صورة عامة - ذكريات سجن تدمر - أدب السجون
أدب السجون

ذكريات سجن تدمر والأعمال الأدبية

في هذه الحلقة يروي ثلاثة من الأدباء السوريين حكاياتهم مع السجون حيث كانوا معتقلين سياسيين. فالكاتب والمخرج المسرحي غسان جباعي والشاعر فرج بيرقدار والكاتب ياسين الحاج صالح يروون قصصهم مع سجن تدمر.

– سجن تدمر وذكرياته
– أعمال الأدب بالسجن ومدى الاستفادة منها

undefined

غسان جباعي- كاتب ومخرج مسرحي: غسان جباعي كاتب ومخرج مسرحي، دخلت على السجن كان عمري 31 سنة عام 1988 وبقيت لعام 1998 عشر سنوات، سنة منهم بفرع التحقيق العسكري تحت الأرض وأربع سنين ونصف بتدمر، بعدين تم نقلي إلى سجن صيدنايا العسكري الأول ومن ثم إخلاء سبيلنا.

فرج بيرقدار- شاعر: فرج بيرقدار شاعر، مواليد 1951، أمضيت بالسجن 14 سنة، لما اُعتقلت كان عمري 36 وطلعت بالخمسين، السنة الأولى أمضتها بفرع فلسطين تحت التحقيق، بعدها نُقلت إلى سجن تدمر الصحراوي، أمضيت خمس سنوات إلا شوي، فيما بعد نقلت إلى صيدنايا حتى الإفراج عني بأواخر سنة ألفين.

ياسين الحاج صالح- كاتب: اسمي ياسين الحاج صالح كاتب، مواليد 1961، دخلت على السجن سنة 1980 كان عمري 19 سنة، قضيت عشر سنين وشوي بسجن المسلمية بحلب، بعدين أربع سنين بعدرا جنب دمشق وبالـ 1993 حاكمتني محكمة أمن الدولة 15 سنة، بعد ما خلصت أرسلوني على تدمر قضيت سنة إضافية.. يعني كملت 16 سنة وطلعت بآخر سنة 1999.

غسان جباعي: منّا متعودين نروح على تدمر بدون طميشات وكلبشات.

سجن تدمر وذكرياته

ياسين الحاج صالح: أنا بأتذكر أنا ما كنت مطمش لما أخذونا على تدمر، فيأخذونا الساعة خمسة ونصف الصبح ويظل.. بينقلونا على تدمر على صيدنايا.. على سجن صيدنايا ولا على الفِرع علشان المساومة ولا هيك شيء ساعتين.. يعني كل اللي عندنا شوية إنه آخذنّا على تدمر لكن الأمل كان عم يلعب دوره بيكذّب هيك توقعات، نزلونا على السيارة وما تيقنّا إنه رايحين على تدمر إلا لما طلعت بالباص على أبو الشامات، كنا مكلبشين طبعاً والقياس.. السيرة اللي كانت عم تنحكى من الناس اللي عم أخذونا على تدمر كانت المعاملة كثير سيئة، مكلبشين وجوهنا صفر، ما شايف وجهي لكن وجوه.. كنا ثلاثين واحد.. وجوه زملائي كانوا شاحبين بطريقة مريعة، أول ما عرفنا إنه ماشيين على تدمر.. يعني حسينا يمكن كلنا بإنه مثل اللي وقع ببئر عميق، تخلى عن كل أمل، ما بدأ الرعب ما بدأ.. يعني الرعب الحقيقي ما بدأت صورة تدمر تتجسم إلا لما وصلنا واستلمونا.

