طريق النسر / رواية إدوار الخراط
أدب السجون

رواية طريق النسر

تتناول الحلقة رواية طريق النسر وهي رواية للأديب إدوارد الخراط الذي يذكرنا بالأيام الخالدة لتاريخ نضال الشعب المصري ضد الاحتلال وضد الملكية المتسلطة في مرحلة توهج النضال الوطني.

– طريق النسر والكفاح الثوري
– حياة المعتقل وسر الدقائق الخمس

undefined

طريق النسر والكفاح الثوري

إدوارد الخراط – أديب وناقد مصري: الواحد بيفتكر في أحد أيام 1946 هنا في إسكندرية جنب محطة الرمل البلد كانت بتموج بالغضب والثورة ضد الاحتلال العسكري الإنجليزي، ضد استغلال الباشوات والسرايا والحكومات الفاسدة، حركة الطلبة كانت متقدة، المدهش في هذه الفترة أنه كان فيه بالفعل نوع من التضامن والالتحام بين الطلبة وعمال إسكندرية، مصانع كرموز طلعوا معانا في المظاهرات، في يوم من الأيام طلعنا البلد كانت فاضية جدا وهادية جدا تحت ضغط التوتر والقلق كانت فاضية جدا طلعنا مجموعة صغيرة من طلبة الجامعة كلية الحقوق البلد فاضية ساكتة هادية وبنقول بلادي بلادي في الوقت اللي كانت بلادي بلادي مش معروفة على الإطلاق، في المنطقة دي كان فيه عساكر إنجليز في عربية جيب بمدفع رشاش مشينا جنبهم دخلنا في المحطة المظاهرة الكبيرة كانت جاية من شارع كان أسمه شارع التتويج شارع سعيد العربية الجيب بالمدفع الرشاش دخلت علينا في محطة الرمل في الفترة دي وصلت المظاهرة بكل ما فيها من عنف، أنا اندمجت في المظاهرة الرصاصة جاءت جنب أذني مباشرة ووقع الولد.. كانوا عمال والولد وقع جنبي على طول كده، الرصاصة حسيت بسخونتها جنب أذني، في الفترة دي طلع ولد من جدعان إسكندرية قلع الجلابية ولع فيها النار رماها على الكشك اللي فيه العساكر الحادثة المشهورة دي اللي راح فيها العساكر، ده كله كان بيدور في هذه المنطقة في إسكندرية في فترة في الأيام المجيدة أيام التطلع إلى الأفق اللي فيه العدالة اللي فيه الحرية اللي فيه استعادة الكرامة هو ده اللي ربما دفعني إن أنا أكتب طريق النسر، كالعادة من 1964 اتكتبت طريق النسر بعدها بفترة طويلة جدا لأنه أنا باحتشد في الكتابة فترة طويلة جدا وبعدين أتدفق في الكتابة.

"
طريق النسر هو الطريق إلى قيم الغضب ضد الظلم والثورة ضد الاستغلال، قيم البحث عن الكرامة والعدالة والحرية
"

