألني: هل تعتقد أن من قام بالتضحية بحياته من أجل كرامته و كرامة الأسرى سيبخل باعادة تمثيل ما حدث معه حقا من أجل وقف معاناة إخوانه  الذين يتعرضون يوميا الى هذا الكم من المهانة داخل المعتقلات الإسرائيلية، وهل تعتقد أن أي ممثل سيستطيع إعادة تمثيل المشهد كما كان يحدث معي ، أنا جاهز لهذه التضحية بالرغم من صعوبتها نفسيا علي.

 لقد كان أيمن مذهلا بحرصه الشديد على نقل معاناته و معاناة شركائه الأسرى داخل المعتقلات الإسرائيلية ، قام بإغلاق محله التجاري و بقي طوال فترة التصوير المرهقة متطوعا كي يساهم بكل جهده في نقل هذه المعاناة ، كنت أراقبه خلال التصوير ، و أشاهد كم الألم في بعض المشاهد على وجه ، و أحيانا دمعاته اللاإرادية، كان قاسيا جدا عليه استعادة هذه الذكريات المؤلمة لكنه تجاوز ألمه من أجل نفس رسالة اضرابه عن الطعام و هو جعل العالم أن يدرك أن ظلما شديدا يقع بالبشر هنا.

أشعر أنى ومشاهدي هذا الفيلم مدينين لكل ضيوف هذا الفيلم بشكر عميق لجرأتهم الكبيرة للحديث عن معاناتهم وللمعلومات التي أحيانا يصعب الحديث عنها في مجتمع شرقي يميل الى إخفاء ما يظن أنه يجرح كرامته، لكن مقدار الظلم الشديد جعلهم يمتلكون الجرأة الكبيرة لتجاوز تلك القواعد وفضح تلك الممارسات بحقهم أملاً في وقفها من أحرار العالم ومنظومات صنع القرار.

مخرج الفيلم: أشرف مشهراوي