فرج بيرقدار: الفظيع بالأمر نحن مأهلين حالنا نفسياً بالفِرع بعد سنين التحقيق والعذاب قلنا خلاص بدنا ننتقل على السجن نشوف رفاقنا وفيه زيارات، قالوا لنا أنتم مجموعة خاصة.. هيك وصلتنا التسريبات.. ممكن يأخذوكم على المزة مو على صيدنايا، قلنا مليح المزة، بعدين جاءتنا تسريبة إنه والله ممكن يعاقبوكم ويأخذوكم على تدمر، المهم طلعنا، صفونا في ميكرو هيك صوته ناعم مو على طريقة سيارة الزيل هاي، فقلنا لبعضنا.. يعني قلنا إنه ما معقول إنه ها الميكرو الأنيق هذا الظريف يكون لتدمر، مشيت باتجاه الميكرو هناك بلشت الشتائم والضرب وإيديك وراء ظهرك، ما أدري شو حط الأشي حطينا، إيديك وراء ظهرك، كلبشونا، طلعنا ها الميكرو، رأسك تحت المقعد.. يعني أنا قلت ما معقول ثلاث ساعات ونصف.. أربع ساعات الطريق نظل مكلبشين للوراء، أكيد يا صيدنايا يا المزة، بس وقتها بدأ الميكرو يمين شمال، نحن ما شايفين، بدأت أحس أو هيك تقارن الأعمى كيف استخدم حواسه ليعرف اتجاهاته.. ليعرف كثير قصص؟ فيك تقول أول تجربة، ترويض أو تدريب إن أنا أكون أعمى، لما وصلنا طبعاً الكل كان عم يشتغل بنفس الطريقة، ما عم نعرف فين عم بنروح، كنا وصلنا بساحة الأمويين، راح يمين.. يعني باتجاه الشرق، طلعنا باتجاه مساكن (كلمة غير مفهومة) رجع لف والله دق الطريق قلنا باتجاه تدمر أو معلولة صيدنايا، كنا نتوهم إنه بركة إن شاء الله يكون باتجاه يا أخي باتجاه معلولة صيدنايا، لما لف باتجاه الشرق قبل معلولة صار واضح إنه باتجاه تدمر وبدأت عاد.. يعني ضرب على أي حديث.. على أي حركة، لدرجة.. يعني أحد رفاقنا أنزلق القيد على يده فصرخ، سأله أحد عناصر الدورية شو فيه عندك؟ قال له الكلابشة راح تقطع يدي، فقال لزميله روح دبر له الكلابشة بمعرفتك، فجاء لعنده وراح مسكه وعلى رأسه وطب.. حل المشكلة الرفيق ما عاد حكي.

غسان جباعي: أنا بأتذكر لما نزلونا مرة من تدمر على دمشق للتحقيق بأتذكر الرجعة، رجعنا مع مجموعة من بعض الشباب أنا الوحيد بينهم اللي بأعرف أنا لوين جئت ولوين راجع، هم ما كانوا بيعرفوا، صاروا يتشارطوا، نفس الشيء إنه مستحيل نروح على تدمر، ليش على تدمر نحن شو مسويين لنروح على تدمر، قلت لهم يا شباب على تدمر.. طريقنا تدمر، فهمسنا لبعض طميشة وكلابشات وكنا حتى متكئين بسيارة زيل كنا متكأين على بعض.. يعني كل واحد على ظهر الثاني، فنكشني واحد أنا سألته أنتم مين كذا؟ قال أنا فلان، طلعوا كلهم بأعرفهم، بنعرف بعض، الأخطر بالأمر لما أنت بتنزل هناك وبيكون واقفين بالجهتين وكل واحد معه عصايته وبيعملوا لك استقبال.. يعني هذا لا يمكن أنساه بحياتي.

[فاصل إعلاني]

غسان جباعي: بتعرفوا مثلاً ليش لما بينقلونا ويمررونا داخل المدن ليش كانوا يطلبوا منا أنه ننزل رؤوسنا لتحت المقاعد؟ لأنهم كانوا بيخجلوا أنه يشوفونا الناس ونحن راكبين بالسيارة ومقيدين ومطمشين.

ياسين الحاج صالح: لما تتفرج من الشباك أنت ما عدت مجرد سجين، صرت تعمل شيء آخر إنساني غير لما تكون حبسك ضمن وضعية السجين مذلول مرعوب مهان.

غسان جباعي: نحن مرة جاء لعندنا ضابط كبير، بييجي علشان يشوف شو طلباتكم؟ شو ناقصكم؟ شو معتازين؟ شو إلى آخره.. فأنا تشجعت وأقول تشجعت لأنه فعلاً كنت عم أحكي ورجليّ عم بيرجفوا هيك تحتي، طبعاً فيه ناس طلبوا تنفس أكثر، فيه ناس طلبوا ما بأعرف شو أكل، كتب، الاحتياجات الأساسية والضرورية، صحة.. معالجة صحية، فأنا قلت له بدي أسألك سؤال نحن ليش موجودين هون بتدمر؟ هل حملنا سلاح ضدكم.. يعني هلا بتسموهم إرهابيين؟ يعني هل تعاوننا مع دولة أجنبية استلمنا دولارات من أحد؟ القانون بيطالنا بأي جرم نحن ارتكبناه؟ قال طبعاً أنت مجرم سياسي.