إيه هو طريق النسر أعتقد أو أتصور إنه طريق النسر هو الطريق إلى هذه القيم اللي أنا تكلمت عنها دلوقتي، قيم الغضب ضد الظلم، قيم الثورة ضد الاستغلال، قيم البحث عن الكرامة والعدالة والحرية أساسا، هو ده بعد سنوات طويلة وإحنا بنعدي دلوقتي في فترة لا شك أن إحنا بنمر بفترة أزمة أو تردي، السؤال هو كده هل ذهبت بلا رجعة أشواق العدل والحرية وموسيقى الصبا الجياشة بالأمل والقوة لا هي فيما أظن هنا أبدا هل انقطع هنا طريق النسر أم لعله مازال ممتدا بلا نهاية مازال، مازال ممتدا بلا نهاية مهما كانت الخيانات والخذلان والنقوص كلها موجعة الصمت لكنها كلها مدحوضة بلالاء الصمود فإذا كانت الأشباح والأطياف وكلها مناط حب لا يريم تحيط به حية فعالة، فلماذا أردها؟ لهذا كتبت طريق النسر نويات حصى صلب طعناتها مبرأة ومهما ابتعد الأفق فها أنا ذا أمد إليه يدي أقبض على حافته الجارحة، هو ده طريق النسر فيما أتصور، طبعا بدأت الحركة باستمرار من القاهرة ثم انعكست في إسكندرية، جامعة إسكندرية كانت اسمها جامعة فاروق الأول في الوقت ده بدأت تتحرك، إحنا كمجموعة صغيرة طبعا شاركنا وساهمنا في هذا بعدة أشكال، كان فيه مظاهرات بنشترك فيها، كان فيه منشورات وأذكر إن أنا كنت أنا بنفسي مش بس بكتب مذكرات وأطبعها ومش عارف إيه وألزقها كمان على محطات الترام في محرم بك وشوارع إسكندرية وأوزع مجلة كده أو نشرة كنا بنسميها أظن كان اسمها إيه؟ كان اسمها الكفاح الثوري، سنة 1946 جاءت الأحداث بقى، أحداث الحركة الوطنية الطلابية في القاهرة، حوادث كبري عباس، حكومة إسماعيل صدقي، حُوصرت الجامعة بدبابات الجيش وقوات بولك النظام، حُوصر الطلبة اللي كان معتصمين هنا وأذكر بوضوح أنه لما جه علينا المغارب كده بالليل وما كنش فيه أو قبل الليل ما كنش فيه طبعا معانا أكل فالجيران كلهم من البالكونات بقوا يحدفوا لنا سندوتشات وإحنا معتصمين هنا عشان نعرف نأكل، طبعا السور ده ما كنش له وجود كان فيه الطريق الدائري بيلف على طول ده هو طريق الطلبة سواء في العباسية الثانوية أو في كلية الحقوق كلية الآداب كلية العلوم وأظن الصيدلة أو التجارة كلها كانت مركزة في هذا المكان، موقف الجماعات الماركسية التقليدية إذا صح التعبير ده هو إنه تأييد لقيام إسرائيل بشكل أو آخر لأنه ده بيُعتبر يعني إيجاد لقوة مناهضة لأنظمة الحكم الاستبدادية القائمة في المنطقة وحقوق اليهود المشردين إلى آخر الموقف الماركسي التقليدي المعروف اللي تضافرت فيه المواقف الماركسية مع المواقف الأخرى الشائعة بما في ذلك قيام دولة إسرائيل في الأمم المتحدة وهكذا اللي كانت روسيا أو الاتحاد السوفيتي أو الستالينية أول مَن أيدوا هذا القيام، موقف ثاني هو موقف هذه الجماعات اللي إحنا كنا منها وهو موقف إنه معارضة أساسية لقيام دولة إسرائيل بهذا الشكل وأنه مشكلة فلسطين لن تُحل إلا بتوحد القوى الشعبية في فلسطين وفي البلاد العربية نفسها وأنه المسألة اليهودية لا تُحل بقيام دولة وإنما تُحل باندماج اليهود كغيرهم من القوميات أو الديانات في بلادهم وفي أوطانهم وهكذا وبالتالي كان ضد قيام دولة إسرائيل بوضوح وكان ده موقف يُعتبر موقف أقلية لكن كان فيه هناك تفرقة بين هذا الموقف وبين موقف الآخر موقف الرجعي اللي بيرى إنه إسرائيل قائمة على العنصر اليهودي وإنه فيه ريحة عنصرية في هذا الموقف وده كان سائد موقف الرجعي إنهم ضد اليهود كيهود، إحنا طبعا ما كناش ضد اليهود كيهود بالعكس اليهود في مصر كانوا مصريين وكانوا مواطنين صالحين بعضهم كان بيلبس الجلابية وما يعرفش غير اللغة المصرية العامية وهكذا واشتركت بعض العناصر معانا في هذا الموقف ضد قيام دولة إسرائيل ونذكر في يوم 15 مايو ده بالتحديد الظهر أنا كنت مع واحد من قيادات العمال في إسكندرية بأشرح له هذا الموقف اللي أنا شرحته لك دلوقتي وأنا عارف إنه محتمل جدا إنه هنُعتقل أو يُقبض علينا في لحظة إعلان الأحكام العرفية يوم 15 مايو، طبعا البلد كانت في حالة أزمة سياسية أزمة اقتصادية أزمة روحية أيضا لأنه إحنا.. هل نتصور مثلا إنه مطرح المسرح اليوناني الروماني كان فيه تل كوم الدكة، كان اسمه كوم الدكة غير كوم الدكة بتاع سيد درويش.. كوم الدكة، هل نتصور إن كوم الدكة ده كان فيه ثكنات عسكرية بريطانية بيرفرف عليها العلم البريطاني طول الوقت، إحنا كان بتثور في قلبنا وفي روحنا كل عنف الغضب أما نشوف العلم البريطاني بيرفرف على أجمل وأحلى وأعلى منطقة في إسكندرية، دي المقدمات اللي أدت إلى اشتراكي في الحركة الثورية الوطنية ضد الاحتلال وضد السرايا وضد الباشوات واللي أدت إلى الاعتقال سنة 1948 واللي بدأ منها طريق النسر.