ياسين الحاج صالح: بتعرف كيف كانوا يأخذوا السجناء وخصوصاً اليساريين.. من أصول يسارية مثل حكاياتنا؟ كانوا يأخذونا على تدمر لأنه إما بعد التحقيق مباشرة علشان كسر العين والبهدلة أو عقوبة لأنه عاملين شي شغلة بالسجن.. شي مشكلة، هلا نحن ما بأول السجن ولا عاملين، الحقيقة عوقبنا نعم لكن على مساومة، الشغلة الفظيعة الحقيقة اللي أخذتنا على تدمر أنه أخذونا ثلاثين واحد بمَن فينا ناس وافقوا على المساومة، بما فينا ناس وافقوا على أنه بيتعاون مع الأمن على أنه ما بأشتغل بالسياسة وعلى أنه بأكتب لكم تقارير وكله، بعض الناس قالوا لهم الضباط أنه بكره راح تنام ببيتك.. كانوا ثلاثة عمداء قالوا بكره راح تنام ببيتك.. ثلاث عمداء من الأمن السياسي، البكرة ببعض الحالات كان خمسة سنين ونصف بتدمر، خمس سنين ونصف.. يعني عم يحرقوا حق الاستسلام، أنا مستسلم.

فرج بيرقدار: ياسين مطلوب البشر يعرفوا شو صار، أنا برأيي وسيلة تربوية ممتازة للأجيال القادمة لكي لا تمر بالمآسي اللي حصلت، البعض بيجوز يقول يا أخي ما في داعي لنكش ها الأمور، أخي ما فيك تتجاوز ها المرحلة، الجمر بده يبقى تحت الرماد، أنا برأيي مطلوب هذا تمثيله تماماً فيلم، مسلسل، إلى آخره وإلا البشر بده يتم نظري أو بده يتم أحياناً أوهام وتضخيمات ومبالغات.

ياسين الحاج صالح: هلا.. يعني أظن السجن هو المكان اللي بيجسد.. يعني بخيال الواحد وذاكرته جمال المبتذل.. شيء مبتذل، أنه واحد يمشي بالشارع، أنه يمشى تحت المطر، أنه يقعد بحديقة، أنه يتفرج على الناس الماشيين إلى آخره، بالسجن كثير يصير جميل وحلو، بيتخيل الواحد كثير حاله، هلا بتدمر مو بس هيك بتدمر السجن للناس.. للإخوان بالحقيقة أنا ما عديت بها التجربة.. يعني يحلم الواحد حلم أنه ينام يمدد رجليه.

غسان جباعي: مسموح لك بأربعين سنتيمتر فقط، أربعين سنتيمتر.. يعني بيخلوك تصير أنت تقاتل على سنتيمتر، هذه الأجساد المتلاصقة.. هذا الإحساس بالتجمع القطيعي سواء أنت أردت أم أبيت، الحصر في مكان واحد أنه كيف نحن استطعنا نتغلب على ذاتنا وعلى المكان وعلى الشرط اللي نحن موضوعين فيه.

ياسين الحاج صالح: غسان ما لازم يفوت عن بالنا أول شيء كثير من أصدقائي كنا أصدقاء قبل السجن أو تعرفنا داخل السجن، كانت فرصتهم بتحمل السجن وبتجاوز محنة السجن أقل بكثير، مجموعة ظروفات.. ظروف وإمكانيات متنوعة وإمكانيات أهلنا الحقيقة أيضاً كانوا.. يعني الستة عشرة سنة اللي قضيتها أنا فيه عندنا سنة ونصف أظن بين سنة 1988 و1989 كان ما فيه عندنا زيارات وبسجن تدمر بعد ذلك.. يعني ثلاثة عشر سنة ونصف فيه زيارات، الزيارات تحفظ كرامة السجين، بيجيبوا له أهله مصاري، يجيبوا له أهله أكل ويجيبوا له عاطفة.

فرج بيرقدار: أخي السجين منسي.. نسيان معنوي للسجين، السجين المنسي فظيع، هذا بيتعرض لأكبر ضغوط بس أنا بأقول لحسن الحظ مثلاً أنا ما كنت منسي من أهلي، ما كنت منسي من أصدقائي، أيضاً ما كنت منسي من منظمات بالخارج لحقوق الإنسان وغيرها، هذا منحني درجة من التماسك أعلى.

ياسين الحاج صالح: اللي خسروا معركتهم مع السجن هم اللي اعتبروا السجن زمن مهدور، تحمل محض وانتظار للحظة الإفراج، لحظة الإفراج لا بأس.. يعني ما بنختلف عن بعضنا إذا طلعنا بعد سنة، لكن إذا خمسة عشر سنة لا بيختلف، اللي يستني لحظة الإفراج كل الوقت راح يُهزم كل وقت، اللي يتصالح مع السجن وبيعتبر أنه أعمل لسجنك كأنك مسجون أبداً وأعمل لحريتك كأنك خارج غداً، بمعنى.. وخصوصاً أنه كنا محبوسين حبس عرفي.. يعني ما أحد منا بيعرف قد أيش راح يقضي بالسجن.. يعني حرمونا من فرصة أنه نسوى عد تنازلي للحبس.