اشتغلت فيه في الفترة 1947 – 1948 وكان معظم الموظفين إما خواجات أو..

زوجة الخراط [مقاطعةً]: أجانب أو يهود..

إدوارد الخراط [متابعاً]: أو أرمن بيض، المدير كان مستر سميث، إنجليزي..

زوجة الخراط: إنجليزي.

إدوارد الخراط: في قلعة الرأسمالية دي أنا كنت بقى بجيب المنشورات والمجلات الشيوعية وأقرأها في داخل البنك في فترة الكوفي بريك فترة استراحة القهوة..

زوجة الخراط: أنت ما قعدش كثير فيها.

إدوارد الخراط: سنة.. أقل من سنة لو كنت قعد أكثر من سنة كنت قعد سنة، اُعتقلت في مايو 48 واشتغلت في إبريل 47 لو كنت اشتغلت بقى لغاية يونيو كان زماني دلوقتي مدير بنك فرع البنك الأهلي في طهطا على المعاش.

زوجة الخراط: أي حته مش ضروري طهطا يعني..

إدوارد الخراط: مثلا يعني ولحسن الحظ ومن شباك البنك الأهلي هنا شوفت يوم إضراب البوليس في إسكندرية لما كسروا البوليس كان مضرب وشالوا البنادق وعليها رغيف العيش..

زوجة الخراط: رغيف العيش؟

إدوارد الخراط: أيوه

محاور: سنة 86.

إدوارد الخراط: سنة كام؟

محاور: سنة 86.

زوجة الخراط: لا لا لا.

محاور: يا 84 يا 86.

زوجة الخراط: 80 إيه يا ولد.

إدوارد الخراط: 80 إيه أنا بأتكلم على الأربعينات.

محاور: أساسا يوناني؟

إدوارد الخراط: لا مصري صعيدي من أخميم، شكلي كده بس معلش يعني لا مؤاخذة، أهوه السلم كنتي هتقعي فيه مرة ومسكتك.

زوجة الخراط: كنا بنشتغل في الدور الأخراني.

محاور: هنا.

زوجة الخراط: في الدور الأخراني.

محاور: أنتم اتقابلتوا فين؟

زوجة الخراط: آه أتقابلنا هنا في العمارة ده.

إدوار الخراط: مش قابلنا بعضنا قابلتها.

محاور: أنت اللي قابلتها.

إدوارد الخراط: آه.

زوجة الخراط: في العمارة دي بعد كده أظن في العمارة الثانية إذا تحب تصورها من على الناصية اتنقلت من هنا راحت على الناحية الثانية.

إدوارد الخراط: قال بالأمس كتب المتظاهرون شعاراتهم الجلاء أو الفناء تحيا مصر حرة مستقلة على مصفحات الجيش في ميدان الأوبرا اعتلى زعماء الطلبة والعمال عربات الجيش وخطبوا من فوقها المظاهرة الضخمة التي كان فيها أكثر من 150 ألف شخص كانت متجهة من شارع قصر العيني إلى ميدان الإسماعيلية أمام الثكنات البريطانية، قلت في تلك الأيام أين ذهبت تلك الأيام؟ كان الشعب عفيا قوي العود غير مخصي بعد، كان يعرف من علمه معنى الحرية وعلى استعداد لبذل الحياة نفسها في سبيل الحرية، كان عصيا على الانصياع لكل سلطات القمع العتيد أو سلطات النص العتيق، قلت لم تكن تضلله كثيرا غوايات تغييب الوعي من خلال أجهزة الإعلام كاسحة الانتشار ولم تكن تظلله وصاية أبوية دكتاتورية فرضت عليه تحقيق مطالبه هو نفسه فرضا من غير أن يسهم هو نفسه في الحصول عليها ومن ثم سرعان ما انهارت وجرفتها موجات الخصخصة العارمة وفحش العولمة والتبعية للرأسمالية المتوحشة، أما يكفي هذا تفجعا أو توجعا؟ أظن أنا ما كنتش بنام غير ساعتين ثلاثة كل ليلة..

زوجة الخراط: أنت طول عمرك.

إدوارد الخراط: يعني كان في الدراسة كلية الحقوق والشغل في المخازن البحرية والعمل الثوري طبعا ما كنش سري..

زوجة الخراط: طبعا.