غسان جباعي: بأظن الإنسان الأناني ما فيه يعيش بالسجن، الإنسان اللي بيكره الآخرين.. بيكره المجتمع ما فيه يعيش بالسجن، الحب العلاقة لأنه فيه حياة جماعية بالسجن، الحياة الجماعية بتخلق جو كثير جميل، بتحول السجن فعلاً إلى مركز ثقافي مثلاً.

فرج بيرقدار: وأحيانا لجو ممض يعني أن تبقى أربعة وعشرين ساعة تحت عيون رفاقك الرحيمة اللي أنت مضحي بدمك من أجلهم وهم مضحيين بدمهم من أجلك تضحية حقيقية، بس بالسجن يا أخي بتحط فئران بحي صغير تتغير طباعهم وبيصيروا.. كمان له أخلاقه وقيمه بيخليك أنت بيطلع لك نصف بيضة ما بتتنازل عنه لرفيقك لأنه أنت بتبقى جسدياً عم بتقاوم بدك نصف البيضة هذه.

ياسين الحاج صالح: كان ملحوظ على فكرة بالسجن أنه أخلاقنا بتتحسن يوم الزيارة، فيه وفرة من الأكل فيعني مستوى التعفف عندنا كلنا بيرتفع.

فرج بيرقدار: يعني قراءات السجن متعددة، كل واحد عم بيقرأه بطريقة، أولاً بتسمع طريقتين وبتشوف طريقة ثالثة، أحد وجوهه وهو مكان معادي أنا باعتقادي لما بينجح في إعادة تأسيسه للقول للحول لحالي حنيني أو جزء منه هذا أيضاً بده نقص تحظره السجن.

ياسين الحاج صالح: يعني محتاجين لنحوّل السجن لبيت، بقدر الإمكان بنجرده من خصائص المكان الغريب المعادي لنوع من البيت، بنستوطنه، بنحوله إلى وطن بشكل من الأشكال.

فرج بيرقدار: بس أنا الحقيقة من الزنزانة من فترة التحقيق شعرت أنه يا أخي كيف بدك تواجه مهابة السجن، وحدي من مقومات المواجهة شعرتها هي الشعر والحقيقة بسنوات لاحقة اكتشفت أنه حفظت توازني، خلاني أشعر بمعنى لأنه السجن مكان لا معنى له وزمن لا معنى له.

غسان جباعي: اخترعنا أول شيء أقلام من عظم، نأخذ الضلع هذا تبع اللحمة اللي يجيبوا لنا إياها، نأخذ الضلع نحفه بشكل ونعمل له رأس مدبب ونجيب ورق الميجا تبع السجائر ونكتب عليه بالضغط قصائد وقصص وحتى بأتذكر عملنا جريدة صباحية فيها افتتاحية وفيها قصة وفيها شعر وفيها نكت، فكل يوم تفوت الصبح تلاقي جريدة معلقة مطوية هيك على حبل، هذا الاختراع ممنوع لأنه هم ما بدهم إياك تقدر بسهولة تنتصر على الشيء المحيط فيك، بدهم إياك بتظل دائماً عبد لهذا الشيء أو على القليل تتعذب حتى توصل له، فتعرف الطاقات اللي موجودة بتدمر، الطاقة الموجودة بالسقف اللي الشرّاقة كانوا يسموها وإذا كان المهجع كبير كانوا يحطوا اثنين علشان.. والحراس اللي فوق اللي كل الليل بيطلوا عليك وكل الليل بيشوفوا الساعة كذا بدك تنام، طيب أنت بدك تكتب، كيف بدك تكتب؟ بدنا نحتال، نحاول ننزل تحت البطانية، كمان البطانية ما لازم تكون مرتفعة كثير بيكشفوك، بدها تكون بطانية، فأنا مثلاً صدفة مرة أنه تحركت تحت البطانية بطريقة ما، كمشني، أخذوني على الزنزانة ثاني يوم أعطينا اسمه لهذا، خذ اسمه، أنت اسمك كذا، ثاني يوم بيعلموا عليك تعرفها هاي تعليمات فيعني فيما بعد طبعاً بكل.. على فكرة كل فترة سجن تدمر هي فترة من الإلغاء الكامل لكل حقوقك، ما لك أي حق، حتى التنفس كان عذاب حقيقي لنا.. يعني أنا من الناس اللي كانت بتحب التنفس، ما بدي أتنفس.

ياسين الحاج صالح: سجن تدمر السجان حاضر بكل لحظة، سجن المسلمية وعدرا السجان غير حاضر إلا حضور غير مباشر، حضور غير قمعي ويومي، بتدمر مو بس ما فيه كتب أو أدوات للطبخ أو للشاي أو للمتاع أو ما يشبه ذلك، فيه خوف كثيف حاضر بكل لحظة.. يعني خوف فقدان للأمان، شعور بالقلق وبالانعصار وبيت الواحد ريشة في مهب الريح.

[موجز الأنباء]

ياسين الحاج صالح: بالفترات السابقة أعتقد أنه كان فيه.. يعني كنت نجحت إلى حد لا بأس فيه بحل مشكلة السجن إلى درجة أنه صدقاً بأخر 1995 لما أنهيت الـ 15 سنة تبعي صرت أحس بالقلق بأنه أنا حالل مشكلة السجن بشكل كثير مليح، هلا الطلعة هي المشكلة، أنه خروجي من السجن بعد 15 سنة هو المشكلة.. يعني بشكل من الأشكال صار السجن نوع من الحل، 15 سنة من التعود ويعني كنت بأكتب شوي وأتيح لنا بعد سنة 1988 أقلام فكنت بأكتب وبأشتغل، فهذا الوحش تم ترويضه بشكل لا بأس فيه وقدرة على التكيف لا بأس فيها، نوعية المشاكل اللي يطرحها على السجن صرت قادر على إيجاد حلول ماشي حلها، هلا لما انتهت الـ 15 سنة راحت السكرة وجاءت الفكرة، هلا شو بدنا نعمل بره يا أبو الشباب؟ بدك تعيش، بدك تشتغل، بدك تحب وتعشق، بدك تستأنف حياتك.. تستأنف الحياة شغلها فيك من أول وجديد، فكان هالقلق موجود وحُل للأسف بطريقة وحشية ويعني لا يمكن أن تخطر على بال اللي هي النفي إلى سنة إلى سجن تدمر.

غسان جباعي: لما أخذوني كان ابني عمره أربعين يوم وطبعاً ما قدرت شفته حتى انفتحت الزيارات بعد ثلاث سنين، كنا دائماً لما ييجوا يزورونا بده يسلم عليّ وبدي أسلم عليه، كان فيه فراغ بيناتنا شبكين وداخل الشبكين فيه حارس، فكنت أمد إيدي أنا لحتى أسلم عليه ويمد إيده هو على قد ما يستطيع، فيا يلا أقدر ألمس أصابيعه، فجاء لعندنا مرة مدير السجن قال شو بدكم؟ شو أنتم عايزين؟ شو طلباتكم؟ صار يطلبوا ناس تنفس، ناس كتب، ناس أكل، ناس ما بأعرف شو، فأنا رفعت إيدي وسألته سؤال قلت له حضرتك عندك أطفال؟ قال لي ليش عم تسأل.. يعني شو هالسؤال؟ قلت له أنت عم تضم أولادك كل يوم يمكن، أنا صار لي ست سنوات ما ضميت لأبني، ما شميت رائحته، فيه مجال تسمح لي ولو بزيارة واحدة إنه نقدر نضم أطفالنا؟ أنه هذا الطفل بحاجة أكثر مني لأني أضمه، قال لي ماشي يبدو إنفعل وحس بأنه هذا شيء إنساني.. يعني وحق، قال لهم زيارة خاصة، زيارة خاصة يعني بالغرفة وهاي أول مرة بعد ست سنوات فعلاً أضم لأبني وهو بيضمني وبأشم رائحته، ما كنت بأعرف رائحته.

فرج بيرقدار: يعني رغم خمس سنين بالسجن وتنقلت بين أكثر من مهجع وأكثر من ساحة.. يعني من ساحة لساحة علشان أكون خريطة للسجن، أنه هذا المبنى قد إيش بتحسه يا أخي ممتد ولا متناهي ودهاليز بتنفّد على بعض، بالأخير طلعت من سجن تدمر كانت الصورة ناقصة، عندي أجزاء منها، رفاق آخرين عندهم أجزاء غيرها، بصيغة حاولنا نكملها، رسمنا ماكيت بس تم نظريا، بس عندي رغبة هلا فعلاً إني أفوت لجوه يا أخي لأنه جوه فظيع، مثلاً بعد مرور زمن صمت.. سكون ما فيه غير أصوات الحراس والصراخ وأحيانا صريخ بالليل فقط إنه قف وما قف على أساس واحد هارب، وصلنا لمرحلة لما وصلنا أول صوت داخل السجن وصلنا صوت نهيق حمار، بتصدق السعادة هللت هيك من جوه يا شباب إذاً إحنا فيه ناس قراب منا، منّا مقطوعين بالصحراء، إحنا معناه أننا قريبين لتدمر، صوت الحمار كان مؤنس جداً والحقيقة كان لطيف على العكس بأصوات الحراس لما كانوا بيصرخوا قف.