حياة المعتقل وسر الدقائق الخمس

إدوارد الخراط: كان واضح وكنت بألتقي بالعمال في القهاوي المعروفة وكان بتُدبر لي كمائن علشان يقبضوا عليا وبأفلت منها بأعجوبة نتيجة لكده طبعا جاءت 15 مايو 1948 أُعلنت الأحكام العرفية بحجة دخول الجيوش العربية، قوس اقفل القوس، إلى فلسطين للقضاء على العصابات الإسرائيلية الصهيونية بحجة هذا العذر اُعتقل في الإسكندرية..

زوجة الخراط: كثير طبعا؟

إدوار الخراط: مجموعات.

زوجة الخراط: مجموعات كلهم إسكندرانية ما فيش.. ما كانش من مصر؟

إدوارد الخراط: في أبو قير كان كلهم إسكندرانية.

زوجة الخراط: كلهم إسكندرانية.

إدوارد الخراط: مجموعات من اليساريين مجموعات من اليهود الصهاينة مجموعات من الأخوان المسلمين الغريب جدا أيضا مجموعات من اليوغوسلاف الهربانين من تيتو والروس البيض الهربانين من ثورة أكتوبر أي هربانين من الشيوعية فاتمسكوا بحجة باسم الشيوعية أخذونا..

زوجة الخراط: مجموعة كبيرة قوي.

إدوار الخراط: مجموعة كبيرة جدا.

زوجة الخراط: كانوا كم؟ فاكر؟

إدوارد الخراط: لا الأعداد الدقيقة ما أعرفهاش فأخذونا إلى المعتقل اللي هو كان عبارة عن عنبر من عنابر الطيارات أو المطارات الإنجليز، عنبر ضخم جدا.

زوجة الخراط: في أبو قير؟

إدوارد الخراط: واسع جدا في أبو قير وفيه ثكنات للسكان للعساكر أو الجنود أو المشتغلين في القاعدة، فده كانت بداية أو أحد مراحل طريق النسر، بالليل بعد الساعة الثانية عشر هتلاقي.. ده التقليد المتبع بعد الساعة الثانية عشر أو واحدة أو اثنين الصبح طلع في بيتنا بيت بسلالم ضيقة صغيرة ما تكاد تكون كتيبة، ضابط واثنين مخبرين وثلاثة عساكر أسلحة وخبطوا على الباب أنا كنت مستعد تقريبا وقالوا لوالدتي بقى الله يرحمها خمس دقائق بس مش عارف إيه، مفهوم المسألة خمس دقائق، روحنا كان فيه عربية جاهزة ودونا لي قسم كرموز، لاقيت هناك اثنين مستنيين.. عمال من شركة فابريكة كرموز دول بقى كانوا زملائي في كل فترة الاعتقال وكانوا أحسن زملاء ممكن الواحد يتصورهم، فاكر صابر الثاني مش فاكره أنا عطيته اسم في الرواية لكن مش فاكر اسمه إيه بالضبط، صابر والثاني ده نسميه محمود مثلا كانوا من أنظف وأطهر وأخلص الناس، عمال ثقافة محدودة لكن استنارة عقلية وإخلاص نسميه إخلاص وطني ثوري لا نهاية له، إحنا بندور على حاجة كانت موجودة هنا من خمسين سنة.

محاور: إيه ده بقى؟

إدوارد الخراط: كان فيه معتقل، كان فيه ثكنات، بتاعة الإنجليز، فين؟

محاور: آه كانت في أبو قير.

إدوارد الخراط: مش هنا؟

محاور: لا في أبو قير على البحر وانهد.

إدوار الخراط: انهد آه، مش هنا يعني؟

محاور: لا.

إدوارد الخراط: كان فين في أبو قير؟ لا مش في البلد كان في حتة زي دي.

محاور: كان في الجبال.

إدوارد الخراط: كان الصحراء آه.

محاور: النهاردة الجبال القوات المسلحة عملتها مساكن.

إدوارد الخراط: أيوه آه.

محاور: وكل العنابر اللي كانوا فيها شالوها.

إدوارد الخراط: العنابر، كان عنبر كبير.

محاور: أيوه شفته.

إدوارد الخراط: شفته أنت، خلي بالك كان عنبر كبير قوي قوي.

محاور: زالوها.

إدوارد الخراط: مش هنا بقى، مش في المنطقة.

محاور: لا مش في المنطقة.

إدوارد الخراط: فين بقى، قدام؟

محاور: في أبو قير وأنت ماشي.

محاور: هأقولك بقى، هتطلع دوغري هيقابلك مزلقان فيه شارع كده وشارع كده، تسيب الشارع اللي كده تطلع كده على شمالك.