غسان جباعي: كنا نسمع كمان الصمت، أنا ما بأتذكر إلا الصمت وبأحس بأنه المكان مسكون بالأشباح حتى اللي كانوا يصيحوا قف طبعاً كانوا يصيحوا لأنهم خائفين، كنت تحس إنهم شياطين أو ما بأعرف، الصمت كان بالنسبة لي الشيء الوحيد اللي بأتذكره أنا من تدمر، الصمت المرعب المخيف يالي بيسبق شيء له علاقة بصرخة ألم، بفقد واحد، بخسارة إنسان، هيك.. يعني انطباعي كان.

أعمال الأدب بالسجن ومدى الاستفادة منها

ياسين الحاج صالح: أنا قبل السجن.. قبل ما أروح سجن تدمر ما كان عندي فكرة، ما كان عندي أية تصور ما كان على السجن غير إنه هو مكان لا.. يعني فيه أناس قساة بشكل أساسي للحقيقة، ما عندي أية تصور للمكان، لما صرت جوه السجن الصورة اللي.. يعني فهمت شوي شوي إنه منع تكون صورة مكانية عن المكان اللي إحنا فيه هو جزء من عملية تخويف والرعب لأنه أنت لما تكون صورة عن مكان أو المجال اللي أنت شاغله بتحس بالأمان، بأعرف زواياه وبأعرف مداخله وبأعرف مخارجه وبأعرف أبوابه وبأعرف نوافذه لما يكون مكان أنت دائماً لما بتتحرك فيه مطمش إذا خرجت منه عم مطمش ومنكس الرأس هذا جزء من عملية تلقينك لخوف إنه أنت بمكان غريب، مرمي بعالم غريب عليك ومحفوف بالقسوة وبالرعب والترويع، عدم معرفة المكان هو جزء أساسي من تعريف سجن تدمر، لكن الشيء الغريب إنه صار لي هلا طالع من سنين وأربع شهور لكن بعد اللي فاجئني بعد ما طلعت من السجن إنه ما استطعت أبداً إنه أخصص وقت كاف لأخذ الدفاتر اللي كاتبها، أبداً ما استطعت إنه أخصص لها ولو أسبوع واحد، يمكن لأنه قامت بدورها، هي ساعدتني على إنه أتحمل السجن وعلى إنه أبقى على قيد الحياة بالسجن فما عاد لها فائدة جديدة بعد ما طلعت بره.

غسان جباعي: أقول لك الغريب بالأمر إنه داخل السجن ما كان فيه مجال إني أسوي المسرح، بس بعد ما طلعت من السجن كمان ما كان فيه مجال لأسوي مسرح، رغم إنه فيه عندهم ممثلين كويسين وعندنا كتّاب وعندما معهد عالي للفنون المسرحية بس ما فيه مسرح، لا جوه في مسرح ولا بره في مسرح.

فرج بيرقدار: أنا أحكي حالة شبيه أيضاً.. يعني بيجوز أنا طلعت بثمان مخطوطات.. ثمان كتب خلال أربعة عشر سنة، لكن صدقني بعد ما طلعت أول ثلاث سنين ما قدرت أكتب شيء، ما كتبت شيء جديد إلا المقابلات أو مقالات أو يعني شغلات سهلة أما إني أكتب قصيدة ما قدرت، بعد ثلاث سنين ما حتى قدرت استرجع لكن الثلاث سنين ها دول أمضيتهم بالتنقيح وبالتدقيق وبحذف وشطب وبإلغاء بعض القصائد اللي كاتبها لحتى اطمئنيت إنه خلاص صاروا جاهزين للطباعة، وقتها شعرت إنه هلا المرحلة نزلت عن أكتافي، سجن تدمر مثل ما سميت لك مرة مملكة للموت والجنون فعلاً، أنا قلت إنه هي عار مو بس على تاريخ سوريا، مثل ما كثير سجنوا كثير ماتوا، هي عار على تاريخ البشرية فعلاً، قد ما حكيت ما.. يعني ما تضغط إنه رحيم بدك آلاف الكتب وآلاف الشهادات لأنه خيو.. يعني اللغة عندي أنا سميت الكتاب خيانات اللغة.

ياسين الحاج صالح: أنا حاولت أكثر من مرة هيك أعبّر عن الموضوع أظن ما نجحت فعلاً، يمكن صعب النجاح، معك حق تحكي على خذلان اللغة أو خيانة اللغة أو هيك شيء بس.. يعني حاولت أعبّر عن الأمر بالشكل التالي إنه تدمر هو المكان اللي يصير الخوف فيه نمط حياة، أنا كنت بأحس الخوف إحساس عضوي غسان، عضوي جسدي، كنت بأحسه بعضلات العضد هنا بعضلات الخاصرتين..

غسان جباعي [مقاطعاً]: الفرائص..

ياسين الحاج صالح [متابعاً]: وهن شديد جداً.. يعني راح توقع على الأرض وبالأمعاء.. يعني بيحس الواحد.. يعني بالمثل الشعبي إنه عملها تحته من الخوف فعلاً، هلا ما وصلت إلى هنا بس صارت مصورة بالنسبة لي تماماً، نشفان ريق.. صرت بأعرف إيش معني نشفان ريق، تقصف الركب.. صرت بأعرف إيش معنى تقصف الركب، مرة عدى عليّ في سنة 1993 الحقيقة مريع من الخوف، العقاب العشوائي الشنيع واللي ممكن يصيب أي واحد بأي وقت والتعليم كل يوم بيتعلم ثلاثة أربعة أو خمس مريع.. يعني تعرف لما يكون واحد معلم وهو وتكون حالته بالويل وزملاؤه كلهم بيكونوا.. يعني مرعوبين وخائفين، كنت ليلي بتعرف ليلي يعني بيحرس بين كل ساعتين واحد تحت شراكة.. يعني هو بيراقب.. مسؤول أمن بالمهجع إذا جاز التعبير وكل علم نائمين كويس وكلهم على سيفهم يعني على جنب وكلهم مطمشين كويس وما في حدا بالتواليت أو هيك شغلة، كنت مرعوب هلا ما فيه شيء محدد الحقيقة بس يبدو تراكم الخوف لدرجة إنه حسيت إنه راح يغمى عليّ، فعلا راح يغمى عليّ، حسيت إنه إذا ظليت دقيقة خلاص راح أقع على الأرض، فصحيت رئيس المهجع الله يفتكره بالخير أرمني هلا بالسويد صحيته إنه كمّل الليلي عني، تخيل.

غسان جباعي: أنا ما بأتذكر كنت خائف ولا لا، ما بأعرف عن جد، لما جاؤوا أخذوني حسيت بالفترة الأولى إنه أنا بين أيادي أمينة ولو ها دول جيشنا ودول أمننا، ففعلاً حسيت بالأمان، حتى دخلت لجوه وأكلت أول كف، أنا ما كنت أخاف مثلاً جسدياً، ما أخاف على جسدي، أنا لما بيكون فيه عندي مشكلة ربّما طبعي أو تركيبتي هيك بس يكون فيه عندي مشكلة أنا بأتحاول لمراقب، بأصير بأتفرج حتى على عذابي يعني..

ياسين الحاج صالح [مقاطعاً]: بتحط حالك خارج المشهد.

غسان جباعي [متابعاً]: أيوه بالضبط، ما بأعرف صح غلط بس فعلاً، لما أكلت أول كف..

ياسين الحاج صالح: صرت داخل المشهد.

غسان جباعي: صرت حتماً داخل المشهد..

ياسين الحاج صالح: موضوع المشهد.

غسان جباعي: صرت المشكلة الأساسية وين، ربّما الخوف من إنه تخاف على كرامتك، بتخاف تنهان ولما بتنهان ماعاد شيء تخاف عليه.

"
سجن تدمر خوف يومي، فقد تتلقى ضربة تصيبك بعاهة مستديمة، وأثناء التحقيق أيضا وسائل التعذيب قاسية وأحيانا ترى غيرك وهو يعذب
"
فرج بيرقدار