إدوارد الخراط: طبعا ده ناحية البحر؟

محاور: ناحية البحر، على أبو قير على طول، تقول أنا عاوز المساكن.

إدوارد الخراط: اسمها المساكن؟

محاور: اسمها المساكن، مطرح المساكن دي كان مطرح الإنجليز وعمار الإنجليز وكامب الإنجليز وكل حاجة.

"
حكومة النقراشي أخذت تستدرك تحت غطاء الأحكام العرفية وما عرف بحرب فلسطين الأولى ما فاتها من قوائم اعتقال غير المرضي عنهم، دخلت الجيوش العربية أرض فلسطين ودخل معتقلَ أبو قير أصدقاؤنا واحدا بعد واحد
"

إدوارد الخراط: هو كامب الإنجليز هو ده اللي كنا بندور عليه الله ينور، استدركت حكومة النقراشي أو محافظة إسكندرية مسألة جفاف ما في حمامات معسكر سلاح الطيران الملكي البريطاني الذي تحول إلى معتقل مرتجل على وجه السرعة، أخذت تستدرك تحت غطاء الأحكام العرفية وما عرف بحرب فلسطين الأولى ما فاتها من قوائم اعتقال غير المرضي عنهم أو مَن كانوا يسمونهم العناصر الهدامة دخلت الجيوش العربية أيا كان معنى هذه الكلمة أرض فلسطين وأخذت المأساة تدور فصولا ودخل معتقل أبو قير أصدقاؤنا واحدا بعد واحد، نصطبح على الصبح بالتهليل والترحيب لمقدم الوافدين الجدد.

[فاصل إعلاني]

إدوارد الخراط: وفي هذا العصر كانت كلمة معتقل سياسي كلمة لها شيء من الاحترام والتقدير بيختلف عن فيما بعد وبيختلف طبعا عن المسجون العادي أو المعتقل اللي بيسموه معتقل القانون العام أو مسجون القانون العام، فكان فيه هذا القدر من الاحترام والمعاملة التي بقدر الإمكان كانت يُراعى فيها الضباط كانوا ظراف.. ما أقدرش أقول ظراف طبعا لأن الحرمان من الحرية الاعتقال هو نفسه شيء غير ظريف على الإطلاق، لكن كان فيه هذا القدر من التعامل اللي فيه شيء من الاحترام والتقدير سواء من كومندان المعتقل كان ضابط برتبة كبيرة أو من الضباط اللي أصغر منه وأظن أنه كان فيه ضابط كده رهيف ورفيع واسمه فؤاد وما زال الاسم في ذاكرتي لأنه كان تعامله معنا تعامل جيد جدا، كان فيه بقى تقليد غريب جدا لأنه كان فيه عندنا معنا أجانب فكان لازم يعدوا المعتقلين صباحا ومساء فلم بيندهونا بيقولوا لنا اقفوا صفوف مكونة من خمس أفراد وراء بعض، خمس أفراد فكان فيه تعبير استخدموه بالفرنساوي اسمه (Cinq cinq) خمسة خمسة، فنصح الصبح على (Cinq cinq) ونقفل بالليل على (Cinq cinq) ويعدوا الناس، فأصبحت (Cinq cinq) هي الشعار للمعتقل طول الفترة ده. أبو قير 17/5/1948 والدتي العزيزة بعد إهدائك أرق التحية والسلام لم يصلني شيء حتى الآن الساعة عشرة صباحا يوميا وأرجو أن تهتموا بالمسألة، كل ما أريده الآن هو شبشب والشورتات البيض أما السرير فليس ضروريا لأنه ستصلنا سراير من جهات أخرى، أنا مرتاح طبعا من ناحيتي فلا تقلقوا رياضة وشمس وهواء طلق ومعاملة حسنة جدا وأكل طيب، علامات تعجب واستفهام، ولا ينقصني غير الكتب فأرجو إرسال ما طلبته منها، إن لم يكن هناك طريقة أخرى فأرسلوا هذه الأشياء إلى نقطة بوليس أبو قير وستصلني إلى المعسكر بسلام، فيه بعد كده سطر مشطوب بالقلم الثقيل بمعرفة الرقابة أرجو أن تحافظوا على كتبي كلها بكل عناية، إذا أمكنكم إرسال كوب ألمونيوم يبقى حاجة عظيمة وإن كان ذلك غير ضروري جدا يمكن أيضا الاتصال بالبنك ومعرفة الموقف هناك، على فكرة أي يمكن أن يستطيع أن يصل المعسكر ومعه أي شيء بكل حرية إذا كان خالي يونان أو خالي سريال مستعد يبقى حاجة عظيمة جدا أيضا في الختام سلامي للجميع هناء وايزيس ولويزا وقبلاتي لفوفو وسلامي لجدتي ولك يا والدتي أعطر السلام ابنك المحب، في إمضاء ضابط المعتقل. بعد أكثر من خمسين سنة صعب جدا إن أنا أحدد مكان المعتقل، هم هنا بيسموه الكامب الإنجليزي.. العنابر، هل هو هنا؟ احتمال قائم، هل هو أبعد في أبو قير؟ احتمال ثاني، يعني الزمن بيجري وطريق النسر بيتشعب ويتحول إلى أشياء أخرى. كان فيه أيضا جانب آخر في المعتقل للسيدات والآنسات مصريات ويهوديات وأجنبيات وكانوا أمامنا، ده كان في مايو ومايو كان تقريبا ابتدأ الجو يبقى دافئ وبالتالي فإنه بعض المعتقلات اليهوديات كانوا لابسين شورتات وبلوزات خفيفة وكانوا فيه بيننا وبينهم طبعا أسلاك شائكة، لكن كنا بنشوفهم هم على مقربة وكانوا ظراف كانوا بيخففوا من قسوة الاعتقال، منهم سيدات مصريات ومنهم سيدات أجنبيات وهكذا ولكن فيما عدا هذا ما كانش فيه أي نوع من أنواع التقارب فيما عدا الرؤية والمشاهدة، كان منهم واحدة اشتُهرت باسم (Le cheval) هي سيدة (Le cheval) يعني الحصان، لكن لأنها فارعة وجميلة والشورت بتاعها ورجليها إلى أخره فـ(Le cheval) الحصان فكانت دائما في مخيلتي تصوروا بقى الشباب المعتقل المحبوس المسجون وأدامه الحصان.. المهرة، أجد المرأة كمنجة ذائبة على تاج عمود من رخام النخيل المنثور وهي تحتضن شعر الخيل الأشعث المخايل بالشطح في سهوب سيبيريا المثقلة بعرق لينين ودسيورسكي والديسمبريين، الجواد القنطور الحصان الرجل يدير رأسه الإنساني إليها فتشد اللجام الحديدي حول فكيه المطبقين، لا يستطيع أن يتكلم لما رآه في حلمه الطويل وعلى صهوة سفينة تنخر عباب وجنة امرأة تتلاطم أمواج الغضب تحت عينيها المفتوحتين في سهوم لا نهاية له، ترسو السفينة بأشرعتها الذاهبة إلى قلب السماء فوق صخرة لها أنف