فرج بيرقدار: سجن تدمر خوف يومي، هلا خوف من ضربة طائشة تعطبك، تطلع بعاهة دائمة وكثيرين جوه وفي التحقيق أيضاً شيء وسيلة قاسية تعطبك، خوف أحياناً بتشوف غيرك عم يتعذب تشعر بخوف تاني، هلا أنا كل رجليّ عم بترجف بس ملامحي بأتحكم فيها، كانوا بيقولوا دائماً عني المحققين إنه أنت عكروت، إنه أنت.. يعني ما بتخاف أنت بينما أنا مرعوب من جوه، خايف يا أخي بس الخوف شيء وإني بديهم إياه شيء تاني ما مستعد له.. يعني كرامتي.. أنا خايف على كرامتي.. يعني غسان بسبب شدة التعذيب وأساليب الفظيعة وتراكمها على زمن مديد الأجساد أنهكت، عدد من مجموعتنا غدى عيانين، كان بعض الأصدقاء اللي لهم علاقة بالطب بيقولوا هي مرحلة مؤقتة بس كل واحد.. يعني الواحد سنة.. سنتين أنا مثلاً سبع سنين معتقد إنه خلاص ما عاد فيه إمكانية، أنا فاقد القدرة الجنسية، لاحقاً بعد سبع سنين.. يعني بدأت أشعر إنه لا والله كأنه عم بتستيقظ مسألة، هلا هذا اللي بيجوز دفعني إني أكوّن فلسفة خاصة تجاه المرأة، المرأة هي قيمة جمالية، هي قيمة إنسانية، هي رحمة، هي ظلال من القداسة، هي منقذ لك، ممرضتك جوه، بيتهيألي الجسد بيتراجع، بيجوز بدأ يتقدم السنوات الأخيرة لما أنا تعافيت ووضعي الصحي صار جيد بس للأسف فيه رفاق لي حتى الآن هم فاقدين القدرة الجنسية تماماً.. يعني التعذيب عطبهم عطب نهائي وربّما يكون فيه غير التعذيب، إهانات نفسها.. إهانات لما بيذلوك كل شيء، تبدأ تحس ما عدك إنسان، ما عدك رجل كامل المعني بيتهيألي حتى البعد النفسي ممكن يؤثر على هذا الموضوع ربّما ما بأعرف.. يعني بس أنا أزعم ربما الحاجتين مشترك.

غسان جباعي: أنا بالنسبة لي شخصياً اللي أنقذني إنه أنا من الصفعة الأولى أصبت بالخصاء.. يعني ما أعد أشعر إطلاقاً بأي رغبات.. يعني حتى يمكن اتعطلت مجموعة من الحواس أهمها اللمس والذوق.. يعني أنا بدي أحكي عن نقطة طبعاً ممكن تكون لها علاقة بالموضوع اللي عم نحكي فيه، لأنه إحنا ما كنا نشتهي المرأة أو نساءنا خلينا نقول خاصة المتزوجين بقدر ما كنا أيضاً نغار عليهم لأنه إحنا تاركينهم، هاي نقطة كانت مؤلمة أكثر بكثير من حاجتك للمرأة عند بعض الناس طبعاً، رغم إنه نادر ما حصل.. يعني إنه في امرأة تخلت عن رجلها، لكن هذا ربّما بالغريزة موجود.. بالفطرة عند الإنسان هو ترك هذه المرأة في خضم الحياة وبالتالي كان يشتهيها ويخاف عليها ويغار عليها وربّما يكرهها، كان مجموعة من الأحاسيس.

ياسين الحاج صالح: يعني لما يكون الواحد شاب ويفوت على السجن ويطول فترة طويلة بيعشق كثير من النساء اللي (كلمة غير مفهومة)، أنا عشقت كثير من النساء اللي نصفهن أنا خلقتهن ونصفهن تذكرتهن، مثال هلا للي خلقتهن صورة للمرأة المثلى مركبة من أوصاف منتزعة من عدد لا يحصي من النساء، ها المرأة المثلى طبعاً تظلم كل امرأة واقعية لما الواحد يعمل مقارنة وأعتقد إنه صورة المرأة المثلى هاي المحلوم بيها زمناً طويلاً عملت داخلي فجوة لا يمكن إنه تملؤها كل نساء العالم.

غسان جباعي: أول ما فتحولنا الزيارات جاءني كتاب أجمل رجل غريق في العالم لماركيز ونحن مثل ما بتعرف ولما بتجينا الكتب كنا نفتش فيها بلكي باعتين لنا شيء نقطة شيء حرف كذا، فأنا عم بأفتح الكتاب لاقيت شعرة على شكل الحرف (S) فقلت هذا أول حرف من اسم زوجتي، زوجتي حطت لي إياها حتى أتذكر شعرها، تميت سبع سنوات محتفظ بهذه الشعرة حتى اكتشفت بعدين بأنه هاي الشعرة بالصدفة كانت موجودة، لكن هذه الصدفة عيّشتني حلم جميل لمدة سبع سنين.

ياسين الحاج صالح: هلا أنا ما بأعرف تدمر.. يعني يهلني ها الضخامة وها الجلالة هذا، إنه معقول ما شافوا مكان يحطوا فيه السجن الحقير غير بهذا المكان العظيم الرائع هذا.

غسان جباعي: ها دول ما شوفناهم ولا مرة بحياتنا.

فرج بيرقدار: وين بدك تشوفهم أسوار وراء أسوار.