أقنى وفم مطبق مستقر على قاع المحيط الشاسع وجه المرأة، أصابع أنثوية مصبوغة بطلاء عاجي تسند الصخرة الوجه بينما تميع أعجاز النساء الزرقاء. الصخرة المدورة مشعثة الحواف تخبطها رياح قوية خبطا متواليا عاليا معلقة فوق حاجب العين المفتوحة على حلم مضطرب لا ينتهي، دقات على باب الشقة في شارع ابن زهر لم أكن قد خلعت القميص والبنطلون نمت بالشراب والحذاء الدقات على الباب متوالية عالية قمت من النوم عارفا هادئ الروع، هاهم قد جاؤوا.. في ذات ليلة من الليالي اتفتحت الثكنات وأضيئت الأنوار دخلت قوات مدججة بالسلاح قوم.. قوم.. قوم يا مسجون إحنا مش مساجين وبنرد على معتقلين طب يا أفندي أنت وهو خد حاجتك وأطلع برة، بهذا العنف وبهذه المفاجأة لقينا نفسنا برة وبنتعد (Cinq cinq) ومنها إلى عربيات نقل عادية مكشوفة الصبح كان أبتدأ يشقشق وبعدين إيه حصل إنه بعضنا اتنقل في العربيات وبعضنا فضل في المعتقل فحصلت وخصوصا بالنسبة للأجانب والمتمصرين إنهم ابتدوا يغنوا أغنية إيه (Ce n"est qu"un au-revoir mon ami) ليس هذا إلا إلى اللقاء يا صديقي وهكذا وإحنا بنتنقل على عربيات النقل وهما بيغنوا تحت اللي قاعدين وطلعنا في شوارع إسكندرية الساعة خمسة الصبح ستة الصبح، الشوارع هادية خالص مجموعة من الشباب اليساريين بنهتف في الشوارع الفاضية الهادية اللي ما فيهاش حد تحيا مصر يسقط الاستعمار يسقط الاستغلال وهكذا، في المركب ويا للدهشة ويا للغرابة كان في إحساس فترة من ميناء السويس للطور بالحرية الحرية في داخل ظروف بهذا النوع لأنه أنت بتعبر البحر الأحمر أو خليج سيناء فرع سيناء والشمس كانت مشرقة وإحنا على السطح وفي المركب وفي نوع من الهواء الطلق ولأول مرة بتشوف البحر وبنحس أنه ما فيش حواليك أسوار، معتقل الطور مفتوح هو المحجر الصحي بأبنية متقاربة كده ومتوازية ما فيهاش سراير ما فيهاش حاجة، جابوا لنا طبعا بعد كده اسمها إيه طوايل خشب ومرتبات قش ومخدات قش ورتبنا نفسنا وأيضا كنت مع المجموعة الإسكندرانية وغيرهم ومعتقل كان تقريبا مفتوح زي ما قلت في أكثر من موضع كان أمامك البحر والصحراء والبوليس وجهة الإدارة متفقة مع البدو إنه لو لقوا حد هيسلموه فما كنش في وسيلة أبدا لأنك أنت تفكر في حاجة، المعتقل مفتوح صحيح الباب مفتوح صحيح لكن هتروح فين؟ ما فيش. بالنسبة للقوى أو المعتقلين الذين ينتمون للقوى اليسارية والقوى الوطنية بشكل عام، كان في هذا القدر من مراعاة كرامة المعتقل، طبعا ده كان أيضا ناتج من تصرف هؤلاء المعتقلين اللي بينتموا للقوى اليسارية والوطنية بإيذاء السلطات أو التصرف ينطوي على احترام الذات وعلى مراعاة الحقوق والواجبات بعكس ما كان يحدث من معتقلين الإخوان المسلمين، للأسف الشديد وده طبعا يعني مؤسف على كل الأحوال إنهم كانوا بيعاملوا بشيء من القسوة، يعني أنا لا أذكر إنه أحدا من معتقلي القوى الوطنية واليسارية ضُرب أو أهين وده حدث كثيرا بالنسبة للإخوان لأنهم كانوا بيتصرفوا بنوع من الرعونة والهوج والعنف بإيذاء سلطات المعتقل نفسها، طبعا أنا ما بأدافعش عن سلطات المعتقل بأي حال من الأحوال وطبعا أنا لا أؤيد بأي شكل من الأشكال أو لا أوفق أو لا أقدر على الإطلاق أي نوع من أنواع إساءة معاملة معتقل أي كان أو مسجون أي كان، لكن ده اللي كان الواقع ده اللي حدث وربما هذا ما يختلف اختلافا أساسيا عن معاملة المعتقلين في فترات لاحقة بعد كده حيث كانوا معرضين للتعذيب الذي يصل إلى درجة القتل، قسوة معتقل الطور قد تتمثل في حاجة واحدة إنه بعد ما رجعنا إلى أبو قير وأول مرة أشوف فيها شجرة خضراء حسيت بأنه طوال الشهور ما كنش في لون أخضر على الإطلاق.. صفرة الرمال وزرقة البحر لون الحياة لون الخضرة هي اللي أكدت في إحساسي قسوة الاعتقال. الإفراج عني من المعتقل كان يمكن 11 فبراير 1950 عيد ميلاد صاحب الجلالة ملك مصر والسودان المفتى أنا فاكر كويس ليه؟ أنا جئت كده الطريق ده وشايل الشنطة.. سابونا كده نطلع لغاية ما وصلنا للشارع اللي فيه الأتوبيس ركبت الأتوبيس ولا كأني في حاجة حصلت في الدنيا الحياة عادية بتجري دفعت تذكرة بستة مليم وصلت المنشية ومنه للبيت دخلت البيت طبعا أمي وأخواتي أخذوني بالحضن وكان لحظة شديدة التأثير، بكيت في اللحظة دي فقط عند الوصول إلى بيتي وإلى مكتبي في شارع ابن زهر راجل باشا، بكيت بدموع الفرح. لك أن تتصور طبعا إن أنا بأعول عائلة والدتي وأربعة أخوات وكذا ما فيش مليم في البيت ما فيش أي نوع من أنواع الدخل بالليسانس الحقوق بتاعي ما نفعنيش بأي شيء فتقدمت للشركة ده على اعتبار إن أنا معي التوجيهية وأنا كنت بأشتغل أشغال كده وبعرف فرنساوي وبعرف آلة كاتبة.. رحت علمت نفسي آلة كاتبة في الفترة الصغيرة اللي بين خروجي من المعتقل وبين تقدمي للعمل واشتغلت طبعا، أنا دخلت الشركة اللي هي دلوقتي تحل محلها الأهرام أظن على ناصية شارع فؤاد أو شارع النبي دانيال طلعت الدور الثالث ودخلت الممر إلى مقصورة زجاجية فيها الرؤساء، واحد اسمه رزق الله أفندي وواحد اسمه فارس أفندي، في طريقتي إلى هذه المقصورة الزجاجية الموظفين والموظفات قاعدين في صفوف ومكاتب وراء بعضها البعض، في أول صف أمام في المكاتب.. أنا طالع طبعا.. لك أن تتصور واحد طالع من معتقل في ظروف ضائقة نفسية وروحية ومادية طبعا وبيضحي بتعليمه الجامعي وبثقافته الواسعة إلى أخره عشان يشتغل شغلة تكاد تكون آلية فلقيت في الصف الأول من المكاتب آنسة رقيقة جميلة مشعة ساحرة، بيقولوا من أول نظرة الصاعقة جاءت من أول نظرة فهذه الآنسة هي التي ارتبطت بها طيلة الحياة والتي كانت سندا وموئلا وملاذا لي طيلة حياتي. هنا في استانلي أنا لي ذكريات، سنة 1955 قررت إن أنا أدي نفسي منحة تفرغ اختيارية على حسابي فسبت شركة التأمين الأهلية اللي كنت بأشتغل فيها وما قلتش لا لوالدتي ولا لأخواتي إن أنا سبته كنت بنزل بانتظام الساعة تسعة أو ثمانية ونصف في ميعاد العمل وأرجع في ميعاد العمل كل يوم وآخر الشهر أدي للوالدة المرتب بتاعي اللي هو جزء من التعويض مكافأة الاستقالة، في استانلي هنا كان لي صديق عنده كبينة جوه سايبها فأنا قررت إن أنا أقضي جزء من فترة التفرغ في استانلي، الجزء الثاني كان في أتيلية إسكندرية في مرسم صديقي الفنان أحمد مرسي، نزلنا الصبح اشتريت ترابيزة طويلة ونقلت كتبي وبدأت أترجم وأكتب في هذا المكان صباحا وأحيانا في الأتيلية صباحا أو مساء ده كانت فترة خصوبة وإنتاج وتطلع ومغامرة في طريق مش واضح هيودي فين بس هو ودى للعملية للكتابة لعملية الإبداع لغاية ما جاءت سنة 1965 سنة.. 1956 أنا أسف فخلصت فترة التفرغ خلصت المكافأة وكان لازم أرجع أجد عمل معين، بفضل تدخل عبد الرحمن الشرقاوي، ألفريد فرج لقوا لي شغل في القاهرة في السفارة الرومانية، جاء لي تلغراف من الفريد أحضر حالا فسافرت واشتغلت في السفارة الرومانية وبذلك انطوت مرحلة من مراحل طريق النسر. طبعا في خلال فترة العمل في المنظمة جاءت عاصفة الاعتقال لكل اليساريين ربما كان ما وفر علي الاعتقال مرة أخرى إن أنا كنت بأشتغل في منظمة التضامن الإفريقي الآسيوي مع يوسف السباعي، لم أُعتقل طبعا لكن كان في حس قوي جدا بإنه كثير من الأصدقاء والزملاء إلى آخره في المعتقل وأيضا ده كان من أسباب توقف الكتابة لأني حسيت إن أنا إزاي أنا أكتب وهم مش قادرين يكتبوا وفي واقع الأمر هم كتبوا أحسن ما كتبوا هم في المعتقل، لكن هل تجربة المعتقلات من نقول أواخر الأربعينات حتى أنا عارف بقى أواخر الستينات، السؤال بقى إن هذه الفترة تتحدى الكتابة الروائية ويكفيها كتابة سردية تسجيلية وتوثيقية.. ما أظنش ما أعتقدتش لأنه أظن إنه طريق النسر قبلت هذا التحدي، ما أعرفش انتهت إلى إيه إنما قبلت هذا التحدي. أحكي لك حكاية عن أبو قير يمكن كان عندي ست سبع سنين وخالي كان عايز يعلمني العوم هنا، خدني أضرب بأديك كده ورجليك كده وبتاع ورماني في المياه فنزلت زي الحجرة لتحت كنت اتخنقت وبتاع بس فمن ساعاتها ما اتعلمتش العوم مع إن أنا إسكندراني يعني أصلا وفصلا، لكن ما أعرفش أعوم كويس، خلصت الحكاية.